النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
عبد الله بن عبّاس والنهضة الحسينيّة
المؤلف: معهد سيد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني
المصدر: نهضة عاشوراء
الجزء والصفحة: ج2، ص153-188
29-8-2022
4138
تمهيد[1]:
عبد الله بن عبّاس من الشخصيّات المهمّة المشهورة عند المسلمين سنّةً وشيعةً, وهو يحتلّ مكانةً مرموقةً عندهم، ومع أنّه من التلاميذ المخلصين لأمير المؤمنين عليه السلام, ومن أبرز الشخصيّات الهاشميّة في ذلك الوقت، وقد عاصر ثورة سيّد الشهداء عليه السلام ونهضته، بيد أنّه لم يشارك فيها, وهذا ما سنحاول معرفة أسبابه في هذا البحث.
المقدّمة:
هو عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين في مكّة، وتوفّي سنة ثمان وستّين هجريّة في الطائف.
قال عنه السيّد الخوئيّ قدّس سرّه: عدّه الشيخ الطوسيّ تارةً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرى في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام, وثالثة في أصحاب الحسين عليه السلام, قائلاً: "عبد الله وعبيد الله معروفان"، وعدّه البرقيّ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عنه عطاء بن أبي رباح، في تفسير القمّي: سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، في تفسير قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾.
قال العلّامة في القسم الأوّل من الخلاصة، من الباب (2) من حرف العين: "عبد الله ابن العبّاس، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان محبّاً لعليّ عليه السلام, وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام أشهر من أن يخفى. وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه! وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها رضي الله تعالى عنه" انتهى. وذكره ابن داود في القسم الأوّل (864)، وقال: "عبد الله بن العبّاس (ل- ي) رضي الله عنه، حاله أعظم من أن يشار إليه في الفضل والجلالة ومحبّة أمير المؤمنين عليه السلام وانقياده إلى قوله". انتهى.
وله مفاخرةٌ مع معاوية وعمرو بن العاص وقد ألقمهما حجراً، رواها الصدوق في الخصال: في باب الأربعة، قول معاوية: إنّي لأحبّك لخصالٍ أربع، الحديث 35.
وقد شهد عند معاوية بأنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، ثم ذكر بعد ذلك عليّ بن أبي طالب، والحسن بن علي، والحسين، وأولاده التسعة عليهم السلام . الخصال: باب الاثني عشر، في أنّ الخلفاء والأئمّة بعد النبيّ اثنا عشر، الحديث 41.
ثمّ إنّ الكشّي ذكر في عبد الله بن العبّاس (15) عدّة رواياتٍ مادحة....
هذا والأخبار المرويّة في كتب السير والروايات الدالّة على مدح ابن عبّاس وملازمته لعليّ ومن بعده الحسن والحسين عليهم السلام كثيرة، وقد ذكر المحدّث المجلسيّ قدّس سرّه مقداراً كثيراً منها في أبوابٍ مختلفةٍ من كتابه البحار، من أراد الإطّلاع عليها فليراجع سفينة البحار في مادة عبس. ونحن وإن لم نظفر بروايةٍ صحيحةٍ مادحةٍ، وجميع ما رأيناه من الروايات في إسنادها ضعف، إلّا أنّ استفاضتها أغنتنا عن النظر في إسنادها، فمن المطمأَنّ به صدور بعض هذه الروايات عن المعصومين إجمالاً"[2].
وقال ابن أبي الحديد المعتزليّ: "وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له - أي عليّ عليه السلام - وانقطاعه إليه، وإنّه تلميذه وخرّيجُه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.."[3].
وقال الشيخ حسن بن الشهيد الثاني: "عبد الله بن العبّاس حاله في المحبّة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين، والموالاة والنصرة له، والذبّ عنه، والخصام في رضاه، والموازرة ممّا لا شبهة فيه.."[4].
ابن عبّاس مع أمير المؤمنين عليه السلام:
كان الإمام عليّ عليه السلام يثق بابن عبّاس كثيراً، يدلّ على ذلك ما ذكره الرّيشهريّ نقلاً عن أصحاب السير، من أنّ الإمام عليّاً عليه السلام جعله قائد مقدّمة جيشه في حرب الجمل[5]، وكان آمر ميسرة جيشه في حرب صفّين[6]، وما ذكره أيضاً من أنّه عليه السلام قد استوزره[7] وأنّه عليه السلام كان مصرّاً على تعيينه حكماً مقابل عمرو بن العاص[8]، لكنّ إصرار فئةٍ من جيش الإمام- وهم الذين صاروا خوارج بعد ذلك- حال دون ذلك.
ابن عبّاس وأكذوبة أموال البصرة:
وقد حاول أعداء أهل البيت عليهم السلام الطعن في هذه الشخصيّة الهاشميّة الجليلة فافتروا عليه أكذوبة اختلاس أموال بيت المال في البصرة أيّام كان والياً عليها في حياة أمير المؤمنين عليه السلام, وقد انبرى محقّقون كثيرون من علمائنا لتفنيد هذه الأكذوبة، ولتنزيه ساحة حبر الأمّة من أدرانها، ويحسن هنا أن ننتقي بعض المتون الواردة دفاعاً عن ساحة ابن عبّاس رضي الله عنه: روى السيّد المرتضى في أماليه قال: "دخل عمرو بن عبيد على سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بالبصرة فقال لسليمان: أخبرني عن قول عليّ عليه السلام في عبد الله بن العبّاس: يفتينا في النملة والقملة وطار بأموالنا في ليلة! فقال له: كيف يقول هذا؟! وابن عبّاس لم يفارق عليّاً حتّى قتل، وشهد صلح الحسن عليه السلام ! وأيّ مالٍ يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة عليّ عليه السلام إلى الأموال، وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كلّ خميس ويرشّه، وقالوا: إنّه كان يُقيل فيه! فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة؟! وهذا باطل!"[9].
وقال السيّد الخوئيّ: "هذه الرواية - أي رواية اختلاس أموال البصرة - وما قبلها من طرق العامّة، وولاء ابن عبّاس لأمير المؤمنين وملازمته له عليه السلام هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة وتوجيه التهم والطعون عليه، حتّى إنّ معاوية.. كان يلعنه بعد الصلاة! مع لعنه عليّاً والحسنين وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر كما عن الطبريّ وغيره, وأقلّ ما يقال فيهم أنّهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف كان يلعنهم ويأمر بلعنهم؟!".
إلى أن يقول: "والمتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ عبد الله بن عبّاس كان جليل القدر مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عليهما السلام كما ذكره العلّامة وابن داود"[10].
وقال ابن أبي الحديد: "وقال آخرون وهم الأقلّون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عبّاس عليّاً عليه السلام ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قُتل عليّ عليه السلام .. ويدلّ على ذلك ما رواه أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهانيّ من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لمّا قُتل عليّ عليه السلام . قالوا: وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجرّه إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمّال أمير المؤمنين عليه السلام واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أمير المؤمنين عليه السلام, فما باله وقد علم النبوّة التي حدثت بينهما، لم يستمل ابن عبّاس ولا اجتذبه إلى نفسه، وكلّ من قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مشاقّة ابن عبّاس لمعاوية بعد وفاة عليّ عليه السلام وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وشديد الخصام، وما كان يثني به على أمير المؤمنين عليه السلام ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضدّ لما اشتهر من أمرهما. وهذا عندي هو الأمثل والأصوب"[11].
وقال التستريّ: "الأصل في جعلهم هذا الخبر- اختلاس أموال البصرة - في ابن عبّاس إرادتهم دفع الطعن عن (بعضهم) باستعماله في أيّام إمارته المنافقين والطلقاء- كالمغيرة بن شعبة ومعاوية- وتركه أقرباء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.."[12].
ويحسن هنا أن ننظر إجمالاً في سندي خبري الاختلاس اللذين أوردهما الكشّي: سند الخبر الأوّل: "قال الكشّي: روى عليّ بن يزداد الصائغ الجرجانيّ، عن عبد العزيز بن محمّد بن عبد الأعلى الجزريّ، عن خلف المحروميّ البغداديّ، عن سفيان بن سعيد، عن الزهريّ قال: سمعت الحارث يقول:..."[13].
ويكفي هذا السند ضعفاً وجود سفيان بن سعيد (الثوريّ) فيه، الذي هو ليس من أصحابنا، وورد في ذمّه أحاديث صحيحة[14].
هذا فضلاً عن عدائه لعليّ عليه السلام, ولا ننسى قوله المعروف: "أنا أبغض أن أذكر فضائل عليّ!"[15].
وفي السند أيضاً: الزهريّ الذي عُرف بأنّه كان يدلّس عن الضعفاء[16].
وعُرِف الزهريّ بأنّه أفسد نفسه بصحبة الملوك، وترك بعضهم حديثه لكونه كان مداخلاً للخلفاء![17].
أمّا سند الخبر الثاني فهو:
"قال الكشّي: قال شيخ من أهل اليمامة، يذكر عن معلّى بن هلال، عن الشعبيّ قال:..."[18].
ونقول:
1- لكلمة الشيخ إطلاقات عديدة: منها: من له إلمام بالحديث، الزعيم الدينيّ، رئيس القبيلة، لكنّ هذا العنوان لا محالة مهمل ولا يمكن الاعتماد عليه إذ لا يخرج عن الإبهام والترديد.
2- معلّى بن هلال: قال فيه أحمد بن حنبل: متروك الحديث، حديثه موضوع كذب، وقال فيه ابن معين: هو من المعروفين بالكذب ووضع الحديث. وقال فيه أبو داود: غير ثقة ولا مأمون. وقال سفيان: هذا من أكذب الناس.
وقال في المغني: كذّاب بالاتفاق[19].
3- الشعبيّ: وهو عامر بن شراحيل، قال الشيخ المفيد قدس سره: وبلغ من نصب الشعبيّ وكذبه أنّه كان يحلف بالله أنّ عليّاً دخل اللحد وما حفظ القرآن، وبلغ من كذبه أنّه قال: لم يشهد من الجمل من الصحابة إلّا أربعة، فإن جاؤوا بخامس فأنّا كذّاب.. كان الشعبيّ سكّيراً خمّيراً مقامراً، روي عن أبي حنيفة أنّه خرق ما سمع منه لما خمره وقمره[20].
وروى أبو نعيم، عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق قال: ثلاثة لا يُؤمَنون على عليّ بن أبي طالب: مسروق، ومرّة، وشريح, ورُوي: أنّ الشعبيّ رابعهم[21].
قال الشهيد الثاني: جملة ما ذكره الكشّي من الطعن فيه - أي ابن عبّاس - خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند.."[22].
وقال العلّامة الحلّيّ: ".. وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها"[23].
وقال التفرشيّ: "وما ذكره الكشّي من الطعن فيه ضعيف السند"[24].
ابن عبّاس مع الإمام الحسن عليه السلام:
استمرّ ابن عبّاس بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام في ولائه لأهل البيت الطاهر، وبقي إلى جانب الإمام الحسن، عليه السلام, حتّى استشهاده، فبعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام ولمّا أنهى الإمام الحسن عليه السلام خطبته في الناس، قام عبد الله بن عبّاس بين يديه فقال: "معاشر الناس هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه.."[25]. وكان رضي الله عنه والياً للإمام الحسن عليه السلام على البصرة كما كان والياً لأمير المؤمنين عليه السلام عليها.
موقف ابن عبّاس من الثورة الحسينيّة:
سجّل لنا التأريخ أكثر من محاورةٍ تمّت بين الإمام عليه السلام وبين عبد الله بن عبّاس، وقد كشفت هذه المحاورات في مجموعها عن أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان قد تحرّك في حدود السعي لمنع الإمام عليه السلام من الخروج إلى العراق - لا لمنعه من القيام والثورة على الحكم الأمويّ -، وكانت حجّته في اعتراضه على خروج الإمام عليه السلام إلى الكوفة، أنّ على أهل الكوفة - قبل أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام - أن يتحرّكوا عمليّاً لتهيئة الأمور وتمهيدها للإمام عليه السلام, كأن يطردوا أميرهم الأمويّ أو يقتلوه، وينفوا جميع أعدائهم من الأمويّين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة، ويضبطوا إدارة بلادهم، وآنئذٍ يكون من الرشاد والسداد أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام, وإلّا فإنّ خروج الإمام عليه السلام إليهم- وهم لم يحرّكوا ساكناً بعدُ- مخاطرةٌ لا تكون نتيجتها إلّا القتل والبلوى، وممّا قاله ابن عبّاس للإمام عليه السلام في صدد هذه النقطة:
"أخبرني رحمك الله، أتسير إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك!."[26].
وقال له أيضاً: "..فإن كان أهل العراق يريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلةٌ، وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية"[27].
هذه أهمّ نقطةٍ أثارها عبد الله بن عبّاس في مجموع محاوراته مع الإمام عليه السلام, وهي كاشفةٌ عن محورٍ أساسٍ في تفكير ابن عبّاس يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه السلام واعتراضه فقط على الخروج إلى العراق قبل تحرّك أهله وقيامهم، وهذا فارقٌ كبيرٌ من مجموع الفوارق بين موقف ابن عبّاس وموقف عبد الله بن عمر الذي كان يعترض على أصل القيام ضدّ الحاكم الأمويّ الجائر.
لكنّ هذه النقطة بالذات كاشفةٌ أيضاً عن انتماء ابن عبّاس إلى مجموعة الناصحين والمشفقين الذين نظروا إلى القضيّة بمنظار النصر الظاهريّ الذي لم تكن متطلّباته لتخفى على الإمام عليه السلام, لو كان قد تحرّك بالفعل للوصول إلى ذلك النصر.
والآن فلنأتِ إلى نصوص محاورات ابن عبّاس مع الإمام عليه السلام:
المحاورة الأولى:
وهي محاورةٌ ثلاثيّةٌ كان عبد الله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الأيّام الأولى من إقامة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذٍ ابن عبّاس وابن عمر (وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة)، ونحن نركّز هنا على نصوص التحاور فيها بين الإمام عليه السلام وبين ابن عبّاس، لأنّنا الآن بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.
وقد ابتدأ ابن عمر القول، في هذه المحاورة، محذّراً الإمام عليه السلام من عداوة البيت الأمويّ وظلمهم وميل الناس إلى الدنيا، وأظهر له خشيته عليه من أن يقتل، وأنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "حسينٌ مقتولٌ، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة"[28]، ثمّ أشار على الإمام عليه السلام أن يدخل في صلحٍ ما دخل فيه الناس، وأن يصبر كما صبر لمعاوية!!.
فقال له الحسين عليه السلام : "أبا عبد الرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي أبيه ما قال؟!".
فقال ابن عبّاس: صدقتَ أبا عبد الله، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حياته: "ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد!، وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام, والذي نفسي بيده لا يُقتل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!".
ثمّ بكى ابن عبّاس، وبكى معه الحسين عليه السلام .
وقال: "يا ابن عبّاس، تعلمُ أنّي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!".
فقال ابن عبّاس: "اللّهمّ نعم، نعلمُ ونعرف أنّ ما في الدنيا أحدٌ هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيرك، وأنّ نصرك لفرضٌ على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقدر أن يقبل إحداهما دون الأخرى!".
قال الحسين عليه السلام :"يا ابن عبّاس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره، ومولده، ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقرّ في قرار ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله؟!".
فقال ابن عبّاس: "ما أقول فيهم إلّا ﴿أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾[29]، ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾[30], وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّك رأس الفخار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن نظيرة البتول[31], فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافلٌ عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فما له من خلاق".
فقال الحسين عليه السلام : "اللّهمَّ اشهد".
فقال ابن عبّاس: "جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلّا هو أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عُشر العُشر، وها أنا بين يديك مرني بأمرك".
وهنا يتدخّل ابن عمر ليغيّر مجرى الحوار- حين أحسَّ أنّ الكلام بلغ الدرجة الحرجة بقول الإمام عليه السلام : "اللّهمّ اشهد" أنّ الحجّة قائمةٌ على المخاطب، وصار الحديث على لسان ابن عبّاس الذي أدرك مغزى "اللّهمّ اشهد" في وجوب نصرة الإمام عليه السلام ووجوب الانضمام إلى رايته في القيام ضدّ الحكم الأمويّ، الأمر الذي يعني أنّه (أي ابن عمر) مقصودٌ أيضاً بالامتثال لهذا الواجب- فقال لابن عبّاس: "مهلاً، ذرنا من هذا يا ابن عبّاس!!".
ثمّ عطف يخاطب الإمام عليه السلام داعياً إيّاه إلى الرجوع إلى المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتّى يهلك يزيد!!، ويدّعي ابن عمر هنا أنّ الإمام عليه السلام متروك ولا بأس عليه إن هو ترك القيام حتّى وإنْ لم يبايع!!
وهنا يُظهر الإمام عليه السلام تبرّمه من منطق ابن عمر، ثمّ يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طهره ورشده ومنزلته الخاصّة ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الأمويّين لا يتركونه حتّى يبايع أو يُقتل، ثمّ يدعوه إلى نصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لا يسارع بالبيعة!!
ثمّ أقبل الإمام الحسين عليه السلام على ابن عبّاس رحمه الله..
فقال: "يا ابن عبّاس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليّ شيءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبُّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل عليه السلام يومَ أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النّار عليه برداً وسلاماً".
.. فبكى ابن عبّاس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسين عليه السلام يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عبّاس إلى المدينة[32].
تأمّل وملاحظات:
1- أكّد ابن عبّاس رضي الله عنه - في أوّل ما نطق به خلال هذه المحاورة - أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان قد بلّغ الأمّة بأنّ يزيد قاتل الحسين عليه السلام, وأنّ على الأمّة أن تحمي الإمام عليه السلام وتنصره، وقد حذّر صلى الله عليه وآله وسلم الأمّة بأنّ الإمام عليه السلام لا يُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! وقد أكّد ابن عمر أيضاً على وقوع هذا التحذير والإنذار النبويّ حيث قال إنّه سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولم ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة"، وهذا يعني أنّ الأمّة كان قد شاع في أوساطها خبر ملحمة مقتل الحسين عليه السلام وأنّ يزيد قاتله، وأنّ على الأمّة التحرّك لحماية الإمام عليه السلام ونصرته!! لكنّ الأمّة بعد خمسين سنة من ارتحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعمتها أضاليل حركة النفاق عامّة، وفصيل الحزب الأمويّ منها خاصّة، فتناءت عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحذيراته، الأمر الذي استشعر ابن عبّاس مرارته ونتائجه الخطيرة فبكى، وشاركه الإمام عليه السلام في البكاء!
2- أكّد ابن عبّاس رضي الله عنه في هذه المحاورة على معرفته بمقام الحسين عليه السلام وضرورة موالاته ونصرته، بدليل قوله: ".. وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة.."، وفي قوله: ".. لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عُشر العُشر..".
3- كما أكّد رضي الله عنه على معرفته بكفر الأمويّين ونفاقهم، وأنّهم ومن أطاعهم في محاربة الإمام عليه السلام ممّن لا نصيب لهم من الخير في الآخرة.
4- قد يُستفاد من قوله رضي الله عنه: "كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك... إلى قوله: وها أنا بين يديك مُرني بأمرك" أنّه وإن كان كبير السنّ يومذاك لكنّه كان صحيح القوى، سليم الجوارح، وإلّا لما عرض استعداده للنصرة والجهاد، فلم يكن مكفوف البصر مثلاً- كما يُستفاد ذلك من رواية لقائه بأمّ سلمة رضي الله عنه بعد سماع صراخها تنعى الحسين عليه السلام [33]- نعم يمكن القول إنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته مع ابن عبّاس لم يطلب منه الالتحاق به ونصرته، ممّا يقوّي القول بأنّه كان ضعيف البصر جدّاً أو مكفوفاً آنذاك، ومعذوراً عن الجهاد، إلّا أنّه رضي الله عنه عرض للإمام عليه السلام استعداده للجهاد والتضحية بين يديه استشعاراً منه لوجوب نصرة الإمام عليه السلام والذبِّ عنه وإنْ كان معذوراً.
5- وقد يُستفاد أيضاً من أحد نصوص هذه المحاورة أنّ الإمام عليه السلام رخّص لابن عبّاس رضي الله عنه بالبقاء وعدم الالتحاق بركبه، حيث قال عليه السلام له: "فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليّ شيء من أخبارك".
6- أخبر الإمام عليه السلام ابن عبّاس رضي الله عنه- في الأيّام الأولى من إقامته في مكّة المكرّمة - أنّ الأمويّين يريدون قتله وسفك دمه!، والإمام عليه السلام بهذا ربّما أراد أن يُخبر عن وجود خطّة وضعتها السلطة الأمويّة المركزيّة بالفعل لقتله في المدينة أو في مكّة، أو أراد أن يُخبر عن حقيقة أنّه (ما لم يبايع يُقتل)، مؤكّداً بذلك على عدم صحّة دعوى بعض من يقول- كابن عمر مثلاً - إنّه عليه السلام لا بأس عليه ولا خطر إن ترك المعارضة وصبر حتّى وإن لم يبايع!
7- ومع علمه عليه السلام بأنّه ما لم يبايع يقتل! ومع إصراره على أن لا يكون هو الذي تُستباح بقتله حرمة البيت الحرام! يمكننا أن نفهم قوله عليه السلام لابن عبّاس رضي الله عنه في ختام هذه المحاورة: "فإنّي مستوطن هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيت أهله يحبُّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم.." أنّه عليه السلام أراد أن يطمئن ابن عبّاس (والمحاورة في أوائل الأيّام المكيّة) أنّه باقٍ أيّاماً غير قليلة في مكّة، وأنّ هنالك متّسعاً من الوقت، وإلّا فإنّ الإمام عليه السلام قد جعل استيطانه الحرم مشروطاً بحبّ أهله إيّاه ونصرتهم له! وهو عليه السلام يعلم أنّه ليس في (المكيّين) إلّا نزر قليل جدّاً ممّن يحبّ أهل البيت عليهم السلام[34]، فليس له في مكّة قاعدة شعبيّة تحميه وتنصره في مواجهة السلطة الأمويّة.
المحاورة الثانية:
ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت بين ابن عبّاس رضي الله عنه وبين الإمام عليه السلام بعد رجوع ابن عبّاس من المدينة إلى مكّة المكرّمة مرّةً أخرى، إذ تقول الرواية التأريخيّة: "وقدم ابن عبّاس في تلك الأيّام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مُسلِّماً.
ثمّ قال له: جُعلتُ فداك، إنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق! فبيّن لي ما أنت عليه؟[35].
فقال: "نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي[36] هذه إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم".
فقال ابن عبّاس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنّك إنْ سرت إلى قومٍ قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، واتقوا عدوّهم[37]، ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد، وإن سرت إلى قومٍ دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم، وعمّالهم يجبون بلادهم[38]، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال! وأنت تعلمُ أنّه بلدٌ قد قتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله (!) وعبيد الله في البلد يفرض ويُعطي، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن تُقتل، فاتقِ الله والزم هذا الحرم، فإن كنت على حالٍ لا بدّ أن تشخص فَصِرْ إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.
فقال الحسين عليه السلام : "لا بُدَّ من العراق!".
قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءَك فيُقال إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوالله ما آمَنُ أن تُقتل ونساؤك ينظرن كما قُتل عثمان.
فقال الحسين عليه السلام : "والله يا ابن عمّ، لئن أُقتل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون"[39].
تأمّل وملاحظات:
1- يمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة من قرائن متون روايتها أنّها حصلت في الأيّام الأخيرة من إقامة الإمام عليه السلام في مكّة، بدليل قوله عليه السلام "قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه.."، أو أنّها حصلت في اليوم الأخير أو اليوم الذي قبله، بدليل قوله عليه السلام كما في رواية الطبريّ: "قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين..".
2- تؤكّد نصوص هذه المحاورة أنّ تصميم الإمام عليه السلام على التوجّه إلى العراق قد شاع في الناس في مكّة وغيرها، خصوصاً في الأيّام الأواخر من إقامته فيها، وهذا لا ينافي أن يبقي موعد السفر سرّيّاً لو أراد الإمام عليه السلام ذلك، مع أنّ نفس موعد سفر الركب الحسينيّ من مكّة لم يكن سرّيّاً إذ كان الإمام عليه السلام قد أعلن عنه في خطبته قبيل سفره حين قال فيها: "... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى"[40].
3- في هذه المحاورة يتجلّي المحور الأساس في تفكير ابن عبّاس رضي الله عنه وموقفه من قيام الإمام عليه السلام فهو مع القيام، وضدّ الخروج إلى العراق قبل أن يتحرّك أهله عمليّاً لترتيب وتهيئة الأوضاع وتمهيدها استقبالاً لمقدم الإمام عليه السلام إليهم، وهذه المقولة صحيحة في حدود منطق النصر الظاهريّ الذي كانت تنطلق منه مشورات ابن عبّاس رضي الله عنه ونصائحه، واللافت للانتباه أنّ الإمام عليه السلام لم يخطِّئ مثل هذه المشورة والنصيحة في جميع المحاورات التي طُرحت فيها من قبل ابن عبّاس وغيره[41]، بل كان يعلّق عليها بما يُشعر بصحّتها في حدود منطق الظاهر[42].
4- في ضوء منطق (الظاهر) يمكن للمتابع المتأمّل أن يفسّر قول الإمام عليه السلام "لا بدّ من العراق" أنّ إصراره عليه السلام على التوجّه إلى العراق كان بسبب رسائل أهل الكوفة إليه، إذ شكّلت هذه الرسائل حجّة على الإمام عليه السلام في وجوب الاستجابة لهم والتوجّه إليهم، خصوصاً بعد وصول رسالة مسلم بن عقيل عليه السلام إليه وقد أخبره فيها بأنّ عدد المبايعين له في الكوفة بلغ ثمانية عشر ألفاً (أو أكثر)، وطالبه فيها بالقدوم إليهم، ويؤيّد هذا ما رُوي عنه عليه السلام أنّه قال لابن عبّاس في محاورة أخرى: ".. وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم وقد وجب عليّ إجابتهم، وقام لهم العذر عليّ عند الله سبحانه"[43].
أمّا في ضوء منطق "العمق" فإنّ قوله عليه السلام "لا بدّ من العراق" مع علمه بأنّ أهل الكوفة سوف يقتلونه ومن معه من أنصاره وتصريحات الإمام عليه السلام بأنّه سوف يُقتل كثيرة متضافرة لا بدّ أن يفسّر بأنّ الإمام عليه السلام يعلم أيضاً أنّ العراق هو الأرض المختارة للمصرع المختار، وميدان الواقعة الحاسمة، واقعة "الفتح بالشهادة"، الواقعة التي تكون نتائجها جميعاً لصالح الإسلام المحمّديّ الخالص وأهل البيت عليهم السلام إلى قيام الساعة، ذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم إسلاميّ آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلاميّاً ونفسيّاً لصالح الأمويّين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح، فالعراق، آنذاك، هو أرض المصرع المختار لما ينطوي عليه من استعدادات للتأثّر بالحدث العظيم "واقعة عاشوراء" والتغيّر على هدي إشعاعاتها.
ويؤيّد هذا التفسير (في العمق) أنّ الإمام عليه السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه إلى الكوفة حتّى بعد انتفاء حجّة أهل الكوفة عليه عمليّاً حين بلغه خذلانهم لمسلم عليه السلام الذي أمسى وحيداً وجاهد وحيداً حتّى قُتل!
5- ورد في هذه المحاورة قول ابن عبّاس رضي الله عنه للإمام عليه السلام : ".. وأنت تعلمُ أنّه بلدٌ قد قتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله!..." ولا شكّ أنّ المراد بـ (ابن عمّك) هو مسلم بن عقيل عليه السلام, ولذا فإنّ هذه العبارة شاذّة ومخالفة للمشهور الثابت، ذلك لأنّ خبر مقتل مسلم عليه السلام أتى الإمام الحسين عليه السلام بعد خروجه من مكّة في منزل من منازل الطريق (زرود)، ولعلّ هذه العبارة قد أُدخلت إدخالاً على أصل متن هذه المحاورة عمداً أو سهواً، والله العالم.
كذلك الأمر في قول ابن عبّاس رضي الله عنه للإمام عليه السلام : ".. فاتقِ الله والزم هذا الحرم.."، ذلك لأنّ فيه من سوء الأدب في مخاطبة الإمام عليه السلام ما يبعد صدوره جدّاً عن ابن عبّاس رضي الله عنه العارف بمقام الإمام الحسين عليه السلام خاصّة وبمقام أهل البيت عليهم السلام عامّة.
6- يمكن حمل قول الإمام عليه السلام : ".. لئن أُقتل بالعراق أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة.." على أصل إصرار الإمام عليه السلام ألّا يكون هو القتيل في مكّة الذي تُستحلّ به حرمة هذا البيت، ويمكن حمل هذا القول أيضاً على حقيقة علمه عليه السلام بأنّ العراق هو أفضل أرض للمصرع المختار، كما قدّمنا قبل ذلك، ولأنّ الواقعة التي يُقتل عليه السلام فيها على أرض العراق سوف تكون إعلاميّاً وتبليغيّاً (على الأقلّ) في صالح الإمام عليه السلام تماماً بحيث لا يتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان هذه الأمّة ويحرّكها بالاتجاه الذي أراده الحسين عليه السلام, وهذا بخلاف ما لو قتِل الإمام عليه السلام بمكّة غيلة في خفاء أو علانية، قتلة يمكن للعدوّ أن يُغطّي عليها ويتنصّل من مسؤوليّته عنها، بل يستفيد من نفس الحادثة لصالحه إعلاميّاً، إذ يقتل القاتل الذي كان قد أمره هو بقتل الإمام عليه السلام فيظهر للأمّة بمظهر المطالب بدم الإمام عليه السلام الثائر له، فتنطلي اللعبة على أكثر الناس، وتبقى مأساة الإسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ.
7- في ختام هذه المحاورة نقف أمام قول الإمام عليه السلام : "وما قضى اللّه فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون"، وقد تكرّر قوله عليه السلام "أستخير الله" في بعض محاوراته عليه السلام مع ابن الزبير وابن مطيع، وفي ردّه على كتاب المسوّر بن مخرمة.
فهل عنى الإمام عليه السلام بالاستخارة طلب معرفة ما فيه الخيرة من الأمور؟! وهل يعني هذا أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار نهضته منذ البدء، ولم يكن لديه علم بما هو قادم عليه من مصير في مستقبل أيّامه، وأنّ بوصلة الاستخارة هي التي كانت توجّه حركته؟!
وهل يوافق هذا: الاعتقاد الحقّ بالشرائط اللازمة للإمامة المطلقة المتجسّدة في شخصيّات أئمّة أهل البيت عليهم السلام بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً على صعيد "علم الإمام عليه السلام ؟!
وهل يصدّق هذا التراث الروائيّ الكبير المتضافر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعنهم عليهم السلام في إخباراتهم عن (الملاحم والفتن) إلى قيام الساعة، وخصوصاً الإخبارات المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعن عليّ والحسن والحسين عليهم السلام بصدد (ملحمة عاشوراء)؟!
قبل الإجابة يحسن بنا أن نتعرّض، هنا، إلى معنى الاستخارة لغة واصطلاحاً.
معنى الاستخارة:
الاستخارة لغةً: طلب الخِيرَة في الشيء، واستخار الله: طلب منه الخيرة، و: أللّهمّ خِر لي: أي اختر لي أصلح الأمرين[44].
وهي اصطلاحاً كما ورد في الروايات على معانٍ:
1- بمعنى طلب الخيرة من الله، بأن يسأل الله في دعائه أن يجعل له الخير ويوفّقه في الأمر الذي يريده.
2- بمعنى تيسّر ما فيه الخيرة. وهو قريب من الأوّل.
3- طلب العزم على ما فيه الخير، بمعنى أن يسأل الله تعالى أن يوجد فيه العزم على ما فيه الخير.
4- طلب معرفة ما فيه الخيرة، وهو المتداول في العرف[45].
لنرجع إلى أصل المسألة..
لا شكّ أنّ مراد الإمام عليه السلام من الاستخارة ليس معناها المتداول في يومنا هذا: وهو طلب معرفة ما فيه الخيرة، وأنّه عليه السلام كان يريد استكشاف الغيب بطريق الرجاء بلا جزم ويقين!!
إذ إنّ هذا ينافي الاعتقاد الحقَّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام عندهم علم ما كان وما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة موهبة من الله تبارك وتعالى، كما ينافي هذا روايات أخبار (الملاحم والفتن) الكثيرة المأثورة عنهم عليهم السلام والكاشفة عن علمهم بمسار وتفاصيل حركة أحداث العالم إلى قيام الساعة، وخصوصاً أخبار (ملحمة عاشوراء) المأثورة عن الخمسة أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير صلوات الله عليهم أجمعين[46].
إذاً فمعنى الاستخارة، هنا، من الممكن أن يكون هو الدعاء إلى الله تبارك وتعالى في أن يجعل له عليه السلام الخير في مسعاه ويوفّقه في الأمر الذي يريده، أو أن ييسّر له ما فيه الخير بتذليل كلّ الصعوبات والعوائق لبلوغ ما يبتغيه عليه السلام في طريق نهضته المقدّسة، أو الدعاء إلى الله تبارك وتعالى في طلب المزيد من العزم والتصميم على ما فيه الخير وجزيل المثوبة.
ولا شكّ أنّ المتابع المتأمّل يُدرك أنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته التي ذكر فيها أمر الاستخارة أراد بذلك أن يُسكت المخاطب عن الإلحاح في نهيه عمّا هو عازم عليه.
ولا ينافي ما قدّمنا إذا حدّثنا التأريخ أنّ الإمام عليه السلام لجأ لقطع إلحاح المحاور، إلى الاستفتاح بالقرآن، وهو يعلم نتيجة الاستفتاح مسبّقاً كما فعل ذلك مع ابن عبّاس نفسه، فقد رُوي "أنّ ابن عبّاس ألحّ على الحسين عليه السلام في منعه من المسير إلى الكوفة، فتفاءل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[47]، فقال عليه السلام : "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله". ثمّ قال: "يا ابن عبّاس، فلا تُلحَّ عليّ بعد هذا فإنه لا مردّ لقضاء الله عزّ وجلّ"[48].
المحاورة الثالثة:
يقول التأريخ: فلمّا كان من العشيّ أو من الغد أتى الحسين عبد الله بن عبّاس...
فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدرٍ، فلا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإنْ أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلةٌ ولأبيك بها شيعةٌ وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثّ دُعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية!
فقال له الحسين عليه السلام : "يا ابن عمّ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصحٌ مشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير!".
فقال له ابن عبّاس: فإن كنت سائراً فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك، فواللهِ إنّي لخائفٌ أن تُقتلَ كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه!
ثمّ قال ابن عبّاس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، والله الذي لا إله إلّا هو، لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني لفعلتُ ذلك!!
قال ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده فمرَّ بعبد الله بن الزبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير! ثمّ قال:
يَاْ لَكِ مِنْ قُنْبُرَةٍ بمَعْمَرِ خَلَاْ لَكِ الْجَوُّ فَبيِضِيْ وَاصْفِرِيْ
وَنَقِّرِيْ مَاْ شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِيْ
هذا حسينٌ يخرج إلى العراق! وعليك بالحجاز![49].
المحاورة الرابعة:
روى الطبريّ (الإماميّ) المحاورة الرابعة عن عبد الله بن عبّاس قال: لقيتُ الحسين بن عليّ وهو يخرج إلى العراق..
فقلت له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!
قال فقال لي: "يا ابن عبّاس، أما علمتَ أنَّ منيّتي من هناك وأنّ مصارع أصحابي هناك؟!"
فقلتُ له: فأنّى لك ذلك؟
قال: "بسِرٍّ سُّرَّ لي وعلمٍ أُعطيته!"[50].
إشارةٌ:
لا يخفى على المتأمّل في ما عثرنا عليه من متون محاورات عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه مع الإمام الحسين عليه السلام, ظهور حقيقة - ما قدّمناه من قبل - أنّ المحور الأساس في تفكير ابن عبّاس رضي الله عنه هو تأييده لقيام الإمام عليه السلام, ومعارضته لخروجه إلى العراق قبل تحرّك أهله عمليّاً لنصرته.
ولم نعثر- حسب تتبّعنا - على نصٍّ منسوبٍ إلى ابن عبّاس رضي الله عنه يفيد أنّه كان معارضاً لقيام الإمام عليه السلام, أو أنّه رضي الله عنه نهى عن القيام، إلّا ما ورد في كتاب (أسرار الشهادة) للدربنديّ قدس سره نقلاً عن كتاب (الفوادح الحسينيّة)[51] ، عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه قال للإمام الحسين عليه السلام في ختام واحدةٍ من محاوراته بعد أن بكى بكاءً شديداً: "يعزُّ واللّهِ عليّ فراقك يا ابن العمّ. (ثمّ أقبل على الحسين وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أميّة!!).
فقال الحسين عليه السلام: "هيهاتَ هيهاتَ يا ابن عبّاس، إنّ القوم لم يتركوني، وإنّهم يطلبونني أين كنت حتّى أبايعهم كرهاً ويقتلوني، والله لو كنتُ في جحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللّه إنّهم ليعتدُون عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون"[52].
ونقل صاحب كتاب "معالي السبطين" هذه المحاورة قائلاً: وفي بعض الكتب:
جاء عبد الله بن عبّاس إلى الحسين عليه السلام وتكلّم معه بما تكلّم, إلى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أمية!!, وفي نقله إضافةً إلى نقل الدربنديّ أنّ ابن عبّاس قال للإمام عليه السلام بعد ذلك: يا ابن العمّ، بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب فلا تعجل فأقم بمكّة!
فقال عليه السلام : "لأنْ أقتل والله بمكان كذا أحبّ إليَّ من أن أُستحلّ بمكّة، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب عليّ إجابتهم وقام لهم العذر عليّ عند الله سبحانه!".
فبكى عبد الله حتّى بُلَّت لحيته، وقال: وا حسيناه، وا أسفاه على حسين[53].
والملاحظ المتأمّل يرى:
1- أنّ ما ورد في هذين الكتابين من دعوى: أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه أشار على الإمام عليه السلام بالدخول في صلح بني أميّة وطاعة يزيد, شاذٌّ غريبٌ مخالفٌ للمشهور الوارد في الكتب المعتبرة.
2- أنّ صاحب أسرار الشهادة ينسب هذه الدعوى إلى كتاب الفوادح الحسينيّة (لا نعرفه في الكتب المعتبرة)، وصاحب معالي السبطين ينسبها إلى (بعض الكتب!)، ولا يخفى أنّها نسبةٌ ظاهرة الضعف.
3- أنّ عبارة الدعوى نفسها ليست قولاً نطق به ابن عبّاس فنقل عنه، بل هي من إنشاء صاحب أسرار الشهادة وصاحب معالي السبطين.
4- وهناك أيضاً تعارضٌ بيّن بين عبارتي صاحبي أسرار الشهادة ومعالي السبطين، ففي الأولى: (وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة)، أي أنّ المحاورة حصلت بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة، وفي الثانية: (فلا تعجل فأقم بمكّة) أي أنّ المحاورة حصلت في مكّة.
كما لا يخفى أنّ القول بأنّ المحاورة حصلت بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة أشدّ شذوذاً من أصل الدعوى نفسها لأنّ المشهور الثابت أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه لم يلتق الإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة المكرّمة.
خلاصة القضيّة: إنّ هذه الدعوى الشاذّة لا تستند ٍ إلى دليلٍ معتبرٍ يمكن الاطمئنان إليه، بل لا دليل عليها، ويبقى الأصل المستفاد من المتون المعتبرة صحيحاً في أنّ موقف ابن عبّاس رضي الله عنه يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه السلام, ومعارضته لخروجه إلى العراق قبل تحرّك أهله عمليّاً لنصرته. نعم، هناك قولٌ للسيّد ابن طاووس قدس سره مبهم الدلالة وهو: وجاء عبد الله بن عبّاس رضوان الله عليه، وعبد الله بن الزبير فأشارا عليه بالإمساك، فقال لهما: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه". قال فخرج ابن عبّاس وهو يقول: وا حسيناه![54].
ولا دلالة في هذه العبارة الغامضة: (فأشارا عليه بالإمساك) على أنّ ابن عبّاس أشار على الإمام عليه السلام بترك القيام، بل الأقوى دلالتها على ترك الخروج إلى العراق بقرينة المتون التفصيليّة الأخرى ذات المضمون نفسه التي أجاب فيها الإمام عليه السلام ابن عبّاس رضي الله عنه بأنّه ماضٍ إلى العراق بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لماذا تخلّف ابن عبّاس عن الإمام؟
عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلّب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمّة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[55]، عارفاً بحقّهم، موقناً بأنّ نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرضٌ كفرض الصلاة والزكاة[56]، وكانت سيرته مع الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام كاشفةً عن هذا الإيمان وهذا اليقين وهذه المعرفة[57]، وكان رضي الله عنه لا يتردّد في إظهار اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به من موالاتهم وحبّهم والانقياد لهم والامتثال لأمرهم، ومن جميل ما يُروى في ذلك أنّ مُدرك بن زياد اعترض على ابن عبّاس حين رآه ذات يومٍ وقد أمسك للحسن والحسين عليه السلام بالركاب وسوّى عليهما: قائلاً: أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب؟!
فقال: يا لُكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ليس ممّا أنعم الله به عليّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما؟![58].
وكان ابن عبّاس رضي الله عنه قد حفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام، والأرض التي يُقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قائلاً: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خرجته إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو بشطّ الفرات قال بأعلى صوته: "يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟"
قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!
فقال عليه السلام: "لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي!"
قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً وهو يقول: "أوّه أوّه، ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم"[59].
وكان ابن عبّاس رضي الله عنه يقول: ما كنّا نشكّ، وأهل البيت متوافرون، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ!.[60]
إذاً لِمَ لم يلتحق ابن عبّاس (رض) بالركب الحسينيّ ليفوز بشرف نصرة سيّد المظلومين عليه السلام وبشرف الشهادة بين يديه؟!
هل اثّاقل إلى الأرض وآثر الدنيا على الآخرة بعد عمرٍ شريفٍ عامرٍ بالجهاد ونصرة الحقّ؟!
إنّ العارف بسيرة ابن عبّاس (رض) قد يرفض حتّى التفكير في مثل هذا السؤال! أوليس ابن عبّاس هو القائل في محاورته الأولى مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة في شعبان سنة 60 للهجرة: جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! واللهِ الذي لا إله إلّا هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عُشر العُشر! وها أنا بين يديك مرني بأمرك.
إذاً هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة على النصرة؟!
إذا علمنا أنّ ابن عبّاس (رض) توفّي سنة 68 للهجرة أو 69 وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون[61]، أدركنا أنّ عمره سنة 60 للهجرة كان اثنين وستّين عاماً أو ثلاثة وستّين عاماً، فهو أكبر من الإمام الحسين عليه السلام بحوالي خمسة أعوام، إذاً فقد كان قادراً على الجهاد مع الإمام عليه السلام من حيث السلامة البدنيّة، خصوصاً وأنّه لم يُروَ أنّ ابن عبّاس كان مريضاً آنذاك، كما روي بصدد محمّد بن الحنفيّة (رض) مثلاً.
فما هي علّة تخلّفه إذاً؟!
لعلّ المتأمّل في موضوع علّة عدم التحاق ابن عبّاس (رض) بالإمام عليه السلام في نهضته المقدّسة يلاحظ- قبل الوصول إلى الجواب- نقطتين مهمّتين تساعدان على الاطمئنان إلى أنّه كان معذوراً، وهما:
1- في جميع ما رُوي من لقاءات ومحاورات ابن عبّاس مع الإمام الحسين في مكّة سنة ستّين للهجرة، لا يجد المتتبّع أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عبّاس دعوةً مباشرةً إلى نصرته كما صنع مثلاً مع ابن عمر، وحتّى حينما قال الإمام عليه السلام في محاورته الأولى مع ابن عبّاس وابن عمر: "اللّهمّ اشهد"[62]أدرك ابن عبّاس مغزى قول الإمام عليه السلام, وبادر إلى إظهار استعداده للنصرة والجهاد بين يدي الإمام عليه السلام وعدا هذا لا يجد المتتبّع أيّة إشارةٍ من قريبٍ أو بعيدٍ مؤدّاها أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عبّاس إلى نصرته.
2- لم نعثر- حسب تتبّعنا - على نصٍّ تأريخيٍّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يفيد أنّ ابن عبّاس كان مقصّراً وملوماً ومداناً على عدم التحاقه بالإمام الحسين عليه السلام, بل لم نعثر على نصٍّ تأريخيٍّ عامٍّ يشير إلى إدانته[63]سوى هذا النصّ الذي نقله ابن شهرآشوب مرسلاً: وعُنِّفَ ابن عبّاس على تركه الحسين فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم![64] ، ويظهر من هذا النصّ أنّ ابن عبّاس لم يكن معذوراً في تركه الإمام عليه السلام , لكنّ إرسال هذا الخبر، ومجهوليّة المعنِّف، ومعلوميّة ولاء ابن عبّاس (رض) لأهل البيت عليهم السلام, كلّ ذلك يفرض عدم الاطمئنان إلى صدر هذا الخبر، أي وعُنِّف ابن عبّاس!.
بعد هذا، ينبغي أن نذكّر بأنّ ابن عبّاس قد كفَّ بصرُه آخر عمره، وهذا متّفقٌ عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كفَّ بصره[65]، وتعبير "كفَّ بصره" مشعرٌ بأنّ الضعف كان قد دبّ إلى بصره حتّى استفحل عليه فكفّه عن رؤية الأشياء، ولعلَّ هذا الضعف كان قد دبّ إلى بصره منذ أيّام معاوية (ويحتمل أنّ بصر ابن عبّاس قد كفَّ أواخر سِني معاوية)، هذا ما يشعر به قول ابن قتيبة في المعارف حيث يقول: ثلاثة مكافيف في نسق: عبد الله بن عبّاس، وأبوه العبّاس بن عبد المطلّب، وأبوه عبد المطلب بن هاشم. قال: ولذلك قال معاوية لابن عبّاس: أنتم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عبّاس: وأنتم يا بني أميّة تُصابون في بصائركم![66] ، فلولا أنّ بصر ابن عبّاس (رض) كان قد ضعف جدّاً، أو قد كفّ بصره آنذاك، لما كان لقول معاوية مناسبةٌ ولا داعٍ.
ويقول مسروق: كنتُ إذا رأيت عبد الله بن عبّاس قلتُ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس، فإذا تحدّث قلتُ: أعلم الناس، وكان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويُدنيه ويشاوره مع جلّة الصحابة، وكفَّ بصره في آخر عمره[67].
فإذا علمنا أنّ مسروقاً هذا قد مات سنة 62 أو 63 للهجرة[68]، أمكن لنا أن نقول: إنّ ابن عبّاس كان مكفوفاً قبل سنة 62 أو 63 على الأظهر، هذا على فرض أنّ عبارة (وكفّ بصره في آخر عمره) من قول مسروقٍ أيضاً.
وهناك روايةٌ يمكن أن يُستفاد من ظاهرها أنّ ابن عبّاس (رض) كان ضعيف البصر جدّاً أو مكفوفاً أوائل سنة إحدى وستّين للهجرة، في الأيّام التي لم يكن خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام قد وصل بعدُ إلى أهل المدينة المنوّرة.
هذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي قدس سره في أماليه بسندٍ إلى سعيد بن جبير (وهو الذي كان يقود ابن عبّاس بعد أن كفَّ بصره)، عن عبد الله بن عبّاس قال: بينا أنا راقدٌ في منزلي، إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها!، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميّات وقالت: يا بنات عبد المطلّب، أسعدنني وابكين معي، فقد واللهِ قتل سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد واللّه قُتل سبط رسول اللّه وريحانته الحسين.
فقيل: يا أُمَّ المؤمنين، ومن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: "قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم".
قالت: فقمتُ حتّى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل! فنظرتُ فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك! وأعطانيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "اجعلي هذه التربة في زجاجةٍ - أو قال في قارورةٍ - ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين". فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.
قال: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطّخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحةً على الحسين عليه السلام, فجاءت الركبان بخبره، وأنّه قد قُتل في ذلك اليوم...[69].
فقول ابن عبّاس (رض): فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها, كاشفٌ- على الأقوى - عن مكفوفيّة بصره آنذاك (أو عن ضعفٍ شديدٍ جدّاً في بصره)، لحاجته إلى قائدٍ يقوده هو، وليس إلى قائد يقود دابته- كما قد يحتمل - وذلك لقرب المسافة، بدليل أنّه سمع الصراخ بأذنيه وشخّص أنّ الصراخ كان ينبعث من بيت أمّ سلمة رضي الله عنه.
ممّا مضى نكاد نطمئنّ إلى أنّ ابن عبّاس (رض) كان يعاني من ضعفٍ شديدٍ في بصره أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستّين للهجرة، وبالذات في الأيّام التي كان فيها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الالتحاق بالإمام عليه السلام والجهاد بين يديه، فكان (رض) معذوراً، ولعلّ هذا هو السرُّ في عدم دعوة الإمام عليه السلام إيّاه للانضمام إليه، وترخيصه إيّاه في العودة إلى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأمويّة والناس فيها، حيث يقول عليه السلام : "يا ابن عبّاس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخفَ عليّ شيءٌ من أخبارك..."[70].
ولا يقدح بما نطمئنّ إليه ما أورده المسعوديّ في مروج الذهب حيث يقول في ابن عبّاس رضي الله عنه: وكان قد ذهب بصره لبكائه على عليّ والحسن والحسين..[71] ، إذ لا يُستفاد من هذا النصّ بالضرورة أنّه صار مكفوفاً بعد مقتل الحسين عليه السلام, بل الظاهر من هذا النصّ أنّ الذي سبب ذهاب بصره هو كثرة بكائه المتواصل لفقد أمير المؤمنين عليٍّ[72] والحسن والحسين عليهم السلام, ومؤدّى ذلك أنّ الضعف قد دبّ إلى بصره لكثرة بكائه منذ أيّام فقده لأمير المؤمنين عليه السلام ثمّ لفقده الحسن عليه السلام[73], ثمّ الحسين عليه السلام, ولا يخفى أنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان يبكي بكاءً شديداً للحسين عليه السلام وهو بعدُ لم يخرج ولم يُستشهد، لعلمه بما سيصيب الإمام عليه السلام من شديد المحنة ولعلمه بمصيره، والدلائل التأريخيّة على ذلك كثيرةٌ متوافرةٌ.
رسائل ابن عبّاس إلى يزيد:
تروي لنا بعض كتب التأريخ أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا نزل مكّة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عبّاس رسالةً طلب إليه فيها أن يتوسّط في الأمر ليثني الإمام الحسين عليه السلام عن عزمه على القيام
والخروج على الحكم الأمويّ، وعرض فيها يزيد من الإغراءات الدنيويّة ما يتناسب وضعف نفسيّته هو!- أي يزيد -.
وتقول هذه المصادر التأريخيّة: فكتب إليه ابن عبّاس: أمّا بعدُ: فقد ورد كتابُك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة، فأمّا ابن الزبير فرجلٌ منقطع عنّا برأيه وهواه، يُكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وريَ الزناد، لا فكّ اللّه أسيرها، فارإ في أمره ما أنت رائه.
وأمّا الحسين فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألته عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرت
إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويُطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمّة، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً وأنت تريد لمسلمٍ غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر
له مهواة، فكم من حافرٍ لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّلٍ أملاً لم يؤتَ أمله، وخذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السُنّة! وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فإنّ كلَّ ما شُغلت به عن اللّه يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام"[74].
وقد روى المزّيّ جواب ابن عبّاس مختصراً هكذا: فكتب إليه عبد الله بن عبّاس: إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الألفة ويُطفئ به الثائرة"[75].
ويبدو من نصّ هذه الرسالة - جواب ابن عبّاس - على فرض صحّة الرواية، أنّ هذه الرسالة كانت بعد لقاء ابن عبّاس مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة لقاءه الأوّل الذي عاد بعده إلى المدينة (بعد الفراغ من العمرة)، كما يُستفاد من نصّها أنّ ابن عبّاس قَبِل القيام بدور الوساطة بين الإمام عليه السلام وبين يزيد! كما يظهر من نصّها أيضاً أنّ ابن عبّاس اعتمد أسلوب الملاينة دون التقريع حتّى في نهيه عن ارتكاب الظلم واجتراح المآثم!
والعارف بعبد الله بن العبّاس رضي الله عنه، وبولائه لأئمّة أهل البيت عليهم السلام وبجرأته في الذَوْدِ عنهم، وبشدّته وقاطعيّته في المحاماة عنهم في محاوراته مع رجال بني أميّة، لا يستبعد أن يكون نصّ هذه
الرسالة- جواب ابن عبّاس - من إنشاء الواقديّ نفسه الذي يرويها[76] (ونقلها عنه سبط ابن الجوزيّ في كتابه تذكرة الخواصّ)، ذلك لأنّ نَفَس هذا الجواب مغايرٌ تماماً لِنَفَس ابن عبّاس في مواقفه قبال بني أميّة.
ها هو ابن عبّاس رضي الله عنه في بلاط معاوية يُخرس محاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزياد بن سميّة، وعبد الرحمن بن أمّ الحكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض إدّعاءاتهم وبهرهم بالحجّة الدامغة، ويقول ليزيد ابن معاوية نفسه في قصر أبيه: مهلاً يزيد، فواللّه ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ ناءت بالبغضاء عنكم، لا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلِ الأيّام نستقض ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلاً بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلاً على المعتدين علينا[77].
وها هو ابن عبّاس رضي الله عنه يجيب يزيد[78] بقارعةٍ أخرى من قوارعه في رسالةٍ كتبها إليه قائلاً: من عبد الله بن عبّاس إلى يزيد بن معاوية. أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابُك بذكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإنْ يَك ذلك كما بلغك فلستُ حمَدك أردتُ ولا وُدَّك، ولكنّ الله بالذي أنوي عليم، وزعمتَ أنّك لستَ بناسٍ ودّي فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلّا القليل، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناسَ عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ!، بفيك الكثكثُ[79]، ولك الأثلَبُ[80]، إنّك إنْ تُمنّك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهوّر.
لا تحسبني، لا أبا لك، نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلّب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفَّنين، تسفي عليهم الرياح،
وتعاورهم الذئاب، وتُنشي بهم عُرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد.
وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر[81] ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأمّاً، الذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأولى، وفي
الممات والمحيا، إنّ نبيّ الله قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". فألحقه بأبيه كما يُلحَقُ بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد! وقد أمات أبوك السُنّة جهلاً! وأحيا البدع والأحداث المظلّة عمداً!
وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ اطرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه للعائر وأراقل العالم.
وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لا شكّ فيه أنّك للمُحرّف العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ثمّ إنّك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته والإلحاح عليه، حتّى يقتله ومن معه من بني عبد المطلّب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً، فنحن أولائك، لسنا كآبائك الأجلاف الجُفاة الأكباد الحمير.
ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة وسألهم الرجعة[82]، فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيتٍ من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي
ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخذ ثأري، فإن يشاء لا يُطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيّين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك أن ظفرت بنا اليوم، فوالله لنظفرنّ بك يوماً.
فأمّا ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقّي، فإن يَك ذلك كذلك، فقد واللهِ بايعتُ أباك[83]، وإنّي لأعلم أنّ ابني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنّكم معاشر قريشٍ كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على من يجترىء على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذّبو المرسلين.
ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حملك بنات عبد المطلّب، وغلمةً صغاراً من وُلدِهِ إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقرّ بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلّا قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِش لا أبا لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله[84].
[1] هذا البحث أخذناه من كتاب الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة, الجزء الثاني من موسوعة مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة, تأليف الشيخ نجم الدّين الطبسيّ, وقد أجرينا عليه بعض التعديل والترتيب والتقديم والتأخير والإضافة في موارد قليلة ومحدودة.
[2] معجم رجال الحديث ج 11 ص 188.
[3] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1: 19.
[4] التحرير الطاووسيّ: 312.
[5] موسوعة الإمام عليّ في الكتاب والسنّة ج 6 ص 47.
[6] م. ن. ج 6 ص 218.
[7] م. ن. ج 6 ص 78، نقلاً عن الإمامة والسياسة للدينوريّ.
[8] م. ن. ج 6 ص 435.
[9] أمالي المرتضى، 1: 177.
[10] معجم رجال الحديث، 10: 239.
[11] شرح نهج البلاغة، 4: 171.
[12] قاموس الرجال، 6: 441
[13] اختيار معرفة الرجال، 1: 279, رقم 109.
[14] راجع: منتهى المقال، 3: 351.
[15] سير أعلام النبلاء، 7: 353.
[16] راجع: تهذيب الكمال، 30: 471, وميزان الاعتدال، 2: 169, وتهذيب التهذيب، 11: 218.
[17] راجع: سير أعلام النبلاء، 5: 339.
[18] اختيار معرفة الرجال، 1: 279, رقم 110.
[19] راجع: ميزان الاعتدال، 4: 152, وتهذيب التهذيب، 10: 241.
[20] راجع: الفصول المختارة: 171, وقاموس الرجال، 5: 612.
[21] انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 4: 98.
[22] انظر: سفينة البحار، 6: 128.
[23] خلاصة الأقوال: 103.
[24] نقد الرجال، 3: 118.
[25] كشف الغمّة: 2: 159, وراجع: مقاتل الطالبيّين: 33.
[26] الطبريّ: تاريخ الطبريّ ج 3 ص 294.
[27] تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ):204، رقم 255.
[28] الفتوح، 5: 26-27.
[29] سورة التوبة، الآية 54.
[30] سورة النساء، الآية 142- 143.
[31] يعني مريم ابنة عمران عليها السلام .
[32] الفتوح, 5: 26-27 ومقتل الحسين للخوارزميّ، 1: 278 – 281, لقد تفرّد ابن أعثم الكوفيّ في كتابه "الفتوح" برواية تمام هذه المحاورة, ونقلها عنه الخوارزميّ في كتابه "مقتل الحسين عليه السلام ", وقد تضمّنت هذه المحاورة بعض الفقرات التي لا يمكن للمتتبّع المتأمّل إلّا أن يتحفّظ حيالها إن لم يقطع بكذبها ورفضها, خصوصاً في بعض نصوص التحاور بين الإمام وابن عمر..
[33] أمالي الطوسيّ ص 314- 315, المجلس 11, الحديث 640/ 87.
[34] عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا..", (كتاب الغارات: 393, وشرح النهج لابن أبي الحديد, 4: 104).
[35] في تاريخ الطبريّ، 3: 294"فبيّن لي ما أنت صانع؟".
[36] وفيه أيضاً: "قد أجمعت المسير في أحد يوميَّ هذين...".
[37] وفيه أيضاً: "أخبرني رحمك الله أتسير إلى قومٍ... ونفوا عدوّهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم...".
[38] في تاريخ الطبريّ، 3: 294,".. وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذّبوك ويخالفوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك ... ".
[39] الفتوح، 5: 72، وعنه مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، 1: 309 – 310، ورواها الطبريّ في تأريخه، 3: 294 بتفاوت.
[40] مثير الأحزان: 38.
[41] كعمر بن عبد الرحمن المخزوميّ, وعمرو بن لوذان, ومحمّد بن الحنفيّة رضي الله عنه.
[42] فقد قال عليه السلام لابن عبّاس في محاورة أخرى بعدها (تأتي) وقد طرح فيها نفس المشورة: "إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق", وقال عليه السلام لعمر بن عبد الرحمن وقد عرض نفس المشورة: "فقد والله علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل!", وقال عليه السلام لعمرو بن لوذان وقد قدّم نفس هذا الرأي: "يا عبد الله, ليس يخفى عليّ الرأي ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره!".
[43] معالي السبطين, 1: 151.
[44] لسان العرب 4: 266- 267.
[45] راجع: مفتاح الكرامة, 3: 272, والحدائق الناضرة, 10: 524.
[46] ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام خاصّة ينبئ عن نهضته وعن مصرعه وعن قاتليه منذ طفولته, فعن حذيفة بن اليمان قال: "سمعت الحسين بن عليّ يقول: والله ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أميّة, ويقدمهم عمر بن سعد. وذلك في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت: أنبّأَكَ بهذا رسول الله؟ قال: لا. فأتيت النبيّ فأخبرته فقال: علمي علمه, وعلمه علمي, وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته". (دلائل الإمامة: 183- 184).
لا يقال: كيف يمكن هذا في حقّ الحسين عليه السلام ؟! هذا من الغلوّ فيه وفي أهل البيت عليهم السلام !!
ذلك لأنّ القوم يعتقدون بهذا لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه, ويروون عنه من هذا القبيل, بل أكثر من هذا, فقد رووا عنه أنّه قال: "والله إنّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة". (راجع: سير أعلام النبلاء:2: 365, عن أحمد ومسلم).
[47] سورة آل عمران, الآية 185.
[48] ناسخ التواريخ, 2: 122, ووسائل الشيعة, 4: 875.
[49] تاريخ الطبريّ، 3: 295, وقد رواها ابن عساكر بتفاوتٍ غير يسير. وأهمّ تفاوت فيها: "..فكلّمه طويلاً وقال: أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة, لا تأتِ العراق, وإن كنت لا بدّ فاعلاً فأقمْ حتّى ينقضي الموسم وتعلم على ما يصدرون ثمّ ترى رأيك- وذلك في عشر من ذي الحجّة سنة ستّين- فأبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق..". (راجع: تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ), تحقيق المحموديّ: 204, رقم 255).
ولا يخفى أنّ تأريخ المحاورة الذي ذكره ابن عساكر لا يتوافق مع المشهور الثابت في أنّ الإمام عليه السلام قد ارتحل عن مكّة في اليوم الثامن من ذي الحجّة.
ورواها ابن أعثم الكوفيّ باختصار وتفاوت, وفي آخرها: "فقال الحسين: فإنّي أستخير الله في هذا الأمر وأنظر ما يكون. فخرج ابن عبّاس وهو يقول: واحسيناه!". كما روى الشعر الذي خاطب ابن عبّاس به ابن الزبير هكذا:
يَاْ لَكِ مِنْ قُنْبُرَةٍ بمَعْمَرِ خَلَاْ لَكَ الْجَوُّ فَبيِضِيْ وَاصْفِرِيْ
وَنَقِّرِيْ مَاْ شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِيْ إِنْ ذَهَبَ الْصَّاْئِدُ عَنْكِ فَابْشِرِيْ
قَدْ رُفِعَ الْفَخّ فَمَاْ مِنْ حَذَرِ هَذَاْ الْحُسَيْنُ سَاْئِرٌ فَانْتَشِرِيْ
(راجع الفتوح, 5: 73, ورواها عنه الخوارزميّ في المقتل, 1: 311).
وقد روى العلّامة المجلسيّ قدس سرهفي البحار, عن الشهيد الثاني قدس سرهبإسناده عن ابن قولويه (ره), بإسناد عن الإمام الصادق عليه السلام , عن أبيه عليه السلام أنّّه "لمّا تجهّز الحسين عليه السلام إلى الكوفة أتاه ابن عبّاس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطفّ, فقال: أنا أعرف بمصرعي منك, وما وكدي من الدنيا إلّا فراقها...". (البحار, 78: 273, باب 23, حديث 112). والوكد: المراد والقصد.
[50] دلائل الإمامة: 74.
[51] هناك كتابان بهذا الاسم ذكرهما صاحب الذريعة، الأوّل: هو " الفوادح الحسينيّة والقوادح البينيّة " المشهور بمقتل العصفور، للشيخ حسين العصفور ابن أخي صاحب الحدائق ... والثاني: هو " الفوادح الحسينيّة " للشيخ نمر بزّه، طبع مطبعة العرفان بصيدا، 33 صفحة في تسعة مجالس، ... والظاهر أنّ الكتاب الذي نقل عنه صاحب أسرار الشهادة هو الأوّل.
[52] أسرار الشهادة: 246- 247.
[53] معالي السبطين، 1: 151.
[54] اللهوف: 101.
[55] يكفي في الدلالة على ذلك متن المحاورة التي رواها سليم بن قيس بين معاوية وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس بمحضر الحسنين عليهما السلام ( راجع: كتاب سليم بن قيس: 231-238 / دار الفنون – لبنان ). وما رواه الخزّاز القمّي في كفاية الأثر من رواياتٍ مسندةٍ عن ابن عبّاس رضي الله عنه في الأئمّة الاثني عشر وفي أسمائهم عليهم السلام ( راجع: كفاية الأثر: 10 -22 / انتشارات بيدار).
[56] مرَّ بنا في المحاورة الأولى أنّه رضي الله عنه قال للإمام عليه السلام :" وأنّ نصرك لفرضٌ على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقدر أن يقبل إحداهما دون الأخرى ".
[57] مرَّ أيضاً في المقدّمة أقوال بعض الأعلام في حقّه.
[58] مناقب آل أبي طالب، 3: 400؛ وفيات الأعيان، 6: 179.
[59] أمالي الصدوق: 478، المجلس 87، حديث رقم 5.
[60] مستدرك الحاكم، 3: 179.
[61] راجع: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي)، 1: 272، وأسد الغابة، 3: 195.
[62] راجع نصّ المحاورة الأولى لفهم المراد في جوّ المحاورة نفسها، في صفحة 213-217.
[63] بل ورد عن الصادق عليه السلام أنّ الإمام الباقر عليه السلام كان يحبّه حبّاً شديداً. انظر: اختيار معرفة الرجال: 57، الرقم 107.
[64] مناقب آل أبي طالب، 4: 53/ ولعلّ ابن شهرآشوب نقل هذا عن كتاب التخريج الذي نقل عنه رواية قبل هذه الرواية.
[65] تنقيح المقال، 2: 191، وقال الذهبيّ: "إنّما أخّر الناس عن بيعة ابن عبّاس- لو شاء الخلافة- ذهاب بصره" (سير أعلام النبلاء، 3: 356) "وخطب ابن الزبير بمكّة على المنبر وابن عبّاس جالسٌ مع الناس تحت المنبر، فقال: إنّ ها هنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره... فقال ابن عبّاس لقائده سعيد بن جبير: استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، وكان ابن عبّاس قد كفّ بصره...", "أنظر: قاموس الرجال، 6: 470، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 20: 130 و134، وسير أعلام النبلاء، 3: 354، ومنتهى المقال، 4: 201).
[66] المعارف: 589.
[67] اختيار معرفة الرجال، 1: 272؛ وتنقيح المقال، 2: 191.
[68] سير أعلام النبلاء، 4: 68.
[69] أمالي الطوسيّ: 314-315، المجلس 11، الحديث 640/87.
[70] الفتوح، 5: 27؛ ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ، 1: 281.
[71] مروج الذهب، 3: 108.
[72] ورد في بعض المتون أنّ ذهاب بصره في آخر عمره كان بسبب البكاء على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام (انظر سفينة البحار، 6: 128 عن حديقة الحكمة).
[73] ولعلّ هذا الضعف الذي دبَّ إلى بصره بسبب هذا البكاء المتواصل منذ فقده أمير المؤمنين عليه السلام كان قد اشتدّ واستفحل بعد فقد الإمام الحسن عليه السلام , فكان ابن عبّاس قريباً من العمى أواخر عهد معاوية– فيما بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام - فلمّا التقى معاوية في تلك الأيّام كان ضعف بصره الشديد هذا هو الذي دفع معاوية إلى القول ساخراً: "أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم!".
[74] تذكرة الخواص: 216.
[75] تهذيب الكمال، 4: 492.
[76] الواقديّ: وهو محمّد بن عمر بن واقد الأسلميّ، وقد اتهمه جلُّ رجاليّي العامّة بالكذب والافتراء وأنّه متروك الرواية.
[77] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 6: 302.
[78] " أخذ ابن الزبير عبد الله بن عبّاس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أنّ عبد الله بن عبّاس قد امتنع على ابن الزبير، فسرَّه ذلك، وكتب إلى ابن عبّاس: أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاءً منك لنا، وطاعةً لله فيما عرَّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإنّي ما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ برَّك وحسن جزائك وتعجيل صلتك الذي أنت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر رحمك الله فيمن قِبَلَك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممّن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسّك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحِلِّ الملحد، والسلام. فكتب إليه عبد الله بن عبّاس..." (تاريخ اليعقوبيّ، 2: 247- 248).
[79] بفيك الكثكث: أي بفمك التراب والحجارة. (راجع لسان العرب، 2: 179).
[80] ولك الأثلب: كناية عن الخيبة، والأثلب أيضاً معناه التراب والحجارة. (راجع: لسان العرب، 1: 242).
[81] يعني به عبيد الله بن زياد بن أبيه.
[82] لعلّ ابن عبّاس رضي الله عنه يشير بهذا إلى- ما رُوي من- قول الإمام الحسين عليه السلام : "دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس". (تاريخ الطبريّ، 3: 312).أو "أيّها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض" (تاريخ الطبريّ، 3: 318).
[83] وفي هذا إشارةٌ إلى أنّه لم يبايع يزيد، بل كان قد بايع معاوية بعد الصلح، لكنّ نصّ هذه الرسالة المرويّ بتفاوتٍ كثيرٍ في بحار الأنوار: 45: 323 عن (بعض كتب المناقب القديمة) فيه: "فقد واللهِ بايعتك ومن قبلك..." وهذا كما هو ظاهرٌ لا يتلاءم مع نفس متن الرسالة الطافح بالتبرّي من يزيد وفعلته.
[84] تاريخ اليعقوبيّ، 2: 248- 250؛ وانظر: بحار الأنوار، 45: 323.