الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
سجع الكهان
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي
الجزء والصفحة: ص420-422
1-04-2015
17288
كانت في الجاهلية طائفة تزعم أنها تطلع على الغيب، وتعرف ما يأتي به الغد بما يلقي إليها توابعها من الجن، وكان واحدها يسمى كاهنًا كما يسمى تابعه الذي يوحي إليه باسم "الرَّئِيِّ" وأكثرهم كان يخدم بيوت أصنامهم وأوثانهم؛ فكانت لهم قداسة دينية، وكانوا يلجأون إليهم في كل شئونهم، وقد يتخذونهم حكامًا في خصوماتهم ومنافراتهم على نحو ما كان من منافرة هاشم بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس، واحتكامهما إلى الكاهن الخزاعي، وقد نفر هاشمًا على أمية(1). وكانوا يستشيرونهم ويصدرون عن آرائهم في كثير من شئونهم كوفاء زوجة، أو قتل رجل، أو نحر ناقة(2)، أو قعود عن نصرة أحلاف(3)، أو نهوض لحرب؛ ففي أخبار بني أسد أن حجرًا أبا امرئ القيس رَقَّ لهم؛ فبعث في إثرهم فأقبلوا حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة، فقال لبني أسد: "يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلَّاب غير المغلَّب، في الإبل كأنها الرَّبْرب(4)، لا يعلق رأسه الصَّخَب، هذا دمه ينثعب(5)، وهذا غدًا أولُ من يسلب، قالوا: من هو يا ربنا؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذَلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عكر حجر فهجموا على قبته" وقتلوه(6). وكثيرًا ما كانوا ينذرون قبائلهم بوقوع غزو غير منتظر(7)، كما كانوا كثيرًا ما يفسرون رؤاهم وأحلامهم(8).
فمنزلة كهَّانهم في الجاهلية كانت كبيرة؛ إذ كانوا يعتقدون أنه يوحى إليهم، ولعل ذلك ما جعل نفوذ الكاهن يتجاوز قبيلته إلى كثير من القبائل التي تجاورها، ومن ثم كان العرب يقصدون كثيرين منهم من مناطق بعيدة. ومما يلاحظ أنهم كانوا يتكثرون في اليمن وفي بيوت عبادتها الوثنية، وخاصة من يتعمقون في القدم، ولعل في ذلك ما يدل على الصلة القديمة بين وثنية عرب الجنوب، وعرب الشمال. وتلقانا في كتب التاريخ والأدب أسماء كثيرين منهم، وقد يبالغ القُصَّاص، فيرسمون لبعضهم صورًا خيالية؛ فمن ذلك أن شق بن الصعب كان شق إنسان أو شطره فله عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، وأن سطيح بن ربيعة الذئبي لم يكن فيه عظم سوى جمجمته وأن وجهه كان في صدره ولم يكن له عنق(9)، وربما كان أحدب. ومن كهانهم في أواخر العصر الجاهلي سواد بن قارب الدَّوْسيِّ وقد أدرك الإسلام ودخل فيه(10)، ومنهم المأمور الحارثي، كاهن بني الحارث بن كعب(11)، وخُنافر الحميري، وكان يقول: إنه أسلم بمشورة تابعه "شصار(12)". وأكهنهم عُزّى سَلِمة، يقول الجاحظ: "أكهن العرب وأسجعهم سلمة بن أبي حية وهو الذي يقال له عزى سلمة"(13). ومن قوله(14): "والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني العشراء للمجد والسناء(15)" ونجد بجانب هؤلاء الكهان جماعة من الكاهنات، وربما كن في الأصل من النساء اللائي يهبن أنفسهن للآلهة ومعابدها. ومن أشهرها الشعثاء(16)وكاهنة ذي الخلصة(17) والكاهنة السعدية(18) والزرقاء(19) بنت زهير والغيطلة القرشية(20) وزبراء كاهنة بني رئام، ويروى أنها أنذرتهم غارة عليهم فقالت: "واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنجم الطارق والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو خَتْلًا، ويحرق أنيابًا عصلًا، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا، لا تجدون عنه مَعْلًا"(21).
ونحن لا نطمئن إلى ما يروى في كتاب التاريخ والأدب من أقوال جرت على ألسنة هؤلاء الكهان والكاهنات؛ فإن بعد المسافة بين عصور التدوين والعصر الجاهلي يجعلنا نتهم مثل هذه الأقوال؛ إذ من الصعب أن تروى بنصها وقد مضى عليها نحو قرنين من الزمان. وإنما استشهدنا ببعض منها لندل على أنه ثبت في أذهان من تحدثوا عن الكهان والكاهنات في الجاهلية أنهم كانوا يعتمدون على السجع في كلامهم؛ ولذلك حين أجروا ألسنتهم بالكلام جعلوه مسجوعًا على شاكلة ما رويناه من أقوالهم. ومعنى ذلك أنه وجد في العصر الجاهلي سجع كان يقوله الكهان، وقد اختلط الأمر على بعض قريش في أول نزول الذكر الحكيم؛ فقرنوه بسجع كهنتهم ورد عليهم القرآن الكريم بمثل قوله جل وعز: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} وقال:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.
ومما يدل على أن كهنتهم كانوا يسجعون؛ بل كانوا لا يتكلمون إلا بالسجع، الحديث المروي عن أبي هريرة؛ فقد حدث أنه: "اقتتلت امرأتان من هذيل؛ فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها(22)... فقال حمل بن النابغة الهُذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل(23)، فمثل ذلك يطل(24)؛ فقال رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع"(25). ويقول الجاحظ: "كان حازى "كاهن" جهينة وشق وسطيح وعزى سلمة وأشباههم يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"(26).
وإذا صح أن ما يروى في كتب التاريخ والأدب من سجع الكهان تقليد دقيق لما كانوا يأتون به من هذا السجع لاحظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب؛ بل كانوا يعمدون أيضًا إلى ألفاظ غامضة مبهمة، حتى يتركوا فسحة لدى السامعين كي يؤول كل منهم ما يسمعه حسب فهمه وظروفه. ومن ثم دخل الرمز في كثير من أقوالهم؛ إذ يومئون إلى ما يريدون إيماء، وقلما صرحوا أو وضَّحوا؛ بل دائمًا يأتون المعاني من بعيد؛ بل قل إنهم كانوا لا يحبون أن يصوروا في وضوح معنى، ويتخذوا له أشباحًا واضحة من اللفظ تدل عليه، لأن ذلك يتعارض مع تنبئهم الذي يقوم على الإبهام والوهم واختيار الألفاظ التي تخدع السامع وجوهًا من الخدع، ومن ثم كان من أهم ما يميز أسجاعهم عدم وضوح الدلالة وأن يكثر فيها الاختلاف والتأويل.
وليس هذا كل ما يلاحظ على السجع الذي يضاف إليهم؛ فإنه يلاحظ عليه أيضًا كثرة الأقسام والأيمان بالكواكب والنجوم والرياح والسحب والليل الداجي والصبح المنير والأشجار والبحار وكثير من الطير وفي ذلك ما يدل على اعتقادهم في هذه الأشياء وأن بها قوى وأرواحًا خفية، ومن أجل ذلك يحلفون بها، ليؤكدوا كلامهم وليبلغوا ما يريدون من التأثير في نفوس هؤلاء الوثنيين.
وهذا السجع الديني كان يقابله، كما قدمنا، سجع آخر في خطابتهم بل في كلامهم وأمثالهم التي دارت بينهم. ولعل في ذلك كله ما يدل على أن الجاهليين عنوا بنثرهم كما عنوا بشعرهم؛ فقد ذهبوا يحاولون تحقيق قيم صوتية وتصويرية مختلفة فيه، تكفل له جمال الصياغة وروعة الأداء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السيرة الحلبية: 1/ 4.
2- أغاني "طبعة دار الكتب": 11/ 118.
3- أغاني: 11/ 140.
4- الربرب: القطيع من الظباء.
5- ينثعب: يسيل.
6- أغاني: 9/ 84.
7- الأمالي للقالي: 1/ 126 والسيرة النبوية: 1/ 43، 221.
8- السيرة النبوية: 1/ 15 وما بعدها.
9- عجائب المخلوقات للقزويني: 1/ 171.
10- السيرة النبوية: 1/ 233.
11- الأمالي: 1/ 276، واسمه فيه المأمون، وانظر 3/ 151 والأغاني: 15/ 70.
12- الأمالي: 1/ 133.
13- البيان والتبيين: 1/ 358.
14- نفس المصدر: 1/ 290.
15- الصقعاء: الشمس، بقعاء: ماء أو موضع. نفر: حكم بالغلبة. بنو العشراء: عشيرة من فزارة. السناء: الرفعة.
16- مجمع الأمثال للميداني: 1/ 91.
17- نفس المصدر: 1/ 223.
18- نفس المصدر: 2/ 54.
19- أغاني "دار الكتب": 13/ 81.
20- سيرة ابن هشام: 1/ 221.
21- اللوح هنا: الريح. الوادق: الممطر. يأدو: يختل. يحرق أنيابًا عصلًا: كناية عن الغضب والشر. عصلًا: معوجة. الطود: الجبل. المعل: الملجأ. انظر الأمالي: 1/ 126.
22- عاقلة المرأة: عصبتها الذين يتضامنون معها في دفع الدية.
23- استهل: صاح.
24- يطل: يهدر دمه.
25- صحيح مسلم "طبعة الآستانة" 5/ 110. وانظر موطأ مالك "طبع حجر بالقاهرة" 2/ 192.
26- البيان والتبيين: 1/ 289 وما بعدها.