الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
الغيبة (التنابز بالألقاب وحفظ الغيب)
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج3/ ص73-108
2025-01-15
47
تنويه :
تقدّم في الجزء الأول من هذا الكتاب والذي يبحث عن الاصول العامة للقيم الأخلاقية بحث حول علاج آفات اللسان على أساس أنّها أول خطوات إصلاح الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله تعالى ، وقد وعدنا هناك أن نفصّل الحديث عن هذه الحالة ونذكر جزئيات اخرى في البحوث اللاحقة ، وأحد افرازات آفة اللسان هذه هي مسألة (الغيبة) التي هي من أخطر المفاسد الأخلاقية وأكثرها إتّساعاً وشيوعاً حيث تتسبب في هتك حُرمة الآخرين ، وكشف أسرارهم ، وإشاعة الفحشاء ، وتمادي المذنبين والمجرمين في سلوكهم ، وبالتالي تفضي إلى تزلزل إعتماد الناس وثقتهم بالبعض الآخر ، ولا ريب أنّ لكثير من الناس عيوب ونقاط ضعف مستورة غالباً ، فإذا اتّضحت هذه العيوب ونقاط الضعف فسوف تتزلزل الثقة العامة بين الناس وتنتشر المفاسد الأخلاقية العديدة التي ذكرناها آنفاً في الوسط الاجتماعي ، ولذا نهى الإسلام عن ذلك بشدّة ، وجاء في كتب علماء الأخلاق أنّ الغيبة من أسوأ آفات اللسان (رغم أنّ الغيبة لا تنحصر بذكر الطرف الآخر باللسان ، بل قد تتحقق بالقلم أو الإشارة أو التعرض بشكل من الأشكال للآخر).
وبما أنّ السلوك إلى الله تعالى لا يمكن أن يتحقق للإنسان ولا يرى المجتمع الإنساني السعادة والصلاح بدون إزالة هذه الرذيلة الأخلاقية بين أفراد المجتمع فلذلك نجد أنّ النصوص الدينية قد اهتمت بهذا الأمر إهتماماً بالغاً.
إنّ تسمية الأشخاص الآخرين بأسماء وقحة وألقاب قبيحة في غيابهم يعتبر فرع من فروع الغيبة المحرّمة ، رغم أنّه قد يذكر بعنوان مستقل ، ولذلك ذكرناهما تحت عنوان واحد.
النقطة المقابلة للغيبة حفظ الغيب ، أي أنّ الإنسان يذكر الآخرين من موقع المدح والثناء ويدافع عنهم في حال تعرضهم للغيبة لحفظ كرامتهم وسمعتهم بما ستأتي الإشارة إليه ، وهذه احدى الفضائل الأخلاقية المهمّة وتتضمّن بركات كثيرة على مستوى الفرد والمجتمع.
على أية حال ونظراً لأهمية الموضوع ، فقد تطرق القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذه المسألة وأصدر أحكاماً مشددة عليها :
1 ـ (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)([1]).
2 ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)([2]).
3 ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)([3]).
4 ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً)([4]).
تفسير واستنتاج :
تنطلق «الآية الاولى» لتتحدث بصراحة عن ثلاث أشياء نهى القرآن الكريم عنها ، الأول : سوء الظن ، ثم التجسس ، ثم الغيبة ، ومعلوم أنّ سوء الظن يقود الإنسان إلى التجسس على أحوال الآخرين وكشف أسرارهم ، وبما أنّ كل إنسان لا يخلو من نواقص ونقاط ضعف ، فسوف تنكشف من خلال التجسس ، وبالتالي تكون موضوعاً للغيبة.
هذا وأنّ القرآن الكريم اهتمّ بمسألة الغيبة في هذه الآية أكثر من اهتمامه بمسألة سوء الظن والتجسس حيث تحرك في استجلاء مضمونها من موقع الاستدلال وقال : (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ).
هذا التشبيه يشكل في الواقع دليلاً منطقياً يبيّن جميع أبعاد المسألة ، فالشخص الغائب قد شبّه هنا بالميت ، والرابطة معه هي رابطة الاخوة ، وسمعته وشخصيته بمثابة جسده ، وغيبته بمثابة أكل لحمه ، وهو العمل الذي ينفر منه وجدان كل فرد مهما كان ضعيفاً ، ولا يجد كل إنسان الاستعداد لارتكابه حتى في أشدّ الظروف وأقسى الحالات.
وهذا التشبيه يمكن أن يكون إشارة إلى نكات اخرى كثيرة : فمن جهة أنّ الشخص الغائب مثل الميت في عدم قدرته على الدفاع عن نفسه ، والتهجم على من لا يقدر على الدفاع عن نفسه يعدّ من أسوأ الحالات الأخلاقية في الدناءة والحقارة.
ولا شك أيضاً أن تناول الميتة لا يتسبب في سلامة البدن والروح ، بل يفضي إلى الابتلاء بأنواع الأمراض ، وعليه فإنّ المستغيب إذا ما استطاع اطفاء نار حسده وحقده بواسطة الغيبة وبصورة مؤقتة ، فسوف لا يمضي وقت طويل حتى تورق بذور المفاسد الأخلاقية التي زرعها في قلبه وتعمل على زيادة قلقه وتوتره النفسي.
وكما أنّ الحيوان أو الإنسان الآكل للميتة يتسبب في انتشار الأمراض والميكروبات في الوسط الذي يعيش فيه ، فكذلك الشخص المستغيب يعمل على إشاعة الفحشاء والمنكر بين المسلمين بذكره عيوب وذنوب الآخرين المستورة.
عند ما يذكر القرآن الكريم هذا المثال بتفاصيله الدقيقة فإنّه يروم إلى تثوير وجدان الإنسان وفطرته تجاه هذا الذنب الكبير ، ولعل هذا هو السبب في حكاية الآية المثال المذكور بصيغة سؤال لكي يجد الإنسان الجواب بنفسه في أعماق وجدانه وبالتالي يكون تأثيره أكبر في واقع الإنسان وأحاسيسه حيث تقول الآية : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟).
وضمناً فانّ الآية يمكن أن تكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن موارد الاستثناء من حكم الغيبة وجوازها (من قبيل التظلم والمشورة وإصلاح ذات البين) هي في الواقع من قبيل المضطر لتناول الميتة حيث ينبغي به أن يقنع بالحدّ الأقل منها.
ولكن قد يثار هذا السؤال ، وهو أننا لا نرى في جميع انحاء العالم من يتناول لحم إنسان ميت (فكيف إذا كان أخاه) ، فانّ شناعة هذا الفعل وقبحه ممّا لا يكاد يخفى على أحد ، في حين أنّ ممارسة الغيبة تعدّ من الامور المتعارفة والمنتشرة في المجالس إلى درجة أنّها تعدّ أحد وسائل الترفيه والفكاهة ، فكيف نفسّر هذا الاختلاف بين هذين الحالين؟
الظاهر أنّ هذا الأمر لا دليل له سوى تفشي الغيبة وكثرة تداولها بين الناس بحيث أدّى إلى التقليل من قبحها إلى هذه الدرجة.
وتتحرك «الآية الثانية» من موقع التهديد الشديد لمن يمارس الغيبة (السخرية والاستهزاء) في حق الآخرين وتقول بأنّ العذاب العظيم ينتظر هؤلاء الأشخاص الذين يسخرون من المؤمنين ويلمزونهم بألسنتهم أو حركات أيديهم أو يغمزونهم بأعينهم من موقع التهمة والخصومة : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
كلمة «لمزة» من مادة لمز على وزن رمز وكلمة «همزة» بنفس الوزن كليهما من صيغ المبالغة ، واختلفوا هل أنّهما بمعنى واحد ، أو يختلفان في المعنى؟ هناك كلام بين المفسّرين ، بعض يرى أنّهما بمعنى واحد ، وبعض آخر يرى أنّ الهمزة بمعنى الغيبة واللمزة بمعنى التعيير ، وذهب ثالث إلى عكس هذا المعنى ، ورابع إلى أنّ الهمزة تقال لمن يعيب على الآخرين بالإشارة بينهما اللمزة تقال لمن يقوم بهذا العمل باللسان ، وخامس يرى بأنّ الاولى هي تعيير الشخص بالعلن والثانية وبالخفاء وبعض يرى أنّ «الهُمزة» تقال لمن يعيب الشخص في حضوره بينما «اللمزة» تقال لمن يعيب شخصاً في غيابه.
ويذكر بعض المفسّرين أنّ مقولة «الهمز واللمز» عبارة عن صفتين رذيلتين مركبتين من حالات الجهل والغضب والتكبّر ، لأنّهما تتسببان في إيذاء الآخرين وجرح عواطفهم وشخصيتهم وكذلك تتضمّنان نوع من حالة التفوّق وطلب العلو ، وبما أنّ مثل هذا الإنسان لا يرى في نفسه فضيلة وصفة حسنة فإنّه يتحرّك لجبران هذا النقص من موقع ذكر عيوب الآخرين ونقائصهم ليحرز بذلك تفوّقه ([5]).
وقد ذكرت بعض التفاسير وطبقاً لحديث شريف أنّ هاتين الصفتين هما من صفات المنافقين ([6]) ، والتعبير بكلمة (ويل) في بداية هذه الآية والتي وردت في سبع وعشرين مورداً في القرآن الكريم هي إشارة إلى اللعن والهلاك وأنواع العذاب لمن يرتكب مثل هذه الأفعال ، وما يقال من أنّ هذه الكلمة إشارة إلى بئر أو وادي عميق في جهنّم ملتهب بالنيران هو في الواقع من قبيل تفسير الكلي بمصداقه.
وهذه الكلمة وكذلك كلمة (ويس) و (ويح) كلّها تأتي لبيان حالة التأسف التي تصيب الإنسان ، غاية الأمر أنّ (الويل) تأتي في الموارد الشديدة القُبح و (ويس) تأتي في مقابل حالة التحقير ، و (ويح) تأتي في مقام الترحّم ([7]).
ومع الالتفات إلى موارد استعمال كلمات (ويل) في القرآن الكريم يتّضح جيداً أنّ هذه المفردة تستخدم في الموارد التي يكون فيها العمل قبيحاً جدّاً ، ومنه يتّضح كذلك أنّ الغيبة والتنابز بالألقاب يعتبر في دائرة المفاهيم القرآنية من أقبح الأعمال.
«الآية الثالثة» تتحدث عن الذين يشيعون الفحشاء بين الناس من موقع الذم لهم والتهديد الشديد بالعذاب الأليم لمرتكب هذه الرذيلة وتتضمّن كذلك ذم الغيبة لأنّ إشاعة الفحشاء تتمّ غالباً من خلال الغيبة أو التهمة فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)
وبالطبع فإنّ شأن نزول هذه الآية إنّما هو في مورد التهمّة التي نسبهما المنافقون لبعض زوجات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، ولكن مسألة إشاعة الفحشاء بين الناس لها مفهوم عام يستوعب موارد كثيرة لا سيما الغيبة.
وفي الحقيقة إنّ الآية الاولى من الآيات المذكورة آنفاً تتحدث عن البعد الفردي لحق الناس بالنسبة إلى الغيبة ومن هذه الآية نستوحي الآفاق السلبية الاجتماعية لظاهرة الغيبة ، لأنّه في كل مورد يقوم الناس بارتكاب الخطايا والذنوب في الخفاء ثم يفتضح أمرهم فإنّ الكثير من الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان واهتزاز القيم الأخلاقية في واقعهم سوف يجدون في أنفسهم ميلاً ورغبة لإرتكاب مثل هذه الذنوب.
«الفاحشة» من مادة فحش ، وهي في الأصل تعني كل فعل خرج عن حدّ الاعتدال وأضحى فاحشاً ، وعليه فإنّ هذه الكلمة تشمل جميع المنكرات والسلوكيات القبيحة في دائرة الأخلاق رغم ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم في عدّة موارد وكذلك في المصطلح المتداول بين الناس بمعنى الانحراف الجنسي والتلّوث بأنواع المحرّمات للشهوة الجنسية ، ولكن هذا لا يمنع من عمومية الفاحشة لموارد اخرى ، وفي الحقيقة إنّ استعمالها في خصوص الانحرافات الجنسية هو من قبيل استعمال الكلي في مصداقه البارز ، وعليه فإنّ اشاعة الفحشاء الوارد في هذه الآية لا ينحصر بالانحراف الجنسي ، بل يرد في موارد اخرى تأتي غالباً عن طريق الغيبة.
وفي الآية 45 من سورة العنكبوت نقرأ عن الصلاة : «إنّ الصّلاةَ تَنهى عنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ».
ولهذا السبب ورد في ذيل هذه الآية حديثاً شريفاً يقول : «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الِّذينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أَلَيمٌ»
والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يذكر في الآية أعلاه أنّ جزاء مثل هؤلاء الأشخاص هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وهذا يوكّد أنّ الغيبة وإشاعة الفحشاء لها آثار مخربّة في حياة الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي.
وآخر ما يقال في تفسير الآية محلّ البحث أنّ القرآن الكريم ولغرض التأكيد على هذه المسألة المهمّة لم يقل إنّ الذين يشيعون الفحشاء لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة بل قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)
وفي «الآية الرابعة» والأخيرة من الآيات محلّ البحث نقرأ إستثناءاً لحرمة الغيبة ، وهو ما إذا كانت الغيبة صادرة من مظلوم يريد أن يأخذ بحقّه من الظالم ومن ذلك يتّضح جيداً أنّ الغيبة لا تجوز بدون مبّرر ومسوّغ فتقول الآية : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).
والمراد بالجهر من القول هو أي نحوٍ من الإظهار اللفظي سواءاً كان بصورة شكوى أو حكاية أو غيبة أو لعن وذم وأمثال ذلك ، وعليه فإنّ من وقع مظلوماً يحقّ له ولغرض الدفاع عن نفسه أن يفضح هؤلاء الظالمين ويذكر أعمالهم العدوانية للآخرين.
ومن أجل ، أن لا يسيء الناس الاستفادة من هذا الاستثناء ويتحرّكون من موقع الغيبة والوقيعة بالآخرين بحجّة أنّهم مظلومون فإنّ الآية الكريمة تعقّب في آخرها بقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) ، فهو مطلّع على نيّات الأشخاص وأفكارهم ودوافعهم في أعمالهم هذه.
وممّا تقدّم من الآيات الكريمة نستوحي قبح وشناعة الغيبة وبالتالي فإنّ عواقبها الدنيوية والاخروية ستكون أليمة للغاية.
الغيبة في الروايات الإسلامية :
وقد ورد في المصادر الروائية وكتب الأخلاق روايات كثيرة في ذم الغيبة ، حيث تقرّر هذه الروايات في مضامينها حقيقة مذهلة حول الآثار الوخيمة للغيبة وعقوبتها الأليمة إلى درجة أنّه قلّما نجد بين الذنوب والمحرّمات ما ورد في حقّه مثل هذه الكلمات والتعبيرات ، ونحن نختار منها عشر روايات :
1 ـ نقرأ في حديث شريف أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) خطب يوماً في المسلمين ونادى بصوتٍ رفيع بحيث سمعته النساء في بيوتهنّ وقال : «يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتابُوا المُسلِمِينَ ولا تَتَبِّعُوا عَوراتَهُم فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَورةَ أَخِيهِ يَتَتَبَّعُ اللهُ عَورَتَهُ حتى يَفْضَحَهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» ([8]).
2 ـ وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّه خطب يوماً بالمسلمين وتحدّث عن ذم الربا حتى أنّه ذكر أنّ الدرهم من الربا أشدّ من ستة وثلاثين زنية ثم قال : «إنّ أَربا الرِّبا عِرضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ» ([9]).
هذا التعبير الذي يقرّر أهميّة ووخامة الغيبة بالنسبة إلى الزنا حيث ورد في روايات متعددة وفي بعضها ذكر السبب في ذلك وهو : «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب الله عليه ، وأمّا صاحب الغيبة فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه» ([10]).
3 ـ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : «الغَيبَةُ حَرامٌ عَلى كُلِّ مُسلِمٍ وَأَنَّها لَتأكُلُ الحَسناتِ كَما تأكلُ النّارَ الحَطَبَ» ([11]).
وهذه الخصوصية تترتب على الغيبة وكما سيأتي في البحوث اللآحقة بسبب أنّ الغيبة تتعرّض لحقّ الناس وبالتالي فإنّ حسنات المغتاب سوف تنتقل إلى صحيفة أعمال الشخص الآخر الذي وقع مورد الغيبة لجبران الخسارة والضرر الذي تحمّله من هذه الغيبة.
4 ـ وجاء في حديث قدسي أنّ الله تعالى خاطب نبيّه موسى (عليه السلام) وقال: «مَن ماتَ تائِباً مِنَ الغَيبَةِ فَهُوَ آخِرُ مَنْ يَدخُلِ الجَنَّةَ ومَن ماتَ مُصِرّاً عَلَيه ، فَهُوَ أَوّلُ مَنْ يَدخُلُ النَّارَ» ([12]).
وفي حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) نجد تعبيراً مذهلاً عن مخاطرة الغيبة حيث قال : «مَن مَشى فِي غَيبَةِ أَخِيهِ وَكَشفِ عَورَتِهِ كانَ أَوَّلَ خُطوَةٍ خَطاها وَضَعَها فِي جَهَنّمَ» ([13]).
6 ـ وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّه قال : «ما عُمّرَ مَجلِسٌ بِالغَيبَةِ إلّا خُرِّبَ بِالدِّينِ فَنَزِّهُوا أَسمَاعَكُم مِنْ اسْتِماعِ الغَيبَةِ فَإِنَّ القائِلَ وَالمُستَمِعَ لَها شَريكَانِ فِي الإثْمِ» ([14]).
7 ـ وفي حديث آخر أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتحدّث فيه عن الأضرار المعنوية الكبيرة للغيبة ويقول : «مَن إِغتابَ مُسلِماً أَو مُسلِمَةً لَنْ يَقْبَلَ اللهُ صَلاتَهُ وَلا صِيامَهُ أَربَعِينَ لَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» ([15]).
8 ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «مَن رَوى عَلى مُؤمُنٍ رَوايَةً يُريدُ بِها شَينَهُ وَهَدْمَ مُرُوَّتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعيُنِ النّاسِ ، وَأَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ وِلايَتِهِ إِلى وِلايَةِ الشَّيطانِ فَلا يَقْبَلُهُ الشَّيطَانُ» ([16]).
ومن الواضح أنّ المصداق البارز للرواية أعلاه هو الشخص المغتاب الذي يهدف من الغيبة إظهار عيوب المؤمنين المستورة ويعمل على هدم شخصيتهم الاجتماعية واسقاطهم بين الناس ، فعذاب مثل هؤلاء الأشخاص عظيم إلى درجة أنّ الشيطان نفسه يستوحش من قبول ولاية هؤلاء ويتبرأ من رفقته وصحبته.
9 ـ وفي الحديث الوارد في مناهي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «نَهى عَنِ الغَيبَة وَقالَ مَنْ إِغتابَ امرءً مُسلِماً بَطَلَ صَومُهُ وَنَقَضَ وَضُوءُهُ ، وَجاءَ يَومَ القيامَةِ يَفُوهُ مِنْ فِيهِ رائِحَةٌ أَنتنَ مِنَ الجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهلَ المَوقِفِ» ([17]).
10 ـ ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم وجود روايات كثيرة اخرى في هذا المجال ولكننا نكتفي بهذا المقدار الممكن من بيان عواقب الغيبة وآثارها الوخيمة الدنيوية والاخروية حيث يقول : «إِيّاكَ والغَيبَةِ فَإنّها تُمقِتُكَ إلى اللهِ والنّاسِ وَتَحبِطُ أَجرَكَ» ([18]).
ومن المعلوم أنّ حديثاً واحداً من هذه الأحاديث يكفي للأحاطة بأهميّة هذه المعصية وخطرها على واقع الإنسان وحياته المعنوية فكيف لو ضممنا وجمعنا هذه الأحاديث بعضها إلى البعض الآخر؟
ولا شكّ أنّه مضافاً إلى القرآن الكريم وتواتر الروايات الإسلامية وإجماع المسلمين على حرمة الغيبة ، فإنّ العقل أيضاً يقرّر قبح هذه الخطيئة ويذمّها باعتبارها أنّها من المصاديق البارزة للظلم والعدوان الذي هو من المستقلات العقلية ، وعليه فإنّ حرمة الغيبة تقوم عليه جميع الأدلة الأربعة الفقهية.
وبقيت هنا مسائل مهمّة لا بدّ من استعراضها وبحثها :
تعريف الغيبة :
ورد تعريف الغيبة لأرباب اللغة والفقهاء وعلماء الأخلاق تعاريف وتفاسير مختلفة تعود في حقيقتها إلى معنى واحد رغم اختلافها على مستوى التعميم والتخصيص وغير ذلك.
يقول في صحاح اللغة أنّ الغيبة هي أن يذكر الإنسان عيب الآخر وعمله في حال عدم حضوره بحيث لو سمعه ذلك الشخص لتألم وتأثر.
ويقول في المصباح المنير : أنّ الغيبة هي كشف العيوب المستورة للآخرين بحيث يتألمون منها وذلك غيبتهم.
وينقل الشيخ الأنصاري (قدس سره) عن بعض كبار العلماء أنّ الإجماع والأحاديث الشريفة تدلّ على أنّ الغيبة في حقيقتها هي (ذكر أخاك بما يكره) في غيبته ([19]).
وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث نبوي شريف ، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تعريف الغيبة يقول : «الغَيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي أَخِيكَ ما قَد سَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ ...» ([20]).
ويستفاد ممّا ذكر آنفاً أنّ للغيبة عدّة أركان ، أوّلها أن يكون الكلام في حال غيبة الشخص المذكور ، فلو قيل هذا الكلام في حضوره فإنّه يكتسب عنواناً آخر (كعنوان الايذاء أو التهتك وأمثال ذلك) والآخر أن يكون الكلام من قبيل ذكر عيوب الشخص المستورة والخفيّة فلو كانت من العيوب البارزة والظاهرة لم تكن من الغيبة رغم أنّها قد تكون محرّمة بعناوين اخرى ، والثالث أن يكون الكلام بحيث إذا سمعه الشخص المذكور بالغيبة فسوف يتألم ويتأثر ، ولكن الظاهر أنّ هذا القيد قيد توضيحي فحسب ، لأنّ إظهار العيوب المستورة للآخرين وخاصة في غيبتهم تورث التألم والأذى ، وقد يكون هناك بعض الأراذل الذين لا يمتعضون بذكر معايبهم ونشر فضائحهم بين الناس ولكن مثل هؤلاء الأشخاص قلّة نادرة.
وممّا تقدمّ آنفاً تتضح لنا هذه الحقيقة جيداً ، وهي أنّه عند ما يقال لبعض العوام من الناس : لماذا ترتكب غيبة الشخص الفلاني وتذمّه وراء ظهره؟ يقول : إنني أتحدث بهذا الكلام أمامه أيضاً وفي حضوره ، فهذا من قبيل العذر أقبح من الذنب ، لأنّ التحدّث بذلك أمامه وفي حضوره لا يجوّز غيبته أبداً ، فذلك أيضاً ذنب كبير بدوره لأنّه يدخل تحت عنوان أذى المؤمن وكذلك هتك حرمته بين الناس وهدم شخصيته في المجتمع.
ونقرأ في حديث شريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه ذكر بين يديه رجل فقال بعض الحاضرين : أنّه رجل عاجز وضعيف فقال : رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لقد اغتبتموه ، فقالوا : يا رسول الله لقد ذكرنا صفته فقال : «إِنْ قُلتُم ما لَيسَ فِيهِ فَقَد بَهَتّموه» ([21]).
والعذر الآخر الذي يذكره بعض الجهّال كمسوّغ للغيبة ويتذرّعون به أمام من ينهاهم عن الغيبة يقولون : إنّما نقوله هو حق وليس بكذب ، فالشخص الفلاني لديه هذا العيب ، وهذه الذريعة لا تقل قبحاً عن سابقتها لأنّه لو لم يكن هذا العيب في الطرف الآخر لدخل تحت عنوان التهمة لا الغيبة ، فالغيبة كما ذكرنا هي ذكر العيوب الخفيّة للآخرين في غيبتهم.
ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّه يستفاد من بعض كلمات الأعاظم وعلماء الأخلاق أنّ الغيبة لا تقع بالنسبة إلى جميع المؤمنين ، بل تقع في مورد الأشخاص الذين تابوا من ذنوبهم وندموا على خطيئتهم وعادوا إلى جادة الصواب ، وأمّا الفاسق والمذنب والمتجاهر بالإثم ، فإنّ غيبته مباحة حتى لو كان ذنبه مستوراً ويتمسّكون في هذا بالرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث أنّه قال : «مَنْ عامَلَ النّاسَ فَلَم يَظلِمهُم ، وَحَدَّثَهُم فَلَم يَكذِبْهُم ، وَوَعَدَهُم فَلَم يُخْلِفْهُم كَانَ مِمَّنْ حُرِّمَ غَيبَتُهُ وَكَمُلَتْ مُرُوَّتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ إخُوتُهُ» ([22]).
وبهذا فإنّ الغيبة تكون محرّمة إذا كانت بالنسبة إلى الشخص العادل بينما الشخص الفاسق فيجوز غيبته حتى لو كان يمارس الذنب في الخفاء.
العلّامة المجلسي (قدس سره) يميل إلى هذا الرأي أيضاً في الجزء 72 من بحار الانوار باب كتاب العشرة رغم أنّه عدل عن هذا الرأي في ذيل كلامه أيضاً ([23]).
ولكن من المسلّم أنّ هذه الرؤية تسبب في أن يكون أكثر الناس تجوز غيبتهم وهذا على خلاف اطلاق الآية القرآنية والروايات العديدة في مجال حرمة الغيبة.
ومضافاً إلى الروايات الكثيرة التي تقرّر أنّ عدّة طوائف من الناس تجوز غيبتهم أو لا غيبة عليهم ومنهم الفاسق المتجاهر بالفسق ومن جملة ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «أَربَعَةٌ لَيسَتْ غَيبَتُهُم غَيبَةٌ ، الفاسِقُ المُعلِنِ بِفِسقِه ، ....» ([24]).
ونفس هذا المضمون ورد في رواية اخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً.
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد : «إذا جاهَرَ الفاسِقُ بِفِسقِهِ فَلا حُرمَةَ لَهُ عَلى غَيبَةٍ» ([25]).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال : «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» ([26]) ، وهناك أحاديث متعددة اخرى صريحة في هذا المعنى ، وبمقتضى مفهوم الوصف لهذه الأحاديث ، بل مفهوم الشرط حيث يكون الكلام في مقام الاحتراز ونفي الغير يتّضح جيداً أنّه إذا إرتكب الشخص الذنب في الخفاء فلا يجوز غيبته ، وكما سوف يرد في بحث إستثناءات الغيبة أنّ الشخص المتجاهر بالفسق تجوز غيبته في خصوص الذنب الذي تجاهر به لا بالنسبة إلى جميع أفعاله الاخرى.
ومضافاً إلى أنّ حرمة الغيبة ثابتة بدليل العقل أيضاً لأنّها نوع من الظلم والعدوان على الآخرين وإفشاء أسرارهم وإسقاط شخصيتهم بين الناس ، ولا شكّ أنّه لا فرق بين الفاسق والعادل في هذا المجال إلّا أن تكون الغيبة في موارد النهي عن المنكر أو دفع الخطر أو الضرر عن المجتمع الإسلامي وحينئذٍ لا فرق أيضاً بين الفاسق والعادل.
وسيأتي في بحث إستثناءات الغيبة تفصيل أكثر حول هذا الموضوع.
أقسام الغيبة :
أحياناً يتصوّر أنّ الغيبة تقع باللسان فحسب ، في حين أنّ حقيقة الغيبة كما إتّضح آنفاً هي اظهار العيوب المستورة للشخص الآخر بحيث إذا سمع بذلك تألّم وتأثر منها ، وهذا العمل يمكن أن يحصل بواسطة اللسان أو بواسطة القلم أو حتى بالإشارة باليد والعين والحاجب ، وأحياناً تتخذ الغيبة صبغة المزاح واخرى صبغة الجد ، وكم من الذنوب والآثام التي يرتكبها البعض في لباس المزاح والسخرية حيث تكون أخطر من الذنوب التي تلبس لباس الجد ، لأنّ الإنسان يتحرّك بحرية أكثر في حالة المزاح بخلاف حالة الجد ، حيث لا يكون قادراً على بيان المطلب المراد بصورة وافية فيذكره بصبغة المزاح والإثارة للتفكّه والضحك.
مضافاً إلى أنّ الغيبة تارةً تقع بتعبيرات صريحة (وبالاصطلاح المنطقي بالدلالة المطابقية والتضمنية) واخرى بالدلالة الالتزامية والتعبيرات الكنائية التي قد تكون أبلغ من التصريح ، مثلاً عند ما يتحدّث الشخص عن أحد المؤمنين يقول : سامحه الله لنسكت عن هذا فإنّ الشرع المقدس قد أغلق أفواهنا ، وبهذه الكلمات يريد أن يفهم الآخرين على أنّ ذلك الشخص قد إرتكب أفعالاً قبيحة وعظيمة ، وقد يكون التصريح بها لا يثير المستمع كما هو الحال في الكناية ، ولكن بما أنّ مثل هذا الكلام يثير تصوّرات مجملة عن الموضوع فإنّ ذهن المستمع قد يتصوّر ذنوباً متنوعة وكثيرة يكون الشخص المذكور بريئاً منها.
أو يقول : إنّ الشخص الفلاني له صفات جميلة وأفعال حسنة ولكن ... ويسكت عن إكمال الحديث.
وأحياناً اخرى يتحرّك المتكلّم من موقع النصيحة والتحرق القلبي ويقول : سامح الله فلان وجعل عاقبته إلى خير ، أو يقول : أنا خائف من عاقبة أمره ، فهو في الحقيقة يعرض الذنب بلباس الطاعة والشر بثياب الخير ، وكما يقول بعض العلماء أنّه بذلك يكون قد ارتكب إثماً مضاعفاً ، فيكون قد اغتاب من جهة وارتكب الرياء من جهة اخرى ، فمن جهة قد إغتاب الشخص الآخر بتلميحه لمعايب كثيرة ونسبتها إلى الطرف الآخر ، وتحرّك من موقع الرياء حيث تظاهر بأنّه ليس من أهل الغيبة ، بل من أهل التقوى والطاعة لأوامر الله تعالى.
دوافع الغيبة :
إنّ للغيبة عوامل كثيرة ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لإرتكاب الغيبة، ومن ذلك :
1 ـ الحسد.
2 ـ الأنانية والعجب ورؤية الذات.
3 ـ الغرور والكبّر.
4 ـ الحرص.
5 ـ الحقد.
6 ـ حبّ الجاه.
7 ـ حبّ الدنيا والثروة والمقام.
8 ـ الرياء.
9 ـ تزكية النفس واظهار الطهارة والتقوى.
10 ـ طلب الترفيه عن النفس بأمور غير مشروعة.
11 ـ سوء الظن.
12 ـ حبّ الانتقام.
13 ـ التشفي وإطفاء سورة الغضب.
14 ـ السخرية والاستهزاء ، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية.
والقدر المشترك بين هذه الامور هو أنّ الإنسان يسعى لتسقيط الشخص الآخر وكسر شخصيته وموقعيته الاجتماعية ليضحى في أنظار الناس ذليلاً ولا قيمة له ، ومن هذا الطريق يجبر نقصه ويهدأ غضبه ويشيع حالة الانتقام من الطرف الآخر ، أو يتحرك لحرمانه من المقام والثروة أو لاظهار الزهد والقداسة الزائفة أو يتحرك من موقع إثارة الضحك والسخرية أو يرى لنفسه امتيازاً ومقاماً على الآخرين.
ومن هنا يتّضح أولاً : أنّ الغيبة مفهوم واسع الأطراف ولها عوامل متنوعة وكثيرة ، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «أَصلُ الغَيبَةِ تَتَنوَّعُ بِعَشرَةِ أَنواعِ ، شِفاءِ غَيظٍ وَمُساعَدَةِ قَومٍ وَتُهمَةٍ ، وَتَصدِيقِ خَبَرٍ بِلا كَشفِهِ ، وَسُوءِ ظَنٍّ وَحَسَدٍ وَسُخرِيَّةٍ وَتَعَجُّبٍ وَتَبَرُّمٍ وَتَزَيُّنٍ ، فَان أَرَدتَ السَّلامَةَ فَاذكُرِ الخالِقَ لا المَخلُوقَ فَيَصِيرُ ذلِكَ مَكانَ الغَيبَةِ عِبرَةً وَمَكانَ الإِثمِ ثَواباً» ([27]).
ومن الواضح أنّ الإمام هنا في صدد بيان قسماً من العوامل المهمّة للغيبة لأنّه كما تقدّم أنّ دوافع الغيبة متعددة وكثيرة غير ما ذكر في الحديث الشريف.
العواقب السلبية للغيبة :
للغيبة آثار سلبية ونتائج مخربّة كثيرة على الفرد والمجتمع البشري فلو تساهل الناس معها لأزداد الحال خطورة ، ومضافاً إلى ذلك العواقب الوخيمة المعنوية والعقوبات الإلهية المترتبة على هذه المعصية كما سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة.
وبالنسبة إلى المورد الأول يمكن الإشارة إلى ما يلي :
1 ـ إنّ الغيبة تقوم بأتلاف أهم رأسمال للمجتمع البشري ، والذي يتمثل بتبادل الثقة والاعتماد بين الأفراد ، لأنّ أغلب الأشخاص لديهم نقاط ضعف يسعون لكتمانها وسترها ليحفظوا ثقة الناس واعتمادهم ، وقبح هذه النواقص ونقاط الضعف من شأنه أن يقطع أواصر الاعتماد والثقة بين الناس.
ومن المعلوم أنّ الأساس في ظاهرة التعاون الاجتماعي والتفاعل الإيجابي والعاطفي بين الناس يتمثل في الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع وبدون ذلك يتبدل المجتمع إلى جحيم لا يطاق من كثرة المشاكل الاجتماعية.
2 ـ إنّ الغيبة تتسبب في سوء الظن بين الأفراد ، لأنّ العيوب المستورة للأشخاص عند ما تنكشف للناس فتتسبب في زوال حسن الظن لدى الإنسان بالنسبة لجميع الأسوياء والصالحين أيضاً حيث يقول : إنّ هؤلاء قد يمارسون مثل هذه الأعمال الشنيعة في الخفاء ويتظاهرون بالصلاح والخير فلا نعلم من حقيقة حالهم.
3 ـ إنّ الغيبة هي أحد أسباب إشاعة الفحشاء والمنكر ، لأنّ الذنوب المستورة إذا ظهرت بسبب الغيبة فإنّ ذلك سيؤدي إلى تشجيع الآخرين على إرتكابها ، وأساساً فإنّ إظهار الذنوب والكشف عنها من شأنه أن يزيل حالة الخشية منها فيستصغرها الناس ويكون ذلك عذراً للفسّاق في تبرير ذنوبهم وممارساتهم الخاطئة وأنّه إذا قمنا بارتكاب هذا الذنب فإنّ غيرنا ومن هو أفضل منّا وأعلم قد إرتكبه قبلنا.
ونقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق أنّه قال : «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهوَ مِنَ الَّذِينَ قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)([28]).
4 ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تبعث الجرأة في نفوس المذنبين على ارتكاب الذنوب وكسر حاجز الحياء ، لأنّ أعمال الإنسان ما دامت مستورة فإنّ الحياء يمنعه من إرتكاب الأشنع منها والتجاهر بها خوفاً من الفضيحة والخزي أمام الآخرين ، فلو أنّه إفتضح أمره ، فحينئذٍ يزول مانع الحياء من نفسه ويتجرّأ أكثر على ارتكاب الذنب.
5 ـ إنّ الغيبة تورث الحقد والعداوة والبغضاء بين الناس لأنّ أهم رأسمال للإنسان في المجتمع هو حيثيته وشخصيّته الاجتماعية ، والغيبة بإمكانها أن تذيب وتحرق رأس المال هذا فلا يبقى للإنسان شيئاً يعتدّ به في حركة الحياة الاجتماعية ، ولذا تسبب الغيبة العداوة الشديدة والحقد العميق في قلب الشخص المستغاب (فيما لو سمع بذلك).
6 ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تسقط المستغيب في أنظار الآخرين ، لأنّهم سوف يتصوّرون أن هذا الشخص الذي يتحدّث لهم عن عيوب الآخرين سوف يتحدّث عن عيوبهم أيضاً للآخرين ويغتابهم ، ولذلك ورد في الرواية عن أمير المؤمنين أنّه قال : «مَنْ نَقَلَ إِلَيكَ نَقَلَ عَنكَ» ([29]).
وفي حديث آخر نقرأ : «لا مُرُوَّةَ لِمُغتابٍ» ([30]).
7 ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تكون عذراً لتبرير خطايا وذنوب الشخص المستغيب ، فمن أجل أن يكون في أمان من اعتراض الناس وهجومهم ، فإنّه يتحرّك لممارسة هذا الذنب ويستغيب الآخرين لدفع التهمة عن نفسه.
(وأمّا الآثار المعنوية السلبية) للغيبة فأكثر من أن تحصى في هذا البيان ، ولكن نشير إلى بعض ما ورد في الروايات الإسلامية عن ذلك :
1 ـ تقدّم في الروايات السالفة أنّ الغيبة تمحق الحسنات وتبطل الأعمال الخيّرة كما تحرق النار الحطب ، ويقول العالم الكبير الشيخ البهائي (قدس سره) في أحد كتبه : إنّ الغيبة كالصاعقة التي تحوّل الحسنات إلى رماد في لمح البصر ثم يقول : إن الشخص الذي يرتكب الغيبة هو كمن نصب منجنيقاً واستهدف به حسناته لتحطيمها وتدميرها ([31]).
2 ـ إنّ الغيبة تعمل على تدمير إيمان الإنسان ودينه وتشويه قلبه كما يصنع مرض الجدري بجلد الإنسان.
3 ـ إنّ المرتكب للغيبة في حالة العفو عنه سيكون آخر شخص يدخل الجنّة ، وفي حالة عدم العفو عنه سيكون أول من يدخل النار.
4 ـ إنّ الغيبة تتسبب في فضيحة الإنسان ، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «يا مَعْشَرَ مَن آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوراتِهم فَإنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحُهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» ([32]).
5 ـ إنّ الغيبة تؤدّي إلى انتقال حسنات الشخص المغتاب إلى كتاب أعمال الطرف الآخر ، وكذلك تؤدّي إلى انتقال سيئات الطرف الآخر المستغاب إلى كتاب أعمال المستغيب فنقرأ في رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «يُؤتى بِأَحَدٍ يَومَ القِيامَةِ يُوقَفُ بَينَ يَدَي اللهُ يُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَلا يَرى حَسَناتَهُ فَيَقُولُ إِلهي لَيسَ هذا كِتابِي فَإِنِّي لا أرى فِيها طاعَتِي فَقالَ إِنَّ رَبَّكَ لا يُضِلُّ ولا يَنسى ، ذَهَبَ عَمَلُكَ بِاغتِيابِ النّاسِ ثُمَّ يُؤتى بِآخَرَ وَيُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَيَرى فِيها طاعاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَيَقُولُ إِلَهي ما هذا كِتابِي فَإنِّي ما عَمِلتُ هذِهِ الطَاعاتِ ، فَيَقُولُ : إِنَّ فُلاناً إِغتَابَكَ فَدُفِعَتْ حَسَناتُهُ إِلَيك» ([33]).
ومن هذا المنطلق نقل عن بعض الشخصيات المعروفة السالفة أنّه أرسل إلى شخص إستغابه طبقاً من التمر كهدية له وقال : إنّك قد أرسلت إليّ حسناتك وأهديتها لي فأردت جبران صنيعك هذا بهذه الهدية.
ونقل عن شخص آخر أنه كان يقول : أَنّني إذا أردت أن أستغيب أحد الأشخاص فإنّ امّي هي الأولى بذلك لأنّها أولى بحسناتي من الآخرين.
6 ـ إنّ الغيبة تتسبب في أن لا تقبل صلاة المغتاب وصومه لمدّة أربعين يوماً كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «مَنْ إِغتابَ مُسلِماً أو مُسلِمَةً لَم يَقبَل اللهُ تَعالى صَلاتَهُ ولا صِيامَهُ أَربَعِينَ يَوماً وَلَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» ([34]).
علاج الغيبة :
إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يشبه من جهات علاج سائر الأمراض الأخلاقية الاخرى ، ويختلف عنها من بعض الجهات ، وفي المجموع لا بدّ من رعاية الامور التالية للوقاية من الوقوع في هذا المرض أو علاجه :
1 ـ إنّ العلاج الحقيقي لكل مرض بدني أو نفسي أو أخلاقي يتمثّل بالعثور على الجذور والأسباب الكامنة وراء الابتلاء بهذا المرض والسعي لإزالتها والقضاء عليها ، وبما أنّ عوامل حصول هذه الصفة القبيحة في النفس كثيرة ومتعددة فلا بدّ من التوجه إلى تلك العوامل والاسباب ، وقد رأينا أنّ من العوامل المهمّة هو : الحسد ، الحقد ، الأنانية ، حبّ الانتقام ، التكبّر والغرور وأمثال ذلك ، وما دامت هذه الحالات النفسية السلبية موجودة في أعماق النفس وما دام الإنسان لا يتحرّك على مستوى إزالتها من واقعه وذاته فإنّ هذه الحالة الرذيلة أي ـ الغيبة ـ لا تنقلع ولا تزول.
وعند ما لا يجد الإنسان في نفسه حسداً على أحد ولا يعيش حالة الحقد والكراهية والمقت تجاه الآخرين ولا يرى في نفسه إمتيازاً ولا تفوّقاً على الغير فلا مسوّغ له للتلّوث بخطيئة الغيبة ولا يجد في ذاته رغبة وميلاً إلى ارتكاب هذا الفعل الذميم.
2 ـ ومن الطرق الاخرى لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو الالتفات والتفكّر في عواقبها السلبية على المستوى المادي والمعنوي ، والفردي والاجتماعي ، فإنّ الإنسان متى ما إلتفت إلى أنّ الغيبة ستؤدّي به إلى المهانة والسقوط في أنظار الناس فيعرفونه بأنّه شخص خائن ، ضعيف النفس ، ويشعر بالدونية والحقارة ، فإنّهم سوف يتحرّكون في الإرتباط معه من موقع عدم الثقة وسوف تهتز شخصيته ومكانته الاجتماعية لدى الآخرين ، وأنّ الغيبة سوف تتلف حسناته وتهدر طاقاته وتنقل سيئات الآخرين إلى صحيفة أعماله ، ولا تقبل عباداته لمدّة أربعين يوماً وهو أول من يدخل النار ، وفيما لو تاب وقبلت توبته يكون آخر من يدخل الجنّة.
وأيضاً عليه أن يلتفت إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الغيبة هي حق الناس لأنّها تتسبب في هدم سمعتهم والذهاب بماء وجوههم ، ونعلم أنّ قيمة ماء الوجه مثل قيمة النفس والمال لدى الإنسان أو أكثر وما لم يرض عنه صاحب الحق ، فإنّ الله تعالى لا يرضى عنه ، وربّما لا يتسنى له التوصل إلى كسب رضى الطرف الآخر أبداً وحينئذٍ سيتحمل وزر هذا الفعل مدى الحياة.
أجل ، فلو أنّ الإنسان تدبّر في هذه الامور جيداً فسوف يندم بالتأكيد على عمله ويتحرّك بعيداً عن هذا السلوك المنحرف ، والأشخاص الذين يعيشون ممارسة الغيبة في مجالسهم وبهدف الترفيه والتفريح واللهو إذا ما فكّروا في عواقب الغيبة فسوف يتحوّلون عنها بالتأكيد ولا يقتربون من ممارسة هذا السلوك السلبي والعدواني.
3 ـ يجب أن ينتبه المستغيب إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ طاقات الإنسان محدودة ، فلو أنّه بدلاً من إتلاف هذه الطاقات وصرفها في تسقيط شخصية الآخرين وهدم مكانتهم الاجتماعية كان يستخدم هذه الطاقات والقابليات والمواهب الإلهية في خط الكمال المعنوي والمنافسة السلمية والصحيحة بينه وبين الآخرين فقد لا تمضي فترة قصيرة إلّا ويحرز التوفيق في الكمالات الإنسانية والمعنوية على الخير ويصل إلى مراتب سامية في حركة الحياة والتكامل المعنوي والمادي من دون أن يجد حاجة إلى تسقيط الآخرين والعدوان عليهم وبالتالي سوف ينقذ نفسه من نتائج الغيبة وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة.
وبعبارة اخرى أنّ الأفضل للإنسان أن يقوم باعمار بيته وبناء داره بدلاً من تخريب بيوت الآخرين ليعيش في منطقة عامرة وفي دارٍ مشيّدة ، ولكن الشخص الذي يتحرّك دائماً من موقع تخريب بيوت الآخرين فإنّ نتيجته سوف تكون تخريب بيوت المنطقة وتخريب بيته أيضاً فيعيش في الأطلال والخرائب.
يجب أن يلتفت المستغيب إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الغيبة هي احدى العلامات البارزة لضعف الشخصية وفقدان الهمّة والمروءة وأنّه يعيش عقدة الحقارة والدونيّة ، ولذلك فهو يمارس الغيبة لجبران هذا الضعف النفسي وفي الحقيقة يقوم باظهار هذه العيوب الذاتية والصفات الباطنية ويجهر بها أمام الناس ، فهو يقوم بتدمير شخصيته وتحطيم كيانه قبل أن يحطّم شخصية الآخرين الذين يغتابهم.
وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنّه لا بدّ لترك الغيبة وخاصة فيما لو أصبحت عادة لدى الشخص ، أن يقوم قبل كل شيء بفرض الرقابة الشديدة على لسانه وكلماته ويتحرّك من موقع الضغط الأخلاقي في دائرة الكلام ، وكذلك ينبغي له أن يتجنّب معاشرة الأصدقاء الذين لا يجدون حرجاً في ممارسة الغيبة ويدفعونه بهذا الاتجاه ويترك المجالس المهيئة للغيبة ، بل وجميع الامور التي توسوس له في ممارسة الغيبة.
وفي حديث شريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «ما عُمِّرَ مَجلِسٌ بالغَيبَةِ إلّا خَرِبَ مِنْ الدِّينِ» ([35]).
الملاحظة الاخرى هي أنّ أحد دوافع الغيبة هو السعي لتبرئة الذات والدفاع عنها ، مثلاً أن يقول : إذا كنت قد إرتكبت هذا الذنب ، فإنّ من هو أفضل منّي وأعلم قد ارتكبه أيضاً ، والحال أنّ تبرئة الذات لها طرق اخرى كثيرة لا تنتهي بهذا الذنب الكبير أي ـ الغيبة ـ وأساساً فإنّ الاعتراف بالخطأ في هذه الموارد يكون أسلم عذر وأفضل سبيل لتدارك الخطأ ، مضافاً إلى أنّ أحد الأخطاء الكبيرة لدى الإنسان أن يقارن بينه وبين الفاسقين والأراذل من الناس ويترك المقارنة بينه وبين الأخيار والصلحاء من أفراد المجتمع.
أحياناً يتحرّك الشخص لتبرئة نفسه وتبرير سلوكه إلى التشبث بهذا العذر وهو أنني عند ما رأيت العالم الفلاني قد إنحرف على مستوى السلوك وارتكب الذنوب زالت عقيدتي وضعف إيماني وأصبحت في أمر العقيدة بالمبدأ والمعاد غير مكترث ، هذه المعاذير والتبريرات هي المصداق الأتم لمقولة العذر أقبح من الذنب ، ويترتب على ذلك عواقب خطرة جدّاً ، فما أحرى بالإنسان أن يعترف بخطئه ويسعى في تعامله مع الآخرين في حمل سلوكياتهم وأفعالهم على الصحة ، وعلى فرض أنّ أحد القادة أو العلماء أو الجهّال تصرّف من موقع الإنحراف وارتكب بعض الذنوب ، فلا يكون ذلك مسوّغاً للآخرين على سلوك هذا المسلك وتبريره بتلك الذريعة الشيطانية ، بل يجب على الإنسان أن يجعل الصلحاء والأولياء اسوة له في دائرة السلوك والتكامل المعنوي والأخلاقي.
بقي من موضوع الغيبة عدّة امور مهمّة لا بدّ من التعرّض لها :
1 ـ استماع الغيبة
كما أنّ التحدّث بالغيبة من الذنوب الكبيرة فكذلك المشاركة في مجلس الغيبة والاستماع للمغتاب في تعرضّه للمؤمنين والوقيعة بالآخرين أيضاً من الذنوب الكبيرة ، لأنّ جميع المفاسد المترتبة على الغيبة تتعلق بطرفين ، المغتاب والمستمع للغيبة ، فلو أنّ الشخص لم يجد في نفسه استعداداً لسماع الغيبة فمضافاً إلى أنّه قد تقدّم خطوة في طريق النهي عن المنكر ، فكذلك لا يمكن للغيبة أن تتحقّق في الواقع ، فلا يجد المغتاب من يستمع له ليكشف عن عيوب الناس ولا يتمكن من تسقيط شخصية الآخرين ولا هتك حرماتهم ولا يترتب على ذلك المفاسد الاجتماعية الاخرى.
ولهذا السبب نجد الروايات الإسلامية قد شاركت المستمع للغيبة وجعلته أحد المغتابين كما ورد في أحد الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «المُستَمِعُ أحدُ المُغتَابِينَ» ([36]).
وورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله : «السّامِعُ للغَيبَةِ أَحَدُ المُغتَابِينَ» ([37]).
وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه عند ما رأى أحد الأشخاص يرتكب الغيبة في حضور ولده الإمام الحسن (عليه السلام) فقال له : «يا بُنَي نَزِّهِ سَمعَكَ عَنْ مَثلِ هذا فَإنَّهُ نَظَرَ إلى أَخبَثِ ما فِي وِعائِهِ فَأَفرَغَهُ فِي وِعائِكَ» ([38]).
وكذلك ورد في الروايات الشريفة أنّ المستمع للغيبة يجب أن يتحرك من موقع الدفاع عن أخيه المسلم وذلك من خلال حمل سلوكه على الصحّة.
وفي حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : «مَنْ أُغتِيبَ عِندَهُ أَخُوهُ المُسلِمُ فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللهُ فِي الدُّنيا والآخِرةِ» ([39]).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّه قال : «إذا وَقَعَ فِي رَجُلٍ وَأَنْتَ فِي مَلاءٍ فَكُنْ لِلرَّجُلِ ناصِراً وَلِلقَومِ زاجِراً وَقُم عَنهُم» ([40]).
وأيضاً ورد في الحديث النبوي الشريف قوله : «الساكِتُ شَرِيكُ المُغتَابِ» ([41]).
ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أيضاً حيث قال : «ألا وَمَنْ تَطَوَّلَ عَلى أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ فَرَدَّها عَنهُ رَدَّ اللهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ هُوَ لَم يَرُدَّها وَهُو قادِرٌ عَلى رَدِّها كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ سِبعِينَ مَرَّةً» ([42]).
ويمكن أن تكون هذه الرواية ناظرة إلى الموارد التي يكون فيها الشخص المستمع من أصحاب النفوذ والمكانة الاجتماعية في حين أنّ المغتاب ليس كذلك ، ومن الواضح أنّ سكوت مثل هذا الشخص يترتب عليه نتائج وخيمة على مستوى هتك حرمة ذلك الشخص المسلم حيث يكون استماعه لذلك أكثر ضرراً من كلام المغتاب نفسه.
2 ـ الغيبة حق الناس أو حق الله؟
وطبقاً لما ورد في تعريف الغيبة سابقاً يتّضح أنّ الغيبة من حقوق الناس لأنّها تتسبب في هتك حرمتهم وتسقيط شخصيتهم وإزهاق سمعتهم : ونعلم أنّ ماء وجه المسلم له من القيمة كما هو الحال في روح المسلم وماله وعرضه.
ومن التشبيه الوارد في الآية من سورة الحجرات حول الغيبة وأنّها كمن يأكل لحم أخيه ميتاً يتّضح جيداً أنّ الغيبة من حق الناس؛ ومن الأحاديث الكثيرة يمكننا أن نستوحي هذا المفهوم أيضاً وهو أنّ الغيبة نوع من الظلم والعدوان على الآخرين والذي يجب التحرك على مستوى جبران هذا العدوان وتعويض الطرف الآخر لجبران الظلم الذي وقع عليه ، ومن ذلك:
1 ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال في حجة الوداع : «أَيُّها النّاسُ إِنَّ دِمائَكُم وَأَموالَكُم وَأَعراضَكُم عَلَيكُم حَرامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هذا فِي شَهرِكُم هذا فِي بَلَدِكُم هذا إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الغَيبَةَ كَما حَرَّمَ المَالَ وَالدَّمَ» ([43]).
ولا شك أنّ كل دم برىء يسفك لا بدّ من جبرانه ، وكل مال مشروع يتُم اتلافه من قِبل شخص آخر يجب عليه أن يقوم بتعويضه ، والغيبة أيضاً ومن خلال هذا المنطلق يجب العمل على تلافيها وجبرانها بأي نحو ممكن.
وأساساً فإنّ جعل عرض المؤمن إلى جانب ماله ودمه لهو دليل واضح على أنّ تسقيط شخصية الإنسان وهتك حرمته إنّما هي من حق الناس.
2 ـ وفي حديث آخر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد أن قارن الغيبة بالزنا وأنّها أشدّ إثماً منه قال : «إنّ صاحِبَ الغَيبَةِ لا يُغفَرُ لَهُ حتّى يَغفِرَ لَه صاحِبُهُ» ([44]).
3 ـ وجاء في كتاب مجموعة ورام أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: «كُلُ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرامٌ وَدَمُهُ وَمالُهُ وَعِرضُهُ ، والغَيبَةُ تَناوُلِ العِرضِ» ([45]).
العبارة الأخيرة من هذا الحديث الشريف وهي أنّ (الغيبة تناول العرض) مصداق التعرّض لناموس الشخص سواء كانت من كلمات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو كلمات الرواة ، فإنّها على أي حال يمكن أن تكون شاهداً على المقصود.
والشاهد الآخر على هذا المعنى هو الروايات الشريفة التي تتحدث عن أنّ الغيبة تسبب في نقل حسنات المغتاب من صحيفة أعماله إلى صحيفة أعمال المغتاب ، ونقل سيئات المستغاب إلى الشخص المرتكب للغيبة (كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك) وهذا يعني أنّ الغيبة هي من حق الناس ، لأنّ نقل الحسنات والسيئات لجبران الضرر الذي لحق بالمستغاب يعني أنّ الغيبة من حقوق الناس.
وبعد أن اتّضح هذا المفهوم وأنّ حق الناس يجب أن يجبر ويعوّض يثار في الذهن هذا السؤال ، وهو أنّ المغتاب كيف يتمكن من جبران خطئه وذنبه؟
ويستفاد من بعض الروايات أنّ المستغاب لو علم بذلك وسمع بأنّ المستغيب يذكره بسوء ، فيجب على المستغيب أن يذهب إليه ويطلب منه أن يرضى عنه ويجعله في حِلّ وإلّا لو لم يتصل به فيجب عليه أن يستغفر الله تعالى ، ويدعو للمستغاب بالرحمة والمغفرة (ليتم له التعويض عن ذلك الظلم في حق أخيه المؤمن) وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال : «فَإنَّ اغتِيبَ فَبَلَغَ المُغتابَ فَلَم يَبقَ إلّا أَن تَستَحِلَّ مِنهُ وإنْ لَم يَبلُغْهُ وَلَمْ يَلحَقهُ عِلمَ ذَلِكَ فاستَغْفِرِ الله لَهُ» ([46]).
ويتّضح من هذا الحديث الشريف أنّه لو لم تصل الغيبة إلى مسامع المستغاب فإنّ نقل هذا الخبر إليه قد يتسبب في أذاه أكثر ويترتب على ذلك مسؤولية أكبر ، ولهذا السبب نجد أنّ الوارد في الحديث الشريف هو الاستغفار فحسب ، وعليه ففي الموارد التي لا يتأثر فيها المستغاب من خبر الغيبة فلا يبعد وجوب طلب التحلل منه وكسب رضاه.
ومن هنا يتّضح جيداً ما ورد في الروايات الشريفة أنّه : «كَفَّارَةُ الإغتِيابِ أَنْ تَستَغفِرَ لِمَنْ إِغتَبتَهُ» ([47]).
والشاهد الآخر ما ذكر آنفاً هو الحديث الشريف عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث قال : «مَنْ كانَتْ لأخِيهِ عِندَهُ مَظلَمَةٌ فِي عِرضٍ أَو مالٍ فَليَتَحَلَّلها مِنهُ مِنْ قبلِ أَنْ يَأتِي يَومٌ لَيسَ هُناكَ دِينارٌ وَلا دِرهَمٌ إِنَّما يُؤخَذُ مِنْ حَسَناتِهِ فَإن لَم تَكُن لَهُ حَسَناتٌ اخِذَ مِنْ سَيئَاتِ صاحِبِهِ فَزِيدَتْ عَلَى سَيئَاتِهِ» ([48]).
وجاء في أدعية أيّام الاسبوع للإمام زين العابدين (عليه السلام) الواردة في ملحقات الصحيفة السجادية عبارات واضحة لهذا المفهوم في دعاء يوم الإثنين حيث يقول فيه الإمام (من خلال كونه اسوة للآخرين): «وَأَسأَلُكَ فِي مَظَالِمِ عِبادِكَ عِندِي ، فَأَيُّما عَبدٍ مِنْ عَبِيدِكَ ، أَو أَمَةٍ مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظلَمَةٌ ظَلَمتُها إِيَّاهُ فِي نَفْسِهِ أَو عِرضِهِ أَو فِي مالِهِ أَو فِي أَهلِهِ وَوَلَدِهِ ، أو غَيبَةٍ اغتَبتُهُ بِها ، أو تَحامُلٌ عَلَيهِ بِمَيلٍ أو هَوىً ، أو أنَفَةٍ أو حَمِيَّةٍ أو رِياءٍ أَو عَصَبِيةٍ غائِباً كانَ أَو شاهداً ، حَيَّاً كانَ أَو مَيتاً ، فَقَصُرتْ يَدِي وَضاقَ وسعِي عَنْ رَدِّها إِلَيهِ ، وَالتَّحلُّلِ مِنهُ. فَأَسأَلُكَ يا مَنْ يَملِكُ الحاجاتِ وَهِيَ مُستَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسرِعَةٌ إِلى إِرادَتِهِ أَن تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وأَن تُرضِيَهُ عَنِّي بِما شِئتَ ...» ([49]).
وعلى أيّة حال فإنّ احتمال كون الغيبة من حق الناس قوي جدّاً ، ولذلك فإنّه لو لم يكن أمامه مشكل في طلب الرضا والتحلل منه وجب عليه ذلك.
وهناك ملاحظة مهمّة وهي أنّ أحد طرق جبران الغيبة هو أن يقوم المستغيب بالحضور في مجلس يحوي الأشخاص الذين كانوا قد حضروا مجلسه السابق ، فيقوم بإعادة الشريط وتبرير سلوك أخيه المؤمن بما يوافق الأخلاق الحسنة والشرع المقدّس ويحمله على الصحة بحيث تزول من الأذهان آثار الغيبة وتعود المياه إلى مجاريها.
3 ـ مستثنيات الغيبة
يتفق علماء الأخلاق وكذلك الفقهاء على أنّ هناك موارد تجوز فيها الغيبة وقد تصبح واجبة أحياناً ، وذلك بسبب طروء عوارض معينة على الغيبة ممّا يغيّر حكمها الأصلي.
وبعبارة اخرى أنّ الغيبة بعنوانها الأولى حرام بلا شك ومن الذنوب الكبيرة وفي ذلك يتفق علماء الإسلام ، ولكن هناك عناوين ثانوية تطرأ على هذا الفعل بإمكانها أن تكون حاكمة على العنوان الذاتي والأولى ممّا يفضي إلى أن تكون الغيبة جائزة بل واجبة ، وذلك في الموارد التي تكون فيها المصلحة أهم ويكون حفظ هذه المصلحة غالب على المفاسد الكبيرة المترتبة على الغيبة.
ومن جملة هذه الموارد التي تدخل في مستثنيات الغيبة ما يلي :
1 ـ أن يكون الإنسان في حالة التظلّم وطلب حقّه من الآخر ويسعى لرفع هذه الظلامة بحيث لو أنّه لم يتعرّض لذكر الطرف الآخر بالسوء ولم يصرّح للآخرين بسلوك ذلك الظالم فإنّه لا يصل إلى حقّة.
وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : «لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً» ([50]).
2 ـ في موارد النهي عن المنكر ، أيّ في حالة ما إذا لم يتحرّك الإنسان لفضح الطرف الآخر ويكشف عن أعماله السيئة ، فإنّ ذلك المذنب سوف يستمر في غيّه ويقوم على ذنبه ، فهنا ترجح مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مفسدة الغيبة ، بل قد تكون واجبة في بعض الحالات.
3 ـ في مورد أهل البدع وكذلك الذين يحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بحيث لو أنّ أعمالهم الخفيّة تجلّت وكشفت للمسلمين ، فإنّ الناس سوف يتصدّون لهم ويتحركون من موقع دفعهم وابطال مؤامراتهم ، فهنا تكون غيبة مثل هؤلاء الأشخاص جائزة ، بل واجبة.
4 ـ في مورد ما إذا كان المسلم يعيش الخطر على نفسه أو ماله أو عرضه من شخص آخر وهذا المسلم لم يكن على علم بالخطر المحيط به ، وهنا يكون إخباره بهذا الخطر جائز ، بل واجباً أحياناً.
5 ـ في مورد المشورة ، بمعنى أنّ أحد الأشخاص أراد مثلاً الزواج من مسلمة وأراد طلب يدها من والديها أو أراد شخص تشكيل شركة أو السفر إلى أحد البلدان ، وطلب من شخص آخر أن يشير عليه بما يراه صلاحاً له ، فهنا لا يمكن القول بأنّ الكشف عن عيوب الطرف الآخر حرام ، بل إنّ أمانة المشورة تقتضي أن يقول المستشار ما يعلمه وما هو مطلّع عليه من نقاط القوّة والضعف ، ولا ينبغي أن يحجم عن النصح والمشورة لأخيه المؤمن خوفاً من الوقوع في الغيبة ، لأنّ ستر مثل هذه المعايب يعتبر خيانة للمستشير والخيانة في المشورة حرام.
6 ـ في مورد الشهادة ، وذلك عند ما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم أو المحكمة ، فهنا تجوز الغيبة ، لأنّ مصلحة الشهادة أقوى ، وكذلك في موارد إجراء الحدود الإلهية ، فلو أنّ عدّة أشخاص رأوا بأنّ الشخص الفلاني يشرب الخمر أو يزني فلهم أن يأتوا إلى حاكم الشرع ويشهدوا عليه بذلك ليجري عليه الحدّ ، وكذلك فيما لو شهد أشخاص على أمر معيّن وكان هؤلاء الشهود في الواقع فسّاق ولم يكن الحاكم يعلم بخبرهم وحالهم ، وهنا يجوز فضح هؤلاء الشهود ، وبعبارة اخرى يجوز جرح الشهود (وطبعاً فإنّ جميع هذه الموارد هي فيما لو كان عدد الشهود كافياً لإثبات الموضوع).
4 ـ حكم المتجاهر بالفسق
يتفق علماء الأخلاق والفقهاء العظام عادةً على جواز غيبة المتجاهر بالفسق ويرون أنّها من مستثنيات الغيبة ويصرّحون بأنّ غيبة مثل هؤلاء الأشخاص الذين مزّقوا ستار الحياء وأجهروا بالمعاصي أمام الناس ، فإنّهم لا غيبة لهم وقد تمسكوا في ذلك بروايات في هذا الباب.
ففي حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : «أَربَعَةٌ ليستْ غَيبَتُهُم غَيبَة الفاسِقُ المُعلِنُ بُفسقِهِ ...» ([51]).
وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «ثَلاثَةٌ لَيسَ لَهُم حُرمَةٌ صحِبُ هَوىً مُبدِعٍ والإمامُ الجائِرُ والفاسِقُ المُعلنُ الفِسقَ» ([52]).
وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال : «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» ([53]).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «أَتنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه ، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ» ([54]).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ولكن الظاهر أنّ مثل هؤلاء الأفراد خارجون بالتخصص من موضوع الغيبة لا أنّ حكم الغيبة يشملهم أولاً ثم يدخلون في مستثنيات الغيبة ، لأنّ للغيبة شرطين :
الأول : أن يكون العيب مستوراً وهذا الشرط لا يتوفر في هؤلاء الأشخاص.
الثاني : كراهية الطرف الآخر لأن يذكر بسوء ، وهذا الشرط أيضاً غير متوّفر فيما نحن فيه لأنّ المتجاهر بالفسق لو كان يتأثر ويتألم من ذكره بسوء لم يكن يرتكب ذلك العمل علانية وجهراً ، وبتعبير علماء الاصول أنّ خروج مثل هؤلاء الأشخاص يكون بالتخصص لا بالتخصيص.
وهنا تثار عدّة أسئلة في هذا الصدد ، الأول هو أنّه هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق يختص بالذنوب التي تجاهر بها أو يستوعب جميع الذنوب فتكون غيبته جائزة مطلقاً؟
والآخر هو أنّه إذا كان يتجاهر بالفسق عند جماعة معينة أو في مكان خاص ولكنه لا يرتكب ذلك المنكر أمام جماعة اخرى أو في مكان آخر فهل يجوز غيبة هذا الشخص أيضاً؟
والثالث هو هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق مشروط بوجود شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي أن تكون الغيبة مؤثرة في عملية الردع وإلّا فلا تجوز؟
ونظراً لما تقدّم من بيان حالة هؤلاء الأفراد من الناحية الشرعية يتّضح الجواب عن هذه الأسئلة جميعاً ، وهو أنّ غيبة هؤلاء الأشخاص إنّما تجوز في موارد التجاهر بالفسق ، ولكن بالنسبة إلى الأعمال الاخرى أو الوسط الآخر والأجواء الاخرى ، فلا تجوز ، لأنّ أدلة حرمة الغيبة لا تشمل المتجاهر بالفسق ومن المعلوم أنّ حالة التجاهر لا يستوجب توّفر شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا ضرورة لها لأنّ عناصر تشكيل الغيبة غير متوّفرة.
ويحتمل كذلك أنّ المقصود بالمتجاهر بالفسق هو الشخص الذي قام بتمزيق ستار الحياء وتحرّك في ارتكابه للمعاصي والذنوب من موقع الجرأة على الدين والمجتمع الإسلامي ، فمثل هؤلاء الأفراد لا احترام لهم ، بل يجب التعريض بهم وفضحهم ليكون الناس على حذر منهم وفي أمان من أعمالهم كما ورد في الحديث الشريف المتقدّم : «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ» فحينئذٍ يقول الحديث «فاذكروه يعرفه الناس» فهو ناظر إلى هذا المعنى.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ المتجاهر بالفسق على نحوين :
الأول : أن يكون متجاهراً بعمل معيّن فحينئذٍ تجوز غيبته في ذلك العمل بالخصوص ، والآخر : الأشخاص الذين قاموا بتمزيق لباس العفة والحياء وانطلقوا وراء ارتكاب الذنوب بكل صلافة وجرأة من دون رعاية القيم الاجتماعية والدينية ، فمثل هؤلاء الأشخاص لا احترام لهم أبداً من فضحهم وكشف واقعهم أمام الناس كيما يحذر الآخرون من أخطارهم ومفاسدهم.
ونختم هذا الكلام بذكر ملاحظتين :
الاولى : هي أنّنا نعلم أنّ أحد العلوم الإسلامية المعروفة هو علم الرجال حيث يبحث فيه صدق وكذب الرواة وحالتهم على مستوى كونهم ثقة أو غير ثقة ، وهناك بعض من لا خبرة له بالامور يتجنّب الخوض في علم الرجال ويرفض تعلّم هذا العلم لأنّه بحسب تصوّره أنّه يفضي إلى الخوض في الغيبة في حين أنّ من الواضح أنّ حفظ حريم الشرع والأحكام الإسلامية من المواضيع الكاذبة والأخبار المختلفة أهمّ كثيراً من التعرّض لبعض الرواة وجرحهم ، وهذا الهدف السامي هو الذي يبيح لنا أن نتحرّك على مستوى التحقيق في سوابق الرواة وحالاتهم والبحث عن نقاط ضعفهم وإثباتها في كتب الرجال لكي نأمن على الشريعة المقدّسة من الأخبار المزيفة ولكي تكون الأحكام الإلهية في مأمن من تدخل الأهواء والنوازع الذاتية لبعض الرواة.
والاخرى : هي أنّ المسائل الاجتماعية والسياسية والمناصب الحساسة في المجتمع الإسلامي تقتضي أحياناً إفشاء بعض نقاط الضعف للمسؤولين ، فهذا المعنى وإن كان في حدّ ذاته مشمولاً لعنوان الغيبة ومصداقاً من مصاديقها إلّا أنّ أهمية حفظ النظام الإسلامي وكشف وإبطال المؤامرات الموجهة إلى المجتمع الإسلامي أهم بكثير ولذلك لا إشكال في ذلك ، بل قد يكون واجباً أحياناً ، والأشخاص الذين يتسترون على عيوب هؤلاء لكي لا يقع في ورطة الغيبة هم في الواقع يضحّون بمصالح المجتمع الإسلامي من أجل الأفراد ، وقد تقدّم في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه ذمّ هؤلاء وقال : «أَتنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه ، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ» ، وأمر بفضحهم ليعرفهم الناس.
ولكن هذا لا يعني أن يقوم بعض الناس بهتك حرمة الأفراد وفضحهم بدون مبرّر أو يتحرّكون في هذا السبيل أكثر من اللازم ويتعرّضون لحيثية الأفراد ويتجاوزون حدودهم الشرعية.
وما تقدّم آنفاً يوضّح وظيفة الأجهزة الخبرية والمخابراتية في الدوله الإسلامية ، فإن كان نشاط هذه الأجهزة والمجاميع التجسسية تصب في غرض الكشف عن الخطر الذي يهدّد سلامة المجتمع الإسلامي وسلامة المناصب الحساسة في غ الدولة الإسلامية ، فلا ينبغي أن يتجاوزوا الحدود المشروعة ، وحينئذٍ فانّ عمل هؤلاء لا يحسب في دائرة التجسس ولا يكون مشمولاً لعنوان الغيبة المحرمة ، بل هو أداء للوظيفة الشرعية والواجب الإنساني.
5 ـ شمول دائرة الغيبة
لا شك في حرمة غيبة الشخص المؤمن البالغ العاقل ، ولا شك في جواز غيبة الكافر الحربي الذي ينوي هدم الإسلام ويتحرّك من موقع التعرّض للمجتمع الإسلامي ، لأنّه لا حرمة لمثل هذا الشخص.
ولكن هل أنّ غيبة سائر فرق المسلمين وأهل الذمة (وهم الذين لديهم كتاب سماوي من غير المسلمين ويعيشون في داخل إطار المجتمع الإسلامي) جائزة أو أنّ غيبتهم حرام كما هم محترمون في أنفسهم وأموالهم؟
بعض الفقهاء مثل المحقق الأردبيلي والعلّامة السبزواري يرون حرمة الغيبة بشكل عام ويتمسكون بالروايات الواردة بعنوان (المسلم) أو الناس وذهبوا إلى أنّ حرمة غيبة هؤلاء ليست عجيبة ، لأنّ أموالهم وأنفسهم محترمة فلما ذا لا يكون عرضهم كذلك؟
ولكن المرحوم صاحب الجواهر (قدس سره) خالف ذلك بشدّة وقال : «بأنّ ظاهر الروايات يدلّ بضم بعضها إلى بعض على أنّ حرمة الغيبة مختصة بالمؤمنين وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) وحتى أنّه استدل بالسيره المستمرة بين العلماء والعوام أيضاً.
إذا كان مقصود هذا الفقيه الكبير من المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام) هم النواصب وأعداء المؤمنين والمسلمين فلا شك في عدم حرمتهم وحرمة غيبتهم ، ولكن إذا كان الكلام عن الفرق الإسلامية التي من المقرر حفظ واحترام أنفسهم وأموالهم وكذلك أهل الكتاب من أهل الذمة فإنّ رأي المحقق الأردبيلي (قدس سره) هو الأقرب إلى الصواب ، لأنّه في كل مورد تكون نفس الإنسان وماله محترماً ، فكذلك عرضه وماء وجهه فلا يجوز التعرّض له بالغيبة ، وتوجيه الخطاب للمؤمنين في الآية 12 من سورة الحجرات (آية الغيبة) أو التعبير بالمؤمن في بعض الروايات لا يدلّ على عدم شمول حكم الغيبة بالنسبة إلى الآخرين، وبعبارة اخرى إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.
وعلى هذا الأساس يجب اجتناب غيبة جميع الأشخاص الذين تكون نفوسهم وأموالهم وأعراضهم محترمة وجميع هؤلاء يشملهم حق الناس ، وطبعاً هذا في صورة ما إذا لم يكن متجاهراً بالفسق ولم يكن يتحرّك من موقع المؤامرة والدسيسة على الإسلام والمسلمين ، بل كانت لهم عيوب وذنوب مستورة وخاصة بهم ، فيكون فضحهم والكشف عن هذه العيوب وإراقة ماء وجههم ليس مسوّغ شرعي قطعاً.
وأمّا بالنسبة إلى الطفل المميّز الذي يتألم من الغيبة فأيضاً يجب القول بأنّ غيبته حرام كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري (قدس سره) في المكاسب المحرّمة وقال : إنّ عنوان الأخ المؤمن صادق عليه أيضاً كما قال تعالى عن الأيتام : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)([55]).
ولكنّ الصواب هو أنّه لا ينبغي تقييد المورد بالمميّز ، لأنّ كشف العيوب المستورة للطفل غير المميز يعدّ هتكاً لشخصيته المستقبلية أو هتكاً لحيثية اسرته ، وهو عمل مخالف للقيم الأخلاقية ، ولهذا السبب فإنّ الشهيد الثاني (قدس سره) في كتابه (كشف الريبة) لم يفرّق بين الصغير والكبير ، بعبارة اخرى أنّ أطفال المؤمنين كالمؤمنين أنفسهم من حيث حرمة النفس والمال والعرض.
ومن هنا يتّضح حكم المجانين والسفهاء أيضاً.
6 ـ الغيبة العامة والخاصة
أحياناً تكون الغيبة عن شخص خاص أو أشخاص معيّنين حيث تبيّن حكمها في الأبحاث السابقة من جهات مختلفة ، ولكن هناك موارد اخرى تكون الغيبة ذات جهة عامة وكلية ، مثلاً يقول : إنّ أهل المدينة الفلانية بخلاء ، أو جهلاء ، أو سفهاء ، أو يقول إنّ أهالي القرية الفلانية لصوص أو مدمنين أو متحلّلين أخلاقياً وأمثال ذلك.
فهل أنّ جميع أحكام الغيبة ترد في مثل هذه الموارد أم لا؟
يمكن القول أنّ الغيبة لها عدّة صور ووجوه :
1 ـ فيما إذا كانت الغيبة متوجّه لشخص أو أشخاص معدودين لا يعرفهم المخاطب ، كأن يقول : إنّ في المدينة أو القرية الفلانية عدّة أشخاص يشربون الخمر أو يرتكبون الأعمال المنافية للعفة ، فلا شك في عدم جريان أحكام الغيبة هنا ، لأنّ المتكلم لم يذكر في كلامه عيباً مستوراً عن شخص معيّن.
2 ـ أن يكون المورد من قبيل الشبهة المحصورة (وكما يصطلح عليه شبهة القليل بالقليل أو الكثير بالكثير) مثلاً يقول : أنني رأيت أحد هؤلاء الأربعة أشخاص يشرب الخمر (أو يذكر أسماء هؤلاء الأربعة أو يقول أنّ أولاد زيد وأمثال ذلك) أو يقول : أنّ جماعة كثيرة من أهالي القرية الفلانية يرتكبون هذا العمل بحيث أنّ التهمة تتوجه إلى الجميع من موقع الشك فيهم.
والظاهر أنّ أدلة حرمة الغيبة تشمل هذا المورد ، وعلى فرض عدم اطلاق اسم الغيبة عليها من حيث أنّها تعدّ كشفاً ناقصاً عن العيب المستور ، فهي حرام من جهة هتك احترام المؤمن وجعله في قفص الإتّهام.
3 ـ أن ينسب إلى جميع أهل البلدة أو القرية أمراً قبيحاً ومخالفاً للشرع والأخلاق ، فلا شك في جريان أحكام الغيبة على هذا المورد أو على الأقل صدق عنوان هتك احترام المؤمنين سواء كان مقصوده جميع أهالي البلدة بدون استثناء أو الأكثرية منهم.
وعلى هذا الأساس لا يجوز نسبة بعض الصفات أو الممارسات القبيحة لأهالي بلدة معيّنة إلّا أن يكون هناك قرينة على أنّ مقصوده بعض الأشخاص القلّة منهم ، وكما يصطلح عليه شبهة القليل في الكثير أو الشبهة غير المحصورة ، أو يكون كلامه عنهم معروفاً لدى الجميع وفي نفس الوقت لم يكن قاصداً لهتكهم وذمّهم.
7 ـ الدفاع في مقابل الغيبة
هل يجب على الشخص المستمع للغيبة أن يدافع عن أخيه المؤمن الذي تعرّض للغيبه ويرد على المستغيب أم لا؟ مثلاً يقول في دفاعه : أنّ الإنسان غير معصوم وكل شخص يتعرّض لارتكاب الخطأ أو يقول : أنّ من الممكن أن يكون قد صدر هذا الفعل منه سهواً أو نسياناً أو كان في نظره حلالاً وهكذا يحمل فعل أخيه المسلم على الصحة ، وعليه فلو كان الفعل قابلاً للتبرير فإنّه يتحرّك في تبريره وتوجيهه ، وإن لم يكن كذلك قال : من الأفضل أن نستغفر له بدل أن نقع في غيبته لأننا جميعاً معرّضين لمثل هذه الأخطاء.
بعض الفقهاء الكبار يرون وجوب الدفاع ومنهم شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري (قدس سره) في بحث الغيبة في المكاسب المحرّمة.
وهناك روايات كثيرة أيضاً تتحدّث عن لزوم ردّ الغيبة وقد ذكرها المرحوم صاحب كتاب وسائل الشيعة في الباب 156 من أبواب أحكام العشرة في الحج ومنها :
في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «يا عَلي مَنْ اغتِيبَ عِندَه أخوهُ المُسلِمُ فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللهُ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ» ([56]).
ونفس هذا المضمون أو ما يشبهه ورد في روايات متعددة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإمام الصادق (عليه السلام).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال في خطبة له أمام الناس : «مَنْ ردّ عَنْ أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ رَدَّ اللهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ لَم يَرُدَّ عَنهُ وأَعجَبَهُ كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» ([57]).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً أنّه قال : «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرضِ أَخِيهِ كانَ لَهُ حِجاباً مِن النّارِ» ([58]).
ولكنّ الصحيح أنّه لا يستفاد وجوب الدفاع من هذه الروايات ، بل غاية ما يستفاد منها هو الاستحباب المؤكّد ، لأنّ التعبير لكلمة (خذله الله) الوارد في عدّة روايات من هذا الباب لا يقرّر أكثر من أنّ الله تعالى لا يعين هذا الشخص ويتركه لحاله (لأنّ معنى الخذلان هو ترك النصرة والمساعدة) وكذلك ما ورد في الثواب والجنّة أو النجاة من النار في بعض الروايات فانّه في قوله : «كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» قد تدل على وجوب الدفاع ولكنّ الوارد في هذه الرواية هو أنّ الإثم لا يقتصر على الاستماع وعدم الدفاع فقط بل ينشرح ويفرح من سماعه لهذه الغيبة ، وعلى أية حال فسواء كان الدفاع عن المسلم في مقابل الغيبة واجباً أو مستحباً مؤكّداً فانّه يعدّ وظيفة مهمّة في دائرة المفاهيم الإسلامية ، وإذا كان الدفاع نهياً عن المنكر فهو واجب قطعاً.
8 ـ غيبة الأموات
أحياناً يتصوّر البعض أنّ مفهوم الغيبة الوارد في الروايات الشريفة ناظر إلى الأحياء من المسلمين ولا يشمل الأموات ، وعليه يجوز غيبة الأموات ، ولكنّه خطأ فاحش ، لأنّ الوارد في الروايات الإسلامية أنّ «حرمة الميت كحرمته وهو حي» بل يمكن القول بأنّ غيبة الميت أقبح وأشنع من بعض الجهات من غيبته وهو حي لأنّ الأحياء يمكن أن يصل إليهم خبر الغيبة ويتحرّكون من موقع الدفاع عن أنفسهم ويردّون على من إغتابهم ، ولكنّ الميت غير قادر على الدفاع أبداً ، مضافاً إلى أنّ الشخص المرتكب للغيبة قد يرى الطرف الآخر فيما بعد ويطلب منه الصفح وأن يكون في حلّ ولكن هذا المعنى لا يصدق على الأموات.
ومضافاً إلى ذلك الأوامر والإرشادات الدينية الواردة في ضرورة احترام جسد الميت المسلم من قبيل الأمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه والمفاهيم الواردة في الصلاة عليه ودفنه وزيارة أهل القبور وحرمة هتك قبر المؤمن وأمثال ذلك كلّها يدلّ على وجوب حفظ حرمة الميت المسلم.
[1] سورة الحجرات ، الآية 12.
[2] سورة الهُمزة ، الآية 1.
[3] سورة النور ، الآية 19.
[4] سورة النساء ، الآية 148.
[5] روح البيان ، ج 10 ، ص 58.
[6] المصدر السابق.
[7] تفسير الفخر الرازي ، ج 32 ، ص 91.
[8] جامع السعادات ، ج 2 ، ص 303.
[9] المصدر السابق.
[10] وسائل الشيعة ، ج 8 ، ص 601 ، ح 18.
[11] جامع السعادات ، ج 3 ، ص 305.
[12] جامع السعادات ، ص 302.
[13] المصدر السابق ، ص 303.
[14] بحار الانوار ، ج 75 ، ص 259.
[15] المصدر السابق ، ج 72 ، ص 258 ، ح 53.
[16] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 358 ، ح 1.
[17] وسائل الشيعة ، ج 8 ، ص 599 ، ح 13.
[18] غرر الحكم.
[19] المكاسب ، كتاب المكاسب المحرمة ، الشيخ الأنصاري ، ص 41.
[20] وسائل الشيعة ، ج 8 ، أبواب أحكام العشرة ، ص 602.
[21] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 256.
[22] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 239 ، ح 28.
[23] بحار الانوار ، 72 ، ص 235 إلى 237.
[24] المصدر السابق ، ص 261.
[25] بحار الأنوار ، ج 72 ، ص 253.
[26] المصدر السابق ، ص 260.
[27] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 257.
[28] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 357.
[29] غرر الحكم.
[30] المصدر السابق.
[31] كشكول الشيخ البهائي ، ج 2 ، ص 295.
[32] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 252.
[33] مستدرك الوسائل ، ج 9 ، ص 121 ، ح 30.
[34] المصدر السابق ، ص 122 ، ح 34.
[35] روضة الواعظين ، ص 542.
[36] جامع السعادات ، ج 2 ، ص 297 ؛ بحار الانوار ، ج 72 ، ص 226.
[37] المصدر السابق.
[38] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 2339.
[39] المصدر السابق ، ص 2339.
[40] كنز العمال ، ح 8028.
[41] آثار الصادقين ، ج 16 ، ص 98.
[42] من لا يحضره الفقه ، ج 4 ، ص 8 و 9.
[43] شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج 9 ، ص 62.
[44] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 251.
[45] مجموعة ورام ، ج 1 ، ص 123.
[46] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 242.
[47] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 2339 ، ح 15543 إلى 15548.
[48] جامع السعادات ، ج 2 ، ص 306.
[49] ملحقات الصحيفة السجادية ، دعاء يوم الاثنين.
[50] سورة النساء ، الآية 148.
[51] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 261.
[52] المصدر السابق ، ص 253.
[53] المصدر السابق ، ص 260.
[54] كنز العمال ، ج 3 ، ص 595 ، ح 8069.
[55] سورة البقرة ، الآية 220.
[56] وسائل الشيعة ، ج 8 ، ص 66.
[57] المصدر السابق ، ص 607.
[58] المصدر السابق ، ج 19 ، ص 47 ، باب 24.