يحلق فريق من الطيارين صوب السحب الكثيفة لتحفيزها على إسقاط الأمطار، ويستعين أعضاؤه بمهارات خاصة في الطيران، وبطرق كيميائية بسيطة.
لكن عندما يحلق الطيار المتخصص في تنفيذ عمليات الاستمطار، إلى أين يتجه تحديدا؟ وماذا يجد عندما حين إلى هناك؟
حين تغوص وسط السحاب، لا تكاد ترى شيئا في البداية. ثم فجأة تجد كتلة داكنة محاطة بلون أبيض. وعليك أن تتجه صوب البقعة الداكنة.
وجذبت العملية المعروفة باسم "تلقيح السحب"، والتي تعني حقن السحب بالخلايا الرعدية التي تمثل أصغر وحدة في النظام المنتج للعواصف بمواد معينة لزيادة معدلات هطول الأمطار، أنظار البلدان التي تندر فيها المياه، ولا سيما في السنوات الخمس الماضية.
وفي الوقت الحالي، تنفذ نحو 60 دولة في خمس قارات عمليات تلقيح السحب لتزيد من معدل سقوط الأمطار بهدف إمداد الخزانات، ومستجمعات المياه، والزراعة.
ولكن ليس من السهل معرفة كيفية الطيران صوب السحب، فضلا عن التوقيت المناسب للطيران، إذ أن الطيارين لا يتلقون في المعتاد التدريب على الطيران بالقرب من "السحب الإعصارية"، ولا التحليق وسطها.
يقول هانز ألنيس، نائب رئيس العمليات بشركة "ويذر موديفيكيشن إنك" المتخصصة في تعديل أحوال الطقس، إنه لكي ينفذ الطيار هذه العلميات يجب أن يتعلم أولا رصد ظواهر مثل تغير سرعة الرياح، والحد الفاصل بين هواء العاصفة البارد والهواء الدافيء المحيط، المسمى بمقدمة العاصفة، وتيارات الهواء الصاعدة، وتيارات الهواء الهابطة، وما شابه ذلك من ظواهر خطيرة ينبغي تفاديها عند الطيران.
وأفضل طريقة لتحقيق ذلك أن يضع الطيار المخضرم الطيار المستجد في طائرات ويعلمه كيف يحلق أثناء هبوب عاصفة حقيقية مرتين على الأقل.
يقول ألنيس: "هذه أشياء لا تتعلمها في أي مكان آخر". وعلى الرغم من أن شركة "ويذر موديفيكيشن إنك"، قد تأسست في أعقاب الخسائر واسعة النطاق التي لحقت بالمحصول الزراعي جراء هطول الأمطار الغزيرة على ولاية نورث داكوتا الأمريكية، إلا أن الشركة منذ ذلك الحين تنفذ مشروعات تلقيح السحب في السنغال، ومالي، والسعودية، ماليزيا، وأستراليا. وتتلقى الكثير من الطلبات من أناس يطلبون "إصلاح" السُحب.
بدأت الأبحاث الأولية في مجال تعديل الطقس في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وكانت تجرى في الغالب في الولايات المتحدة، ثم زادت وتيرة عمليات استمطار السحب في السيتينيات والسبعينيات بفضل تمويل شركة "جنرال إليكتريك".
لكن في العقدين اللاحقين تراجع الاهتمام بها والاستثمار فيها، وفقد الناس الثقة فيها بسبب مزاعم غير واقعية، على الأقل في الولايات المتحدة، إلا أن الأبحاث لم تتوقف في جنوب أفريقيا وأستراليا وإسرائيل.
لكن ديون تيربلانش، الذي يشرف على برامج عديدة في مجالات الطقس والمناخ بالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، يقول إننا بدأنا نشهد مؤخرا زيادة حقيقية في الجهود المبذولة في مجال استمطار السحب.
يتضمن تلقيح السحب بالمواد الماصة للرطوبة، وهو ما ظهر في بدايات تسعينيات القرن الماضي، نشر خليط من أملاح كلوريد الصوديوم والمغنسيوم والبوتاسيوم التي تمتص الماء، عوضا عن يوديد الفضة الذي كان يستخدم في عمليات التلقيح السابقة، بأجزاء من السحب.
ثم تجمع الأملاح بخار الماء وتصبح أكبر حجما قبل أن تسقط في صورة أمطار. وفي بعض الحالات، تعد عملية تلقيح السحب من الأرض باستخدام مضادات الطائرات أو قاذفات الصواريخ، أقل تكلفة وأفضل من عملية تلقيح السحب بالطائرات، ولكن بمجرد أن تصعد فوق السحب، تصبح الطائرات ضرورية.
وبحلول عام 1999، شاركت 40 دولة في جهود استمطار السحب، وأثبتت تجارب أُجريت بطريقة عشوائية بهدف تلافي التحيز، نجاح عملية تلقيح السحب. واليوم تشير التقديرات إلى أن عمليات تلقيح السحب تزيد من معدل هطول الأمطار بنسبة تتراوح ما بين 15 و40 في المئة.
إن الطائرة التي تستخدم في استمطار السحب هي في المعتاد طائرة ذات محركين، مزودة بحوامل مثبتة بقعر الطائرة وجناحيها.
يقول جين فرانسوا بيرثوميو، المستشار بالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، إن توقيت بدء تكوّن الخلايا الرعدية وفهم دورتها عاملان لا غنى عنهما في رحلات استمطار السحب. وقد درّب بيرثوميو طيارين في تشاد وليبيا وجنوب أفريقيا وشارك في برامج في دول مثل سوريا والنمسا والهند.
بعد أن يراقب الطيار جهاز الرادار للكشف عن مسار الرحلة، ويبحث عن سحابة ركامية، يجب أن يتخذ ما يلزم من تدابير داخل السحابة، وخارجها، لفحص جودة البخاخات والكشف عن مدى صلاحية السحب للتلقيح.
وإذا وجد أن كل شيء على ما يرام، يشغل القاذفات التي تطلق مواد ماصة للرطوبة نحو تيارات الهواء الصاعدة التي تشكل السحب. كما يجب على الطيار، الذي يحلق على مسافة نحو 500 قدم من قاعدة العاصفة،
يقول ألنيس إن الطيران وسط العواصف في الصيف أكثر متعة عن الطيران في الشتاء. فرحلات الشتاء، التي تستهدف زيادة هطول الثلج، لا تكون السُحب من الداخل بذات القدر من الروعة، كما أن الجليد يتراكم على الطائرة، ويضطر الطيار حينئذ إلى الهبوط إلى مستويات أكثر انخفاضا حيث الهواء الأكثر دفئا.
ويمكن تلقيح السحب صيفا بإحدى طريقتين، إما من الأسفل، بحقن جسيمات مواد ماصة للرطوبة في تيارات الهواء الصاعدة أو من على قمة أجزاء السحب التي يزداد حجمها، ويعرف هذا النوع بالتلقيح من القمة.
عندما تلقح السحب من القمة، أنت تطير على مسافة 20 ألف قدم حول حافة العاصفة، لتعقب الخلية الرعدية الرئيسية إما ببصرك أو باستخدام الرادار.
ويقول ألنيس، تكثر المطبات الهوائية في هذه الأجزاء، ثم يتولد تيار هوائي صاعد هائل من الداخل. وعندما يتكون الثلج على الطائرة ستعرف أنك تطير خلال منطقة مائية، ثم تميل الطائرة بعنف مع تولد تيار هوائي هابط هائل الحجم.
وعند هذه النقطة تحاول أن تتفادى التيار الصاعد والتيار الهابط، يمينا ويسارا، حتى تتغير كثافة العاصفة أو تخرج من المنطقة. ويقول بيرثوميو إن الخطط محكمة التنفيذ تنجح عادة، إلا في حالات نادرة.
ولكن لا تصلح عمليات تعديل الطقس في جميع الظروف المناخية، إذ أن كل عاصفة وكل سحابة تختلف عن الأخرى.
يقول رويلف برونتجيز، عالم المشاريع بالمركز القومي للأبحاث الجوية ورئيس فريق خبراء تعديل الطقس بالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، إنه من الأهمية بمكان أن تفهم طبيعة السحب في المنطقة التي تريد أن تجري فيها تجربة تلقيح السحب، قبل أن تبدأ في إجرائها.
فلا يمكن أن تنقل الأساليب والنتائج من منطقة إلى أخرى، بل عليك أن تسأل أولًا: هل توجد سُحب؟ وهل هذه السحب ستستجيب للتلقيح؟
ويمثل نوع السحاب والجسيمات الموجودة في الجو ومعدل التلوث عوامل ذات أهمية بالغة في عملية التلقيح. إذ تختلف السحب صغيرة القطرات في ولاية نورث داكوتا، المحاطة باليابسة، على سبيل المثال عن السحب في تايلاند ذات الطبيعة الاستوائية كثيفة الرطوبة.
وعندما قدم برونتجيس المشورة في مشروع بجزيرة سولاويسي الإندونيسية، اقترح أن السحب البحرية تشتمل على جسيمات من الملح بالفعل تبخرت من البحر، ولذا فلن تجدي علمية التلقيح نفعا.
وأما في ليبيا وقطر والإمارات العربية المتحدة، وما شابهها من دول لا تسقط فيها الأمطار إلا في فصل الشتاء، فيستحيل تلقيح السحب في فصل الصيف الجاف والخالي من الغيوم.
يقول تيربلانش إن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية تبذل قصارى جهدها لوضع دليل للبلدان التي ترغب في تعديل الطقس. ويوفر موقع المنظمة مستندات تضم مجموعة أساسية من أفضل الممارسات وخطة محكمة التنظيم وطويلة المدى.
وتُنصح الدول بالاستعانة بعلماء عالميين مشهود لهم بالكفاءة، مثل بروينتجيز وبيرثوميو، لتقديم الإرشاد والمشورة حسب طبيعة البلد.
وقد تفاقمت مشكلة المياه، مع تصاعد التغير المناخي وتضاعف عدد السكان في العالم، وأصبحت المجتمعات أكثر عدائية من ذي قبل. ويقول برونتجيز: "إن مشكلة الماء مشكلة عالمية، وستصبح يوما ما مشكلة القرن".
وأضاف أن الحفاظ على الماء يتطلب مجهودا طويل المدى، وربما يكون تلقيح السحب إحدى الطرق المحتملة للحفاظ عليه. يُذكر أن بروينتجيز بدأ حياته المهنية في جنوب أفريقيا حيث درس إعداد نماذج لمحاكاة السحب وخصائص السُحُب الفيزيائية، كما ساهم في أولى مشاريع تلقيح السحب.
وقد أطلعت حكومة تشاد بروينتجيس مؤخرا على رغبتها في حفظ المزيد من المياه شمالي البلاد، خشية نشوب صراع عنيف إذا ما أرغم الجفاف الناس على الاتجاه جنوبا.
بيد أن اليأس من هطول الأمطار ربما حجب عن الكثيرين حقيقة قدرات عملية تلقيح السحب وحدودها. ويقول ألنيس: "لا يمكن أن تسحب الغيوم والسُحب معك بسلسلة حيثما تريد".
فبمجرد أن يحدث الجفاف، لن يجدي تلقيح السحب نفعا، إذ لا يوجد ماء لإسقاطه من السحب. يتوقع الناس والحكومات تحقيق نتائج مذهلة، ولكن الطيارين محكومون بما تمنحه الطبيعة من مقدرات.
ويحذر برونتجيز العلماء والمستشارين، في ظل تزايد الطلبات من مختلف المناطق حول العالم أكثر من أي وقت مضى، من مغبة إعطاء وعود مستحيلة أو إدعاء أمور غير مدعمة بسند علمي.
يقول تيربلانش: "المقلق في الأمر، أن الناس لم تدرك بعد حقيقة الهدف من تلقيح السحب".
وأردف مفسرا أنه بينما يرى الناس في بعض المناطق في العالم أن تعديل الطقس يتداخل مع إرادة الخالق في خلق الكون، يعتقد آخرون، دون وجه حق، أن تلقيح السحب في إحدى المناطق يسلب الرطوبة من مكان آخر، كما يخشى آخرون من أن يسبب تلقيح السحب فيضانات.
ويؤكد تيربلانش أن كل هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة، ويقول إنه على الرغم من زيادة عدد المشاريع التي تنفذ في مجال تلقيح السحب حول العالم، إلا أنه يجب تحسين سبل التواصل وترسيخ الفهم العلمي الصحيح.
وتابع تيربلانش أن هناك مشاريع لتعديل الطقس موضع أخذ ورد، فلازالت روسيا والصين تستثمران في مشاريع للحد من هطول البرد والمطر الغزير، والتي لا ترتكن إلى أي أساس علمي، ومازالت بعض تقنيات تلقيح السحب التي يستخدمونها مثيرة للجدل.
في حين أن بعض الدول الأخرى تدشن مشروعات قصيرة المدى بغية التدخل في الطقس استجابة لضغوط سياسية. وقد صادف بيرثوميو طيارين وشركات محلية وأفرع كاملة من الحكومة استمطرت السحب بوسائل صناعية، مدعية أنه مطر حقيقي تسببت فيه العواصف التي تكونت بطريقة طبيعية.
وبينما يرى بيرثوميو أن زيادة المطر تمثل إحدى الطرق للتكيف مع ارتفاع حرارة كوكب الأرض، إلا أنه يخشى من مغبة فرط الاعتماد على تلقيح السحب، مشدّدا على أهمية الحفاظ على المياه طوال فصول السنة. وعندما يقدم بيرثوميو المشورة في مشروع ما، يصر على تخصيص 20 في المئة من الأموال للبحث العلمي وتحري الدقة.
وقد رفض بيرثوميو طلبات من بعض الدول بسبب تشككه من أن تستخدم عمليات الاستمطار لتحقيق مآرب سياسية. ومع الأسف، أغلب الدول الأكثر معاناة من شح الموارد المائية تفتقد الإمكانيات اللازمة لتدشين هذه المشروعات، وحتى إن استثمروا فيها، ربما لن يحصلوا على الخبرة والموارد المناسبة.
وقد استثمرت الصين مؤخرا في أكبر مشاريع تعديل الطقس في العالم، إذ أنفقت الحكومة في سنة 2011، 150 مليون دولار في منطقة واحدة فحسب.
كما أنفقت الإمارات العربية المتحدة 558 ألف دولار على عمليات تلقيح السحب، وتسعى في الوقت الحالي لإقامة برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار بقيمة 5 مليون دولار، بغية تعزيز الأبحاث وزيادة الفهم، وهي مبادرة ربما تحدث تغيرا هائلا.
ويستعان حاليا بتقنيات حديثة، مثل الطائرات من دون طيار، التي تستخدم بالفعل في معهد أبحاث صحراء نيفادا، على سبيل المثال، لتلقيح السحب. وبسؤاله عن مدى إمكانية أن تحل الطائرات من دون طيار محل الطائرات التي يقودها طيارون، أجاب بروينتجيز بحذرٍ "نعم"، الأمر وارد.
ولكن هل سيتمكن العلم من تلبية التوقعات في ظل زيادة الطلب واليأس من هطول الأمطار. يقول بروينتجيز، إن السُحُب مخلوقات معقدة وغامضة، وسيظل التحدي الأكبر هو فهم العلوم الجوية فهما شاملا.
وحتى هذا الحين، يمكننا أن نطير خلال السحب لنحفزها على إسقاط المزيد من الأمطار. وقد تمثل هذه العمليات نقطة البداية على الطريق لمواجهة أزمة المياه المتفاقمة التي تؤرق دول العالم قاطبة.