وتدل البحوث العلمية الحديثة على أن «هومر» لم يؤلف فعلًا كل هاتين الملحمتين، بل وضع في كتاب واحد كل قصائده، وكذلك قصائد الشعراء الآخرين، والقصة التي بنى عليها كتابه هي ما يأتي: خطف «باريس» ابن «بريام» ملك «طروادة» «هيلانة» الجميلة زوج «منلاوس»، الذي كان ملك «أسبرتا» وقتئذ وأخ «أجاممنون». وعلى الرغم من أن هيلانة قد ذهبت معه عن طيب خاطر، فإن المدن الإغريقية قد انضمت تحت لواء «أجاممنون» في حملة على «طروادة»، وانتهت بخراب «طروادة» وقتل أهل «طروادة» في خلال هذه الحرب أو حملوا أسرى، ولم يبقَ إلا قليل بين خرائب مدينتهم، وقد عاد الإغريق إلى أوطانهم ولواء النصر معقود على رءوسهم.
ويلحظ في القصة كما رواها الشاعر «هومر» أن الآلهة والإلهات قد أخذوا بنصيب في هذه الحرب، وسنشرح ذلك فيما بعد. والإله الوحيد الذي يعنينا هنا هو الإله «زيوس» أعظم الآلهة. أما الآلهة الآخرون فنذكر منهم: الإله «أبوللو» إله الموسيقى والشعر والتنبؤ بالغيب، والإلهة «بلاس أثينا» إلهة الحكمة، والإله «هرميس» رسول الآلهة إله الحكمة، ويقابل عند المصريين الإله تحوت، ثم الإله «هفاستيوس» إله الفنون التي تصنع بالنار. ونرى عند فاتحة هذه الملحمة «أخيل» Achille الذي كان أعظم بطل في المعسكر الإغريقي في سرادقه، وهو في حالة غضب وتفكير عميق؛ بسبب أن «أجاممنون» قد اغتصب منه أمة استولى عليها في أثناء الحرب. وقد صاح «أخيل» قائلًا: «لقد كان ذلك مكافأته مقابل أيام وليالٍ طويلة قضاها ساهرًا يشن الحرب للاستيلاء على المدن والكنوز التي سلمت كلها إلى «أجاممنون» بوصفه سيده الأعلى». وبذلك لم يذهب «أخيل» إلى مكان الاجتماع ولا إلى ميدان الحرب، بل أضنى قلبه في التفكير في مثواه، وكان يتوق عند سماعه صيحة إعلان الحرب والاشتباك في المعركة إلى منازلة العدو.
وفي تلك الفترة كان كل من الفريقين المتحاربين يأتي بضروب الشجاعة التي لا تحصى. وكان الآلهة يميلون طورًا إلى هذا الفريق وتارة إلى ذاك، أما الإله «زيوس» فكان يقبض في يده على كفتي الميزان الذهبي وازنا أقدار الإغريق والطرواديين. وكان أشجع الشجعان في الجيش الطروادي هو «هكتور» بن الملك «بريام»، فقد ودع زوجه وابنه الصغير عند مشارف المدينة، ولم يكن في مقدوره أن يصغي إلى تضرعات زوجه؛ ليبقى معها وعندئذ جاوبها «هكتور» كرة أخرى وعلى رأسه خوذته البرنزية:
زوجتي العزيزة إن في كلماتك حكمة كثيرة
ولكني إذا أحجمت لحقني العار
أمام نساء «طروادة» اللائي يجررن أذيالهن أمام أزواجهن
لا بل إن روحي فضلًا عن ذلك ليست مكانًا للجبن
إن واجبي أن أقف بمفردي
وأن أسلط أول السيوف الطروادية
نائلًا بذلك فخر والدي وفخري أنا نفسي
ومع ذلك فإنه في أعماق قلبي وروحي يُعرف شيء واحد.
وبعد ذلك مد ذراعيه لابنه الذي أسرع إلى أحضان مربيته منزعجًا من رشية خوذته المنحنية، ولما رأى «هكتور» ذلك ألقى خوذته جانبًا، وأخذ الطفل بين ذراعيه ودعا «زيوس» أن يصبح شجاعًا ومنتصرًا أكثر منه نفسه.
وبعد ذلك ضحك والده وأمه بوداعة
ووضع «هكتور» خوذته على الأرض
وكلها تسطع بوضاءة. وأخذ الطفل وقبله
راجيًا «زيوس» وكل الآلهة الذين حوله:
هب يا «زيوس» أن يكون ابني هذا شجاعًا
مثلي وليت شهرته تضيء لامعة
بين الطرواديين وأن تكثر قوته
وعندئذ سيقول الناس: «لقد فاق في القوة
والده.» عندما يعود منتصرًا من الحرب.
وبعد ذلك ذهب لمحاربة الأعداء، وهو يعلم في قرارة نفسه وأعماق روحه أنه سيقتل، وأن «طروادة» ستسقط في يدو العدو.
قتل «هكتور» خلقًا كثيرًا من الأعداء، ولقد قفز فوق جدار المعسكر الإغريقي، ونادى رجاله أن يتبعوه وشتت شمل الإغريق حتى ولوا هاربين، وبعد ذلك قتل «باتروكلوس» Patroclus أكبر أصدقاء «أخيل»، وأخيرًا أزكى نار الانتقام في نفس «أخيل»، فنزل إلى ساحة الوغي وتقابل الخصمان وجهًا لوجه وتبارزا، وكانت درع «أخيل» قد صنعها له الإله «هفاستيوس» Hephacstus، (1) وكانت درعه أشهر درع جاء ذكرها في الكتب؛ لأنها كانت مزركشة بالذهب والفضة والبرنز وحفر عليها مناظر من حياة تلك الأيام منها منظر حفل زواج وشجار في مكان السوق وجيوش محاصرة وكرم، ومنظر حصاد وحرث أرض ومرعى.
وبعد ذلك صور مكان رقص هناك
مثل ما كان قد عمله «دادالوس» في «كنوسوس»
تلك المدينة الشاسعة لسيدة جميلة
وهي العذراء أريادني صاحبة الشعر الجميل
وكان هناك شباب يرقصون على تلك الأرض
وعذارى كثرت مغازلتهن ولكن صعب استمالتهن
ويرقصن ممسكة إحداهن بيد الأخرى
والبنات ارتدين الكتان الجميل والشبان يلبسون
أثوابًا نسجت نسجًا جميلًا يضيء لهم مصباح خافت
بالزيت، وكان يزين رأس كل عذراء إكليل
والشباب كانوا يحملون خناجر محلاة بالذهب فقط
وحمالات سيوف متدلية من الفضة. وهكذا مشوا
بأقدام ماهرة تلف، وخطوا برشاقة
وهكذا بالضبط يجلس صانع فخار بعجلته
ممكنة بين يديه كأنه يجربها
لتجري في وقتها. وهكذا يديرها
وكان كل واحد يقابل الباقي ثانية في صفوف منظمة
وكان يجلس حول الرهط الأنيق كثير من الضيفان
كان يغني لهم الشاعر الشبيه بالإله
أناشيد غنائية، وقد ملأ الفرح صدرهم
وقد أحاطوا جميعًا أنفسهم بمهاجرين.
…
وهاجم «أخيل» «هكتور» الذي فر أخيرًا من أمامه، وبعد ذلك تبعه «أخيل» مثل «إريس» إله الحرب أو كالصقر عندما ينقض على يمامة أو ككلب الصيد عندما ينطلق وراء جرو. وكان الإله «زيوس» يقبض على كفتي الميزان المصنوعتين من الذهب، وقد خفت موازين «هكتور» فهوت كفته.
وقد تغلب الغضب الوحشي على «أخيل» آنذاك
وعلى ذلك فإنه عندما انقض قابضًا أمام صدره
درعه المنقوشة وطوح خوذته اللامعة
التي كان يموج حولها أربع ريشات
كان يجلس على مقربة «هفاستيوس»، وهكذا فإن أجمل
كل كواكب السماء «هسبروس» كان يسير
في ليلة مظلمة يفوق ضوءه كل الكواكب
وهكذا في يد «أخيل» اليمنى عندئذ
سطعت حربته الحادة عندما صوب حربته المميته.
وعندما هوت الطعنة وسقط «هكتور» على الأرض لافظًا النفس الأخير رجا «أخيل» أن يقوم بدفن جثته، وحذره أنه هو كذلك سيلاقي نفس المصير تحت جدران «طروادة».
وعندئذ تكلم «هكتور» صاحب الخوذة اللامعة — وهو يموت — مرة أخرى:
حقًّا إني أعرفك تمامًا وأرى بوضوح
أن قلبك من حديد صلب لم يتحرك من أجلي
ومع ذلك فإن ستقتل بيد «باريس» و«أبوللو»
ولا نزاع في أنه سيقضى عليك عند بوابة «سكابين»
على الرغم من كل قوتك. فاحذر إذن مرة أخرى
لئلا أصب عليك كره ربك المر
وقد انتهى نادبًا مصيره المحزن
وخرجت روحه وكانت لا بد أن تذهب إلى عالم الآخرة
مجردة من شبابها ومحرومة من قوتها.
وقد قتله «أخيل» دون أن يحير جوابًا على رجاء «هكتور» لدفنه، كما أنه لم يكترث بما قيل له عن مصيره هو.
وبعد ذلك تكلم «أخيل» العظيم: «فلتكن نهايتك
وأنا كذلك سأتقبل الهلاك الذي سترسله الآلهة»
وبعد ذلك أتى «بريام» المسن راجيًا أخذ جثة ابنه، وعندئذ تحركت الشفقة في قلب «أخيل» فأعطاه إياها لتدفن.
وهنا تنتهي قصة الإلياذة؛ لأن موضوعها هو غضب «أخيل» الذي بدأ بشجاره مع «أجاممنون»، وانتهى بدفن الرجل الذي قتل أعز صديق لديه.
............................................
1-هذا الإله يقابل الإله بتاح المصري الذي كان مقر عبادته «منف»، وهو إله الحرف والفن والصناعات.
 
				
				
					
					 الاكثر قراءة في  العصور القديمة في العالم
					 الاكثر قراءة في  العصور القديمة في العالم 					
					
				 
				
				
					
					 اخر الاخبار
						اخر الاخبار
					
					
						
							  اخبار العتبة العباسية المقدسة