دعا المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة السيد أحمد الصافي، إلى اعتماد ما جاد به أهل البيت (عليهم السلام) في التأسيس للحياة الطيبة. جاء ذلك في كلمته ضمن فعاليات مؤتمر (معالم الحياة الطيبة عند أهل البيت عليهم السلام)، المنعقد تحت شعار (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، وتُنظّمه جمعية العميد العلمية والفكرية، وقسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة ممثّلاً بالمركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية. وقال السيد الصافي، أننا "نحتاج إلى منهج يرسم الطريق، وأن ندرّس أولادنا به في مدارسنا ومحافلنا، ونقول أنّ هذه هي الحياة الطيبة، التي تشمل الشاب والمراهق والزوج والزوجة والأب والابن، وأنّ هذه الحياة الطيبة بهذه المراحل التدريسية غير المؤلفات الجماهيرية الموجودة، لا منهج أكاديمي كما أتعلم الرياضيات في كتاب منهجي، أو الكيمياء أو التفسير، أتعلم الحياة الطيبة كيف تكون في منهج حقيقي". وجاء في نص الكلمة: نحييكم ابتداءً في هذه الأيام المباركة ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لاستقبال شهر الله الأعظم شهر رمضان المبارك وأن يتقبله منا ومنكم، سائلين ثانيةً بحرمة ليلة النصف من شعبان أن يكحل أعيننا بالطلعة البهية لوليه صاحب الأمر والزمان. بدءًا أيضا نشد على أيد الأخوة في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، وجمعية العميد لهذه الباكورة الطيبة في مسألة الحياة الطيبة، وإن شاء الله تعالى يكون هذا المؤتمر نافعًا وواسعًا وتؤسس فيه وتؤصل فيه بعض القواعد المهمة لإحياء هذه الحياة الطيبة. لا يخفى على الأخوة الأعزاء مسألة الحياة عمومًا، يعني ما دمنا في الدنيا نتكلم عن الحياة الدنيا، وكيف يمكن أن تخلو من مشاكل، في الحقيقة هي لا تخلو من مشاكل جمة، وهذه المشاكل تتفاوت سعةً وضيقًا وتعقيدًا، بحسب ما نبلغ نحن من رؤيا إزاء هذه الحياة. في بعض الحالات قد لا تستدعي المسألة منا أن نتعب ونتشنّج فيها كثيرًا، ونحمل همها كثيرًا، لكنّنا قد لا نفهم طريقة حل هذه المشكلة، فتزداد تعقيدًا، كمن مثلاً يرفع رجله من الوحل، ثمّ يضع الأخرى في وحل، وهكذا الدوامة تستمر. واليوم الدنيا عندما تعاني من هذه التعقيدات، فجزء مهم منها، ولعله الجزء الأهم، هو ابتعادها عما بيّنه الله تعالى من نهج يوضح كيف نعيش في هذه الدنيا. فالذي خلقنا لم ينس حاشاه أن يعطينا رؤيا عن كيفية العيش في هذه الدنيا بحسب ما قدر لله تعالى من أعمار، ثم ننتقل إلى عالم آخر أبدي. في هذه الحقبة، حقبة الدنيا، قد لا نعلم ولا نفهم ما هي الأسس التي يمكن أن نعيشها حتى نتجنب أكبر خسارة ممكنة في مشوارنا الحياتي، الإنسان إذا كان لا يعرف فلا شك سيكون هو في تيه، وفي ظلال، وإن خرج من مشكلة دخل في أخرى، وهكذا ينهي عمره بالانتهاء من مشاكل والدخول في أخرى إلى أن يموت، أمّا الذي يفهم كيف نتعامل مع هذه الدنيا، ما هي القواعد العامة التي بيّنها الله تبارك وتعالى لنا كي نحيا فيها؟ مع أنّنا بشر وما يحتاجه البشر هو غريزة حب البقاء، فأيضًا موجودة غريزة حب الذات، وهنا جاء الشارع المقدس وقنّنها، وفصّل الأمر، فهذا الشي يشبع حياتك، وذاك الشي ينظم أفكارك، وهكذا.. وفق ما بيّنه الأنبياء وجاء به القرآن، وبتطبيقه ستعيش حياةً طيبة. والطيب مقابل الخبيث، والخبيث حتى المادة، لست أتحدث فقط عن الهيئة، بل حتى مادة الخبيث مقززة، هذا شيء خبيث مُنفّر لجميع الطبائع البشرية باختلاف الشرائع والأديان، فكل أفرادها تتنفّر من هذا شيء الخبيث. والقرآن الكريم استعمل هذا المصطلح فشجرة طيبة يقابلها شجرة خبيثة، الطيب لا يتزوج إلا طيبة مقابل الخبيث ومشتقاته. الخبث يولد حالة من النفرة، فكيف إذا كانت الحياة كلها توسم بأنها حياة خبيثة؟!، وفي المقابل تكون الحياة حياة طيبة. الحياة الطيبة لا تعني ألا توجد مشاكل فيها، بل بالعكس الطيب ليس له علاقة بالمشكلة، قد تكون المشكلة هي عنوان الطيب، لكن هذه المشاكل كيف تواجه؟ طبعًا التنظيم الأسري كتنظيم مجتمعي قطعًا يحتاج منا إلى منهجية، وكمثال، أنا أؤمن أنّ الرسالة العملية هي منهج حياة كامل، أنا أؤمن به، لكن الصياغة صياغة الرسالة العملية ما هو؟ إذا أردنا أن نتجاوز جوانب المسائل الفردية إلى قضايا حياة عامة، فهي تحتاج إلى صياغة أيضًا، المادة باقية لا نمسها، لكن الصياغ نعم نحتاج إلى إيجادها. عندنا كنز كبير جدًّا من المعارف التي تؤسس إلى حياة طيبة، أنا قرأت أولاً ملخصات بحوث المؤتمر بحمد لله تعالى، العناوين جيدة والمعنون إن شاء الله تعالى يكون أفضل، وكلها تريد أن تصل بنا إلى هذه الحياة الطيبة، من ولادة الإنسان إلى مماته بأن يعيش هذه الحياة الطيبة. أنّ لدينا مواد جيدة وجديرة جدًّا بأن تكون منهجًا للحياة، نعم قد لازلنا نحتاج إلى الصياغات، ولعله مع الأخوة الأعزاء مؤسسي هذا المؤتمر يستفيدون من كلام الأئمة (عليهم السلام)، فهم يقولون نحن نلقي الأصول وعليكم التفريع. قطعًا القضية غير خاصة بالفقه، بل هي عامة لجملة من الأشياء التي لا نعرفها، لأنّ كلامهم (عليهم السلام) بشؤون الحياة جميعها من الولادة إلى الممات، وجاء الأئمة الأطهار (سلام الله عليهم) وبيّنوا كثيرًا من الأمور التي يحتاجها الإنسان حتى يعيش هذه الحياة الطيبة، ولعلنا أخذنا مثالاً فيما سبق، ولا بأس بإعادته الآن بشكل يعني إن شاء الله لا نتطفل على الوقت.
كلكم ترون أنّنا في دعائنا نستقبل القبلة ونوفر صفات وحالات الكمال للدعاء، كالوضوء والجلوس على السجادة واختيار الوقت المحبب لإجابة الدعاء، واختيار المكان الذي يستجاب فيه الدعاء، ثمّ ندعو الله تعالى، وهذه من الحالات التي ندب إليها الشارع المقدس، ولا شك أنّ هذه حالة ممتازة، حيث إنّ الله تبارك وتعالى لو لا دعائنا لا يعبئ بنا، الله أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة (ادعوني استجب لكم). في سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) هناك حالة ما وراء ذلك، حيث إنّ بعض المفاهيم أُدخلت في الدعاء نتيجة ظروف الآل، وهي غير خافية على حضراتكم، فالآل (عليهم السلام) لم يعيشوا الحياة العادية، وإنما عاشوا حياةً فيها ضغط لا أعبّر بأكثر من هذا التعبير، يعني فيها ضغط، لم يجدوا فسحة إلى أن يعبّروا عن كل ما جاءت به السنة المطهرة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله)، ليس معلومًا الألف باب التي أعطاها النبي لأمير المؤمنين (صلوات الله عليهم) وكل باب يفتح منه ألف باب، ليس معلومًا أنها ظهرت إلى الناس، فعند الإمام (عليه السلام) موجودة لكنها ظهرت إلى الناس جميعًا، وليس معلومًا أنّه قد حصل العكس، وإنّ هناك بعض الروايات لا زال بعضها مرهون عند صاحب العصر والزمان (سلام الله عليه). لكن الأئمة طرحوا بعض المفاهيم لأبنائنا من خلال الدعاء، وهذه صياغة خاصة بهم، يعني غير حالة الوقوف بين يدي الله تعالى وطلب الرحمة والاستزادة، غير هذا طرحوا مفاهيم كبيرة لتقويمنا وأيضا للحفاظ علينا، ومن جملتها لعله أدعية الإمام السجاد (سلام الله عليه)، ففيها كنز من المعارف الكبيرة جدًّا، واستنطاق هذه الكنوز يحتاج أن يكون من قبل المختصين، كي يؤسس لمنهج خاص في مقام التربية. دعاء مكارم الأخلاق من الأدعية الراقية جدًّا حتى إنّ كثيرًا من العلماء -أنا قرأت بعض إجازات العلماء الآخرين - كانوا يوصوهم بدعاء مكارم الأخلاق ودعاء التوبة، للإمام السجاد (عليه السلام)، وبعضهم كان يوصي مثلاً بالاهتمام بنهج البلاغة. أمير المؤمنين (عليه السلام) أعطى قواعد كثيرة في قصار الحكام، مثلاً رواية تصدر عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بما مضمونها مثلاً أنّ الناس مجبولة على محبة من أحسن إليها، مضمون الرواية ليس نصًّا، لاحظوا هذا مفهوم راقٍ جدًّا لا يتكلم عن الإحسان القربوي إلى الله تعالى، بل يتكلم عن الطرف الآخر، أي إنّ الناس تحب من أحسن إليها. النبي يوسف (عليه السلام) كان في السجن ويقول له (إنّنا نراك من المحسنين)، فإذن الإحسان إلى الآخرين يولد حالة من المحبة. علم النفس الآن عندما يدرس عملية التواصل مع الآخرين، يطرح مفاهيم متعددة لغرض التواصل، كيف تكسب الاحترام؟ كيف تكسب المحبة؟ تأتي كلمة مختصرة من أئمتنا (سلام الله عليهم) يقول هذا المقدار اهتموا به، تريدون أن تحصلوا على المحبة أحسنوا إلى الناس، ولاحظوا ما فائدة التجمع في التواصل العائلي، وفي التواصل الأقربائي، وفي التواصل الاجتماعي، بهذه الكلمة، كلمة الإحسان، أنّ الإنسان سيكون قطعة من الإحسان، وهكذا. ألّف ديل كارنيجي أحد علماء الغرب في الأربعينات أو الخمسينات من القرن الماضي كتاباً اسمه (كيف تكسب الأصدقاء؟)، وهو كتاب ذو عنوان شيّق، خصوصاً للشابّ في بداية مراهقته، فالشابّ يحبّ أن يتعلّم هذه الأمور، فهو وضع خطوطاً عريضة عن كيفية كسب الأصدقاء، وطرح مباني يرى أنّها فعلاً تؤدّي الغرض، قرأه أحد علمائنا وألّف كتاباً بنفس العنوان (كيف تكسب الأصدقاء؟)، لكن جعل المناط ليس ما قال هذا العالم الغربيّ، وإنّما المناط ما جادت به روايات أهل البيت(عليهم السلام) بحيث دخلت هذه المسألة حتّى في تفاصيل المناداة، هل من الأفضل أن تسمّي صاحبك باسمه تقول له (يا محمد) أو تقول له (يا أبا فلان)؟ وقال إنّ الكنية بالنسبة للشخص أحبّ، فالشباب بينهم هذا يكنّي هذا، أوقع في قلبه وزيادة في المحبّة لهذه الدرجة، المصافحة وأثرها اجتماعياً، وبدأ يؤسّس منهجاً من خلال هذه الروايات الشريفة، وهذا المنهج قد يتعارض مع ذلك المنهج، وهذا المنهج دائم. اليوم الإنسان يحبّ نفسه سواء كان قبل ألف سنة يحبّ نفسه أو الآن أو بعد ألف سنة، هو يحبّ نفسه، وإذا أحبّها، كما يختار الطيّب من الطعام أيضاً يختار لها الطيّب من الفكر، وبيّن أنّ هذه تصنع شخصيةً مهمّةً وتعزّز الثقة بالإنسان، وفعلاً الآن الشابّ عندما تكنّيه يشعر بالاحترام أكثر، يشعر بالرجولة أكثر، يشعر بأنّك تحبّه وتحترمه، بينما هو فعل وكلمة صغيرة. ذُكِر في الحديث أنّ (المؤمن هشّ بشّ)، وقد كان بعض الناس حين يزور عالِماً، عندما يزوره لمرّة واحدة يتكلّم عنه ويقول هذا صديقي!! هو يذكر عن العالِم هذا صديقي!!، يسألونه كيف صديقك؟! قال: ابتسم في وجهي وسألني عن العائلة. هذا الأخ كان يتصوّر أنّ العالِم يعرفه، بينما هذا العالم سجيّته هكذا، وهذا بالنتيجة حقّق هذه المحبّة التي لا تزال منطبعة وبسهولة كصورةٍ جيّدة في ذهن هذا الشخص تجاهه. أمامنا الوضع الاجتماعي، لاحظوا -والعياذ بالله- نسبة الطلاقات الهائلة! يعني المجتمع الآن يخرج بانفصالاتٍ أسرية لأنّه لم يتحمّل أحدهما الآخر، على أشياء جداً جداً بسيطة، لا أسرة الزوج تفهم كيف تعالج الأمور، ولا أسرة الزوجة تفهم كيف تعالج الأمور، ويكون هؤلاء ضحية هذا الافتراق، حياتهم لا تتجاوز الأشهر أصلاً، لماذا؟ لأنّهم لم يتعلّموا كيفية أن تكون الحياة طيّبة، يتصوّرون هذا الموجود الآن في الدنيا على ضوضاء الأفكار وعلى تزاحم الثقافات، ليس عنده حالة رصينة يعرف كيف يواجه هذه المشاكل، فتحدث المشكلة. فلنأتِ إلى رأس المشكلة ونحلّها، هذه المسألة مهمّة أن نرجع بالأمور إلى لبّ المشكلة، أين لبّ المشكلة؟ وهذه الأمور الباقية هي النتاج للمشكلة الرئيسية، وليست المشكلة. الطبيب عندما يأتيه شخص ويقول له ارتفعت درجة حرارتي، يحاول أن يصل إلى المشكلة، ليصف العلاج، فأين المشكلة؟ اقضِ على المشكلة، فينقضي هذا الأثر، المؤثّر على هذه الضوضاء. كثير من هؤلاء الناس انسلخوا حقيقة من الدين، وبالنتيجة عندهم حاجيات تحتاج حلّاً، والحاجيات طُرحت لهم بغير منهج الدين، فلم تُحلّ، أو الناس تشدّدوا بالدين بطريقةٍ لا يرضى بها الله ورسوله، فنفّروا الآخرين من الدين، فأصبح الدين ضحية بين منسلِخٍ عنه ومتشَدِّدٍ فيه. أمّا الجادّة الوسطى، والطريقة الوسطى، فقليلٌ من يمارسها، وهذا القليل صوته أيضاً واطئ، الصوت النشاز الآن لمن انسلخَ عن الدين ولمن تشدّد في الدين، أمّا الحالة الوسطى التي هي تريح الإنسان، وتعلّمه وتحلّ مشاكله، تهدّئ من هذه الضوضاء، وتجعل الإنسان أفكاره منظّمة، وطريقته منظّمة، هذه الآن أصواتٌ قليلة؛ ولذا هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله تعالى بجهد جميع الباحثين نريد أن نؤسّس من خلاله حلولاً، بعد أن نفهم أين المشكلة، حتى يؤسَّسَ لهذه الحياة الطيّبة تأسيسٌ حقيقيّ، فيه قواعد عامة مَن شذّ عنها هو يتحمّل خروجه، ومَن التزم بها يُضمَن له أن يعيش حياةً طيّبة، حياة ملؤها الأمل والاستقرار والطمأنينة. ولا أقول لا توجد مشاكل، فالحياة مليئة بالمشاكل، لكن أيضاً المشاكل تُحلّ بطريقةٍ عقلائية تربوية، وقد تصنع المشاكل للإنسان حالةً من حالات التكامل عنده. على العموم أترك البحث الآن للإخوة الأعزّاء فيما يجودون به علينا إن شاء الله من بحوثهم الطيّبة، أسأل الله تعالى دوام التوفيق للجميع وأجدّد الشكر لكم أيها الإخوة الحضور الكرام، وأيضاً للمركز الإسلامي ولجمعيّتنا العزيزة جمعية العميد، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يوفّق الجميع، وأن يحيينا ما دام في العمر بقيّة حياةً طيبة، بمحمّد وآله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين.