يدلّ معنى «الحمد للّه» على وحدة الوجود بأبلغ دلالة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص277-283
2025-09-17
518
نقول باختصار: إن الألف واللام في الحمد لله لإفادة تعريف الجنس الوارد في الذهن. اي أن جنس الحمد الذي يمكن تصوره أو العلم به مختصّ بالله بصورة مطلقة والذي يلزم فيه التعميم بالنسبة لأيّ نوع من الحمد من أيّ حامد كان بالنسبة لأيّ محمود وله المُلك المطلق والحقّ الكامل أيضاً. واللام المتّصلة ب«الله» في قولنا «للّه» هي لام الاختصاص. فكلّ نوع من أنواع الحمد هو من مختصّات الله سبحانه، وكلّ حامد هو من مختصّاته أيضاً، وكلّ محمود يكون كذلك من مختصّاته هو وحده.
فمثلًا، لو اعجِبتَ بوردة أو زهرة وقلتَ: ما أجملَ هذه الزهرة! يا لعطرها الفوّاح وعبيرها الطيّب! أن لها لقدرة في تعطير النَّفْس والروح! انظر إلى أوراقها المتعانقة مع بعضها! لاحظ الجمال والعجب معاً في ألوانها الساحرة الزاهية! هل رأيتَ ساقها كيف تحرسها الأشواك التي اتّجهت برؤوسها المُدبّبة إلى أسفل- لا إلى الأعلى- لتقاوم خطر هجوم الحشرات الصاعدة إليها؟ انظر إلى أوراقها الناعمة العجيبة ذات اللون الأخضر المجهّزة بعروق دقيقة جدّاً خُلِقَت لتُوصِل الماء والغذاء إلى أبعَد نقطة في النبات! والعجب كلّ العجب من المادّة الخضراء الموجودة في الأوراق التي تجلب مادّة الكلوروفيل بمساعدة أشعة الشمس.
والأعجب من ذلك تلك الحبّة الدقيقة في الصّغر المُخبَّأة في داخل فم الزهرة، والتي تُخزّن في داخلها للمستقبل زهوراً أخرى، بل حدائق من الزهور ما دامت الأرض والشمس موجودتين، وستُخرج للعالَم مناظر عجيبة ساحرة مِلؤُها العظمة والسِّحْر والجمال.
إن ما نَطقتَ به من مدح وتفوّهتَ به من إطراء على هذه الزهرة كان في الحقيقة مُوجّهاً إلى ذات الله نفسه؛ فتلك الزهرة في الواقع مظهر من مظاهر عظمة الله وظهور من مظاهره. فأنت أطلقتَ اسم الزهرة على هذا المظهر لكنّك أخفيتَ الله تحت حجاب هذا الاسم! والآن أزِل عنها ذلك الاسم وستجد أن لا شيء باقٍ غير الله! أليست هذ الزهرة هي نفسها التي نشهد موتها في فصل الخريف (فصل تساقط الأوراق وذبولها) وتناثر أوراقها التي ستكون قد تحوّلت حينئذٍ إلى أوراق صفراء يابسة لا روح فيها ولا حياة؟ أ لستَ ترى أكواماً مكوّمة وأكداساً مُكدّسة من تلك الأوراق ساقطة على وجه الأرض هنا وهناك، تتقاذفها رياح الخريف العاتية فتُلقى بها في زوايا وأركان مختلفة إلى مسافات بعيدة؟ فلو كان ذلك الجمال وتلك الرِّقّة والحُسن والجاذبيّة نابعاً من الزهرة نفسها لما فارقَتْ كلّ ذلك بسرعة وسُلِبَ منها ما سُلِبَ بهذه العُجالة دون ضجيج أو جلبة.
إذاً فتلك الصفات الجماليّة لم تكن نابعة من الوردة نفسها. ولم تكن تلك الصفات من ذاتيّات الزهرة أو ميّزاتها الملازمة لماهيّتها وإنّيّتها. إنّما كان ذلك عرضاً من العوارض، جاء ورحل بهدوء. ارتَوَتْ وعَطِشَتْ؛ أينعتْ وذبلتْ؛ وكانت نضرة فيبستْ وجفّتْ؛ وكانت حيّة تُرزَق وها هي الآن ميّتة وهامدة؛ وكانت قائمة شامخة وها هي ذا قد أصبحت مُعوّجة ومنحنية.
هذا بالنسبة إلى المحمود (أي الشيء الذي يكون موضع الحمد والمدح والإطراء)! وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحامد (أي الذي يؤدّي الحمد والمدح والثناء)! أن ما يقوم بمدحه البشر والملائكة والجنّ إنّما هو في الحقيقة الله تعالى؛ وما تلك الأشياء التي يقوم اولئك بمدحها إلّا مجرّد أسماء لا غير أخفَتْ حُجُب تعيُّنها الجمال المطلق للحقّ. ولا وجود في هذه الأثناء لغير الله إطلاقاً الذي يكون في موضع الحمد والمدح.
ونفس الشيء يقال عن الحمد (أي مصدر الفعل أو اسم المصدر) لأنّ هذا المعنى نفسه لا يمتلك أيّ أصالة في الخارج غير الله، وهذا الفعل نفسه بعنوانه ومفهومه ليس إلّا تقييداً وتحديداً للحقّ تعالى. وهو عبارة عن اسم وعنوان يطلقان على فعله المطلق تعالى، وهو كذلك عبارة عن آية ومرآة لإظهار فعله الإطلاقيّ العامّ الواحد المجرّد النورانيّ البسيط واللامتناه.
وعلى هذا، فلا وجود لغير الله يُمثّل الحمد والحامد والمحمود. فالله وحده هو الموجود وحسب. فحمده هو نفسه، والحامد كذلك هو نفسه، وكذا المحمود أيضاً: تعالى وتَقَدَّسَ عَنِ التَّعَيُّنَاتِ والإنِّيَّاتِ والمَاهِيَّاتِ وَالأسَامِي، بِأيّ وَجْهٍ تُصُوِّرَ في المَقَامِ.
إنّما كان كلامنا عن تلك الزهرة في غُصنٍ من شُجَيرة الزهور مثالًا لا أكثر، وإلّا فإنّ العندليب الذي يستقرّ على غصن شجرة الورد ويقوم بالتغريد بصوته الشجيّ وغنائه العذب من الليل حتى الصباح الباكر مادحاً تلك الوردة ومُطرياً عليها بأعلى صوته، ما هو إلّا اسم كذلك لا غير؛ والواقع أنّه لا وجود لشيء في هذه المشاهد يدعى بالعندليب أو البُلبُل أو الورد أو نداء الهجر أو ترنيمة الوصل أو الشِّعْر أو الموسيقى أو الأنغام أو الألحان إلّا وجود الحقّ تعالى وتقدّس.
وكذا الأشخاص الذين يقومون بمدح وتمجيد هذا البُلبُل أو ذاك العندليب، من بشر أو ملائكة أو جنّ، ويشهدون تلك المناظر الخلّابة، ما هم في الحقيقة إلّا مجرّد أسماء لا أكثر البستْ وجه الحقّ وجماله المطلق، فأطلقوا عليها الأسماء والعناوين المختلفة ورسموا لذاته المقدّسة وصفته وفعله اسماءً وحدوداً معيّنة.
إن البشر والجنّ والملائكة كلّ اولئك مجرّد أسماء للحقّ وليست الحقّ نفسه. فلو رَفعتَ عنها أسماءها ما بقي لديك شيء سوى الحقّ! هذا هو معنى عبارة الْحَمْدُ لِلَّهِ التي نذكرها مراراً في ليلنا ونهارنا في ذكرنا وصلواتنا، في تلاوتنا للقرآن الكريم وغير ذلك. وقد لاحظتم أنّنا لم نورد أيّ موضوع أو بحث من الخارج، سواء كان ذلك الموضوع أو البحث آية أو رواية أو شِعراً أو قول عارف أو كلام مُتهجِّد كشاهد على بحثنا هذا! وما حصلنا على هذا المعنى اللطيف إلّا من خلال المتن الإطلاقيّ للحمد واختصاصه بالله عزّ وجلّ.
وكذا الحال مع حصر الحمد في ذات الله تعالى، والتسبيح والتكبير والتهليل الذي نقوم به ونُؤدّيه، وأيضاً حصر العلم والقدرة والحياة وسائر الأسماء والصفات الخاصّة بالحقّ تعالى وهو ما نقرأه في القرآن الكريم ونتلوه فيه من الآيات الشريفة المُنزّلة: هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، هُوَ الْقادِرُ وأمثال ذلك من الآيات التي عمّت جميع جوانب الكتاب السماويّ وغطّت كلّ نواحيه. أستحلفكم الله، هل بالإمكان استخراج معنى أو استنباط مفهوم أو إدراك مفادٍ غير هذه اللفظة المباركة الْحَمْدُ لِلَّهِ من كلّ ما قاله ويقوله أهل المعرفة والمشتاقون والوالهون والعاشقون والواصلون لجمال ساحة الأحديّة وجلاله من الأوّلين والآخرين؟! لكن، ما الفائدة؟! وما هي النتيجة؟! أ ليس من المؤسف أن نُغالى في إنكارنا ونُبالغ في شركنا مع وجود الآية الشريفة التالية بين ظهرانينا في القرآن الكريم:
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ، وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ.[1]
ما معنى وجود الحقّ تعالى في الموجودات وما المراد من ذلك؟! معناه أنّك لو جمعتَ الوردة والسنبلة، والبلبل والببغاء، والطير والبطّ، والشجرة والشُّجيرة، والبرعم والعُشب، والماء والشلّال، والغمام والريح والغيث، والسهل والصحراء المترامية الأطراف، والإنسان والأجيال البشريّة، والشمس والنجم في السماء، والكواكب والمجرّات... وما شئتَ في جمعه ورغبت في ضمّه من هنا وهناك ممّا حولك إلى آخر الدنيا، فما كلّ ذلك إلّا الله وحسب، وَحْدَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُو.
هذه كلّها آيات وعلامات ومرايا وظيفتها إظهار ذاته المقدّسة تعالى[2] جلّ شأنه، ولكن للأسف الشديد، فهم ينظرون إلى تلك الأمثال وآلاف غيرها موجودة وماثلة أمام أعينهم نظرة مستقلّة، فهم ينزعون عنها عنوان الحقّ وصفته ويعمون عن رؤية الله، وهم لا يرون أمامهم إلّا ورداً وخضرة وإنساناً وحيواناً وحسب.
لقد عزّروا قدرة تلك الأسماء وفاعليّتها بتعمّد وشهوة وغضب وعنصر الوصوليّة والأنانيّة والتسلُّط والتكبُّر والزهو بحيث لم يُبْقِ ذلك أيّ ذِكر لله فيه.
ولقد منحوا تلك الأسماء المجرّدة الجوفاء التي تستمدّ وجودها من الله تعالى استقلاليّة حتى أضحى وجود الله سبحانه محجوباً ومخفيّاً؛ والحال أنّه لا يوجد وجود غير وجوده تعالى شأنه وحسب. أن هذه الأسماء وتلك الألقاب ما هي إلّا ستائر حَجبتْ حقيقته المقدّسة. فأزِح الستار وطالِع وجه الله، إنّه هو حقيقة الزهرة والوردة! هو حقيقة البلبل! هو واقعيّة الإنسان والملائك! هو أصل الجنّ وسائر الموجودات المخلوقة واعتبارها!
ولهذا، فما دام ذلك الحجاب الداعي إلى الاستقلال موجوداً فإنّ الشرك به ما يزال قائماً أيضاً. وبالرغم من إسلام معظم الناس في العالَم فإنّهم، دون شكّ أو تردُّد ودون مجاملة أو مبالغة، جميعاً مشركون ما دام ذلك الستار موجوداً على حاله!
ولا تقولوا! رجاءً، إنّما هذا شِرك خفيّ وليس شركاً جليّاً ظاهراً، وأن الإسلام جاء بدعوته وتبليغه وشريعته لإزالة الشرك الجليّ وتحريم عبادة الأصنام والأوثان؛ وهو ذا قد أزال المعابد وبيوت الأصنام.
لأنّنا سنجيبكم هكذا: لقد جاء الإسلام لإزالة كلّ أثر من آثار الشرك وأقسامه لا لإزالة عبادة الأوثان الظاهريّة والباطنيّة وحسب. أن الآيات القرآنيّة وهذا المذهب وتلك الشريعة تنفي اي نوع من أنواع الشرك وتطالب بالقضاء عليه ومحوه. كلّ ما في الأمر أن المؤمنين بالأوهام والمعتقدين بالخرافات والحريصين على استقلاليّتهم عاجزون عن هضم مسألة الجهاد والقتال أو استيعابها، ولذا نراهم قد اكتفوا بمقارنة الشرك الظاهر ومحاربته. وإذا اكتفى الفرد بذلك النوع من الجهاد، فهو لا شكّ سيحصل على منافع واجتماعيّات الإسلام وظواهره ومظاهره، لكنّه يقيناً سيفقد خَلاقه من الجَنّة الحقيقيّة، ولا جَرَم أنّه سيهدر نصيبه من مقام اللقاء والرضوان والتكامل في مراتب استعداده وقابليّته على طريق نقطة الإنسانيّة والفعليّة والواقعيّة.
ولذلك فإنّ الشرك الخفيّ مثله تماماً كمثل الشرك الجليّ؛ وهو مهمّ كأهمّيّة الأخير. ويجب على الإنسان، لا سمح الله، أن لا يعدّه صغيراً أو بسيطاً أو حقيراً، وينظر إليه نظرة إغفال أو إهمال أو ازدراء؛ فيقضي عمره والعياذ بالله وقد حبس الله داخل مظاهر ومجالى، والحقّ أنّه قد حبس نفسه هو بعمله هذا؛ فكلّ ستار حُجِبَ به بمثابة سجن له.
[1] - الآيتان 105 و106، من السورة 12: يوسف.
[2] حسيني طهراني، سيد محمد حسين، معرفة الله، 3جلد، دار المحجة البيضاء -بيروت- لبنان، چاپ: 1، 1420 ه_ق.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة