من مركبة فضائية مزودة بمدفع إلى سفن المريخ التي تدار بالطاقة النووي، كادت بعض البعثات الفضائية أن تُحلق في الفضاء إبان الحرب الباردة قبل أن يتوقف تنفيذها.
ولكن، أخيرًا، ستتحول إحدى هذه البعثات إلى حقيقة.
يراود كل شخص مولع بالفضاء بصورة مفرطة حلمٌ عن المكان الذي يأمل أن يوصلنا إليه استكشاف الفضاء.
وأنا الآن أتخيل الأرض محاطة بفنادق فضائية مضيئة، ورحلات الطيران تنتقل جيئة وذهابًا إلى القمر، والمستوطنون الأوائل يستعمرون سهول المريخ المغطاة بالأتربة.
ولكن حتى الآن، على الرغم من الجهود المضنية التي يبذلها ريتشارد برانسون، إلا أن مستقبلنا الفضائي البرّاق لا يزال يستعصي على التحقيق. ففي الأسبوع الماضي فقط، لاحق رجل متنكر في زي غوريللا رائد فضاء بريطاني عبر محطة فضائية.
فليس الأمر بهذا السوء إذن.
وعلى مدار السنوات الأربعين الأخيرة، يسير التقدم البشري خارج المدار الأرضي بخطى وئيدة للغاية، ويعجّ التاريخ الفضائي بمئات المشروعات والمفاهيم التي لم تُستكمل. ولكن ربما كان سيتحقق نمط بديل من الاستكشافات الفضائية يختلف تمامًا عن النمط الحالي، في حال إعطاء الضوء الأخضر لبعض البعثات إبان الحرب الباردة.
صاروخ نووي
في ساحة العرض الخارجية الصغيرة لمركز مارشال للرحلات الفضائية التابع لوكالة ناسا بولاية ألاباما، يوجد على الأسمنت الرمادي أحد أكثر المحركات غرابةّ من بين جميع المحركات التي صنعتها الوكالة.
وقد وُضِع المحرك على إطار، جنبًا إلى جنب مع معزز دفع صاروخي طويل ورفيع يعمل بوقود صلب للمكوك الفضائي (كُتبت كلمة "فارغ" على الناحية الجانبية لطمأنة الزائرين)، وقد صُمِم محرك "نيرفا" قُمعيّ الشكل لنقل رواد الفضاء إلى المريخ.
ويتكون محرك "نيرفا"، أو المحرك النووي، المخصص للاستخدام في المركبات الصاروخية، والذي طُوِّر في ستينيات القرن الماضي، من مفاعل انشطار نووي لمادة اليورانيوم اسطواني الشكل يعمل على تسخين الهيدروجين السائل.
ثم يُطرد الغاز من خلال إحدى فوهات الصاروخ لتوليد مستويات عالية من قوة الدفع.
وكان من المتوقع أن تطلق وكالة ناسا أول بعثة إلى كوكب المريخ في 1979، وفقًا لخطة "فيرنر فون براون"، بحيث يُرسل رواد الفضاء على متن صاروخ تقليدي قبل تشغيل نيرفا في المدار لنقلهم قدمًا إلى الكوكب الأحمر (المريخ).
وقد اجتاز 20 محركًا نوويًا الاختبارات بنجاح، إذ كانت النتائج تشي بأنها تكنولوجيا واعدة للانتقال بين الكواكب. وربما كان سيغدو هذا المحرك المعروض في مركز مارشال للرحلات الفضائية أقوى المحركات لو لم يُلغ المشروع سنة 1973 قبل أن يُجرّبه أحد.
وبينما لا يزال الكثير من مهندسي الصواريخ يرون أن الدفع النووي له مستقبل واعد، فلا عجب من أن فكرة إطلاق مفاعل مملوء بيورانيوم ذي نشاط إشعاعي عالي على قمة صاروخ مملوء بدوره بغازات متفجرة، كان لها منتقدوها أيضًا.
سفينة فضاء مسلّحة
أسفر البرنامج الروسي لإعداد المركبة الفضائية "سويوز" لأغراض عسكرية في ستينيات القرن العشرين عن إحدى أكثر المركبات الفضائية إثارةً للرعب على الإطلاق.
وكان الهدف تطوير مركبة فضائية تحمل طاقمًا لمراقبة أراضي العدو وتدمير أقماره الصناعية.
وكانت الخطة التي أُفصِح عنها آنذاك أن تُطلق طائرة مسلّحة مأهولة في الفضاء، تكون قادرة على مباغتة سفينة فضائية أخرى وإطلاق قذيفة لتفجيرها وتدميرها.
وسيكون الهدف الرئيسي أقمار التجسس الصناعية الأمريكية فضلًا عن أي مركبة فضائية أمريكية مجهزة بأسلحة.
وكان على رائد الفضاء السوفييتي أن يصوّب السلاح من خلال توجيه السفينة الفضائية ووضع الهدف أمام فوهة البندقية. ولكي يضمنوا أن مركبة "سويوز" لن ترتدّ للخلف أو تبدأ في الدوران حول نفسها على نحو خارج عن السيطرة، عندما يطلقوا القذيفة، تم تثبيت المدفع على منصة مستقلة منخفضة الاحتكاك.
وعلى الرغم من أنه بدا أن الآلات التكنولوجية قد طُوِّرت بالفعل ورواد الفضاء الروس تدربوا على استخدامها، إلا أنه أوقف تنفيذ البرنامج العسكري ليحل محلّه برنامج محطة فضائية مدنية. ومع ظهور أقمار تجسس صناعية أكثر تعقيدًا، تقرر أيضًا أنه لم تعد ثمة ضرورة لوجود إنسان لالتقاط الصور.
مركبة جيميني الكبيرة
تميز برنامج جيميني في منتصف الستينيات بوجود بعض أكثر البعثات جرأة على الإطلاق. وعلى الرغم من دخول رائدي فضاء بصعوبة في مقصورة قيادة ضيقة في حجم المقعدين الأمامين لسيارة عائلية صغيرة تقريبًا، إلا أن برنامج جيميني حقق العديد من الإنجازات الفضائية التي لم يسبقه إليها أحد من قبل، مثل أول أمريكي يسير في الفضاء.
وأول رحلة في الفضاء تستغرق وقتًا طويلًا، وأول لقاء بين مركبتين فضائيتين في مدار واحد حول الأرض واقترانهما معًا، وأول مرة تُجهز مركبة فضائية بخلايا وقود وأجهزة كمبيوتر قابلة للبرمجة.
ومن الجيد أن الشركة التي تصنع سفينة جيميني الفضائية، وهي شركة "ماكدونل دوغلاس"، كانت لديها خطط كبيرة لهذه المركبة الفضائية الصغيرة، إذ قررت أن تكّبر حجمها لتحمل تسعة رواد فضاء. وتمخضت هذه الخطط عن برنامج "بيغ جيميني"، الذي وصف في الكتيب الترويجي بأنه "شاحنة في الفضاء".
وتشتمل مركبة بيج جيميني الفضائية، التي صُممت لنقل رواد الفضاء من محطة فضاء عسكرية وإليها، على حجرتين: كبسولة جيميني المعتادة في الأمام التي تسع رجليّ فضاء، ومقصورة جديدة أكبر حجمًا تحمل طاقم السفينة خلف الكبسولة.
وقد وضعت "ماكدونل دوغلاس" خططًا تفصيلية للمشروع وأقامت نماذج بالحجم الطبيعي لتبين للمسئولين بوكالة ناسا كيف ستسير الأمور كلها.
وبسبب تعليق العمل في المحطة الفضائية، لم تُستكمل بيج جيميني في نهاية الأمر ليحلّ محلها مكوك الفضاء سنة 1971. وقد بات مصير فكرة كبسولة كبيرة تحمل طاقمًا لنقل رواد الفضاء من المدار وإليه غير معلوم مرة أخرى، إذ تموّل ناسا في الوقت الحالي تصميمات اقترحتها شركتي "بوينغ" و"سبيس إكس".
محطة الفضاء فريدوم
تختلف محطة الفضاء التي أعلن الرئيس رونالد ريغان عن موافقته عليها رسميًا سنة 1984 اختلافًا كليًا عن محطة الفضاء الدولية (أي إس إس) التي أعقبت الدمار السياسي. إذ كان من المتوقع أن تكون محطة الفضاء "فريدوم" أكبر بكثير من مختبر على المدار.
فلم يكن من المفترض أن تضم معامل فحسب، بل كانت أيضًا ستتضمن غرفة للمرضى مجهزة بالكامل ومرافق ترفيهية، بل والأكثر إثارة للإعجاب أن تصميمها يتميز بوجود مرفق للصيانة والإصلاح، حيث يمكن إحضار الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية لإصلاحها قبل إطلاقها مرة أخرى إلى الفضاء.
وإيجازًا، فإن المحطة الفضائية "فريدوم" تشبه محطات الفضاء في قصص الخيال العلمي أكثر مما تشبه المجموعة غير المنسقة من الاسطوانات التي انتهى بنا المطاف إليها. وللأسف اتضح أن محطة "فريدوم" باهظة التكلفة، وغير عملية، ثم مع نهاية الحرب الباردة، اتضح أنها غير ضرورية.
بيد أن محطة الفضاء الدولية لديها القليل من السمات التي تميزت بها محطة "فريدوم"، إذ تمكنت من جمع شمل خصمي الحرب الباردة سابقًا، بل في الواقع، لم تكن محطة الفضاء الدولية ستكتمل من دون الخبرة الروسية في المحطات الفضائية.
مركبة فضائية سوفيتية
في ستينيات القرن العشرين، طورت القوتان العظميان سفينتين فضائيتين مختلفتين تمامًا، من حيث الشكل، لحل المشاكل نفسها. ففيما فضّل الأمريكان الكبسولات مخروطية الشكل، مثل أبوللو، كان يروق للروس الشكل الكروي لكبسولاتهم، إلا أن في العقد اللاحق، ازداد "الاقتباس"، إن جاز لنا التعبير، في المجال التكنولوجي.
فكان تصميم المركبة الفضائية الروسية "بوران"، على سبيل المثال، تقليدًا صريحًا لتصميم المكوك الفضائي. غير أن الأمريكان لم يكونوا محصنين من تقليد التكنولوجيا الروسية.
فقد كان أحد أكثر التصميمات المقتبسة غرابةً مأخوذًا من المركبة "إم أي جي- 105" الذي كان على شكل خُفّ.
وكانت المركبة "إم أي جي- 105"، التي طُوّرت في منتصف ستينيات القرن العشرين، هي أول محاولة روسية لتصنيع مركبة فضائية ذات جناحين. وتمثلت فكرتها في إطلاق مكوك صغير إلى المدار من على قمة صاروخ تقليدي، ثم يعود عندئذ إلى الأرض على مدرج لهبوط الطائرات. وقد أثبتت بضع رحلات جوية ناجحة رجاحة الفكرة، ولم يمض وقت طويل حتى "حصلت" الولايات المتحدة على التكنولوجيا وطورت نموذجًا خاصًا بها.
وكان من الممكن أن يغدو هذا بسهولة أحد مفاهيم الحرب الباردة التي لم تكن لتصل أبدًا إلى الفضاء، ولكن في المقابل، عُدِل التصميم الأصلي ليصبح مركبة "دريم تشيسر" الفضائية التي طورتها شركة "سييرا نيفادا كوربوريشن".
وبتمويل من وكالة ناسا الفضائية، من المقرر أن تُحلق أول مركبة فضائية من هذا النوع، من دون قائد، في مهمة إعادة إمداد محطة الطاقة الدولية بنهاية العِقد الحالي. وفي حال اهتمام سائر البلدان والعاملين في مجال النقل الجوي التجاري، ربما يتمكن نموذج مأهول من هذه المركبة الفضائية من الوصول إلى المدار.
تثبت مركبة "دريم تشيسر" الفضائية أنه يجدر في بعض الأحيان إعادة النظر في الأفكار غير المعتادة والطموحة التي ظهرت في أوّج الحرب الباردة. وفيما نضع نصب أعيينا الوصول إلى المريخ، ربما يعود إنتاج المحركات النووية مرة أخرى.
أما عن المدفع الفضائي، فإذا وصلنا إلى الحدّ النهائي الذي يفصلنا عن العالم الذي لم يُستكشف بعد، ربما سنحتاج إلى كل ما يمكننا الوصول إليه من أفكار طائشة.