1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

النحو

اقسام الكلام

الكلام وما يتالف منه

الجمل وانواعها

اقسام الفعل وعلاماته

المعرب والمبني

أنواع الإعراب

علامات الاسم

الأسماء الستة

النكرة والمعرفة

الأفعال الخمسة

المثنى

جمع المذكر السالم

جمع المؤنث السالم

العلم

الضمائر

اسم الإشارة

الاسم الموصول

المعرف بـ (ال)

المبتدا والخبر

كان وأخواتها

المشبهات بـ(ليس)

كاد واخواتها (أفعال المقاربة)

إن وأخواتها

لا النافية للجنس

ظن وأخواتها

الافعال الناصبة لثلاثة مفاعيل

الأفعال الناصبة لمفعولين

الفاعل

نائب الفاعل

تعدي الفعل ولزومه

العامل والمعمول واشتغالهما

التنازع والاشتغال

المفعول المطلق

المفعول فيه

المفعول لأجله

المفعول به

المفعول معه

الاستثناء

الحال

التمييز

الحروف وأنواعها

الإضافة

المصدر وانواعه

اسم الفاعل

اسم المفعول

صيغة المبالغة

الصفة المشبهة بالفعل

اسم التفضيل

التعجب

أفعال المدح والذم

النعت (الصفة)

التوكيد

العطف

البدل

النداء

الاستفهام

الاستغاثة

الندبة

الترخيم

الاختصاص

الإغراء والتحذير

أسماء الأفعال وأسماء الأصوات

نون التوكيد

الممنوع من الصرف

الفعل المضارع وأحواله

القسم

أدوات الجزم

العدد

الحكاية

الشرط وجوابه

الصرف

موضوع علم الصرف وميدانه

تعريف علم الصرف

بين الصرف والنحو

فائدة علم الصرف

الميزان الصرفي

الفعل المجرد وأبوابه

الفعل المزيد وأبوابه

أحرف الزيادة ومعانيها (معاني صيغ الزيادة)

اسناد الفعل الى الضمائر

توكيد الفعل

تصريف الاسماء

الفعل المبني للمجهول

المقصور والممدود والمنقوص

جمع التكسير

المصادر وابنيتها

اسم الفاعل

صيغة المبالغة

اسم المفعول

الصفة المشبهة

اسم التفضيل

اسما الزمان والمكان

اسم المرة

اسم الآلة

اسم الهيئة

المصدر الميمي

النسب

التصغير

الابدال

الاعلال

الفعل الصحيح والمعتل

الفعل الجامد والمتصرف

الإمالة

الوقف

الادغام

القلب المكاني

الحذف

المدارس النحوية

النحو ونشأته

دوافع نشأة النحو العربي

اراء حول النحو العربي واصالته

النحو العربي و واضعه

أوائل النحويين

المدرسة البصرية

بيئة البصرة ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في البصرة وطابعه

أهم نحاة المدرسة البصرية

جهود علماء المدرسة البصرية

كتاب سيبويه

جهود الخليل بن احمد الفراهيدي

كتاب المقتضب - للمبرد

المدرسة الكوفية

بيئة الكوفة ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في الكوفة وطابعه

أهم نحاة المدرسة الكوفية

جهود علماء المدرسة الكوفية

جهود الكسائي

الفراء وكتاب (معاني القرآن)

الخلاف بين البصريين والكوفيين

الخلاف اسبابه ونتائجه

الخلاف في المصطلح

الخلاف في المنهج

الخلاف في المسائل النحوية

المدرسة البغدادية

بيئة بغداد ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في بغداد وطابعه

أهم نحاة المدرسة البغدادية

جهود علماء المدرسة البغدادية

المفصل للزمخشري

شرح الرضي على الكافية

جهود الزجاجي

جهود السيرافي

جهود ابن جني

جهود ابو البركات ابن الانباري

المدرسة المصرية

بيئة مصر ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو المصري وطابعه

أهم نحاة المدرسة المصرية

جهود علماء المدرسة المصرية

كتاب شرح الاشموني على الفية ابن مالك

جهود ابن هشام الانصاري

جهود السيوطي

شرح ابن عقيل لالفية ابن مالك

المدرسة الاندلسية

بيئة الاندلس ومراكز الثقافة فيها

نشأة النحو في الاندلس وطابعه

أهم نحاة المدرسة الاندلسية

جهود علماء المدرسة الاندلسية

كتاب الرد على النحاة

جهود ابن مالك

اللغة العربية

لمحة عامة عن اللغة العربية

العربية الشمالية (العربية البائدة والعربية الباقية)

العربية الجنوبية (العربية اليمنية)

اللغة المشتركة (الفصحى)

فقه اللغة

مصطلح فقه اللغة ومفهومه

اهداف فقه اللغة وموضوعاته

بين فقه اللغة وعلم اللغة

جهود القدامى والمحدثين ومؤلفاتهم في فقه اللغة

جهود القدامى

جهود المحدثين

اللغة ونظريات نشأتها

حول اللغة ونظريات نشأتها

نظرية التوقيف والإلهام

نظرية التواضع والاصطلاح

نظرية التوفيق بين التوقيف والاصطلاح

نظرية محاكات أصوات الطبيعة

نظرية الغريزة والانفعال

نظرية محاكات الاصوات معانيها

نظرية الاستجابة الصوتية للحركات العضلية

نظريات تقسيم اللغات

تقسيم ماكس مولر

تقسيم شليجل

فصائل اللغات الجزرية (السامية - الحامية)

لمحة تاريخية عن اللغات الجزرية

موطن الساميين الاول

خصائص اللغات الجزرية المشتركة

اوجه الاختلاف في اللغات الجزرية

تقسيم اللغات السامية (المشجر السامي)

اللغات الشرقية

اللغات الغربية

اللهجات العربية

معنى اللهجة

اهمية دراسة اللهجات العربية

أشهر اللهجات العربية وخصائصها

كيف تتكون اللهجات

اللهجات الشاذة والقابها

خصائص اللغة العربية

الترادف

الاشتراك اللفظي

التضاد

الاشتقاق

مقدمة حول الاشتقاق

الاشتقاق الصغير

الاشتقاق الكبير

الاشتقاق الاكبر

اشتقاق الكبار - النحت

التعرب - الدخيل

الإعراب

مناسبة الحروف لمعانيها

صيغ اوزان العربية

الخط العربي

الخط العربي وأصله، اعجامه

الكتابة قبل الاسلام

الكتابة بعد الاسلام

عيوب الخط العربي ومحاولات اصلاحه

أصوات اللغة العربية

الأصوات اللغوية

جهود العرب القدامى في علم الصوت

اعضاء الجهاز النطقي

مخارج الاصوات العربية

صفات الاصوات العربية

المعاجم العربية

علم اللغة

مدخل إلى علم اللغة

ماهية علم اللغة

الجهود اللغوية عند العرب

الجهود اللغوية عند غير العرب

مناهج البحث في اللغة

المنهج الوصفي

المنهج التوليدي

المنهج النحوي

المنهج الصرفي

منهج الدلالة

منهج الدراسات الانسانية

منهج التشكيل الصوتي

علم اللغة والعلوم الأخرى

علم اللغة وعلم النفس

علم اللغة وعلم الاجتماع

علم اللغة والانثروبولوجيا

علم اللغة و الجغرافية

مستويات علم اللغة

المستوى الصوتي

المستوى الصرفي

المستوى الدلالي

المستوى النحوي

وظيفة اللغة

اللغة والكتابة

اللغة والكلام

تكون اللغات الانسانية

اللغة واللغات

اللهجات

اللغات المشتركة

القرابة اللغوية

احتكاك اللغات

قضايا لغوية أخرى

علم الدلالة

ماهية علم الدلالة وتعريفه

نشأة علم الدلالة

مفهوم الدلالة

جهود القدامى في الدراسات الدلالية

جهود الجاحظ

جهود الجرجاني

جهود الآمدي

جهود اخرى

جهود ابن جني

مقدمة حول جهود العرب

التطور الدلالي

ماهية التطور الدلالي

اسباب التطور الدلالي

تخصيص الدلالة

تعميم الدلالة

انتقال الدلالة

رقي الدلالة

انحطاط الدلالة

اسباب التغير الدلالي

التحول نحو المعاني المتضادة

الدال و المدلول

الدلالة والمجاز

تحليل المعنى

المشكلات الدلالية

ماهية المشكلات الدلالية

التضاد

المشترك اللفظي

غموض المعنى

تغير المعنى

قضايا دلالية اخرى

نظريات علم الدلالة الحديثة

نظرية السياق

نظرية الحقول الدلالية

النظرية التصورية

النظرية التحليلية

نظريات اخرى

النظرية الاشارية

مقدمة حول النظريات الدلالية

أخرى

علوم اللغة العربية : علم اللغة : مدخل إلى علم اللغة :

نشأة اللغة عند الانسان (نشأة الكلام)

المؤلف:  د. علي عبد الواحد وافي

المصدر:  علم اللغة

الجزء والصفحة:  ص96- 106

3-12-2018

2597


نشأة الكلام
لا شك أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى المجتمع نفسه, وإلى الحياة الاجتماعية. فلولا اجتماع الأفراد بعضهم مع بعض, وحاجتهم إلى التعاون والتفاهم وتبادل الأفكار, والتعبير عما يجول بالخواطر من معانٍ ومدركات, ما وجدت لغة ولا تعبير إرادي.
ولا شك كذلك أن اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ كما ينشأ غيرها من الظواهر الاجتماعية، فتخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجميعة, وما تقتضيه هذه الحياة من شئون(1).
فليست المشكلة إذن في البحث عن الأسباب التي دعت إلى نشأة اللغة, ولا في البحث عمن أنشاها, وإنما المشكلة في البحث عن العوامل التي دعت إلى ظهورها في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع متميزة الكلمات، والكشف عن الصورة الأولى التي ظهرت بها هذه الأصوات، أي: الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في
ص96
وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، وتوضيح الأسباب التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره.
وعلى ضوء هذه الحقائق سنناقش النظريات التي قيلت في نشأة اللغة، فنرفض كل نظرية تذهب في ذلك مذهبًا لا يتفق مع هذه الحقائق المقررة، أو تغفل المشكلة الرئيسية التي نحاول حلها.
هذا، وأهم ما قيل بهذا الصدد يرجع إلى أربع نظريات:
النظرية الأولى: تقرر أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى الهام إلهيٍّ هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء، وقد ذهب إلى هذ الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت(2) Heraclite، وفي العصور الوسطى بعض الباحثين في فقه اللغة العربية كابن فارس في كتابه الصاحبي(3)، وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها الأب لامي Lami في كتابه "فن الكلام " LArt de(4) parler, والفيلسوف دوبونالد De Bonald في كتابه التشريع القديم(5) Legislation primitive.(6)
ولا يكاد أصحاب هذه النظرية يقدمون بين يدي مذهبهم دليلًا عقليًّا يعتد به5. أما أدلتهم النقلية فبعضها يحتمل التأويل, وبعضها يكاد يكون دليلًا عليهم لا لهم. فالمؤيدون لهذا الرأي من باحثي
ص97

العرب يعتمدون على قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(7) وهذا النص كماترى، ليس صريحًا كما يدعون؛ إذ يحتمل أن يكون معناه -كما ذكر ذلك ابن جني في كتابه الخصائص, وذهب إليه كثير من أئمة المفسرين: إن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ. أما القائلون بهذه النظرية من الفرنجة، فيعتمدون على ما ورد بهذا الصدد في سفر التكوين؛ إذ يقول: "والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها, وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان, فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول"(8): وهذا النص، كما ترى، لا يدل على شيء مما يقول به أصحاب هذه النظرية، بل يكاد يكون دليلًا عليهم. وفضلًا عن هذا كله, فإن هذه النظرية تغفل إغفالًَا تامًّا المشكلة الرئيسية التي تهمنا, وحدُّها في هذا البحث, والتي حددناها تحديدًا دقيقًا في صدر هذه الفقرة.
النظرية الثانية: تقرر أن اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالًا, وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلوسف اليوناني ديموكريت Democrite -من فلاسفة القرن الخامس ق م- وفي العصور الوسطى كثير من الباحثين في فقه اللغة العربية، وفي العصور الحديثة الفلاسفة الإنجليز آدم سميث Adem Smith, وريد Reid, ودجلد ستيوارث Dugald Stewart.
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي, بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية, فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية
ص98
يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون(9), فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل(10). وفضلًا عن هذا كله, فإن هذه النظرية تغفل المشكلة الرئيسية التي تهمنا وحدها في هذا البحث, والتي وضحناها في صدر هذه الفقرة.
فلسنا هنا بصدد نظرية جديرة بالمناقشة، بل بصدد تخمين خيالي وفرض عقيم يحمل في طيه آية بطلانه, وقد ذهب المتعصبون له في تصوير منشأ اللغة مذاهب ساذجة غريبة, تدل أبلغ دلالة على مبلغ انحرافه عن جادة الصواب ونطاق المعقول؛ وإليك نبذة مما يقوله بعضهم بهذا الصدد: "إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة, وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا, فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء, فيضعوا لكل منها سمة ولفظًا يدل عليه ويغني عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقبلوا مثلًا على شخص, ويومئوا إليه قائلين: إنسان، إنسان، إنسان، فتصحب هذه الكلمة اسمًا له، وإن أرادوا سمة عينة أو يده أو رأسه أو قدمه أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم ... ويسيرون على هذه الوتيرة في أسماء بقية الأشياء وفي الأفعال والحروف وفي المعاني الكلية والأمور المعنوية نفسها(11), وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلًا, ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم كلمة "مرد" بدل إنسان وكلمة "سر" بدل رأس ... وهكذا فتنشأ اللغة الفارسية ... "(12).
النظرية الثالثة: تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة, زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني، وأن هذه
ص99
الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة به، كما أن غريزة "التعبير الطبيعي عن الانفعالات" تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة "انقباض الأسارير وانبساطها، وقوف شعر الرأس، الضحك، البكاء ... إلخ" كلما قامت به حالات انفعالية معينة "الغضب، الخوف، الحزن، السرور ... إلخ"، وأنها كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها ووظائفها وما يصدر عنها، وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات, وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى، فاستطاع الأفراد التفاهم فيما بينهم، وأنه بعد نشأة اللغة الإنساينة الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة, فأخذت تنقرض شيئًا فشيئًا حتى تلاشت, كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة. ومن أشهر من ذهب هذا المذهب العلامة الألماني مكس مولر(13) Max Muller، والعلامة الفرنسي رينان Rena (14).
وقد اعتمد مكس مولر في تأييد هذه النظرية على أدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية(15)؛ فقد ظهر له أن مفردات هذه اللغات جميعها ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك، وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشعبت منها هذه الفصيلة، فهي لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عهودها. وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معانٍ كلية، وأنه لا تشابه مطلقًا بين أصواها, وما تدل عليه من فعل أو حالة.
ففي دلالتها على معانٍ كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الثانية السابق ذكرها؛ لأن التواضع فضلًا عن تعارضه مع طبيعة النظم الاجتماعية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، يتوقف هو
ص100
نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون, وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية؛ لأن المفروض أن المتواضَعَ عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة, ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة؛ لأننا بصدد ألفاظ تدل على معانٍ كلية, أي: على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها.
وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه, برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية -أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات- وأصوات الحيوانات والأشياء، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريبًا.
وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع، وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة لأصوات الإنسان الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره, وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل؛ للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة(16).
وهذه النطرية -على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث- فاسدة من عدة وجوه:
1- فهي لا تحل شيئًا من المشكلة التي نحن بصددها, بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضًا, وهي مشكلة "الغريزة الكلامية".
2- هذا إلى أن ما تقرره يعتبر -من بعض الوجوه- من قبيل
ص101
تفسير الشيء بنفسه, فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية: "إن الإنسان قد لفظ أصواتًا مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة؛ لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات". وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى.
3- على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث؛ لأنه من المقرر أن الإنسان مزود بأعضاء نطق تسمح له بلفظ هذا النوع من الأصوات، بل إن هذا مشترك بين الإنسان وبعض الطيور -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك, وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني، أي: البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره.
4- ولكن أكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- تمثل اللغة الإنسانية الأولى, فهذه الأصول -كما تقدم- تدل على معانٍ كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية, لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية, وها هي ذي الأمم البدائية التي تُعَدُّ أصدق ممثل للإنساية الأولى تؤيد ما نقول؛ فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا وأستراليا وإفريقيا وغيرها, على ضعف عقلياتها بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدًى كبير في لغاتها، فلا نكاد نجد في كثير منها لفظ يدل على معنًى كلي؛ ففي لغة الهنود الحمر مثلًا, يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء, وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء ... وهكذا، ولكن لا يوجد أيَّ لفظ للدلالة على شجرة البلوط، ومن باب أولى لا يوجد أيًّ لفظ للدلالة على الشجرة على
ص102
العموم(17), وفي لغة الهورونيين Hurons "من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية" يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها، ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه, فيوجد لفظ للتعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عنه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز, وهكذا، ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة على الأكل على العموم, أو الأكل في زمن ما(18). ولغة السكان الأصليين لجزيرة تسمانيا Tasmenis "بقرب أستراليا" لا يوجد من بين مفرداتها لفظ يدل على الصفة، فإذا أرادوا وصف شيء لجئوا إلى تشبيه بآخر مشتمل على الصفة المقصودة، فيقولون مثلًا "فلان كشجرة كذا" إذا أرادوا وصفه بالطول(19).
ولذلك يرى المحدثون من علماء اللغة أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- لا تمثل في شيء اللغة الإنسانية الأولى كما يذهب إلى ذلك مكس مولر، بل إنها بقايا لغة حديثة قطعت شوطًا كبيرًا في سبيل الرقي والكمال, ولم تصل إليها الأمم الإنسانية إلّا بعد أن ارتقت عقلياتها ونهض تفكيرها, ويذهب بعضهم إلى أبعد من هذا, فيقرر أنها مجرد أصول نظرية, وأنها لم تكن يومًا ما موضوع لغة إنسانية(20).
النظرية الرابعة: تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية "التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة، الأصوات التي تحدثها الأفعال عند وقوعها؛ كصوت الضرب والقطع والكسر ... إلخ" وسارت في سبيل الرقيّ شيئًا فشيئًا تبعًا لارتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة واتساع نطاق الحياة
ص103
الاجتماعية وتعدد حاجات الإنسان ... وما إلى ذلك, وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المحدثين من علماء اللغة, وعلى رأسهم العلامة وتنى(21) Whitey, وذهب إلى مثله من قبل هؤلاء كثير من فلاسفة العصور القديمة, ومن مؤلفي العرب بالعصور الوسطى؛ فقد تحدث عنه ابن جني, المتوفى عام 392هـ, أي: من نحو ألف سنة, في كتابه الخصائص في أسلوب يدل على قدمه وكثرة القائلين به من قبله(22).
فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان قد افتتح هذه السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات؛ كأصوات الفرح والحزن والرعب وما إليها, ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء؛ كدوي الريح وحنين الرعد, وخرير الماء, وحفيف الشجر, وجعجعة الرحى, وقعقعة الشنان, وصرير الباب, وصوت القطع والضرب ... وهلم جرَّا. وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكى ما زود به من قدرة على لفظ أصوات مركبة ذات مقاطع, وكانت لغته في مبدأ أمرها محدودة الألفاظ، قليلة التنوع، قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذت عنها, قاصرة عن الدلالة على المقصود, ولذلك كان لابد لها من ساعد يصحبها؛ فيوضح مدلولاتها, ويعين على إدراك ما ترمي إليه, وقد وجد الإنسان خير مساعد لها في الإشارات اليدوية والحركات الفطرية التي تصحب الانفعالات، فكان في مبدأ أمره مجرد محاكاة إرادية لهذه الحركات, ثم توسع الإنسان في
ص104
استخدامه؛ فحاكى به أشكال الأشياء وحجومها وصفاتها, وما إلى ذلك، فازدادت أهميته في الحديث، وسد فراغَا كبيرًا في اللغة الصوتية، ثم أخذت هذه اللغة يتسع نطاقها تبعًا لارتقاء التفكير, واتساع حاجات الإنسان ومظاهر حضارته، وتستغني شيئًا فشيئًا عن مساعدة الإشارات, وتبعد عن أصولها تأثير عوامل كثيرة؛ كالتطورات الطبيعية التي تعتور الصوت وأعضاء النطق الإنساني, وكعلاقات المجاورة والمشابهة التي تعتور الدلالات ... وما إلى ذلك من الأمور التي سنعرض لها بتفصيل في الباب الثاني من هذا الكتاب.
وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة، وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقًا مع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة الاجتماعية, وهي إلى هذا وذاك تفسر المشكلة التي نحن بصددها, وهي الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة, والعوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره, ولم يقم أيّ دليل يقيني على خطئها, ولكن لم يقم كذلك أيَّ دليل يقيني على صحتها, وكل ما يذكر لتأييدها لا يقطع بصحتها, وإنما يقرب تصورها ويرجح الأخذ بها.
ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل؛ فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية "أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة والأشياء.." فيحاكي الصوت قاصدًا التعبير عن مصدره, أو عن أمر يتصل به, وثبت كذلك أنه في هذه المرحلة وفي مبدأ مرحلة الكلام يعتمد اعتمادًا جوهريًّا في توضيح تعبيره الصوتي على الإشارات اليدوية والجسمية, ومن المقرر أن المراحل التي يختارها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي
ص105
اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر(23).
ومن أدلتها كذلك ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم البدائية؛ ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها أصوات ما تدل عليه, ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها, وعدم كفايتها للتعبير, لا يجد المتكلمون بها مناصًا من الاستعانة بالإشارات اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم؛ لتكملة ما يفتقر إليه من عناصر وما يعوزه من دلالة(24), ومن المقرر أن هذه الأمم لبعدها عن تيارات الحضارة, وبقائها بمعزل عن أسباب النهضة الاجتماعية، تمثل إلى حد كبير النظم الإنسانية في عهودها الأولى.
ص106
___________________
(1) انظر في ذلك كتابي في "اللغة والمجتمع" الطبعة الثالثة, وخاصة صفحات 3-7.
(2) فيلسوف إغريقي من المدرسة اليونانية, ولد بإيفيزيا عام 576, وتوفي عام 480ق. م, ونسبة هذا الرأي له ليست يقينية.
(3) انظر الصاحبي صفحات 507, وقد مال إلى هذا الرأي كذلك ابن جني في كتابه الخصائص, انظر الجزء الأول ص45، وإن كان قد رد في أول الفصل على ما يعتمد عليه القائلون به ذاهبًا إلى أنه لا ينهض دليلًا لهم.
(4) هو دوم فرانسوا لامي Dom Franccis Lami, ولد بمنتيرو Montircau, من أعمال فرنسا سنة 1636, وتوفي بسان ديني Saint Denis سنة 1711, وقد قام بتدريس الفلسفة في كثير من المعاهد الدينية, وإليه يرجع الفضل في نشر آراء الفيلسوف ديكارت في هذه المعاهد.
(5) انظر ترجمة دوبانالد في التعليق الأول بصفحة 56.
(6) سنبين فساد الأدلة العقلية التي ذكرها بعض المتعصبين لهذه النظرية عند مناقشتنا للنظرية الثالثة التي لا تختلف كثيرًا في جوهرها عن هذه النظرية.
(7) سورة البقرة، آية 31.
(8) انظر الفقرتين 19، 20 م الإصحاح الثاني من سفر التكوين.
(9) سيأتي توضيح هذا في النظرية الثالثة.
(10) انظر كذلك في الرد على هذه النظرية، رينان "أصل اللغة" صفحة 76 وتوابعها Renan L origin
(11) لم يبين القائلون بهذه النظرية بوضوح كيف أمكن التواضع على الكلمات الدالة على الأفعال والحروف والمعاني الكلية، مع أن هذه الأمور ليس لها في الخارج مدلول حتى يشير إليه المتواضعون.
(12) نقلًا عن ابن جني بتصرف, الجزء الأول، صفحتي 42، 43.
(13) انظر ترجمته في التعليق الخامس بصفحة 55.
(14) انظر ترجمته في التعليق الثاني بصفحة 56.
(15) هي إحدى الفصائل التي ترجع إليها اللغات الإنسانية, كما سيأتي الكلام على ذلك بتفصيل في الفصل الثاني من الباب الثاني.
(16)  Max Muller Science du Langage 9e Lecon.
(17)  Ribot Evolutiln des ldees Generales p 110.
(18)  Ribot op cit 173 174
(19)  Ribot op cit 204 et suiv
(20) هذا هو رأي الأستاذين سيس وبريال Sayce Breal, انظر في ذلك Ribot op cit 81-82.
(21) انظر بعض مظاهر نشاطه العلمي ومؤلفاته، بصفحة 65 والتعليق الأول من تعليقاتها.
(22) انظر الجزء الأول من الخصائص صفحتي 44، 45: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة؛ كدوي الريح, وحنين الرعد, وخرير الماء, وشحيج البغل, ونهيق الحمار, ونعيق الغراب, وصهيل الفرس, ونزيب الظبي، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد, وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل" .
(23) يطلق على هذه النظرية اسم نظرية "هيكل Haeckel، أو "نظرية التلخيص العام" وقد تكلمنا عليها بتفصيل في كتابنا: "عوامل التربية" صفحات 123-129.
هذا، وسندرس بتفصيل في الفصل الثاني نشأة اللغة عند الطفل وتطورها, ومبلغ تمثيلها لمراحل اللغة الإنسانية.
(24) انظر صفحة 83 والتعليق الثالث من تعليقاتها.

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي