أدلة العصمة
المؤلف:
آية الله السيد محسن الخرّازي
المصدر:
بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية
الجزء والصفحة:
ج1، ص 250-257
2025-08-06
326
وقد استدلوا بوجوه متعددة ، وهذه الوجوه مختلفة في إفادة تمام المراد وعدمها. فاللازم أن ننظر فيها ، وإن كانت دلالة جملة منها على العصمة بلا كلام ، ولذا نشير هنا إلى عمدة الوجوه.
منها : نقض الغرض ، وهو أن النبي لو لم يكن معصوما لزم نقض الغرض.
بيان ذلك : أن المقصود من إرسال الرسل وبعث الأنبياء كما عرفت ، هو إرشاد الناس نحو المصالح والمفاسد الواقعية ، وإعداد مقدمات معها يمكن تربيتهم وتزكيتهم على ما هو الكمال اللائق بمقام الإنسانية وسعادة الدارين ، وهو لا يحصل بدون العصمة ، إذ مع الخطأ والنسيان أو العصيان لا يقع الإرشاد إلى المصالح والمفاسد الواقعية ، كما لا يمكن تربية الناس وتزكيتهم على ما تقتضيه السعادة الواقعية والكمال اللائق بهم. ومن المعلوم أن تصديق الخاطي والعاصي نقض للغرض من إرسال الرسل وهو خلاف الحكمة ، فلا يصدر منه تعالى.
وعليه فيكون رسله وأنبياؤه معصومين عن الخطأ والنسيان والعصيان لئلا يلزم نقض الغرض.
وهذا دليل تام ، ولكنه أخص من المذهب المختار ؛ لأنه لا يشمل قبل البعثة ، فيحتاج في إفادة تمام المراد إلى ضميمة الأدلة الاخرى ، كالأدلة السمعية الدالة على أن النبوة شأن المخلصين من العباد ، والمصطفين من الأخيار ممن لا سلطة للشيطان عليهم بقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (1).
وهنا تقريب آخر يظهر من تجريد الاعتقاد وشرحه وهو كما في الثاني «أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية ، جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك ، وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم ، وذلك نقض للغرض من البعثة» انتهى.
وفيه أنه لا يفيد إلّا العصمة عن المعصية ، وأما العصمة عن الخطأ والنسيان
فلا تعرض له ، هذا مضافا إلى إمكان التفكيك بأن يقال : إن الوثوق بالصدق في أوامرهم ونواهيهم يحصل بسبب قيام الدليل العقلي على عصمتهم في تلك الأوامر والنواهي بعد قيام المعجزات والبينات الدالة على صدقهم في دعوى النبوة فلا يجوزون الكذب في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ، وإن جوزوا الكذب والمعصية على الأنبياء في غير أمرهم ونهيهم وأفعالهم ، ولعل المقصود من قول المحقق الطوسي ـ قدس سره ـ : «ويجب في النبي العصمة ، ليحصل الوثوق فيحصل الغرض» هو ما ذكره السيد المرتضى ـ قدس سره ـ كما سيأتي إن شاء الله ، فافهم.
ومنها : أصلحية العصمة ، وبيان ذلك : أن العصمة بما لها من المعنى الاصطلاحي المختار عند الامامية أحسن وأصلح وأرجح وأدخل في تحقق الغرض ، وحيث لا مانع منها مع إمكانها ، يجب في حكمته تعالى تحققها ، وإلّا لقبح ؛ لأنه ترجيح المرجوح من دون وجود مانع عن الراجح أو استحيل تركها ؛ لأنه يرجع إلى ترجح المرجوح بدون وجود الداعي له كما لا يخفى.
قال المحقق اللاهيجي ـ قدس سره ـ : «لا شك في أن العصمة بمعناها التي هي مذهب الإمامية ، أدخل في اللطف ، وادعى في اتباع الناس ، وعدم تنفرهم ، والمفروض أنها ممكنة ، ولا مانع منها ، فالحق مذهب الإمامية في كلا المقامين ، أعني وجوب العصمة في تمام العمر ، وفي جميع الامور من الأفعال والآراء والأحكام والأقوال» (2).
لا يقال : إن ذلك فرع العلم بعدم وجود المانع ، وهو غير حاصل ؛ لأنا نقول : إن وجوه المفسدة منحصرة وليس شيء منها في مراعاة العصمة ، فالعلم بعدم المانع حاصل ، ومعه فلا إشكال في وجوب العصمة ؛ لأنها أصلح (3).
ومنها : ما أشار إليه في أنيس الموحدين ونسبه إلى الحكماء ، وهو أنه من المعلوم أنه لا يصلح للنبوة إلّا من أطاع جميع قواه من الطبيعية والحيوانية والنفسانية لعقله وانقادت له ، فمن يكون جميع قواه كذلك ، يستحيل صدور المعصية منه ؛ لأن جميع المعاصي عند العقل قبيحة ، ومن صدر عنه معصية غلب أحد قواه المذكورة كالغضب أو الشهوة على عقله ، ثم استحسنه وقال : إنه في كمال القوة والمتانة (4).
وفيه أنه أخص من المدعى ؛ لأنه لا يثبت إلّا العصمة عن الذنوب ، ولا تعرض له بالنسبة إلى العصمة عن الخطأ والنسيان فتدبر جيدا.
ومنها : ما يظهر من «تنزيه الأنبياء» وحاصله أن عصيان النبي سواء كان حال نبوته أو قبلها يوجب تنفر الناس عن قبول قوله واستماع وعظه ، فلا يسكن نفوس الناس إلى العاصي ومن يجوز صدور العصيان والقبائح عنه ، كسكون نفوسهم إلى من لم يصدر عنه عصيان ، ولا يجوز عليه صدوره ، مع أن اللطف واجب (5) وإليه يشير ما حكى عن العلّامة ـ قدس سره ـ في ضمن ما يلزم من إنكار العصمة «ومنها سقوط محله ورتبته عند العوام ، فلا ينقادون إلى طاعته فتنتفي فائدة البعثة» (6).
وفيه : أولا : إن هذا البرهان لا يثبت عصمة النبي عن المعصية في الخلوات ولا عن السهو والنسيان والخطأ والاشتباه ، إذ الاول مستور ، اللهم إلّا أن يقال : آثار المعاصي في الخلوات تظهر في الجلوات ومعه يحصل التنفر العمومي والثاني لا يكون قبيحا عندهم ، ولا يوجب التنفر إلّا إذا صدر السهو والنسيان ونحوهما كثيرا ، بحيث يسلب الاعتماد عنهم ، فهذا الدليل وإن عم قبل النبوة لكنه أخص من المختار.
وثانيا : إن الغرض في إرسال الرسل هو إرشاد الناس إلى ما يصلح للداعوية والزاجرية ، وهو يحصل بمجيء النبي الصادق ، فيما جاء به ، وإن كان عاصيا في أعماله وأفعاله الشخصية ؛ لأن المفروض هو العلم بنبوته وصدقه في دعوى النبوة مع إظهار المعجزة ، فمع قيام المعجزة وثبوت عصمته في تلقي الوحي وإبلاغه بالدليل العقلي تسكن النفوس إليهم ، كما تسكن النفوس نحو ما يرشد إليه الأطباء الحاذقون ، وإن كانوا مرتكبين للمعاصي والفجور ، ولا يقاس النبي بالواعظ الغير العامل المرتكب للمعاصي ، لظهور الفرق بينهما ، وهو وجود الشاهد على صدقه في الأنبياء دون الوعاظ والعلماء الغير العاملين ، فالدليل المذكور لا يثبت عصمتهم في أفعالهم الشخصية ، ولكن الانصاف أن الصلاحية المذكورة ذات مراتب مختلفة ، والمرتبة العالية منها التي يمكن معها سوق عموم الناس إلى الاطاعة والانقياد ، لا تحصل عادة بدون العصمة في أفعالهم الشخصية ، هذا مضافا إلى أن الغرض من البعثة وإرسال الرسل لا ينحصر في الإرشاد ، لما عرفت سابقا من أن الغرض امور متعددة منها : التربية والتزكية ومن المعلوم أنها لا تحصل بدون كون الأنبياء والمرسلين اسوة في الفضيلة والطاعة كما لا يخفى.
فالأنبياء معصومون ولو في افعالهم الشخصية ، سواء كانت قبل البعثة أو بعدها ، وإلّا فلا يحصل مقتضى الانقياد العام ولا التربية ولا التزكية للعموم.
ومنها ما في متن «تجريد الاعتقاد» من لزوم اجتماع الضدين لو لم يكن الأنبياء معصومين ، حيث قال : «ويجب في النبي العصمة ... ولوجوب متابعته وضدها».
قال الشارح العلّامة ـ قدس سره ـ في توضيحه : «إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يجب متابعته ، فإذا فعل معصية فإما أن يجب متابعته أو لا والثاني باطل ، لانتفاء فائدة البعثة ، والأول باطل ؛ لأن المعصية لا يجوز فعلها. ثم قال : وأشار بقوله : «ولوجوب متابعته وضدها» إلى هذا الدليل ؛ لأنه بالنظر إلى كونه نبيا يجب متابعته ، وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه» (7).
وفيه : أولا : أنه أخص مما ذهب إليه الإمامية ، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال النبوة.
وثانيا : أن التضاد بين الأحكام على فرض صحته (8) لا يوجب استحالة الاجتماع ، إلّا إذا كان الموضوع واحدا ، وفي المقام ليس كذلك. فإن موضوع الحرمة هو فعل الذنوب والمعصية وموضوع الوجوب هو الإتباع عن النبي ، ومن المعلوم أنهما متعددان ومتغايران ، فيجوز اجتماعهما بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي ، كما قرر في محله. نعم يلزم من فعلية الحكمين التكليف بالمحال ، لعدم تمكن المكلف من امتثالهما ، فلو أبدل الدليل وقيل : يجب العصمة وإلّا لزم التكليف بالمحال لو بقي الحكمان على الفعلية لتم كما لا يخفى.
ومنها ما في متن «تجريد الاعتقاد» أيضا من لزوم الإنكار على النبي لو لم يكن معصوما وهو حرام لحرمة ايذائه حيث قال : «ويجب في النبي العصمة ... ولوجوب الإنكار عليه» قال العلّامة ـ قدس سره ـ في شرحه : «إنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر ، وذلك يستلزم ايذائه وهو منهي عنه» (9).
وفيه : أولا : أنه أخص من المدعى ؛ لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال نبوته.
وثانيا : أن حرمة الايذاء لا تختص بالنبي ، بل ايذاء المؤمن أيضا حرام ، فلو كانت حرمة الايذاء مانعة عن النهي عن المنكر في النبي ، لزم أن يكون كذلك في غيره وهو كما ترى ، وليس ذلك إلّا لحكومة أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أدلة حرمة الايذاء اللهم إلّا أن يقال بأن اطلاق فعلية حرمة الايذاء في النبي من دون استثناء ، يكشف عن عدم صدور الذنب منه أصلا وإلّا فلا مورد لذلك الاطلاق الساري.
ومنها ما في المتن من أنه مع جواز صدور المعصية عمدا أو خطأ ونسيانا ، فإما يجب اتباعه فيما صدر منه ، أو لا يجب ، فإن وجب لزم الترخيص في فعل المعاصي ، بل ايجابه للزوم المتابعة ، وذلك باطل بضرورة الدين والعقل ، وإن لم يجب اتباعه كان ذلك منافيا للنبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الاطاعة أبدا.
هذا فيما إذا علم أن الصادر معصية ، وأما إذا لم يعلم واحتمل فلا يجب اتباعه لاحتمال كونه معصية أو خطأ فتذهب فائدة البعثة.
وفيه أولا : أنه أخص مما ذهب إليه الإمامية ، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال النبوة.
وثانيا : أنه لا يثبت العصمة لارتفاع المحذور باثبات العدالة ، إذ مع العدالة لا يكون اتباعه باطلا ، ولو كان في الواقع خاطئا ، كالاتباع عن الفقهاء والحكام والعدول ، مع احتمال الخطأ فيهم ، والترخيص في اتباعهم ، ولو كان خلاف الواقع ، لا مانع منه إذا كان مصلحة الاتباع راجحة ، كما هو كذلك في حجية الفتاوى والأحكام وشهادة العدول ، اللهم إلّا أن يقال : إن اتباع الأنبياء لدرك المصالح الواقعية ، والبعد عن المفاسد الواقعية ، وهو لا يحصل بالعدالة ، ولكنه دليل آخر الذي أشرنا إليه كالدليل الأول ، وكيف كان ففي ما ذكر من بعض البراهين المذكورة منفردا أو بعد ضم بعضها إلى بعض غنى وكفاية لإثبات مذهب الإمامية.
_______________
(1) ص : 45.
(2) راجع گوهر مراد : ص 301.
(3) راجع سرمايه ايمان : ص 81.
(4) انيس الموحدين : ص 99 الطبعة الحديثة.
(5) تنزيه الأنبياء : ص 5 ـ 6.
(6) دلائل الصدق : ج 1 ص 427.
(7) شرح تجريد الاعتقاد : ص 217.
(8) لإمكان أن يقال : لا تضاد بين الأحكام بما هي هي بجميع مراتبها ، فإن اقتضاء المصلحة أو المفسدة للحكم وفقهما ذاتي لا شرعي ولا استحالة فيه بعد تعددهما ، كما أن الانشاء خفيف المئونة فلا مانع من اجتماع الحكمين الانشائيين وأيضا لا مانع من اجتماع الإرادة والكراهة من الجهات المختلفة نعم لو بقيتا على الفعلية في شيء واحد لزم التكليف بغير المقدور.
(9) شرح تجريد الاعتقاد : ص 217.
الاكثر قراءة في العصمة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة