أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-4-2019
2337
التاريخ: 9-1-2017
2908
التاريخ: 10-9-2016
2416
التاريخ: 10-9-2016
5612
|
من التصورات الخاطئة عند معظم القرّاء، أن التدوين - سواء في مجال التاريخ أو الحديث- لم يبدأ إلاّ بظهور المدوّنات التاريخية والحديثية الكبرى، كتاريخ الطبري والبلاذري وغيرهما، أو الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها من كتب الحديث، أي بعد أكثر من قرنين من بدء الهجرة النبوية الشريفة، وأن الروايات قد ظلت تتناقلها أجيال الرواة مشافهة طيلة هذه المدة حتى وصلت الى الطبري أو البخاري وغيرهما، حيث قاموا بتدوينها بعد ذلك، ولعل منشأ هذا الاعتقاد يعود الى إستعمال المؤرخين والمحدثين بعض الألفاظ التي تسبق الرواية كقولهم: "حدثني أو حدثنا... الخ" مما يوحي للقارئ أن الحديث قد وصل الى هذا المحدّث أو المؤرّخ مشافهة عبر سلسلة الرواة الذين يذكر أسماءهم، وهذا وهم شائع، إذ أن التدوين أقدم من ذلك التاريخ، حيث يحدد البعض بدء التدوين بنهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني، وبالتحديد في زمن الخليفة الاُموي عمر بن عبدالعزيز المتوفى سنة 101 هـ، وإن كان هناك ما يثبت أن التدوين كان أقدم من ذلك التاريخ أيضاً، وأن الصحابة كانوا يدوّنون الكثير من حديث النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته، وأن بعضهم كانت له صحف أو دفاتر يدوّن فيها ذلك، وأن أبناء اُولئك الصحابة وتلاميذهم قد توارثوا تلك الدفاتر جيلا بعد جيل، وأن معظم هذه الدفاتر قد أصبحت فيما بعد هي الروافد التي صبّت في نهاية الأمر في تلك المجاميع والمدونات الكبرى. "أن بداية التدوين والكتابة التاريخية إنما بدأت أشد بكوراً بحوالي القرن على الأقل مما كان يظن الباحثون، وأن قضية (العلم) العربي الذي ظل محفوظاً في الصدور والذاكرة حتى أواسط القرن الثاني إنّما هي محض خرافة" (1).
ولأجل توضيح الصورة، فلابد لنا من الاشارة الى الطرق التي اتبعت في تلقي الرواية ونقلها، والتي سمّيت (طرق التحمل)، حيث كان التلميذ يتلقى من شيخه الرواية وينقلها بدوره الى الذين سيصبحون فيما بعد تلاميذه، وطرق التحمل هي:
1 - السّماع:
ويتضمن السماع من لفظ الشيخ املاءً من كتابه أو من حافظته، وفيه يقول السامع إذا روى: (حدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا) و (قال لنا) و (ذكر فلان). قال الخطيب البغدادي: أرفع العبارات (سمعتُ) ثم (حدثنا) و(حدثني) (2).
2 - القراءة على الشيخ:
وأكثر المحدثين يسمونها عرضاً، من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ (3)، سواء كانت قراءة الطالب عليه من كتاب أو حفظ، وسواء حفظ الشيخ ما قرئ عليه أم لا، إذا أمسك أصله هو أوثقة غيره (4)، ومن أمثلة ذلك قول عبدالله بن عمر: رأيت مالك بن أنس يقرأ على الزهري، قال: فحدثت بذلك سفيان بن عينية ففرح بذلك وجعل يقول: قرأ، قرأ (5).
3 - الاجازة:
وهي أنواع متعددة، أعلاها أن يجيز معيّن لمعيّن كقوله: أجزت لك الكتاب الفلاني، أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه. وهذه الاجازة المجردة من المناولة، وقد قال بجوازها جماهير أهل العلم (6).
4 - المناولة:
مع الاجازة، كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه، أو فرعاً مقابلا به ويقول له: أجزت لك روايته عني (7)، وهي أعلى أنواع الاجازة على الإطلاق (8)، أما المناولة من غير إجازة، بأن يناوله الكتاب مقتصراً على قوله: هذا سماعي، ولا يقول له: اروه عني، ولا أجزت لك روايته (9).
5 - المكاتبة:
بأن يكتب إليه بشيء من حديثه، فإن أذن له في روايته عنه فهو كالمناولة المقرونة بالإجازة وإن لم تكن معها اجازة (10)، وهو المشهور بين أهل الحديث، وكثير من مصنفاتهم: (كتب إليّ فلان، قال: حدثنا فلان). والمراد هذا، وهو عندهم معمول به معدود في الموصول. وقال السمعاني: هي أقوى من الاجازة، ويكفي معرفة خط الكاتب، وشرط بعضهم البيّنة، وهو ضعيف (11).
6 - الإعلام:
وهو أن يُعلم الشيخ الطالب أن هذا الكتاب روايته أو سماعه مقتصراً على ذلك، فجوّز الرواية به كثير من أصحاب الحديث والفقه والاُصول والظاهر (12).
7 - الوصية:
وهي أن يوصي الراوي عند موته أو سفره لشخص بكتاب يرويه (13).
وقد ترخّص بعض السلف في رواية الموصي له بذلك الكتاب عن الموصى، وشبهوا ذلك بالمناولة والاعلام بالرواية (14)، وقال السيوطي: وهو غلط، والصواب أنه لا يجوز (15).
8 - الوجادة:
وصورتها أن يجد حديثاً أو كتاباً بخط شخص باسناده، فله أن يرويه عنه على سبيل الحكاية (16)، فله أن يقول: وجدت بخط فلان، أو قرأت أو ما أشبهه (17)، ويسوق الاسناد والمتن، وهذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع، وفيه شوب اتصال، وجازف بعضهم فأطلق فيها: حدثنا وأخبرنا، واُنكر عليه (18).
هذه طرق تحمل الرواية، ذكرتها بشيء من الاختصار، وهدفي من ذلك هو توضيح بعض الاُمور التي قد تُشكل على القارئ، لأن بعض الباحثين يصورون له أن الروايات التاريخية قد كتبت في العصر العباسي، لذا نجد فيها تحاملا على الاُمويين، ولإزالة ما قد يعلق بذهن القارئ من مقولات بعض الباحثين الذين صوروا له أن منشأ الزيف في التاريخ الإسلامي يعود الى أن
هذا التاريخ قد كتب في عصور متأخرة مما يجعله مشحوناً بالتحامل على الفترات التي سبقت تدوينه، ومن هؤلاء الباحثين الذين يدعون مثل ذلك: الشيخ محب الدين الخطيب الذي يقول:
إن التاريخ الاسلامي لم يبدأ تدوينه إلاّ بعد زوال بني اُمية وقيام دول لا يسرّ رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله، فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف: طائفة كانت ترى العيش والجدة من التقرب الى مبغضي بني اُمية بما تكتبه وتؤلفه، وطائفة ظنت ان التديّن لا يتم، ولا يكون التقرب الى الله إلاّ بتشويه سمعة أبي بكر وعمر وعثمان وبني عبد شمس جميعاً، وطائفة ثالثة من أهل الانصاف والدين- كالطبري وابن عساكر وابن كثير- رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الأخباريين من كل المذاهب والمشارب- كلوط بن يحيى الشيعي المحترق، وسيف بن عمر العراقي المعتدل- ولعل بعضهم اضطر الى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها، وقد أثبت أكثر هؤلاء أسماء رواة الأخبار التي أوردوها ليكون الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث عن حال راويه. وقد وصلت الينا هذه التركة، لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا، وهذا ممكن وميسور إذا تولاّه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع، وله من الالمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع، مكتفياً بأصول الأخبار الصحيحة من الزيادات الطارئة عليها...(19).
ولسوف يتبيّن للقارئ أن الشيخ محب الدين الخطيب لم يلتزم بهذه التوجيهات القيّمة التي أسداها للآخرين.
فأما إدعاءه أن المؤرخين قد كتبوا ما كتبوه في العصر العباسي ذماً لبني اُمية، فليس صحيحاً تماماً لأسباب:
أولها: إننا حينما أوردنا طرق تحمل الرواية، كنا نستهدف لفت إنتباه القراء الى أن الروايات التي دونت في العصر العباسي، إنما جاءت من طريق الرواة الذين دونوها في العصر الاُموي على أيدي كتاب السيرة والتاريخ - كالزهري وعروة بن الزبير وغيرهم- ثم انتقلت هذه الروايات بتلك الطرق الى المؤرخين الكبار كالطبري في العصر العباسي، حيث تم تجميعها في تلك المدونات الكبيرة.
يقول فؤاد سزگين: إذا أراد الباحث إذاً تقدير قيمة المواد المتعلقة بالقرنين الأول والثاني للهجرة في المصادر التي وصلت إلينا اعتماداً على الاسناد، فعليه أن يتحرر من الآراء القائلة بأن هذه الأخبار ظلت تتداول شفاهاً على مدى مائة وخمسين عاماً، أو أن المحدثين قد اخترعوا الاسناد في نهاية القرن الثاني للهجرة وأضافوه الى الأخبار فدونت به بعد ذلك، وعليه أن ينظر الى هذه المؤلفات باعتبارها كتباً مجموعة من مصادر مدونة تعود بدورها الى مصادر مدونة أقدم، فالأسماء الواردة في الأسانيد تعطي -في مجموعها أو معظمها- أسماء المؤلفين، أو أسماء عدد من الرواة والمؤلف، وعلى كل حال فإننا نجد في كل خبر من الأخبار مصدراً مدوناً واحداً على الأقل. وهكذا فليست كل الأسماء الواردة في الاسناد التالي المذكور عن الطبري أسماء مؤلفين: "حدثنا حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الزهري ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير". فالنص الذي نقله الطبري بهذا الاسناد يرجع آخر الأمر الى كتاب المغازي لعروة، وهذا النص كان قد نقله الطبري عن الواقدي وابن هشام (20).
فيتبين من هذا أن أصل رواية الطبري هذه قد جاءت عن عروة بن الزبير المتوفى سنة (94 هـ)، أي أنه قد عاش الشطر الأكبر من عمره وكتب وتوفي في العصر الاُموي، وفيه دوّن هذه الرواية التي تناقلها عنه الرواة حتى وصلت الى الطبري في العصر العباسي.
ثانيها: أن الكثير من المؤرخين والكتّاب الذين عاشوا في العصر الاُموي قد أطْروا عصرهم هذا وذكروا لهم الفضائل الكثيرة، وبقيت كتبهم متداولة الى العصر العباسي دون اعتراض، فقد ذكر المسعودي -وهو من المؤرخين الذين عاشوا في العصر العباسي كما هو معلوم -أسماء بعض المؤرخين- في معرض تعداده لهم - فأثنى على أحدهم وذكر أنه كتب في "أخبار الاُمويين ومناقبهم وذكر فضائلهم وما أتوا به من غيرهم وما أحدثوه من السيرة في أيامهم، تأليف أبي عبدالرحمان خالد بن هشام الاُموي" (21).
هذا فضلا عن أن كثيراً من المؤرخين في العصر العباسي قد أثنوا على الاُمويين في مؤلفاتهم، "ولقد ظن الكثيرون أن سبب طمس تاريخ بني اُمية وتشويه الكثير من آثارهم يعود الى الحزبية فما قولك بأنساب الأشراف الذي يعدّ من أدق ما عندنا عن بني اُمية، مع أن مؤلفه البلاذري عاش في العصر العباسي وبقرب خليفة متعصب هو المتوكل" (22).
ثالثها: ان عمر بن عبدالعزيز هو أحد خلفاء بني اُمية من الفرع المرواني، وقد نال الحظ الأوفر من الثناء والمديح، حتى وصفوه بخامس الخلفاء الراشدين، ولم يختلف في مدحه والثناء عليه المؤالف والمخالف، فلو كان الموقف من الاُمويين على عمومه الذي ذكره الشيخ محب الدين الخطيب، لكان الموقف من عمر بن عبدالعزيز كالموقف من غيره من خلفاء بني اُمية.
رابعها: أن بعض المؤرخين الذين ألّفوا في العصر العباسي، كانوا على درجة من الشجاعة والجرأة، بحيث أنهم ذكروا بعض مثالب العباسيين بكل صراحة، وتحمل البعض منهم العقاب الأليم بسبب ذلك، فقد ذكر ابن النديم في ترجمة الجهمي (أحمد بن محمد بن حميد) أنه: "وقع بينه وبين قوم من العمريين والعثمانيين شر، فذكر سلفهم بأقبح ذكر، فقال له بعض الهاشميين في ذلك، فذكر العباس بأمر عظيم، فأُنهي خبره الى المتوكل، فأمر بضربه مائة سوط" (23).
والحقيقة: فإن موقف العباسيين من الاُمويين قد مرّ بأدوار متعددة، وذلك لأسباب سوف أذكرها في مباحث قادمة، ومع كل ذلك فإنه "لا ينكر أثر العباسيين، ولكن هؤلاء لم يقيدوا الكتابة أو يوجهوها كما يظن، بدليل أنهم أنفسهم رُسمت لهم صورة لا تقل عبوساً في كثير من نواحيها" (24).
المواقف من المؤرخين
من المقولات الملفتة للانتباه، فيما يتعلق بالمواقف من المؤرخين، مقولة القاضي أبو بكر ابن العربي في اُخريات كتابه (العواصم من القواصم)، بعد ايراده الاحداث التي مرت بها الاُمة الاسلامية بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) والى ما بعد نصف قرن من ذلك التاريخ أو أكثر قليلا، نراه يوجّه نصيحته الى القرّاء في كيفية تناول الأحداث التاريخية لتلك الحقبة من الزمن، وتحديد الموقف من المؤرخين الذين تناولوا تلك الفترة فيقول:
إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين والمؤرخين وأهل الأدب، فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرّين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلاّ عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً الاّ الطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر، فإنهم ينشؤون أحاديث استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين الى الدنيا، وعن الحق الى الهوى، فإذا قاطعتم أهل الباطل، واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل، ولم تطووا كشحاً على هذه الغوائل، ومن أشد شيء على الناس، جاهل عاقل، أو مبتدع محتال، فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يُبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتاب (الإمامة والسياسة) إن صح عنه جميع ما فيه، وكالمبرّد في كتابه الأدبي، وأين عقله من عقل ثعلب الإمام المتقدم في أماليه، فإنه ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل الاُمة. وأما المبتدع المحتال، فالمسعودي، فإنه بها يأتي متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه، فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة ممن ينسب إليه ما لا يليق، ويذكر عنه ما لا يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين (25).
إن أهم ما يلفت الانتباه في مقولة ابن العربي هذه، هو توجيهه للقارئ إلى عدم الاعتماد على أحد من المؤرخين غير الطبري، والإعراض عن المفسرين والاُدباء - مع العلم أنه واحد من المفسرين- ومستنده في ذلك أن غير الطبري من المؤرخين قد أوردوا الروايات التي تسيء الى الصحابة، ويخص بالذكر منهم ابن قتيبة، متهماً إياه بالجهل، مع أن ابن قتيبة من كبار العلماء، والمسعودي المؤرخ والذي يصفه بالمحتال المبتدع، وسوف يتبين للقارئ فيما بعد أن ابن العربي يعتمد اعتماداً شبه كلّي على روايات الطبري في اُطروحاته التاريخية في كتابه الآنف الذكر، لكنه يعتمد كلياً على روايات معينة ينتقيها من هذا التاريخ، لأن الطبري - وإن كان يجامل الرأي العام كثيراً- إلاّ أننا سوف نتبين أنه قد أورد الكثير من الروايات التي أورد مثلها ابن قتيبة والمسعودي وغيرهما من المؤلفين، لكن ابن العربي تجنبها -كما فعل الكثيرون غيره من القدامى والمعاصرين- لأن تلك الروايات تمس كرامة السلف على حد تعبيرهم، وبذلك يكون ابن العربي من أوائل الذين دعوا الى تمحيص التاريخ الإسلامي وغربلته، ولكن بالاتجاه المحافظ الذي يرتئيه هو.
إن المشكلة التي تثار دائماً حول التاريخ الإسلامي تتركز في الغالب على النقطة الحساسة في هذا التاريخ، ألا وهو الجانب السياسي، والخلاف الذي وقع بين المسلمين في وقت مبكر، والذي أدى في النهاية الى الصدام الدموي بينهم في ذلك العهد الذي اُصطلح على تسميته بعصر صدر الإسلام، وأن اشتراك الصحابة في أجزاء من ذلك الصراع هو محور المشكلة، والدعوات ذات الطابع المحافظ لتصحيح التاريخ الإسلامي، إنما تدّعي الحرص على تبرئة الصحابة مما وقع من خلاف سياسي انسحب أثره على مواقف ذلك السلف، لأن "التاريخ السياسي للمسلمين، هو أسوأ ما في تاريخهم كله" (26).
إن الملاحظ على أصحاب هذا الاتجاه، أنهم يركزون دعوتهم على ضرورة الرجوع الى تاريخ الطبري - دون غيره- حين البحث عن تلك الحقبة التاريخية، وهذا الذي عمل به معظم المؤرخين الذين جاءوا بعد الطبري كابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وغيرهم، ثم امتد ذلك الى مؤلفات معظم الكتّاب المعاصرين الذين تناولوا التاريخ الإسلامي بالبحث، حيث صار تاريخ الطبري هو المصدر الرئيس الذي يستقون منه معلوماتهم معترفين بذلك، بعد أن يكيلوا للطبري ما شاء الله لهم من عبارات الثناء والتقدير باعتباره الإمام الحجة في هذا الفن.
لقد سبق وأن ذكرنا أن كبار المؤرخين وكتاب السيرة والمغازي كالطبري وابن إسحاق والبلاذري وغيرهم، قد اعتمدوا على ما كتبه من سبقهم من رواة هذه الأخبار، فالمصادر تكاد تكون واحدة، "إن ابن إسحاق قد استخدم النص من كتاب يزيد بن رومان والزهري، وقد اعتمدا بدورهما على المغازي لعروة" (27)، فما هو الفرق إذاً بين ما كتبه الطبري عن غيره من المؤرخين. طالما أن المصادر واحدة تقريباً؟
الحقيقة: أن من يراجع المصادر التي اعتمد عليها الطبري، ويقارنها مع المصادر التي اعتمدها غيره من المؤرخين من سابقيه أو معاصريه، سوف يلاحظ أن الطبري قد انفرد بذكر مصدر يكاد يكون المتغلب على الأجزاء التي تناولت أهم وأخطر فترة في تاريخنا الإسلامي كله، وهو العصر الذي يسمى بعصر صدر الإسلام، وبالتحديد الفترة الممتدة من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وبدء أحداث السقيفة، وحتى أواخر الخلافة الراشدة، وتحديداً بانتهاء معركة الجمل، وهذا المصدر الذي يعتمده الطبري - دون سواه من المؤرخين- هو مجموعة مؤلفات لمؤلف كوفي - وهو الذي وصفه محب الدين الخطيب بالعراقي المعتدل- واسمه سيف بن عمر المتوفى ما بين سنة (170هـ) الى (180هـ)، وهي: الفتوح الكبير، نقل عنه الطبري حوادث الفتوحات الإسلامية، والردة، ونقل عنه ما فيه من أخبار الردة ومحاربة أبي بكر للمرتدين وأخبارهم، وكتاب الجمل ومسير عائشة وعلي، وتناول فيه أخبار مسير عائشة من مكة الى البصرة وأحداث معركة الجمل التي وقعت بعد ذلك، فهذه الفترة كما نرى هي أكثر الفترات حراجة في تاريخ الإسلام. وينقل الطبري عن سيف بواسطتين، هما: السري عن شعيب، وينهي السلسلة الى بعض شيوخ سيف، مثل طلحة ومحمد وغيرهم، وهذه السلسلة تكاد تستأثر بمعظم الأجزاء التي تناولت تلك الفترة من تاريخ الطبري، حتى لتبدو الروايات الاُخرى التي أوردها الطبري بغير هذا الطريق باهتة لا تكاد تلفت انتباه القارئ، أما في الأجزاء الاُخرى التي لا تمت لتلك الحقبة بصلة، فقد ترك الطبري الاستشهاد بهذه السلسلة من الرواة تماماً.
وهذه السلسلة التي يربط حلقاتها سيف بن عمر، أصبحت فيما بعد هي العمود الفقري في كتابات معظم المؤلفين الذين جاؤا بعد الطبري وحتى العصر الراهن. والسؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ هو: ما هي مواصفات هذه السلسلة، وبماذا تمتاز عن غيرها، حتى صارت العمدة في تاريخ الطبري ومن جاء بعده دون غيرها؟
وأجد أن من المناسب أن استعرض باختصار أسماء أهم المؤلفين الذين اعتمدهم الطبري في رواية هذه الأحداث، مع بيان بعض أحوالهم وأقوال العلماء فيهم، حتى يكون القارئ على بيّنة منهم، ويستطيع الحكم على الروايات التي أوردوها حينما نقوم بعملية مقارنة بين هذه الروايات ومحاولة تحليلها ونقدها بهدف استخراج حقائق تاريخنا جهد الامكان، ولا تفوتنا الاشارة الى أن معظم هؤلاء الرواة قد شكلوا السلاسل التي اعتمدها المحدّثون أيضاً، إلاّ أن المحدثين اجتهدوا في بيان أحوال هؤلاء الرواة في كتب التراجم التي صنفوها لهذا الغرض، فأصبح بامكان القارئ أن يحكم على الروايات من خلال رواتها بشكل يقرّبه من الحقيقة.
إن معرفة أحوال هؤلاء الرواة والمؤلفين في التاريخ والسيرة ضرورية جداً، بسبب الترابط الصميمي بين التاريخ الإسلامي والعقيدة الإسلامية، فمعرفة أحداث تلك الفترة على وجهها الصحيح من أكبر الضرورات، ولا يتم ذلك إلاّ بمعرفة مصادر تراثنا الإسلامي، بسبب الترابط بين علوم التاريخ وعلوم الحديث، وليس كما حاول البعض الفصل بينهما، لأن من علوم الحديث "معرفة مغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسراياه وبعوثه وكتبه الى ملوك المشركين، وما يصح من ذلك وما يشذّ، وما أبلى كل واحد من الصحابة في تلك الحروب بين يديه وثبت ومن هرب، ومن جبُن عن القتال ومن كرّ، ومن تديّن بنصرته (صلى الله عليه وآله) ومن نافق، وكيف قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الغنائم، ومن زاد ومن نقص، وكيف جعل سلب القتيل بين الاثنين والثلاثة، وكيف أقام الحدود في الغلول، وهذه أنواع من العلوم التي لا يستغني عنها عالم" (28).
____________
(1) التاريخ العربي والمؤرخون، شاكر مصطفى 1: 79.
(2) الباعث الحثيث: 104، تدريب الراوي 2: 8، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: 62، جامع الاُصول 1:70، قواعد التحديث: 203، المنهل الروي: 80.
(3) مقدمة ابن الصلاح: 64.
(4) قواعد التحديث: 203.
(5) جامع بيان العلم 2: 414.
(6) مقدمة ابن الصلاح: 272، المنهل الروي: 84، الباعث الحثيث: 114، جامع بيان العلم: 414، تدريب الراوي 2: 29، قواعد التحديث: 203.
(7) قواعد التحديث: 203.
(8) مقدمة ابن الصلاح: 79، تدريب الراوي 2: 44.
(9) قواعد التحديث: 204، الكفاية: 322.
(10) الباعث الحثيث: 120، تدريب الراوي 2: 55.
(11) المنهل الروي: 90، الكفاية: 342.
(12) المنهل الروي: 90، الباعث الحثيث: 121، تدريب الرواي: 58، الكفاية: 353.
(13) المنهل الروي: 91.
(14) الباعث الحثيث: 121.
(15) تدريب الراوي 2: 60، قواعد التحديث: 204.
(16) الباعث الحثيث: 122.
(17) المنهل الروي: 91.
(18) تدريب الراوي 2: 61، مقدمة ابن الصلاح: 86.
(19) العواصم من القواصم: 179 هامش: 309.
(20) تاريخ التراث العربي 2: 8.
(21) مروج الذهب 1: 15.
(22) مقدمة في تاريخ صدر الاسلام: 13.
(23) الفهرست: 141.
(24) مقدمة في تاريخ صدر الاسلام: 13.
(25) العواصم من القواصم: 260.
(26) كيف نكتب التاريخ. محمّد قطب: 16.
(27) سزگين: تاريخ التراث العربي.
(28) الحاكم النيسابوري. كتاب معرفة علوم الحديث: 238.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|