هل تساءلت يومًا كيف يمكن لقمر صناعي يطفو في فراغ الفضاء، بعيدًا عن أي محطة توليد كهرباء أو شبكة طاقة أرضية، أن يستمر في العمل لسنوات وربما عقود دون أن يتوقف عن إرسال بياناته أو بث إشاراته إذا اقتربنا من الإجابة سنكتشف أن السر يكمن في مصدر يبدو بسيطًا لكنه في الواقع معقد للغاية من الناحية الفيزيائية والهندسية، إنه ضوء الشمس، ذلك النهر المتدفق من الفوتونات الذي لا ينضب ما دامت الشمس مشتعلة. الأقمار الصناعية منذ بداياتها أدركت أن الاعتماد على البطاريات وحدها يعني عمرًا قصيرًا للغاية، فالبطارية الكيميائية مهما كانت متطورة ستفرغ طاقتها في بضعة أيام أو أسابيع، لكن عندما نجح العلماء في تسخير التأثير الكهروضوئي وتحويل أشعة الشمس إلى تيار كهربائي عبر الخلايا الشمسية، وُلدت ثورة جعلت من الطاقة الشمسية العمود الفقري لكل مهمة فضائية طويلة الأمد.
ربما تتساءل ما هو التأثير الكهروضوئي الذي تعتمد عليه هذه الخلايا لنأخذ خطوة إلى الوراء إلى عام 1905 حين شرح ألبرت أينشتاين كيف يمكن لفوتون ضوئي قادم من الشمس أن يصطدم بذرة في مادة شبه موصلة كالسليكون فيحرر إلكترونًا منها، ذلك الإلكترون ينطلق مشكلًا تيارًا كهربائيًا إذا وُجد فرق جهد مناسب داخل الخلية. هذه الظاهرة التي نالت جائزة نوبل لأينشتاين هي الأساس الذي تقوم عليه كل الألواح الشمسية على الأرض وفي الفضاء على حد سواء. الفرق الجوهري هو أن الفضاء يمنحنا ضوءًا أنقى وأقوى لأن لا وجود لغلاف جوي يمتص أو يبعثر جزءًا من الإشعاع، وهذا يعني أن الخلايا الشمسية في المدار تستقبل طاقة أعلى بكثير من نظيراتها الأرضية.
لكن هل كان هذا الحال منذ البداية الحقيقة أن أول قمر صناعي في التاريخ، سبوتنيك 1 الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي عام 1957، لم يستخدم الألواح الشمسية على الإطلاق، بل اعتمد على بطاريات داخلية نفدت بعد أسابيع قليلة. بعد ذلك بعام واحد فقط جاء قمر أمريكي اسمه فانغارد 1 ليكون أول من يستمد طاقته من الشمس عبر ألواح صغيرة بدائية من السيليكون، ومن هنا بدأت القصة الطويلة التي لا تزال مستمرة. في الستينات والسبعينات كان الاعتماد الأكبر على السيليكون النقي بكفاءة لم تتجاوز 10، أي أن تسعة أعشار الطاقة الضوئية كانت تضيع هباء، لكن مع ذلك كان الإنجاز مذهلًا لأن القمر أصبح قادرًا على العمل لأشهر وربما سنوات. بمرور الوقت ظهرت مواد أفضل مثل زرنيخيد الغاليوم، الذي تميز بمقاومته الكبيرة للإشعاع الكوني وبتحقيق كفاءة قاربت 25. أما في العقود الأخيرة فقد وصلنا إلى الخلايا متعددة الوصلات، وهي خلايا مكونة من طبقات مختلفة كل منها يمتص جزءًا من الطيف الشمسي، ما يرفع الكفاءة إلى أكثر من 40 في الفضاء.
ولعلك تتساءل الآن: إذا كانت الطاقة الشمسية متوفرة باستمرار في المدار، فلماذا نحتاج إلى بطاريات أصلًا الجواب يكمن في حركة القمر الصناعي حول الأرض، إذ يمر في بعض الأوقات داخل ظل الكوكب فلا تصله أشعة الشمس، وهذا ما يسمى بالكسوف الأرضي. في هذه الفترات التي قد تمتد لعشرات الدقائق يعتمد القمر الصناعي على بطاريات أيون الليثيوم أو بطاريات أخرى متطورة جرى شحنها بالطاقة الشمسية أثناء وجوده في الضوء. إذن نحن أمام نظام مزدوج: ألواح شمسية لإنتاج الكهرباء عند الإضاءة، وبطاريات لتخزينها وضمان استمرارية التشغيل في الظل.
لكن القصة لا تخلو من تحديات قاسية، فلو سألت مهندسًا يعمل في وكالة ناسا أو وكالة الفضاء الأوروبية سيخبرك أن الخلية الشمسية التي تعمل على الأرض لعقود قد تتدهور بسرعة في الفضاء بسبب وابل مستمر من البروتونات والإلكترونات عالية الطاقة القادمة من الرياح الشمسية والإشعاع الكوني، ما يؤدي إلى تدمير بنيتها البلورية وخفض كفاءتها تدريجيًا. لهذا تُختبر الألواح تحت ظروف إشعاعية قاسية في المختبرات قبل إرسالها، ويُضاف إليها دروع رقيقة أحيانًا لتقليل الأثر. كما أن الفضاء لا يوفر هواءً للتبريد، والحرارة يمكن أن ترتفع بشكل هائل عندما تكون الألواح في مواجهة الشمس مباشرة، ثم تهبط إلى درجات تجمد قاسية في الظل، هذه الدورة الحرارية المستمرة تمثل تحديًا ميكانيكيًا على المواد، ولذلك نرى هياكل متقدمة تسمح بتمدد الألواح وانكماشها دون أن تتشقق.
ومن زاوية هندسية مثيرة، يسأل سائل: كيف يمكن وضع ألواح شمسية ضخمة على صاروخ صغير أثناء الإطلاق
الجواب هو أن تُطوى الألواح بآليات دقيقة مثل الأكورديون أو المروحة، وعندما يصل القمر إلى مداره تُفتح تلقائيًا في عملية أشبه بوردة تتفتح في الفضاء. بعض الأقمار الصغيرة مثل كيوبسات تكتفي بألواح جانبية صغيرة، لكن التلسكوبات الكبرى مثل جيمس ويب تمتلك منظومات معقدة تزن مئات الكيلوغرامات وتنتج عشرات الكيلوواط من الطاقة. للمقارنة، محطة الفضاء الدولية تعتمد على أكبر مجموعة ألواح شمسية صنعتها البشرية حتى الآن وتنتج نحو 250 كيلوواط، وهو ما يكفي لتشغيل بلدة صغيرة على الأرض.
إن كنت تتابع الإنترنت الفضائي عبر أقمار ستارلينك مثلًا، فاعلم أن كل قمر منها مزود بألواح شمسية مرنة عالية الكفاءة، تضمن بقاءه في المدار لسنوات دون الحاجة لأي وقود إضافي لتشغيل أنظمته. والأمر نفسه ينطبق على أقمار الملاحة مثل GPS وغاليليو، فهي تحتاج طاقة مستقرة لتشغيل ساعاتها الذرية فائقة الدقة، إذ إن أي اضطراب طاقي قد يؤدي إلى أخطاء في تحديد المواقع على الأرض. أما الأقمار العلمية مثل هابل أو مسبار جونو الذي يدور حول المشتري، فقد أظهرت للعالم أن الطاقة الشمسية يمكن أن تبقى فعالة حتى على مسافات بعيدة جدًا من الشمس، وإن كان ذلك يتطلب ألواحًا أكبر بكثير بسبب انخفاض شدة الإشعاع الشمسي مع البعد .
لكن ماذا عن المستقبل يبدو أن العلماء لا يكتفون بمجرد تزويد الأقمار الصناعية بالطاقة، بل بدأوا يتطلعون إلى بناء محطات طاقة شمسية ضخمة في الفضاء تبث الكهرباء إلى الأرض عبر موجات ميكروويف، فكرة كانت تبدو خيالية قبل عقود لكنها اليوم قيد البحث في وكالات مثل ناسا ووكالة الفضاء اليابانية. تخيل أن يتم نشر مجموعة هائلة من الألواح في مدار ثابت حول الأرض، تلتقط أشعة الشمس بلا انقطاع ثم تحولها إلى طاقة يمكن نقلها مباشرة إلى محطات استقبال أرضية، هذا قد يغير مستقبل الطاقة بالكامل. كذلك هناك أبحاث في الخلايا الشمسية الكمية التي تستخدم مبادئ ميكانيكا الكم لالتقاط طيف أوسع من الضوء، ما قد يجعل الكفاءة تتجاوز الحدود الحالية بكثير.
وعندما تتأمل هذا المشهد ستدرك أن الطاقة الشمسية لم تعد مجرد خيار اقتصادي أو بيئي على الأرض، بل أصبحت شريان حياة لكل نشاط فضائي، من أبسط كيوبسات جامعية إلى أعظم التلسكوبات والمسابير الكوكبية. إن الاعتماد على الشمس في الفضاء ليس رفاهية بل ضرورة فيزيائية، لأن البدائل مثل المفاعلات النووية صغيرة الحجم أو البطاريات فائقة السعة ما تزال محدودة ومكلفة وخطرة. الشمس تمنحنا تيارًا مجانيًا مستمرًا من الفوتونات، وكل ما علينا فعله هو أن نتقن فن التقاطه وتوجيهه وحمايته. وبينما تقرأ هذه السطور، مئات الأقمار الصناعية فوق رأسك تفتح ألواحها كالزهور وتلتقط طاقة عمرها أربعة مليارات سنة لتبث لك إشارة، أو تحدد لك موقعك، أو ترسل صورة لكوكب بعيد.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN