الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
التعصّب والعناد
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج2/ ص124-142
2024-12-15
386
تنويه :
لا شكّ أنّ أساس العبودية والطاعة لله تعالى يكمن في عنصر التسليم والتواضع والخضوع مقابل الحقّ ، وعلى العكس من ذلك فإنّ كلّ اشكال (التعصب واللجاجة) تورث الإنسان البعد عن الحقّ والحرمان من السعادة.
(التعصب) بمعنى الإرتباط غير المنطقي بشيء معيّن إلى درجة أنّ الإنسان يضحي بالحقّ من أجل ذلك ، أمّا(العناد) فيعني الإصرار على شيء معيّن بحيث يسحق تعليمات العقل والمنطق تحت قدمه من أجل ذلك ، والثمرة لهاتين الشجرتين الخبيثتين هو (التقليد الأعمى) الّذي يُعد من أقوى الموانع والسدود أمام تكامل الإنسان وحركته في خطّ المعنويات والإيمان والكمال الأخلاقي.
عند ما نراجع سيرة الأنبياء العظام وأسباب انحراف الأقوام السالفة عن سلوك طريق الحقّ والدعوة الإلهية يتضّح لنا جيداً أنّ هذه الامور الثلاثة (التعصب والعناد والتقليد الأعمى) لها دورٌ أساس في عملية الانحراف هذه ، وفي القرآن الكريم اشارات كثيرة إلى هذه المسألة بالذات حيث ينبغي دراستها والتدبّر فيها :
ونبدأ من قوم نوح (عليه السلام) حيث يقول القرآن الكريم :
1 ـ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)([1]).
2 ـ (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)([2]).
ثمّ يورد القرآن الكريم قصة هود ويقول :
3 ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)([3]).
ثمّ تصل النوبة إلى قصة إبراهيم (عليه السلام) حيث يقول القرآن الكريم :
4 ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ)([4]).
5 ـ (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)([5]).
ثمّ تصل النوبة إلى قوم موسى وفرعون فيقول :
6 ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)([6]).
ثمّ يصل إلى عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث نرى نفس الأعمال والسلوكيات تصدر من أعدائه حيث يقول عنهم القرآن الكريم :
7 ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)([7]).
8 ـ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)([8]).
9 ـ وكذلك يقول : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)([9]).
وأحياناً يذكر تعصب الأقوام السالفة بعضها ضد البعض الآخر ويقول :
10 ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)([10]).
وفي مكان آخر يستعرض مسألة التقليد الأعمى والتعصب واللجاجة بعنوانها برنامج عام لجميع الأقوام الذين يتحركون في خط الضلالة والباطل ويقول :
11 ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)([11]).
12 ـ (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ)([12]).
تفسير واستنتاج :
المنهج العام للأقوام المنحرفين
كما تقدم فإنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث ، (أيْ التعصب والعناد والتقليد الأعمى) تُعد منهجاً عاماً في سلوك جميع الأقوام الّذين يتحركون في خطّ الإنحراف والضلال والزيغ ، فهؤلاء وبسبب تعصبهم الشديد للأفكار الخرافية والتقاليد الزائفة ، وعنادهم وإصرارهم على اعتناقها وعدم التخلي عنها ، وبالتالي اتباعهم لآبائهم وأسلافهم إتباعاً أعمى ، وبذلك انتقلت الخرافات والعقائد الزائفة جيلاً بعد جيل حيث ضاعت دعوة رجال الحقّ والأنبياء الإلهيين الّذين جاءوا لهدايتهم في زَحمة النعرات الجاهلية لهؤلاء الأقوام المنحرفين.
ونبدأ قبل كلّ شيء بقصة نوح مع قومه لنرى أنّ هؤلاء الّذين كانوا يعبدون الأوثان كانوا إلى درجة من التعصب والعناد في مقابل دعوة نبي عظيم من اولي العزم حتّى أنّهم كانوا يستوحشون من سماع صوته ودعوته إلى الله كما تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات مورد البحث على لسان نوح فتقول : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)([13]).
أجل فإنّ تعصّبهم وعنادهم كان من الشدّة والقوّة إلى درجة أنّهم لن يسمحوا لآذانهم أن تسمع صوت نوح الحامل للنداء الإلهي ، وكذلك لم يسمحوا لعيونهم أن ترى وجهه وسيماءه ، وبهذه الطريقة العجيبة كانوا يتهربون من الحقيقة ، فما أخطر هذه الحالة الّتي يعيشها الإنسان الجاهل والمتعصب!!
وتأتي «الآية الثانية» لتكشف عن بُعدٍ آخر من هذه الرذائل الأخلاقية المتجذّرة في قوم نوح وتقول : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)([14]).
أما لماذا لم يكونوا على استعداد لترك هذه الاصنام التي صنعوها بأيديهم ، بل كانوا يرون أنّها حاكمة على مصيرهم ومصير العالم؟ لا دليل لذلك سوى التعصب والتقليد الأعمى للتقاليد الزائفة والعقائد البالية.
وفي «الآية الثالثة» يتحدّث القرآن الكريم عن قوم عاد وجدالهم مع نبيّهم هود ويقول : (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)([15]).
فهؤلاء كانوا إلى درجة من العناد والجهل والتعصّب بحيث أنّهم لم يطيقوا دعوة هذا النبي إلى التوحيد الخالص واعترضوا عليه في دعوته لترك ما كانوا يعبدونه من الأوثان حتّى أنّهم كانوا مستعدين لاستقبال امواج البلاء بدلاً من التنازل عن عقائدهم المنحرفة.
وعلى هذا الأساس وبسبب التعصب والاصرار والتقليد الأعمى فإنّ التوحيد الخالص الّذي هو روح عالم الوجود كان في نظرهم أمراً موحشاً وغريباً ، وبالعكس فإنّ عبادة الأوثان الّتي لا عقل لها ولا شعور كان أمراً معتبراً ومعقولاً لديهم ، بل حتّى أنّهم سلكوا على خلاف مقتضى قانون دفع الضرر المحتمل الّذي يحكم به العقل حيث لم يهتموا أدنى اهتمام باحتمال نزول العذاب الإلهي عليهم وكانوا يصرّون على نبيّهم أن يدعو ربه بتعجيل نزول العذاب عليهم ، وهذه الحماقة من هؤلاء ليست سوى حصيلة للتعصب والعناد.
أجل فهؤلاء ولأجل الفرار من الحقّ والاستمرار على سلوكهم الجاهلي في تقليدهم الأعمى للآباء كانوا يسرعون نحو هلاكهم والعقاب الإلهي عليهم وبالتالي تحقّق ما كانوا يطلبونه من نبيّهم واحترقوا بأجمعهم في عذاب الله ، وهذه هي نتيجة العناد والتعصب الجاف والتقليد الخاطيء.
وتتعرض «الآية الرابعة» إلى إحدى الإفرازات المشؤومة لهذه الرذائل الأخلاقية على الإنسان ، وتتحدّث عن (نمرود) وقومه وتقول عن النبي إبراهيم : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ)([16]).
ولكنه لم يسمع جواباً منهم على كلامه إلّا أنّهم قالوا: (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ)([17]).
وعند ما قال لهم إبراهيم بصراحة حاسمة : إنكم أنتم وآبائكم في ضلال مبين ، لم يستيقظوا من غفلتهم ، فلم يكن من إبراهيم إلّا أن بين لهم تفاهة هذه التماثيل والأصنام من موقع العمل والممارسة ، فحطّم هذه الأصنام لكي يثوبوا إلى عقولهم ، ولكنهم بدلاً من الانتباه من سكرتهم وجهالتهم وبدلاً من أن يمزّقوا حجب الجهل والتعصب واللجاجة فقد هدّدوا إبراهيم بالحرق بالنار ، وألبسوا تهديدهم لباس الفعل وترجموه على أرض الواقع ، وقذفوا بإبراهيم وسط أمواج النيران الملتهبة ، وعند ما رأوا أنّ هذه النار تحوّلت إلى نعيم وجنّة وكانت برداً وسلاماً على إبراهيم ، وشاهدوا أكبر معجزة إلهية بامّ أعينهم استمروا مع ذلك في سلوكهم الأحمق بتأثير قيود الجهل والتعصب والاصرار ، وادّعوا أنّ ذلك كان من قبيل السحر.
كلّ ذلك يدلّ على أنّ هذه الرذائل الأخلاقية إلى أيّة درجة هي خطرة على الإنسان ومانعة من التحرّر في الفكر والوصول إلى الحقّ ، وأنّ الأشخاص الّذين يقعون أسرى في براثن هذه الرذائل فإنّهم يعيشون الذلّة والحقارة إلى غايتها وبذلك يحطّمون عزّتهم الإنسانية ويهبطون من مقام الإنسانية الشامخ ويقبلون بكلّ ذلك بدلاً من التسليم والإذعان إلى الحقّ.
وتشير «الآية الخامسة» أيضاً إلى عبادة الأوثان لدى قوم (نمرود) عند ما واجههم إبراهيم بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة على سخافة هذه العقيدة من خلال الحوار العقلي والمنطقي حيث تقول الآية : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)([18]).
ولكن هؤلاء لم يكن لديهم أيّ جواب منطقي في مقابل هذه التساؤلات الحاسمة إلّا أنّهم لاذوا بكهف التقليد الأعمى كما تقول الآية : (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)([19]).
في حين أنّ الإنسان إذا أراد أن يسلك في خطّ التقليد فعلى الأقل يجب أن يقلد ويتبع العالم والخبير بالوقائع ليشير عليه ما ينفعه في هذا السبيل لا أن يقلد الجاهل والأحمق ، ولكنّ حجاب التعصب واللجاجة كان سميكاً إلى درجة انه لن يسمح لأقل شعاع من نور شمس الهداية والمنطق والدليل العقلي في النفوذ إلى أعماقهم ووجدانهم ليضيء باطنهم بنور الحقّ.
«الآية السادسة» تتحدّث عن لجاجة الفراعنة وعنادهم في مقابل المعجزات الواضحة والآيات البيّنة لموسى ، حيث فضّلوا البقاء على عقائدهم الوثنية الّتي ورثوها من أسلافهم بدافع من اللجاجة والإصرار والعناد حيث تقول الآية : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)([20]).
هؤلاء لم يسألوا من أنفسهم عن دين موسى هل هو حقّ أم باطل ، وما ذا يمتاز على دين الأسلاف؟ بل كان كلامهم يدور فقط في اننا يجب أن نحفظ دين الآباء والأجداد سواءاً كان حقّاً أم باطلاً ، فالقيمة الواقعية لنا تكمن في هذا المنهج فقط ، ثمّ قالوا مع كثير من سوء الظن أنّ ما جاء به موسى من الدين الإلهي هو في الواقع مقدّمة لتحصيل مقاصده السياسية وبسط سيطرته وحكومته على الناس ، فلا إله في البين ولا الوحي الإلهي ، وهكذا كانوا يتحركون من موقع سوء الظن هذا وبسبب ذلك التعصب والعناد في طريق الابتعاد عن الحقّ والاعتذار بتبريرات واهية في سبيل تحكيم موقعيّتهم مقابل دعوة موسى.
ولعلّهم كانوا يخافون من أنّه إذا تجلّى نور الهداية الإلهية لشعب مصر عن طريق شريعة موسى فإنّهم سيفقدون بذلك دينهم الخرافي الّذي ورثوه من الآباء وكذلك يفقدون حكومتهم المبنية على هذا الأساس ، ولهذا فإنّهم تصدّوا لموسى ودعوته بكلّ ما اوتوا من قوة وتحركوا من موقع تشجيع الناس وتعميق حالة التعصب والعناد فيهم ، وبما أنّ الملأ من الفراعنة كانوا يريدون كلّ شيء في سبيل تعزيز حكومتهم وسيطرتهم على الناس فتصوّروا أنّ موسى وهارون كذلك يريدون الدين كوسيلة واداة للتوصل إلى الحكومة والسيطرة.
وهذا المرض الأخلاقي يستمر مع البشر على طول التاريخ إلى أن نصل إلى زمن الإسلام وعصر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي «الآية السابعة» نرى أيضاً أنّ العامل الأساس في انحراف المشركين العرب هو التقليد الأعمى والتعصب لتراث الآباء والأجداد والّذي يوصد أبواب المعرفة من كلّ جانب على أصحاب هذه الصفة الرذيلة فتقول الآية : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...)([21]).
ولكن القرآن الكريم يجيبهم على هذا التصور الباطل بجواب حاسم وقاطع ويقول : (... أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)([22]).
ويتضح من سياق هذه الآية أنّ هؤلاء المشركين لم يُنكروا على النبي (صلى الله عليه وآله) دعوته السماوية وأنّه يتحدّث من قِبل الله تعالى (ما أَنْزَلَ اللهُ) ، ولكنهم كانوا غارقين في مستنقع التعصب والعناد والجهل إلى درجة أنّهم يفضلون دينهم الّذي ورثوه عن الآباء والأجداد على دين الله وهم يعلمون بأن أسلافهم كانوا يعيشون الجهل والضلالة.
وبهذا نجد أنّ الجهل والتعصب يتسبب في أنّ الإنسان يترك بسهولة (ما أَنْزَلَ اللهُ) ويدير له ظهره ويتجه نحو الباطل رغم انه يميز بين الحقّ والباطل من موقع الوضوح في الرؤية.
وتستعرض «الآية الثامنة» قصة الحُديبية حيث يذكر الله تعالى المسلمين بما جرى من حوادث مهمة وأنّ الكفّار رغم رؤيتهم لعلائم حقانيّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلّا أنّهم وبسبب التعصّبات الجاهلية لم يتحرّكوا في خطّ الإيمان ، وكانت هذه الرذيلة الأخلاقية قد منعتهم من سلوك طريق السعادة العظمى فتقول الآية : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)([23]).
(الحميّة) من مادّة (حَمى) (على وزن حَمَدَ) بمعنى الحرارة الّتي يشعر بها الإنسان في بدنه بسبب العوامل الخارجية أو الأشياء الاخرى ، ولهذا السبب اطلقت على الحُمّى أيضاً وهي حرارة المرض.
ثمّ اطلقت هذه المفردة على الحالات الروحية والأخلاقية من قبيل : الغضب والتكبّر والتعصب وأمثال ذلك وأنّها بمثابة حالات يعيشها الإنسان في حرارة باطنية كالنار المستعرة في قلب الإنسان.
والملفت للنظر أنّ هذه الآية أضافت الحميّة إلى الجاهلية ، وذلك للإشارة إلى التعصبات المنطلقة من موقع الجهل وعدم العلم ، وفي نفس الوقت اضافت السكينة الّتي تقع في النقطة المقابلة لها إلى الله تعالى ، وهي الحالة من الهدوء والراحة النفسية الّتي يعيشها الإنسان من موقع الإيمان والوضوح والانسياق مع الحقيقة.
وسيأتي في البحوث اللاحقة الكلام حول التعصّب الإيجابي والسلبي وحول إضافة الحمية إلى الجاهلية.
«الآية التاسعة» تشير إلى نكتة اخرَى في هذا المجال ، وتكشف النقاب عن جانب آخر من التعصب الشديد للعرب في عصر الجاهلية وتقول : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)([24]).
يعني انّ التعصب القومي والعِرقي لهؤلاء العرب كان إلى درجة من الشدّة بحيث إنّ القرآن مع جميع المعارف السامية والفصاحة والبلاغة والمضامين العظيمة لو كان قد نزل على غير العرب فإنّ تعصبّهم العِرقي يمنعهم من الإيمان به ويسدل عليهم حجاباً يُبعدهم عن إدراك الحقيقة والوصول إلى المقصود.
ورغم أنّ بعض المفسّرين قد ذكر لهذه الآية تفسيرات اخرى ، ولكن أوضح التفاسير وأنسبها لسياق هذه الآية هو ما ذُكر آنفاً.
وعلى هذا الأساس ورد في بعض الروايات الإسلامية عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّ الأشخاص الّذين يعيشون التعصّب والعناد هم شركاء لأعراب الجاهلية حيث يقول : «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» ([25]). وحبّةٍ من خردل يُضرب بها المثل بالصغر لدى العرب.
وتأتي «الآية العاشرة» لتكشف النقاب عن هذه الرذيلة الأخلاقية في أقوام بشرية اخرَى وأنّ كلّ قوم وطائفة يرون أنفسهم أنّهم الأفضل بدافع التعصب واللجاجة ويتحركوا في تعاملهم مع الآخرين من موقع الإبعاد والنفي ويحسبون أنفسهم أنّهم عباد الله المتميزون على سائر الأقوام والشعوب البشرية ، وهذا الأمر هو الّذي تسبب في نزاعات مستمرة وصراعات دائمة بين الأقوام البشرية حيث تقول الآية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)([26]).
ويُستفاد من سياق هذه الآية أنّ هذا اللون من التعصّبات وأشكال الغرور ينبع من الجهل وعدم المعرفة وأنّ كلّ فئة من الناس تعيش الجهل وعدم المعرفة سوف يتورطون في هذه الرذيلة الأخلاقية.
وعبارة (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لها مفهوم واسع وأحد مصاديقها هم المشركون العرب ، ولذلك فسّرها بعض المفسّرين بأنّهم قوم نوح ، أو ذكروا في تفسيرها أنّ المراد منها جميع الامم البشرية الّتي عاشت التعصب والعناد بسبب الجهل وعدم المعرفة.
«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن أصل كلّي وعام وتبيّن أنّ حالة التعصب والاصرار على طول التاريخ البشري كان لها الدور المهم في استمرار الأقوام البشرية في سلوكهم في خطّ الكفر ومحاربة التوحيد وتقول : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)([27]).
وسياق الآية يوحي إلى أنّ أهم مانع في مقابل الإيمان واتباع الأنبياء الإلهيين هو التعصب والتقليد الأعمى الناشيء من حالة الجهل الّتي يعيشها الإنسان.
وهنا تتضح الأبعاد الخطيرة لهذه الرذيلة الأخلاقية.
ونقرأ في «الآية الثانية عشر» والأخيرة أنّ الجاهليين وبسبب حالة التعصب واللجاجة كانوا يتهمون أكبر الأنبياء الإلهيين بالجنون ويجعلون ذلك ذريعة لمخالفتهم للدعوات السماوية وتقول : (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ)([28]).
والعجيب أنّ هؤلاء كانوا غارقين في دوّامة الجهل والتعصّب الأعمى إلى درجة أنّهم لم يكونوا يُدركون أنّ كلامهم هذا متناقض ، فإنّ كونه (شاعراً) يدلّ على الذوق السليم والقريحة والتأمّل والتفكر والاطلاع الوافي على دقائق الكلام (والملاحظ أنّ كلمة الشاعر من مادّة الشعور) وهذا ما يتقاطع مع كونه مجنوناً كما هو واضح.
وأحياناً يتهمون الأنبياء بالسحر والجنون كلاهما في حين أنّ السحر يحتاج إلى الإطلاع الواسع على بعض العلوم والمعارف ويستبطن ذكاءاً خاصاً ، وكلّ هذا يتقاطع مع الجنون ، وهذا يوضّح أنّ كلام هؤلاء المتناقض لم يكن بوحيٍ من العقل والتفكر الهاديء والمنسجم بل بدافع من الجهل والتعصب والعقدة.
النتيجة النهائية :
وبمرور إجمالي على الآيات الكريمة المذكورة آنفاً والّتي هي نموذج من كثير من الآيات القرآنية في هذا المجال تتضح هذه الحقيقة وهي انّ أهم موانع المعرفة والوصول إلى الحقيقة هو حالة التقليد الأعمى الناشيء من التعصب واللجاجة والتحرّك من موقع الرغبات النفسية وبدافع من الأهواء والنوازع الباطنية الّتي تحبس الإنسان في سجن مظلم من الجهل المطبق.
إن الأضرار والخسائر الكثيرة المترتبة على هذه الرذيلة الأخلاقية قد سوّدت صفحات التاريخ البشري وواجه الأنبياء الإلهيين بسببها مشاكل كثيرة في طريق هداية الناس إلى الله والحقّ وسُفكت بسببها الكثير من الدماء ، وهذا يكفي في إدراك شناعة هذه الحالة الذميمة في السلوك الإنساني.
لو لم تكن هذه الرذيلة الأخلاقية موجودة في باطن الإنسان فإنّ تاريخ البشرية سيلبس ثوباً آخر ويسطع بوجهٍ جديد في حركة التكامل الحضاري والتقدّم العلمي ولفُتحت الأبواب أمام البشرية للصعود إلى مدارج عالية من الكمال المعنوي وبدلاً من أن تتحوّل طاقاته وامكانياته الكبيرة إلى سيلٍ مخرب بسبب الجهل والتعصب فإنّ من شأنها أن تتحول إلى منظومة واسعة من المعارف الإلهية والسلوكيات الأخلاقية الحميدة والمُثل الإنسانية الّتي تقود الإنسان في كلّ بُعدٍ من أبعاد حياته الدنيوية إلى العمران والتكامل المادي والمعنوي.
التعصب والعناد في الأحاديث الإسلامية :
وقبل أن نستعرض في بحثنا هذا مفهوم التعصب ودوافعه ونتائجه الوخيمة على حياة الإنسان نرى من اللازم أوّلاً استعراض الأحاديث الإسلامية في هذا الباب لأنها تتضمن الكثير من الامور المتعلقة بهذا الموضوع بصوره إجمالية.
والأحاديث الشريفة في هذا الموضوع كثيرة ونشير إلى نماذج منها :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» ([29]).
وهذا التعبير يشير إلى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية إلى درجة من الخطورة بحيث إنّ أدنى درجة منها تتقاطع مع الإيمان الخالص.
2 ـ وورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «انَّ اللهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ ، الْعَرَبَ بِالْعَصَبِيَّةِ ، وَالدَّهَاقِينَ بِالْكِبْرِ ، وَالْامَرَاءَ بِالْجَوْرِ ، وَالْفُقَهَاءَ بِالْحَسَدِ ، وَالتُّجَّارَ بِالْخِيَانَةِ ، وَاهْلَ الرَّسَاتِيقِ بِالْجَهْلِ» ([30]).
والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يذكر التعصب على رأس هذه الامور الستة في حين أنّها جميعاً من الذنوب الكبيرة.
3 ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قوله : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا الَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» ([31]).
4 ـ وجاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نفي التكبّر والتعصّب وأنّ هذه الحالات هي السبب الأساس في إنحراف إبليس وشقائه وأنّ الله تعالى عند ما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلّا إبليس فإنه يقول : «اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِاصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللهِ امَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ ، الّذي وَضَعَ اسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ» ([32]).
5 ـ وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَ الْايمَانِ مِنْ عُنُقِهِ» ([33]).
ونعلم أنّ التعصّب والعناد هُما لازم وملزوم ، ولهذا السبب أوردناهما تحت عنوان واحد ، وأما بالنسبة إلى حالة العناد والاصرار في السلوك البشري وآثارها السلبية فلدينا الكثير من الروايات في هذا الباب ، منها :
1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «ايَّاكَ وَاللِّجَاجةَ ، فَانَّ اوَّلَهَا جَهْلٌ وَآخِرَهَا نَدَامَةً» ([34]).
2 ـ وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ» ([35]).
3 ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال : «اللِّجَاجُ بَذْرُ الشَّرِّ» ([36]).
4 ـ وجاء في نهج البلاغة قوله : «اللِّجَاجَةُ تَسِلُّ الرَّأْيَ» ([37]).
5 ـ وأيضاً ورد عن هذا الإمام قوله : «لَيْسَ لِلَجُوجٍ تَدْبِيرٌ» ([38]).
ومع ملاحظة هذه الروايات الشريفة يتضح التأثير المخرب لهاتين الرذيلتين الأخلاقيتين (التعصّب واللجاجة) في الحياة الفردية والاجتماعية للناس بحيث إنهما يدفعان الإنسان بعيداً عن الإيمان والإسلام ويجعلانه غريباً عن الأجواء الروحية المنفتحة على الله تعالى ويقودانه إلى الكفر والشرك والاقتداء بالشيطان وترك حبل الإيمان ، وسوف يأتي لاحقاً الدوافع الكامنة في هذه الحالة الأخلاقية.
1 ـ مفهوم التعصّب ودوافعه
(التعصّب) من مادّة (عَصَبَ) وهي في الأصل بمعنى الخيوط العصبية والعضلية الّتي تربط بين مفاصل العظام والعضلات ، ثمّ استُعملت هذه الكلمة ليُراد بها كلّ نوع من الارتباط الشديد الفكري والعملي والّذي يستبطن غالباً معنىً ومفهوماً سلبياً رغم وجود بعض العلائق الإيجابية أيضاً في مفهومها حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة إن شاء الله.
وبديهي أنّ التعلّقات غير المنطقية بالنسبة إلى شخص ما أو عقيدة معيّنة أو شيء من الأشياء فإنه يقود الإنسان إلى اللجاجة والتقليد الأعمى بالنسبة إلى ذلك الشيء أو الشخص ، وبالتالي سيكون العامل المهم في بروز أنواع النزاعات والحروب والاختلافات المستمرة بين البشر.
وكلّما تحرك الإنسان على مستوى إزالة هذه التعصبات من ساحة الحياة البشرية والمجتمع الإنساني فإنّ الناس سوف يتعاملون في ما بينهم من موقع العقل والمنطق والحوار الهاديء والهادف ، وبذلك تزول الكثير من الاختلافات وأسباب النزاع ويعود الهدوء ليُخيّم على المجتمع الإنساني ويعيش الإنسان في حركته الإجتماعية بكلّ أشكال الطمأنينة والمحبّة والاخوة.
إن مثل هذا التعصب الّذي يتولد مباشرة من حالة اللجاجة والتقليد الأعمى ينبع من الامور التالية :
1 ـ حُبّ الذات والتعلّق الشديد بالأسلاف
إن الإفراط في حبّ الذات يتسبب في أن يتعلّق الإنسان بالامور المنسوبة إليه بشدّة ويعتبرها جزءاً من شخصيته وكيانه ومن ذلك الرابطة مع الآباء والأجداد والتقاليد المرسومة في مجتمعه.
إنّ هذا التعلّق الشديد يؤدي إلى نقل الكثير من الخرافات والقبائح إلى الأجيال الاخرى بذريعة حفظ الآداب والسنن والرسوم الإجتماعية وبالتالي فسيخلق حجاباً يصدّ الإنسان عن أيّة معرفة جديدة وارتباط بالحقائق والواقعيات.
إن الدفاع الشديد عن القبيلة والعشيرة أحياناً يصل إلى درجة أن أسوأ أفراد القبيلة وأشنع الأعراف والسنن السائدة في هذه القبيلة تتحول في نظر الأشخاص المتعصبين إلى
إيجابيات كبيرة وامتيازات مهمة لهذه القبيلة ، في حين أنّ أفضل أفراد القبيلة الاخرى وأسمى الآداب والسنن في تلك القبيلة تكون هي الأسوأ والأقبح في نظر هذا الإنسان.
2 ـ انخفاض المستوى الثقافي والفكري
وكلّما انخفض المستوى الثقافي للناس وعاش أفراد المجتمع في اهتزاز على مستوى الفكر والثقافة فإنّ التعصبات الجاهلية وأشكال العناد والتقليد الأعمى ستكون حاكمة على هؤلاء الأشخاص ، بخلاف إذا ارتفع المستوى الثقافي في المجتمع وعاش الناس في علاقاتهم المنطق والعقل والالتزام الفكري ، فإنّ ذلك من شأنه أن ينفي التعصّب واللجاجة وتستبد حالة التقليد الأعمى بالتحقيق والدراسة والحوار الفكري النافع للوصول إلى الحقيقة.
3 ـ ضعف الشخصية
والعامل الآخر للتعصّب والتقليد الأعمى هو أنّ الإنسان يعيش أحياناً ضعف الشخصية بالنسبة إلى بعض الشخصيات الّذين يوحون إليه بالقداسة في أفعالهم وأقوالهم وبذلك يصعدون عن مستوى دائرة النقد حتّى لو كان النقد علمياً وأخلاقياً ، وهذا الأمر يتسبب في أن يتبعهم بعض العوام بعيون مُغمضة وآذان صمّاء ويضحون بأنفسهم وأموالهم في سبيل الدفاع عن هؤلاء الّذين يرتدون لباس القداسة الزائفة بدون أن يتفكر الإنسان في مضمون كلامهم وبباطن أفعالهم وسلوكياتهم وآثارها على المدى البعيد.
4 ـ الإنزواء الإجتماعي والفكري :
والعامل الآخر من عوامل التعصّب هو أنّ الإنسان عند ما ينفرد بأفكاره أو بمحيطه الإجتماعي الخاصّ وينفصل عن الجماعات الاخرى والأفكار المخالفة والمتنوعة ويعيش الجهل بالنسبة إلى سائر التيارات الفكرية والثقافية في المجتمعات البشرية الاخرى ، فإنّ ذلك من شأنه أن يُفعّل حالة التعصّب والالتزام الشديد بما لديه من أفكار وعقائد ، في حين انه لو انفتح على الآخرين وتلاقح فكره مع أفكارهم وقارن بين هذه الأفكار من موضع استكشاف نقاط الضعف والقوّة واستجلاء العناصر الإيجابية والسلبية في كلٍّ منها ، فإنّ ذلك يقوده إلى انتخاب الأفضل منها من موقع الوضوح والاختيار الحرّ.
2 ـ الآثار السلبية للتعصّب والعناد
إن الآثار السلبية والنتائج المخربة للتعصّب والاصرار في حركة حياة الإنسان المتعصّب تتجلّى في الكثير من الموارد :
1 ـ إن التعصّب يعني الإرتباط غير المنطقي بشخص معيّن أو عقيدة أو عادة أو عرف خاصّ كما سبقت الإشارة إليه ، وهذا من شأنه أن يُسدل حجاباً سميكاً على عقل الإنسان وبصيرته يمنعه عن إدراك الحقائق وجوانب الخير والشرّ والمصلحة والمفسدة في الامور وبالتالي يُحرمه من العثور على طريق للحل والنجاة.
ولهذا رأينا في الأحاديث السابقة أنّ اللجوج لا يتمتع بمديرية سليمة ، ورأينا أيضاً في حالات الشيطان انه لم يتمكن من إدراك البديهيات واوضح الحقائق بسبب تعصبه وعناده ، ولذلك قطع عن رقبته طوق العبودية لله تعالى فطرد من ساحة القرب الإلهي إلى الأبد.
2 ـ إن العصبية والعناد بمثابة النار المحرقة الّتي من شأنها تمزيق العلائق الإجتماعية في المجتمع وتسلب منه روح الوحدة والالفة وتنثر فيه بذور النفاق والفرقة وتقود الطاقات والقوى البنّاءة الّتي يجب أن تُصرف في سبيل إعمار المجتمع في حركته الحضارية باتجاه التضاد والصراع الذاتي فيما بينها ، كما نقرأ هذا المعنى في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول : «اللِّجَاجُ يُنْتِجُ الْحُرُوبَ وَيُوغِرُ الْقُلُوبَ» ([39]).
3 ـ إن التعصّب والعناد يتسبّبان في ابتعاد الأحبّة والأصدقاء عن الإنسان وتبديل الصداقة إلى عداوة وتضاد.
4 ـ إن التعصّب والعناد من الأسباب والعوامل المهمّة للكفر ، وانطلاقاً من هذه الحالة نجد أن أكثر الشعوب والامم السالفة وبسبب التعصّب والعناد كانت تسير في خطّ الباطل والكفر برسالات السماء والامتناع عن قبول الحقّ بدافع من المحافظة على السنن البالية والتقاليد الزائفة.
(وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآيات السابقة).
5 ـ إنهما يورثان صاحبهما الألم والتعب والوقوع في زحمة المشاكل الكثيرة ، لأنهما يتسببان بالإنسان أن يعيش مدّة طويلة ولسنوات عديدة أحياناً في حالة من الحيرة والضلال ، وعند ما يصل إلى طريق مسدود فإنه عند ذاك يشعر بالتعب واليأس من هذا الطريق الموحش.
ومن هذا الموقع نقرأ في الحديث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «ثَمَرةُ اللِّجَاجِ الْعَطَبَ» ([40]).
ولهذا السبب فإننا نجد أنّ التعصّب غالباً ما يورث الندم كما تقدّمت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة.
6 ـ انهما يُفقدان الشخص توازنه في اختيار الامور ويجرانه إلى مواقع لن يرغب الولوج فيها ، ولهذا ورد في بعض الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «لَا مَرْكَبَ اجْمَحَ مِنَ اللِّجاجِ» ([41]).
7 ـ وأخيراً فإنّ التعصّب واللجاجة يحوّلان حياة الإنسان في دنياه وآخرته إلى دمار وخراب ، لأنهما يورثانه في حياته الدنيا العداوة والفرقة والاخطاء الكثيرة وفقدان الراحة والهدوء والاستقرار ، وفي الآخرة يتسببان في ابتعاده عن رحمة الله ، وهذا هو ما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ»
ومرّة اخرى نرى من الضروري الإشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث (التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى) رغم أنّها تختلف في دائرة المفهوم والمحتوى إلّا أنّها تتحد في دائرة المصداق وترتبط برابطة وثيقة ، وفي الإصطلاح : بينهما علاقة اللازم والملزوم ، ولذلك أوردناها جميعاً في بحث واحد.
أمّا الدوافع على التعصّب واللجاجة فواضحة أيضاً ، لأن أشكال التعصّب الأعمى والمخرّب ينطلق قبل كلّ شيء من الجهل بالامور ، ولهذا السبب فإنّ كلّ طائفة تعيش الجهل أكثر فإنّها تعيش حالة التعصّب والتقليد الأعمى أكثر إلى درجة أنّ الإنسان على هذا المستوى غير مستعد لإيجاد التحول والتغيير نحو الأفضل في وضعه وحالته النفسية والاجتماعية ، ولذلك كانت العصبية دائماً سبباً للتخلف الحضاري والاجتماعي.
وقد قرأنا في الأخبار السابقة أيضاً ما ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إياك واللجاجة ، فإنّ أولها جهل وآخرها ندامة».
والعامل الآخر الّذي يدفع الإنسان باتجاه التعصّب واللجاج هو الأنانية وحبّ الذات ، لأن الشخص الأناني يحبّ كلّما لديه من العلائق والامور الّتي تُنسب إليه وترتبط به حتّى على المستوى الاصول والتقاليد الخاطئة والعقائد الزائفة ، ولذلك قد يظهر عصبية شديدة لما عليه قومه وقبيلته من التقاليد والعقائد ويقبل ما ورثه من آبائه من السنن والمعارف من دون أيّ تحرّك فكري واستقلال عقلي.
وأحياناً يكون التقاعس وحبّ الراحة من الدوافع الاخرى الّتي تقود الإنسان للتعصّب واللجاجة ، لأن الانتقال من حالة إلى اخرى يحتاج في كثير من الأحيان إلى بذل الجهد والسعي ومواجهة الموانع والتحديات الّتي يفرضها الواقع ، وأنّى للكسول والمتقاعس أن يتحرك في هذا السبيل ، ولهذا السبب نجده يتمسك دائماً بما لديه من الأفكار والعقائد والأوهام المختلفة.
3 ـ التعصّب الإيجابي والسلبي
هناك ثلاث مفاهيم متقاربة في المعنى وهي : التعصّب ، الحميّة ، التقليد ، وكلّ واحدٍ من هذه الامور تنقسم إلى :
إيجابي وسلبي. أو : ممدوح ومذموم ، رغم أنّ مفردة (التعصّب) ترد غالباً في المعنى المذموم والسلبي.
وبشكل عام فإنّ الإنسان إذا ارتبط بالامور غير المنطقية وتحرّك في سلوكه من موقع قبولها والدفاع عنها فهو من التعصّب المذموم ، وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم بعنوان (العصبية الجاهلية) ولكن إذا خضعت علاقة الإنسان مع هذه الامور للمنطق والعقل وكانت النتائج المترتبة عليها مفيدة وبنّاءة وتعصّب لها الإنسان فهو من التعصّب الممدوح والإيجابي.
ونقرأ في نهج البلاغة في الخطبة (القاصعة) لأمير المؤمنين (عليه السلام) إشارة إلى هذا المعنى حيث يقول : «فَاطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ ، وَاحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَانَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ» ([42]).
فنجد في هذه الخطبة انها تقوم على أساس من ذمّ الكِبر والغرور والتعصّب واللجاجة ، ويقول الإمام في مكان آخر أيضاً : «فَانْ كَانَ لَابُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ ، وَمَحَامِدِ الْافْعَالِ ، وَمَحَاسِنِ الْامُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ... فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ ، مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ ، وَالْاخْذِ بِالْفَضْلِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ» ([43]).
فعليه فالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير في هذه الخطبة إلى (التعصّب) بكلا قسميه ، وعند ما سُأل الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن معنى العصبية ذكر كلا القسمين أيضاً وقال : «الْعَصَبِيّةُ الَّتِي يَأْثِمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا انْ يَرىَ الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخِرِين! وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ انْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قُوْمَهُ وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيّةِ أنْ يُعِينَ قُوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» ([44]).
وطبقاً لهذا الحديث فإنّ العصبية الّتي يعيشها أفراد القوم أو القبيلة ما دامت تسير في خطّ الخير والصلاح فهي إيجابية وممدوحة ، لأن هذه العصبية والارتباط الشديد لا يدفع الإنسان إلى ارتكاب الممنوعات ولا يقوده نحو الخطيئات بل يُعمق فيه أواصر المحبّة ويؤكد وشائج المودّة بين الأفراد ، امّا التعصّب المذموم فهو أن يسحق العدالة والحقّ تحت قدمه من أجل قومه ويضحي بالقيم الأخلاقية والشرعية للحفاظ على القيم الخرافية والتقاليد الزائفة.
وورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله «لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ حَمِيَّةٌ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطِّلِبِ ، وَذَلِكَ حِينَ اسْلَمَ غَضَباً لِلنَّبِيِّ فِي حَديثِ السِّلَا الّذي الْقِيَ عَلَى النّبِيّ (صلى الله عليه وآله)» ([45]).
وبديهي أن تعصّب حمزة في الدفاع عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مقابل المشركين الّذين يعيشون العصبية الحمقاء والجاهلية الزائفة لم يكن تعصّباً خارجاً عن حدود العقل والمنطق والعدالة ، ولذلك فهو من التعصّب الممدوح ، ولو أنّ حمزة قد سلك في تعصبه هذا في خط الباطل وارتكب ما يخالف الحقّ والعدالة فإنّ ذلك يقع في دائرة التعصّب المذموم والسلبي أيضاً.
4 ـ التقليد البنّاء والأعمى
إن (التقليد) ينقسم كالتعصّب إلى قسمين :
ايجابي وسلبي.
وبعبارة أدّق ، يمكن تقسيم التقليد إلى أربعة أنحاء وأشكال ، ثلاثه منها سلبية وواحد ايجابي.
الأوّل : (تقليد الجاهل للجاهل)
وهو أن يتحرك بعض الجهلاء والسذّج من الناس في أفكارهم وسلوكياتهم بدافع من تقليد طائفة اخرى من الجهال ويستوحون منهم اعتقاداتهم وسننهم وتقاليدهم ، فمثل هذا التقليد هو الّذي ورد الذمّ والتوبيخ عليه بشدّة في القرآن الكريم حيث يُعد من أسباب التعصّب واللجاجة وأحياناً من نتائجهما المترتبة عليهما ، وهذا هو العامل المهم في انتقال الخرافات من قوم إلى قوم آخرين ، وهذا هو ما تصدّى له الأنبياء والدعاة إلى الحقّ من موقع إبطاله ودحوه.
الثاني : (تقليد العالِم للجاهل)
وهو أشنع أنواع التقليد ، وهو أن يتحرك الإنسان بالرغم من علمه ومعرفته في السير في خط الباطل ويتبع الجهلاء في ذلك بسبب ما علق على قلبه من حالات التعصّب الذميم.
إن مسألة (الاستعوام) واستسلام العلماء أمام أفكار الجهال والعامّة من الناس هو نوع من تقليد العالم للجاهل.
الثالث : (تقليد العالِم للعالم)
ويكون بصورة أن يتقاعس العالم عن البحث والتحقيق في أمر من الامور ويستسلم للنتائج الّتي توصل إليها عالم آخر من دون دراسة ونظر فاحص ، ومن الواضح أنّ هذا النوع من التقليد مذموم أيضاً رغم انه ليس بشناعة القسم الأوّل والثاني ، لأنّه ينبغي على العلماء وأهل المعرفة في كلّ قوم وامّة أن يبذلوا ما لديهم من الجهود في دائرة التحقيق والبحث العلمي في كلّ مسألة لإستخلاص النتائج الّذي يفرضها البحث العلمي ، ومع توفر الاستعداد والقابلية للتحقيق والبحث فإنّ الاستسلام الأعمى إلى الآخرين ليس من شأن العالم ، ولهذا ورد في الفقه الإسلامي أنّ التقليد حرام على المجتهد. وقد ورد في التعبيرات المعروفة في اجازات الاجتهاد هذه العبارة (يُحرم عليه التقليد) ، إلّا أن يكونا متخصصين في مجال التخصص العلمي (كالطبيب المتخصّص في أمراض القلب مثلاً يراجع الطبيب المتخصّص بأمراض العين في هذا المورد بالذات) أو يرجع المتخصّص لاستاذه ، فهو في الواقع من قبيل القسم الرابع الّذي ستأتي الإشارة إليه.
الرابع : (تقليد الجاهل للعالم)
بما يتعلق بعلمه ، وبعبارة اخرى : أن يراجع غير المتخصص إلى المتخصص في كلّ فن ، وبعبارة ثالثة أيضاً : إن ما لا يحيط به الإنسان عِلماً عليه أن يرجع في ذلك لأهل العلم والخِبرة ليقتبس منهم (كما في رجوع المرضى إلى الأطباء في الأمراض المختلفة) وهذه المسألة تُعد من الاسس والدعائم للحياة الفردية والاجتماعية للإنسان.
وتوضيح ذلك : أنّ العلوم والفنون والمعارف البشرية إلى درجة من السعة والكثرة بحيث إنّ كلّ واحد من البشر لا يمكنه الإحاطة بها جميعاً ، وقد كان هذا الحال من قديم الأيّام وقد تجلّى هذا المعنى أكثر في عصرنا الحاضر حيث تشعّبت العلوم والمعارف وتطوّرت بشكل كبير جدّاً بحيث إنّ كلّ إنسان لا يستطيع حتّى في الإحاطة بجميع فروع علم واحد من العلوم كالطب مثلاً أو الهندسة فكيف الحال بالعلوم الاخرى؟
ومع هذا الحال فلا مفر أمام الناس إلّا بأن يرجع الجاهل منهم إلى العالم ، وهذا أصل مسلّم في حركة الحياة وقد بنيت عليه سيرة العقلاء في جميع العالم ، والسير بخلاف هذا المنهج يؤدي قطعاً إلى تخلخل مفاصل المجتمع واهتزاز أركانه وبالتالي انحطاطه الحضاري والثقافي.
وهكذا الحال في المسائل المعنوية والأخلاقية والعلوم الدينية ، فلا يمكن أن يتوقع من جميع الناس أن يكونوا أصحاب فكر واجتهاد في جميع العلوم والمعارف الإسلامية ، فبعض هذه الفروع العلمية إلى درجة من السعة بحيث تحتاج لدراستها والإحاطة بها إلى خمسين سنة من البحث والتحقيق (من قبيل علم الفقه).
فمن الطبيعي أن يرجع الأشخاص المنشغلين عن هذه العلوم والجاهلين بها إلى العالم والخبير بها ، ولكن بالنسبة إلى اصول الدين والعقائد المذهبية الّتي تشكّل دعائم المنظومة في الفكر الديني فإنّ على كلّ إنسان أن يحيط بها بمقدار ما يمكنه ذلك منها ولا يقبل من العقائد إلّا ما كان مستنداً إلى دليل وبرهان ، فالتقليد في مثل هذه الامور غير جائز ، بل لا بدّ من التحقيق والفحص وعدم قبول المعتقدات الدينية الأساسية إلّا عن دليل وبرهان.
وعلى أيّة حال فإنّ مثل هذا التقليد لا يُعد من القسم المذموم ولا يدخل في دائرة التقليد السلبي بل هو مصداق قوله تعالى : (... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)([46]). وليس من قبيل قوله تعالى : (... إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)([47]).
وهذا لا يرتبط بمسألة التعصّب المذموم الّذي هو الدافع للإنسان إلى سلوك طريق اللجاجة والتقليد الأعمى.
5 ـ طرق العلاج
إن الطريق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو كسائر علاج الرذائل الأخلاقية الاخرى فإنه يتطلب في المرتبة الاولى الإلتفات إلى الدوافع والجذور والسعي لإزالتها من واقع الإنسان وباطنه ، ومع العلم بأنّ جذور التعصّب هو ما تقدّم من الانانية والافراط في حبّ الذات ، انخفاض المستوى الثقافي ، ضعف الشخصية ، العزلة الاجتماعية والفكرية ، وأمثال ذلك.
ولا بدّ لإزالة هذه الصفة الرذيلة وتطهير النفس منها من الصعود بالمستوى العلمي والثقافي للأفراد والسعي للتعرف على الأقوام والشعوب الاخرى والاطلاع على أفكارهم وعقائدهم ، وكذلك تعديل حبّ الذات في شخصية الإنسان وقلع الميول والاتجاهات المضرة في نفسه والّتي تورثه التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى.
وكذلك يجب الالتفات إلى الآثار السلبية لهذه الحالات الذميمة من أجل إصلاح النفس وتهذيبها وتطهير القلب من هذه الشوائب والأدران المحيطة بها.
وعند ما يدرك الإنسان أنّ التعصّب واللجاجة تسدل على فكره وعقله حجاباً وستاراً مضمراً يمنعه من إدراك الحقائق وفهم الواقعيات وكذلك من شأنه أن يمزق العلائق الإجتماعية بين أفراد المجتمع ويبذر بذور النفاق والاختلاف والفرقة بينهم ، ويُفضي إلى الشقاء والتعاسة ويورث الإنسان التعب والدرك وحتّى انه قد يؤدي به إلى الإنزلاق في دوّامة من المشاكل لم يكن يتوقعها أبداً. فمطالعة هذه الامور من شأنها أن تقلّل من شدّة العصبية والعناد وتساعد الإنسان في النزول عن مركب الغرور والتعصّب والتقليد الأعمى وأن يسلك بالتالي في خطّ السعادة والإنصاف ويسلك المنهج العقلاني في التفكير والمعتقد.
وأحد الامور الاخرى في طريق علاج هذه الرذائل الأخلاقية هو تغيير شكلها ومحتواها ، بمعنى أنّ الإنسان يقوم بعملية استبدال الدوافع السلبية بدوافع اخرى ايجابية.
مثلاً : الشخص الّذي يعيش التعصّب الشديد بالنسبة إلى الامور غير المنطقية أو الخرافية ، فبدلاً من أن يسعى إلى قتل الدافع لهذا التعصب في نفسه يقوم بتحويله إلى الجهة الإيجابية فيتعصب للُامور الحقّة.
وهذا هو ما قرأناه في الخطبة القاصعة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول : «فإنّ كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الامور» ([48]).
وإذا كان المفروض على الإنسان أن يتعصب لشيء في علاقاته وتفاعله مع الآخرين فالأفضل أن يكون تعصبه للقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية.
6 ـ التسليم مقابل الحقّ
النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى هو التسليم مقابل الحقّ الّذي يُعد من الفضائل المهمة الأخلاقية ، أيّ أنّ الإنسان يقبل بالحقّ من أيّ شخص كان حتّى لو رآه أبعد الناس وأصغرهم فيسلّم له.
وهذه الفضيلة الأخلاقية هي السبب في التقدّم العلمي والتطور الحضاري للبشرية وتورث الإنسان الحصانة من الوقوع في الضلالة وسلوك طريق الباطل.
ولا يتحلّى بهذه الصفة الأخلاقية الحميدة إلّا أهل الإيمان والصالحون من الناس والّذين يبتعدون عن الافراط في حبّ الذات والتعلقات القومية الذميمة ويجتنبون الميول الذاتية في دائرة الفضيلة والمعتقد.
إن التسليم مقابل الحقّ هو من علامات الإيمان ، وسلامة الفكر والروح ، وارتفاع المستوى الثقافي لدى الإنسان ، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الخصلة الحميدة مخاطباً النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) :
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)([49]).
ويقول في مكان آخر : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)([50]).
وطبعاً فإنّ التسليم (بعنوان فضيلة أخلاقية) يُستعمل على معنيين :
أحدهما : التسليم مقابل الحقّ والّذي يقع في النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى.
والآخر : هو التسليم مقابل القضاء والقدر الإلهيين فيعيش الإنسان في حالة الشكر والرضا بما قسم الله ولا يعيش السخط والكفران.
وموضع البحث في هذا الفصل هو ما يتعلق بالمعنى الأوّل ، امّا المعنى الثاني فسوف يأتي الكلام عنه في بحث (الرضا والتسليم).
[1] سورة نوح ، الآية 7.
[2] سورة نوح ، الآية 23.
[3] سورة الأعراف ، الآية 70.
[4] سورة الأنبياء ، الآية 52 و 53.
[5] سورة الشعراء ، الآية 72 ـ 74.
[6] سورة يونس ، الآية 78.
[7] سورة البقرة ، الآية 170.
[8] سورة الفتح ، الآية 26.
[9] سورة الشعراء ، الآية 198 و 199.
[10] سورة البقرة ، الآية 113.
[11] سورة الزخرف ، الآية 23.
[12] سورة الصافات ، الآية 36.
[13] سورة نوح ، الآية 7.
[14] سورة نوح ، الآية 23.
[15] سورة الأعراف ، الآية 70.
[16] سورة الأنبياء ، الآية 52.
[17] المصدر السابق.
[18] سورة الشعراء ، الآية 72 و 73.
[19] سورة الشعراء ، الآية 74.
[20] سورة يونس ، الآية 78.
[21] سورة البقرة ، الآية 170.
[22] سورة البقرة ، الآية 170.
[23] سورة الفتح ، الآية 26.
[24] سورة الشعراء ، الآية 198 و 199.
[25] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 308 ، باب العصبيّة ، ح 3.
[26] سورة البقرة ، الآية 113.
[27] سورة الزخرف ، الآية 23.
[28] سورة الصافات ، الآية 36.
[29] اصول الكافي ، ج 2 ص 308 (باب العصبيّة).
[30] الكافي ، ج 8 ، ص 162 ، ح 17.
[31] سنن أبي داود ، ح 5121 ، طبقاً لنقل ميزان الحكمة.
[32] نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة ، الخطبة 192.
[33] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 308 ، ح 2.
[34] ميزان الحكمة ، ج 4 ، ص 2770 (مادّة لجاجة).
[35] المصدر السابق.
[36] المصدر السابق.
[37] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم 179.
[38] غرر الحكم ، ح 10662.
[39] غرر الحكم ، (طبقاً لنقل ميزان الحكمة ، باب اللجاجة).
[40] غرر الحكم ، (طبقاً لنقل ميزان الحكمة ، باب اللجاجة).
[41] المصدر السابق (مادّة لجاجة).
[42] نهج البلاغة ، الخطبة 192 من الفقرة 22 إلى 23.
[43] نهج البلاغة ، الخطبة 192 ، الفقرة 76 إلى 79.
[44] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 308 ، باب العصبيّة ، ح 7.
[45] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 308.
[46] سورة النحل ، الآية 43.
[47] سورة الزخرف ، الآية 23.
[48] نهج البلاغة ، الخطبة 192.
[49] سورة النساء ، الآية 65.
[50] سورة الأحزاب ، الآية 36.