أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-10-2014
1496
التاريخ: 13-02-2015
1224
التاريخ: 22-04-2015
1434
التاريخ: 2023-07-24
1081
|
1 - لم يزل الإنسان فيما نعلم - حتى الإنسان الأولي - يقول في بعض قوله: "أنا" و "نفسي" يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونية و هو لا محالة يدري ما يقول و يعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية و اشتغاله بالأعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكي عنها بقوله: "أنا" و "نفسي" و ربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير.
و ربما وجد الإنسان أن الفارق بين الحي و الميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذي يتنفس به الإنسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشيء و بطل وجوده و انعدمت شخصيته و إنيته فأذعن أن النفس هو النفس محركة و هو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا، و قضى أن الإنسان هو المجموع من الروح و البدن.
أو رأى أن الحس و الحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرايين و أوردة و أن الحياة التي ترتحل الإنسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الأحمر وجودا و عدما فحكم بأن النفس هو الدم فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة.
و ربما دعى الإنسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المني حينما يلتقمه الرحم و يطرؤه التطور الكوني طورا بعد طور هو الذي يصير إنسانا، أن يذهب إلى أن النفس الإنسانية هي الأجزاء الأصلية المجتمعة في النطفة، و هي باقية في البنية البدنية مدى الحياة، و ربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير و البطلان، و أن الإنسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان و لا أنها تقبل البطلان و الانعدام مع أن النفس الإنسانية لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله.
فهذه الأقاويل و أمثالها لا تنافي ما يناله الإنسان و هو إنسان من حقيقة قوله: "أنا" و "نفسي" و لا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته و واقع أمره تفصيلا فنخطئ فيه عند ذاك فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيين و الشكاكين - ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف.
و كذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة و هم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير خصوصيات وجوده.
و بالجملة مما لا ريب فيه أن الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا و نفسي، و إذا لطف نظره و تعمق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الأمور الجسمانية القابلة للتغير و الانقسام و الاقتران بالمكان و الزمان، و وجده غير هذا البدن المادي المحكوم بأحكام المادة بأعضائه و أجزائه فإنه ربما نسي أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه و هو لا ينسى نفسه و لا يغفل عنها، دع عنك ما ربما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة، ألا ترى أنك تسند النسيان و الغفلة و الذهول حينئذ إلى نفسك و تحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر و غفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن و نحوه؟.
و دع عنك ما ربما يتوهم أن المغمى عليه يغفل عن ذاته و نفسه فإن الذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنه يذكر أنه كان غير شاعر بها، و بين المعنيين فرق، و ربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا بشبه الرؤيا التي نذكرها من حال المنام.
و كيف كان لا ينبغي الارتياب في أن الإنسان بما أنه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذي يمثل له حقيقة نفسه التي يعبر عنها بأنا، و لو أنه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية و أمانيه المادية قضى بما تقدم أن نفسه أمر مغاير لسنخ المادة و الماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه و آثارها لخواص الأمور المادية و آثارها.
غير أن الاشتغال بالمشاغل اليومية و صرف الهم إلى أماني الحياة المادية و رفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الأمر و الإذعان بشيء من تلك الآراء الساذجة الأبجدية و الوقف على إجمال المشاهدة.
2 - الفرد العادي من الإنسان و إن كان شغله هم الغذاء و المسكن و الملبس و المنكح عن الغور في حقيقة نفسه و البحث في زوايا ذاته، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره و الخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذي تنزعج به النفس عن كل شيء و ترجع إلى نفسها كالآخذة الممسكة عليها حذرا من الفناء و الزوال، و كالسرور و الترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به، و كالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلا همه، و كالاضطرار الشديد الذي ينقطع به الإنسان عن كل شيء إلى نفسه إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية.
هذه العوامل المختلفة و الأسباب المتنوعة ربما أدى الإنسان واحدا منها أو أزيد من واحد إلى أن يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتا هائلة تهدده في نفسه، و هو الذي ربما يسمونه غولا أو هاتفا أو جنا و نحو ذلك.
و ربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة و الأسف الشديدان فحال بينه و بين حواسه الظاهرية و ركز شعوره فيما يحبه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، أمورا مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا و خفايا تخفى على حواس غيره.
و ربما كانت الإرادة إذا شفعت باليقين و الإيمان الشديد و الإذعان الجازم تفعل أفعالا لا يقدر عليها الإنسان المتعارف، و لا أن الأسباب العادية يسعها أن تهدي إلى ذلك.
فهذه حوادث جزئية نادرة - بالنسبة إلى عامة الحوادث العادية - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرت الإشارة إليها: أما أصل وقوعها فمما ليس كثير حاجة إلى تجشم الاستدلال عليه فكل منا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، و أما أن السبب الحقيقي العامل فيها ما هي؟ فليس هاهنا محل الاشتغال به.
و الذي يهمنا التنبه عليه هو أن هذه الأمور جميعا تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجة عنها - و خاصة اللذائذ الجسمانية - و انعطافها إلى نفسها و لذا كان الأساس في جميع الارتياضات النفسانية - على تنوعها و تشتتها الخارج عن الإحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، و ليس إلا لأن انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، و يهديها إلى مشتهياتها الخارجة فيوزعها عليها و يقسم شعورها بينها، فتأخذ بها و تترك نفسها.
3 - لا ينبغي لنا أن نشك في أن العوامل الداعية إلى هذه الآثار النفسانية كما تتم لبعض الأفراد موقتا و في أحايين يسيرة، ربما تتم لبعض آخر ثابتة مستمرة أو تمكث مكثا معتدا به فكثيرا ما نجد أشخاصا متزهدين عن الدنيا و لذائذها المادية و مشتهياتها الفانية لا هم لهم إلا ترويض النفس و الاشتغال بسلوك طريق الباطن.
و لا ينبغي لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل و الاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهي من السنن اللازمة للإنسانية إلى أقدم عهودها التي نزلت في هذه الأرض على ما نحسب.
4 - البحث عن حال الأمم و التأمل في سننهم و سيرهم و تحليل عقائدهم و أعمالهم يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان دائرا بينهم بل مهمة نفيسة تبذل دونها أنفس الأوقات و أغلى الأثمان منذ أقدم الأعصار.
و من الدليل عليه أن الأقوام الهمجية الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقية و غيرها و يوجد بينهم حتى اليوم بقايا من أساطير السحر و الكهانة و الإذعان بحقيقتهما و أصابتهما.
و الاعتبار الدقيق فيما نقل إلينا من المذاهب و الأديان القديمة كالبرهمانية و البوذية و الصائبة و المانوية و المجوسية و اليهودية و النصرانية و الإسلام، كل ذلك يعطي أن المهمة معرفة النفس و الحصول على آثارها تسربا عميقا فيها و إن كانت مختلفة في وصفها و تلقينها و تقويمها.
فالبرهمانية - و هي مذهب هند القديم - و إن كانت تخالف الأديان الكتابية في التوحيد و أمر النبوة غير أنها تدعو إلى تزكية النفس و تطهير السر و خاصة للبراهمة أنفسهم.
نقل عن البيروني في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضي سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام: فأول القسم الأول هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه و تعريفه الواجبات عليه، و توصيته بالتزامها و اعتناقها ما دام حيا.
قال: و قد دخل في القسم الأول إلى السنة الخامسة و العشرين من سنه إلى السنة الثامنة و الأربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهد و يجعل الأرض وطاءه، و يقبل على تعلم "بيذ" و تفسيره علم الكلام و الشريعة من أستاذ يخدمه آناء ليله و نهاره، و يغتسل كل يوم ثلاث مرات، و يقدم قربان النار في طرفي النهار، و يسجد لأستاذه بعد القربان، و يصوم يوما و يفطر يوما مع الامتناع عن اللحم أصلا، و يكون مقامه في دار الأستاذ، و يخرج منها السؤال و الكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي أستاذه ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه، و يحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظمة و الأنوار مقتربة.
و كذلك عند سائر الأمم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليها، و لم يثنهم عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور.
قال: و أما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة و العشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، و فيه يأذن له الأستاذ في التأهل فيتزوج و يقصد النسل.
و ذكر كيفية معاشرته أهله و الناس و ارتزاقه و سيرته.
ثم قال: و أما القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة و السبعين أو إلى التسعين، و في هذا القسم يتزهد و يخرج من زخاري الحياة و يسلم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحاري، و يستمر خارج العمران على سيرته في القسم الأول، و لا يستكن تحت سقف، و لا يلبس إلا ما يواري سوأته من لحاء الشجر، و لا ينام إلا على الأرض بغير وطاء، و لا يتغذى إلا بالثمار و النبات و أصوله، و يطول الشعر و لا يدهن.
قال: و أما القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباسا أحمر، و يأخذ بيده قضيبا، و يقبل على الفكر و تجريد القلب من الصداقات و العداوات، و يرفض الشهوة و الحرص و الغضب، و لا يصاحب أحدا البتة.
فإن قصد موضعا ذا فضل طلبا للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، و في بلد أكثر من خمسة أيام، و إن دفع له أحد شيئا لم يترك منه للغد بقية، و ليس له إلا الدؤوب على شرائط الطريق المؤدي إلى الخلاص و الوصول إلى المقام الذي لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثم ذكر الأحكام العامة التي يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
و أما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الأنفاس و الأوهام(1) و كأصحاب الروحانيات و أصحاب الحكمة و غيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة و تحريم اللذائذ الشهوانية على النفس.
و أما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس و مخالفة هواها و تحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، و قد كان هذا هو الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، و هجر أريكة العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، و اعتزل الناس، و ترك التمتع بمزايا الحياة، و أقبل على رياضة نفسه و التفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه و سنه إذ ذاك ستة و ثلاثون و عند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس و تحصيل المعرفة و لم يزل على ذلك قريبا من أربع و أربعين سنة على ما في التواريخ.
و أما الصابئون و نعني بهم أصحاب الروحانيات و أصنامها فهم و إن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقا لا تختلف كثيرا عن طرق البراهمة و البوذيين، قالوا - على ما في الملل و النحل -: إن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، و نهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية و الغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا و بين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، و نعرض أحوالنا عليهم، و نصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا و خالقهم و رازقنا و رازقهم، و هذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا و رياضتنا و فطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمدادا من جهة الروحانيات، و الاستمداد هو التضرع و الابتهال بالدعوات، و إقامة الصلوات، و بذل الزكوات، و الصيام عن المطعومات و المشروبات، و تقريب القرابين و الذبائح، و تبخير البخورات، و تعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد و استمداد من غير واسطة، انتهى.
و هؤلاء و إن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق و الإيجاد لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة و سعادة النشأة.
و أما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي و هبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان، و أن سعادتها و كمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختيارا بالترويض النفساني، و إما اضطرارا بالموت الطبيعي، معروف.
و أما أهل الكتاب و نعني بهم اليهود و النصارى و المجوس فكتبهم المقدسة و هي العهد العتيق و العهد الجديد و أوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس و تهذيبها و مخالفة هواها.
و لا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا و الاشتغال بتطهير السر، و لا يزال يتربى بينهم جم غفير من الزهاد و تاركي الدنيا جيلا بعد جيل، و خاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية.
و قد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] و قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد: 27] ,كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران: 113، 114].
و أما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات و الأعمال النفسية كأصحاب السحر و السيمياء و أصحاب الطلسمات و تسخير الأرواح و الجن و روحانيات الحروف و الكواكب و غيرها و أصحاب الإحضار و تسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعا من السلطة على أمر النفس(2).
و جملة الأمر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان و المذاهب و الأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها و الاشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق و الأحوال غير المناسبة للمطلوب.
5 - لعلك ترجع و تقول: إن الذي ثبت من سنن أرباب المذاهب و الطرق و سيرهم هو الزهد في الدنيا و هو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذي تقدم البحث عنه.
و بلفظ أوضح: الذي يندب إليه الأديان و المذاهب التي تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الإنسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة و ترك الهوى و الآثام و رذائل الأخلاق ليتهيأ بذلك لأحسن الجزاء إما في الآخرة كما يصرح به الأديان النبوية كاليهودية و النصرانية و الإسلام أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية و مذهب التناسخ و غيرهما.
فالمتعبد على حسب الدستور الديني يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفسا مجردة و أن لها نوعا من المعرفة، فيه سعادتها و كمال وجودها.
و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها و سننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الأعمال و لا هم له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها و التسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الإرادة مثلا و هو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.
على أن في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادي طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الأجزاء الأصلية، و من يرى أن النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، و هو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟.
لكنه ينبغي لك أن تتذكر ما تقدم ذكره أن الإنسان في جميع هذه المواقف التي يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجية و التمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص و آثار لا توصل إليها الأسباب المادية و العوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الانفصال عن العلل و الأسباب الخارجية، و الاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها.
فالمتدين المتزهد في دينه يرى أن من الواجب الإنساني أن يختار لنفسه سعادته الحقيقية و هي الحياة الطيبة الأخروية عند المنتحلين بالمعاد، و الحياة السعيدة الدنيوية التي تجمع له الخير و تدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية و أصحاب التناسخ، ثم يرى أن الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، و لا تسلك به إلى غرضه فلا محيص له عن رفض الهوى و ترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، و الانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الأسباب المادية العادية بالتقرب إليه و الاتصال به، و أن هذا التقرب و الاتصال إنما يتأتى بالخضوع له و التسليم لأمره و ذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال و تروك بدنية، و هذه هي العبادة الدينية من صلاة و نسك أو ما يرجع إلى ذلك.
فالأعمال و المجاهدات و الارتياضات الدينية ترجع جميعا إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، و الإنسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئا و لا يترك شيئا إلا لنفع نفسه، و قد تقدم أن الإنسان لا يخلو، و لا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه و حضور ذاته و أنه لا يخطئ في شعوره هذا البتة، و إن أخطأ فإنما يخطئ في تفسيره بحسب الرأي النظري و البحث الفكري فظهر بهذا البيان أن الأديان و المذاهب على اختلاف سننها و طرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.
و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات و المجاهدات و إن لم يكن منتحلا بديلا و لا مؤمنا بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التي يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، و ليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال و التروك التي يأتي بها ارتباطا طبيعيا نظير الارتباط الواقع بين الأسباب الطبيعية و مسبباتها، بل هو ارتباط إرادي غير مادي متعلق بشعور المرتاض و إرادته المحفوظين بنوع العمل الذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض و بين النتيجة الموعودة فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس و تكميلها في شعورها و إرادتها للنتيجة المطلوبة، و إن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة و تمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقا أو أرادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.
و إلى هذا الباب يرجع معنى ما روي: "أنه ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن بعض أصحاب عيسى (عليه السلام) كان يمشي على الماء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء" فالحديث - كما ترى - يومئ إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه و إمحاء الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.
و من أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق (عليه السلام): ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المتواتر: "إنما الأعمال بالنيات".
فقد تبين أن الآثار الدينية للأعمال و العبادات و كذلك آثار الرياضات و المجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها و بين النفس الإنسانية بشئونها الباطنية، فالاشتغال بشيء منها اشتغال بأمر النفس.
و من زعم أن رابطة السببية و المسببية إنما هي بين أجساد هذه الأعمال و بين الغايات الأخروية مثلا من روح و ريحان و جنة نعيم، أو بينها و بين الغايات الدنيوية الغريبة التي لا تعمل الأسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس و أنواع إرادتها و التحريكات من غير محرك و الاطلاع على الضمائر و الحوادث المستقبلة و الاتصال بالروحانيات و الأرواح و نحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الأثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه.
6 - إياك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان و التصوف أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوي الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية و العرفان و هو الدين.
و ذلك أن الذي يعقد عليه الدين أن للإنسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة و رفض الاقتصار على التمتعات المادية، و قد أنتجت الأبحاث السابقة: أن الأديان أيا ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس و سوقهم إلى السعادة التي تعدهم إياها و تدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحا و تهذيبا يناسب المطلوب، و أين هذا من كون عرفان النفس هو الدين.
فالدين يدعو إلى عبادة الإله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء و الشركاء لأن فيها السعادة الإنسانية و الحياة الطيبة التي لا بغية للإنسان دونها، و لا ينالها الإنسان و لن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات و التمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس و تطهيرها ليستعد المنتحل به المتربي في حجره للتلبس بالخير و السعادة، و لا يكون كمن يتناول الشيء بإحدى يديه و يدفعه بالأخرى، فالدين أمر و عرفان النفس أمر آخر وراءه، و إن استلزم الدين العرفان نوعا من الاستلزام.
و بنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة و المجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضا غير عرفان النفس و إن ارتبط البعض بالبعض نحوا من الارتباط.
و التأمل العميق في جميع الأديان و النحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية، و الثنوية و إنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل و الإصابة و الإخطاء فيه فمن قائل مثلا: أنه أقرب إلينا من حبل الوريد و هو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي و لا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، و من قائل: إن تسفل الإنسان الأرضي و خسة جوهره لا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، و أين التراب و رب الأرباب؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة و هم روحانيات الكواكب أو أرباب الأنواع أو المقربون من الإنسان {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3]
و إذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب و الأصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، و على هذا القياس في سائر الأديان و الملل فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عز اسمه.
و من المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس و إن انشعبت أي انشعاب فرض و اختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، و تنتهي بالأخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانية و هو التوحيد فدين التوحيد أبو الأديان و هي أبناء له صالحة أو طالحة.
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الإنسانية التي يدعو إليها و هي معرفة الإله التي هي المطلوب الأخير عنده، و بعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الديني لا يرتضي الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، و إن الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية؟.
و من هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الإنسانية حتى ينتهي فروعه و أغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.
و يمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر و هو أن الإنسانية و إن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع و المدنية لإسعاد الحياة، و أثبت النقل و البحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سننا اجتماعية، و أجروها بين أممهم كسنن القبائل و السنة الملوكية و الديمقراطية و نحوها، و لم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس و تهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري.
نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر و الأرواح و نحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة و تصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه و السلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب و يسهل الوعر منه.
7 - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة و حوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، و مشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، و استجابة للدعوة و شفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، و النجاة من المخاطر و المهالك من غير طريق العادة، و قد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة و نفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون و هم على غفلة من سببه القريب، و إنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، و استناد الأمور إليه تعالى، و إن كان حقا لا محيص عن الاعتراف به لكن نفي الأسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه.
و ربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء و نحوه بالتصرف في نفس صبي - على ما هو المتعارف - و هو كغيره يرى أن الصبي إنما يبصره بالبصر الحسي، و أن بين أبصار سائر الناظرين و بين الروح المحضر حجابا مضروبا لو كشف عنه لكانوا مثل الصبي في الظفر بمشاهدته.
و ربما وجدوا الأرواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجبا لأن عالم الأرواح عالم الطهارة و الصفاء لا سبيل للكذب و الفرية و الزور إليه.
و ربما أحضروا روح إنسان حي فيستنطقونه بأسراره و ضمائره و صاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله و حوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه.
و ربما نوم الإنسان تنويما مغناطيسيا ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ و مضى لشأنه أتى بالعمل الذي لقنه على الشريطة التي أريد بها و هو غافل عما لقنوه و عن إنعامه بقبوله.
و بعض الروحيين لما شاهدوا صورا روحية تماثل الصور الإنسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة و ظرف الطبيعة المتغيرة، و خاصة بعض من لا يرى لغير الأمر المادي وجودا، حتى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الأرواح، كل ذلك استنادا منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادي أو خاصة لمبدأ مادي يفعل بالشعور و الإرادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة و الشعور حتى اليوم.
و نظير هذه الفرضية فرضية من يرى أن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته و أشكاله لما وجدوا أن الإنسان يرى نفسه في المنام و هو على هيئته في اليقظة، و ربما يمثل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالا خارج أبدانهم و هي مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري ما دام الإنسان حيا فإذا فارق البدن كان هو الموت.
و قد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الإنسان نظيرة صورته التي يدركها من بدنه، و نظيرة صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، و ربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، و ربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التي تتراءى لأرباب المجاهدات أنها صورة الروح.
و حقيقة الأمر أن هؤلاء نالوا شيئا من معارف النفس و فاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطئوا في تفسير ما نالوه و ضلوا في توجيه أمره، و الحق الذي يهدي إليه البرهان و التجربة أن حقيقة النفس التي هي هذا الشعور المتعقل المحكي عنه بقولنا "إنا" أمر مغاير في جوهره لهذه الأمور المادية كما تقدم، و أن أقسام شعوره و أنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه و ظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس و الإدراك من البدن فإنها أفعال و انفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة و الشعور، فهذه الأمور المشهودة الخاصة بالصلحاء و أرباب المجاهدات و الرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، و إنما الشأن في أن هذه المعلومات و المعارف كيف استقرت في النفس و أين محلها منها؟ و أن للنفس سمة علية لجميع الحوادث و الأمور المرتبطة بها ارتباطا ما، فجميع هذه الأمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة و المجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم و مشيئتهم، و الإرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإنساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به و الأمور المماسة له.
8 - فمن الحري أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون بالاشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب و المسببات المادية، كأصحاب السحر و الطلسمات و أصحاب تسخير روحانيات الكواكب و الموكلين على الأمور و الجن و أرواح الآدميين و أصحاب الدعوات و العزائم و نحو ذلك.
لكن لا بمعنى الأخذ و التقليد العادي كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض و أمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الأديان و المذاهب و ذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدي إلى الزهد و الزهد يرشد إلى عرفان النفس فاستقرار الدين بين أمة و تمكنه من قلوبهم يعدهم و يهيؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، و يأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أمة من الأمم برهة معتدا بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة و إن انقطعوا عن غيرهم من الأمم الدينية كل الانقطاع، و ما هذا شأنه لا ينبغي أن يعد من السنن الموروثة التي يأخذها جيل عن جيل.
9 - ثم ينبغي أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين و هم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين: فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئا من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لأنهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها و هو الله عز اسمه الذي هو السبب الحق الآخذ بناصية النفس في وجودها و آثار وجودها و كيف يسع الإنسان تمام معرفة شيء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده و خاصة السبب الذي هو سبب كل سبب؟ و هل هو إلا كمن يدعي معرفة السرير على جهل منه بالنجار و قدومه و منشاره و غرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟.
و من الحري بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس و آثارها.
و طائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، و طريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدين في الجملة و هي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه و أقرب آية، و تكون النفس طريقا مسلوكا و الله سبحانه هو الغاية التي يسلك إليها {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
و هؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الأمم و النحل، و ليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم و طرائقهم التي يسلكونها، و أما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أنهيت بحسب الأصول إلى خمس و عشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، و قد استندوا فيها إلا في واحدة إلى علي عليه أفضل السلام، و هناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل و يسمون الأويسية نسبة إلى أويس القرني و هناك آخرون منهم لا يتسمون باسم و لا يتظاهرون بشعار.
و لهم كتب و رسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم و طرقهم، و النواميس و الآداب التي لهم و عن رجالهم، و ضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، و أعربوا فيها عن حججهم و مقاصدهم التي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها.
2- راجع في ذلك كتاب السر المكتوب للرازي والذخيرة الاسكندرية والكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي ورسالة السكاكي في التسخير والدر المكتوم لابن عربي وكتب الارواح والاحضار المعمولة أخيراَ وغير ذلك.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|