أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
17016
التاريخ: 19-10-2017
7098
التاريخ: 28-2-2017
3933
التاريخ: 28-2-2017
5966
|
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة : 6- 7] .
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة : 6].
لما تقدم الأمر بالوفاء بالعقود ، ومن جملتها إقامة الصلاة ومن شرائطها الطهارة ، بين سبحانه ذلك بقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} معناه :
إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وأنتم على غير طهر . وحذف الإرادة ، لان في الكلام دلالة على ذلك ، ومثله قوله : (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) والمعنى إذا أردت قراءة القرآن ، وإذا كنت فيهم ، فإذا أردت أن تقيم لهم الصلاة) وهو قول ابن عباس ، وأكثر المفسرين . وقيل : معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، فعليكم الوضوء ، عن عكرمة ، وإليه ذهب داود ، قال : وكان علي عليه السلام يتوضأ لكل صلاة ، ويقرأ هذه الآية ، وكان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة .
والقول الأول هو الصحيح ، وإليه ذهب الفقهاء كلهم ، وما رووه من تجديد الوضوء فمحمول على الندب والاستحباب . وقيل : إن الفرض كان في بدء الإسلام التوضؤ عند كل صلاة ، ثم نسخ بالتخفيف ، وبه قال ابن عمر ، قال : حدثتني أسماء بنت زيد بن الخطاب ، أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل ، حدثها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة ، فشق ذلك عليه ، فأمر بالسواك ، ورفع عنه الوضوء ، إلا من حدث ، فكان عبد الله يرى أن فرضه على ما كان عليه ، فكان يتوضأ .
وروى سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان عام الفتح ، صلى الصلاة كلها بوضوء واحد ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ! صنعت شيئا ما كنت تصنعه ؟ قال : أعمدا فعلته يا عمر ؟
وقيل : إن هذا إعلام بأن الوضوء لا يجب إلا للصلاة ، لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أحدث ، امتنع من الأعمال كلها ، حتى إنه لا يرد جواب السلام ، حتى يتطهر للصلاة ، ثم يجيب حتى نزلت هذه الآية . (فاغسلوا وجوهكم) هذا أمر منه سبحانه بغسل الوجه والغسل ، هو إمرار الماء على المحل ، حتى يسيل ، والمسح أن يبل المحل بالماء ، من غير أن يسيل ، واختلف في حد الوجه : فالمروي عن أئمتنا عليهم السلام ، أنه من قصاص شعر الرأس ، إلى محادر شعر الذقن ، طولا ، وما دخل بين الإبهام والوسطى عرضا ، وقيل : حده ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه ، منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا ، وما بين الاذنين عرضا ، دون ما غطاه الشعر من الذقن وغيره ، أو كان داخل الفم ، والأنف ، والعين ، فإن الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر ، ويواجهه دون غيره ، كما قلناه ، وهو المروي ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والشعبي ، وغيرهم ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، وأصحابه . وقيل : الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، ما ظهر من ذلك لعين الناظر ، من منابت شعر اللحية والعارض ، وما بطن ، وما كان منه داخل الفم والأنف ، وما أقبل من الأذنين على الوجه ، عن أنس بن مالك ، وأم سلمة ، وعمار ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وجماعة ، وإليه ذهب الشافعي .
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي : واغسلوا ذلك أيضا ، والمرافق : جمع مرفق ، وهو المكان الذي يرتفق به أي : يتكأ عليه من اليد . قال الواحدي : كثير من النحويين يجعلون إلى هنا بمعنى مع ويوجبون غسل المرفق ، وهو مذهب أكثر الفقهاء . وقال الزجاج : لو كان معناه مع المرافق لم يكن في المرافق فائدة ، وكانت اليد كلها يجب أن تغسل ، لكنه لما قيل {الْمَرَافِقِ إِلَى} اقتطعت في الغسل من حد المرفق . فالمرافق : حد ما ينتهي إليه في الغسل منها ، والظاهر على ما ذكره ، لكن الأمة أجمعت على أن من بدأ من المرفقين في غسل اليدين ، صح وضوؤه . واختلفوا في صحة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرفق ، وأجمعت الأمة أيضا على أن من غسل المرفقين ، صح وضوؤه ، واختلقوا في من لم يغسلهما ، هل يصح وضوؤه .
وقال الشافعي : لا أعلم خلافا في أن المرافق يحب غسلها ، ومما جاء في القرآن إلى بمعنى مع قوله تعالى : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي : مع الله ، وقوله {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي : مع أموالكم ونحوه ، قول امرئ القيس :
له كفل كالدعص بلله الندى * إلى حارك مثل الرتاج المضبب (2)
وفي أمثال ذلك كثرة . {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} : وهذا أمر بمسح الرأس ، والمسح : أن تمسح شيئا بيديك ، كمسح العرق عن جبينك ، والظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس ، لان من مسح البعض يسمى ماسحا ، إلى هذا ذهب أصحابنا ، قالوا : يجب أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح ، وبه قال ابن عمر ، وإبراهيم ، والشعبي ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : يجب مسح جميع الرأس ، وهو مذهب مالك . وقيل : يجب مسح ربع الرأس ، فإن رسول الله كان يمسح على ناصيته ، وهي قريب من ربع الرأس ، عن أبي حنيفة ، ورويت عنه روايات في ذلك لا نطول بذكرها .
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} : اختلف في ذلك فقال جمهور الفقهاء : إن فرضهما الغسل . وقالت الإمامية : فرضهما المسح دون غيره ، وبه قال عكرمة . وقد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين ، كابن عباس ، وأنس ، وأبي العالية ، والشعبي ، وقال الحسن البصري بالتخيير بين المسح والغسل ، وإليه ذهب الطبري ، والجبائي ، إلا أنهما قالا : يجب مسح جميع القدمين ، ولا يجوز الاقتصار على مسح ظاهر القدم . قال ناصر الحق ، من جملة أئمة الزيدية : يجب الجمع بين المسح والغسل . وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمسح على رجليه . وروي عنه أنه قال : إن في كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلا الغسل . وقال : الوضوء غسلتان ومسحتان . وقال قتادة : فرض الله غسلتين ومسحتين ، وروى ابن علية ، عن حميد ، عن موسى بن أنس ، أنه قال لأنس ، ونحن عنده : إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برؤوسكم ، وإنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما ، وظهورهما ، وعواقيبهما . فقال أنس : صدق الله ، وكذب الحجاج . قال الله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرجلكم إلى الكعبين} قال : فكان أنس إذا مسح قدميه بلهما .
وقال الشعبي : نزل جبرائيل عليه السلام بالمسح ، ثم قال : إن في التيمم يمسح ما كان غسلا ، ويلقى ما كان مسحا . وقال يونس : حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنما كان يمسح عليهما .
وأما ما روي عن سادة أهل البيت عليهم السلام في ذلك ، فأكثر من أن يحصى ، فمن ذلك ما روى الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن فضالة ، عن حماد بن عثمان ، عن غالب بن هذيل ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن المسح على الرجلين ، فقال : " هو الذي نزل به جبرائيل " . وعنه عن أحمد بن محمد قال : " سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن المسح على القدمين ، كيف هو ؟ فوضع بكفه على الأصابع ، ثم مسحهما إلى الكعبين . فقلت له : لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين ؟ قال : لا إلا بكفه كلها " .
وأما وجه القراءتين في {أرجلكم} فمن قال بالغسل ، حمل الجر فيه على أنه عطف على { بِرُءُوسِكُمْ } وقال : المراد بالمسح هو الغسل . وروي عن أبي زيد أنه قال : المسح خفيف الغسل ، فقد قالوا : تمسحت للصلاة . وقوى ذلك بأن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول ، ولم يجئ في الممسوح ، فلما وقع التحديد في المسح ، علم أنه في حكم الغسل ، لموافقته الغسل في التحديد ، وهذا قول أبي علي الفارسي . وقال بعضهم : هو خفض على الجوار ، كما قالوا : جحر ضب خرب . وخرب : من صفات الجحر ، لا الضب ، وكما قال امرؤ القيس :
كأن ثبيرا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل (3)
وقال الزجاج : إذا قرأ بالجر ، يكون عطفا على الرؤوس ، فيقتضي كونه ممسوحا ، وذكره عن بعض السلف أنه قال : نزل جبرائيل بالمسح ، والسنة الغسل ، قال : والخفض على الجوار ، لا يجوز في كتاب الله تعالى ، ولكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغسل ، وقال الأخفش : هو معطوف على الرؤوس في اللفظ ، مقطوع عنه في المعنى ، كقول الشاعر (علفتها تبنا وماء باردا) المعنى : وسقيتها ماء باردا . وأما القراءة بالنصب ، فقالوا فيه : إنه معطوف على {أَيْدِيكُمْ} لأنا رأينا فقهاء الأمصار ، عملوا على الغسل دون المسح ، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى قوما توضأوا وأعقابهم تلوح ، فقال : " ويل للعراقيب من النار " ذكره أبو علي الفارسي وأما من قال بوجوب مسح الرجلين حمل الجر والنصب في {وَأَرْجُلَكُمْ} على ظاهره ، من غير تعسف ، فالجر للعطف على الرؤوس ، والنصب للعطف على موضع الجار والمجرور ، وأمثال ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى ، قالوا : ليس فلان بقائم ، ولا ذاهبا وأنشد :
معاوي إننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (4)
وقال تأبط شرا :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا * أو عبد رب أخا عون بن مخراق
فعطف عبد على موضع دينار ، فإنه منصوب على المعنى ، وأبعد من ذلك قول الشاعر :
جئني بمثل بني بدر لقومهم * أو مثل إخوة منظور بن سيار
فإنه لما كان معنى جئني هات ، أو أحضر لي مثله ، عطف بالنصب على المعنى ، وأجابوا الأولين عما ذكروه في وجه الجر والنصب بأجوبة نوردها على وجه الإيجاز ، قالوا : ما ذكروه أولا من أن المراد بالمسح الغسل فباطل من وجوه أحدها :
إن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة في المعنى . وقد فرق الله سبحانه بين الأعضاء المغسولة ، وبين الأعضاء الممسوحة ، فكيف يكون معنى المسح والغسل واحدا .
وثانيها : إن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس ، وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل ، بلا خلاف ، فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك ، لأن حقيقة العطف تقتضي ذلك . وثالثها : إن المسح لو كان بمعنى الغسل ، لسقط استدلالهم بما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه توضأ ، وغسل رجليه ، لأن على هذا لا ينكر أن يكون مسحهما ، فسموا المسح غسلا ، وفي هذا ما فيه . فأما استشهاد أبي زيد بقولهم : " تمسحت للصلاة " فالمعنى فيه أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز ، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة ، لأن ذلك تشبيه بالغسل ، قالوا بدلا من ذلك : تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا ، فتجوزوا لذلك تعويلا على أن المراد مفهوم . وهذا لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل .
وأما ما قالوه في تحديد طهارة الرجلين فقد ذكر المرتضى (ره) في الجواب عنه : إن ذلك لا يدل على الغسل ، وذلك لان المسح فعل قد أوجبته الشريعة كالغسل ، فلا ينكر تحديده كتحديد الغسل ، ولو صرح سبحانه فقال : " وامسحوا أرجلكم وانتهوا بالمسح إلى الكعبين " لم يكن منكرا ، فإن قالوا : إن تحديد اليدين لما اقتضى الغسل ، فكذلك تحديد الرجلين يقتضي الغسل . قلنا : إنا لم نوجب الغسل في اليدين ، للتحديد ، بل للتصريح بغسلهما ، وليس كذلك في الرجلين .
وإن قالوا : عطف المحدود على المحدود أولى وأشبه بترتيب الكلام . قلنا : هذا لا يصح ، لأن الأيدي محدودة ، وهي معطوفة على الوجوه التي ليست في الآية محدودة ، فإذا جاز عطف الأرجل وهي محدودة ، على الرؤوس التي ليست محدودة ، وهذا أشبه مما ذكرتموه ، لأن الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود ، وهو الوجه ، وعطف عضو محدود مغسول عليه ، ثم استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود ، فيجب أن يكون الأرجل ممسوحة ، وهي محدودة معطوفة على الرؤوس دون غيره ، ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود ، على مغسول غير محدود ، وعطف ممسوح محدود ، على ممسوح غير محدود .
وأما من قال إنه عطف على الجواز فقد ذكرنا عن الزجاج أنه لم يجوز ذلك في القرآن ، ومن أجاز ذلك في الكلام ، فإنما يجوز مع فقد حرف العطف ، وكل ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا وذاك ، وأيضا فإن المجاورة إنما وردت في كلامهم عند ارتفاع اللبس ، والأمن من الاشتباه فإن أحدا لا يشتبه عليه أن خربا لا يكون من صفة الضب ، ولفظة مزمل لا يكون من صفة البجاد ، وليس كذلك الأرجل ، فإنها تجوز أن تكون ممسوحة كالرؤوس ، وأيضا فإن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزا في كلام العرب ، وقالوا : في " جحر ضب خرب " أنهم أرادوا خرب جحره ، فحذف المضاف الذي هو جحر وأقيم المضاف إليه وهو الضمير المجرور مقامه ، وإذا ارتفع الضمير استكن في خرب .
وكذلك القول في كبير أناس في بجاد مزمل فتقديره مزمل كبيره ، فبطل الإعراب بالمجاورة جملة . وهذا واضح لمن تدبره .
وأما من جعله مثل قول الشاعر : (علفتها تبنا وماء باردا) كأنه قدر في الآية واغسلوا أرجلكم فقوله أبعد من الجميع ، لان مثل ذلك لو جاز في كتاب الله تعالى على ضعفه وبعده في سائر الكلام ، فإنما يجوز إذا استحال حمله على ظاهره . وأما إذا كان الكلام مستقيما ، ومعناه ظاهرا ، فكيف يجوز مثل هذا التقدير الشاذ البعيد .
وأما ما قاله أبو علي في القراءة بالنصب ، على أنه معطوف على الأيدي ، فقد أجاب عنه المرتضى (ره) بأن قال : جعل التأثير في الكلام للقريب ، أولى من جعله للبعيد ، فنصب الأرجل عطفا على الموضع ، أولى من عطفها على الأيدي والوجوه .
على أن الجملة الأولى المأمور فيها بالغسل ، قد نقضت وبطل حكمها ، باستئناف الجملة الثانية ، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى ، أن تعطف على ما فيها ، فإن ذلك يجري مجرى قولهم : ضربت زيدا وعمرا ، وأكرمت خالدا وبكرا ، فإن رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه ، ولا يجوز رده إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه . ولو جاز ذلك أيضا لترجح ما ذكرناه لتطابق معنى القراءتين ، ولا يتنافيان .
فأما ما روي في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : " ويل للعراقيب من النار " وغير ذلك من الأخبار التي رووها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه توضأ ، وغسل رجليه ، فالكلام في ذلك أنه لا يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن المعلوم بظاهر الأخبار ، الذي لا يوجب علما ، وإنما يقتضي الظن على أن هذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة وردت من طرقهم ، ووجدت في كتبهم ، ونقلت عن شيوخهم ، مثل ما روي عن أوس بن أوس (5) أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، توضأ ، ومسح على نعليه ، ثم قام فصلى . وعن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سباطة (6) قوم ، فبال عليها ، ثم دعا بماء ، فتوضأ ، ومسح على قدميه . وذكره أبو عبيدة في غريب الحديث إلى غير ذلك ، مما يطول ذكره . وقوله : " ويل للعراقيب من النار " فقد روي فيه أن قوما من أجلاف الأعراب كانوا يبولون وهم قيام ، فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم ، فلا يغسلونها ، ويدخلون المسجد للصلاة ، وكان ذلك سببا لهذا الوعيد .
وأما الكعبان فقد اختلف في معناهما ، فعند الإمامية هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند معقد الشراك ، ووافقهم في ذلك محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة ، وإن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع . وقال جمهور المفسرين والفقهاء : الكعبان هما عظما الساقين ، قالوا : ولو كان كما قالوه ، لقال سبحانه وأرجلكم إلى الكعاب ، ولم يقل {إلى الكعبين} لأن على ذلك القول ، يكون في كل رجل كعبان {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} معناه إن كنتم جنبا عند القيام إلى الصلاة ، فتطهروا بالاغتسال ، وهو أن تغسلوا جميع البدن . والجنابة إنما تكون بإنزال الماء الدافق على كل حال ، أو بالتقاء الختانين ، وحده غيبوبة الحشفة في الفرج ، سواء كان معه إنزال ، أو لم يكن {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} : قد مر تفسيره في سورة النساء ، فلا معنى لإعادته {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} معناه : ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء ، إذا قمتم إلى الصلاة ، والغسل من الجنابة ، والتيمم ، عند عدم الماء ، أو تعذر استعماله ، ليلزمكم في دينكم من ضيق ، ولا ليعنتكم فيه ، عن مجاهد ، وجميع المفسرين .
{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} بما فرض عليكم من الوضوء والغسل ، من الإحداث والجنابة ، أي : ينظف أجسادكم بذلك من الذنوب . واللام دخلت فيه ، لتبيين الإرادة أي يريد ذلك لتطهيركم ، كما قال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل
ويؤيد ما قلناه ما روي عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إن الوضوء يكفر ما قبله " {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي : ويريد الله تعالى مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل ، إذا قمتم إلى الصلاة ، مع وجود الماء ، أو التيمم عند عدمه ، أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم ، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا ، رخصة لكم منه ، من سوابغ نعمه التي أنعم بها عليكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي : لتشكروا الله على نعمته بطاعتكم إياه ، فيما أمركم به ، ونهاكم عنه . وقد تضمنت هذه الآية أحكام الوضوء وصفته ، وأحكام الغسل والتيمم ، ومسائلها المتفرعة منها كثيرة ، موضعها الكتب المؤلفة في الفقه .
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة : 7] .
لما قدم سبحانه ذكر بيان الشرائع ، عقبه بتذكير نعمه ، فقال :
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، ولم يقل نعم الله ، للإشعار بعظم النعمة ، لا من جهة التضعيف ، إذ كل نعمة لله ، فإنه يستحق عليها أعظم الشكر ، لكونها أصل النعم ، إذ هي مثل الخلق ، والحياة ، والعقل ، والحواس ، والقدرة ، والآلات . وقيل : بل لأنه ذهب مذهب الجنس في ذلك ، وجملة النعم تسمى نعمة ، كما أن قطاعا من الأرض ، تسمى أرضا {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} قيل فيه أقوال أحدها : إن معناه ما أخذ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند إسلامهم وبيعتهم ، بأن يطيعوا الله في كل ما يفرضه عليهم ، مما ساءهم أو سرهم ، عن ابن عباس ، والسدي . وثانيها : إن المراد بالميثاق ما بين لهم في حجة الوداع ، من تحريم المحرمات ، وكيفية الطهارة ، وفرض الولاية ، وغير ذلك ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام . وهذا داخل في القول الأول ، إذ هو بعض ما فرض الله تعالى . وثالثها : إن المراد به متابعتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بيعة العقبة ، وبيعة الرضوان ، عن أبي علي الجبائي . ورابعها : إن معناه ما أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، وأشهدهم على أنفسهم : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف : 172] عن ، مجاهد . وهذا أضعف الأقوال {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يعني : سمعنا ما تقول ، وأطعناك فيما سمعنا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} مضى بيانه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي : بما تضمرونه في صدوركم من المعاني ، والمراد بالصدور ها هنا القلوب ، وإنما جاز ذلك ، لان موضع القلب : الصدر .
_____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 282-290 .
2. وفي بعض النسخ " لبده الثرى " الدعص : كثيب الرمل شبه به كفل فرسه والحارك : رأس الكتف . والرتاج : الباب العظيم . وضبب الباب جعل فيه ضبة ، وهي حديدة أو خشبة يضبب بها الباب .
3. ثبير : أعظم جبال مكة بينها وبين عرفة . الوبل : المطر الشديد وعرانينه : أوائله . البجاد كساء مخصص من أكسية العرب . والشاهد في وقوع " مزمل " صفة الكبير لا البجاد .
4. قوله معاوي : مناد مرخم أي : يا معاوية !
5. وفي بعض النسخ أوس بن أبي أوس كا وكلاهما محتمل .
6. السباطة : الموضع الذي تطرح فيه الأوساخ .
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } . أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، تماما كما تقول : إذا نمت فاقرأ سورة الفاتحة ، وهذا من باب اطلاق السبب على المسبّب .
{ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } . لا خلاف فيه ، سوى ان الشيعة الإمامية قالوا :
يجب الابتداء من الأعلى ، ولا يجوز النكس ، وقال غيرهم : يجوز الغسل كيف اتفق ، والابتداء من الأعلى أفضل .
{ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ } . أيضا لا خلاف فيه إلا ان الشيعة أوجبوا الابتداء بالمرفق ، وأبطلوا النكس ، كما أوجبوا تقديم اليد اليمنى على اليسرى ، وقال السنة : يغسلهما كيف اتفق . . أجل ، تقديم اليمنى أفضل ، وكذا الابتداء من الأصابع إلى المرفق .
وتسأل : ان كلا من السنة والشيعة قد خالفوا ظاهر الآية ، لأن المرافق يجب أن تكون نهاية الغسل لمكان « إلى » ، مع ان السنة لا يوجبون ذلك ، والشيعة لا يجيزونه ، فما هو التأويل ؟
وأجاب كثيرون بأن « إلى » هنا بمعنى مع مثل قوله تعالى : {ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ} [هود : 52 ] ، أي مع قوتكم . . والذي نراه في الجواب ان التحديد في الآية للعضو المغسول ، وهو اليد ، بصرف النظر عن كيفية الغسل من حيث الابتداء والانتهاء ، تماما كقولك : بعتك الأرض من هنا إلى هناك ، وقطفت ورد الحديقة من هنا إلى هنا ، وأنت تريد تحديد الكم والمقدار ، لا بيان الكيف والهيئة .
{ وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } . قال الحنابلة : يجب مسح الرأس والأذنين ، ويجزي الغسل عن المسح بشرط إمرار اليد على الرأس . وقال المالكية : يجب مسح جميع الرأس دون الأذنين . وقال الحنفية : يجب مسح ربع الرأس ، ويكفي إدخال الرأس في الماء ، أو صبه عليه . وقال الشافعية : يجب مسح بعض الرأس ولو قل ، ويكفي الغسل أو الرش . وقال الشيعة الإمامية : يجب مسح جزء من مقدم الرأس ، ويكفي أقل ما يصدق عليه اسم المسح ، ولا يجوز الغسل ولا الرش . . وعليه يكون معنى الباء الإلصاق على القولين الأولين ، والتبعيض على الأقوال الأخيرة الثلاثة .
{ وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } . ورد في الأرجل قراءتان : إحداهما النصب ، والأخرى الخفض . وقال السنة : يجب غسل الأرجل ، لا مسحها ، لأنها معطوفة على الأيدي ، على القراءتين . أما على قراءة النصب فواضح ، إذ الأيدي منصوبة لفظا ومحلا . وأما على قراءة الجر فللجوار والاتباع ، أي الرؤوس مجرورة ، والأرجل مجاورة لها ، فجرت الأرجل لعلاقة المجاورة ، تماما كقول العرب :
« جحر ضب خرب » مع العلم بأن خرب يجب رفعه ، لأنه صفة للحجر ، لا للضب ، ولكنه خفض لمجاورته للضب .
وقال الشيعة : يجب مسح الأرجل ، لا غسلها ، لأنها معطوفة على الرؤوس .
أما على قراءة الجر فواضح ، إذ الرؤوس مجرورة بالباء . وأما على قراءة النصب فمعطوفة على محل الرؤوس ، لأن كل مجرور لفظا منصوب محلا .
ثم قال الشيعة : ان العطف على الأيدي لا يجوز لأمرين :
الأول : انه خلاف الفصاحة ، لوجود الفاصل بين الأيدي والأرجل ، وهو قوله : {وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولو كان الأرجل معطوفة على الأيدي لقال :
{ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ } { وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } ولم يفصل بين الأيدي والأرجل بمسح الرأس .
الثاني : ان العطف على الأيدي يستدعي أن يكون لكل قراءة معنى مغاير للآخر ، إذ يكون المعنى على قراءة النصب الغسل ، وعلى قراءة الجر المسح . .
وهذا بخلاف العطف على الرؤوس فان المعنى يكون واحدا على القراءتين . بالإضافة إلى أن الجر للجوار رديء لم يرد في كلام اللَّه إطلاقا .
{ وإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } . يجب الغسل من الجنابة لأمرين :
الأول : نزول المني في نوم أو يقظة . الثاني : إدخال رأس الإحليل في قبل أو دبر ، وبالأولى إدخاله كاملا .
ولم يوجب السنة الغسل بكيفية خاصة ، وإنما أوجبوا أن يعم الماء جميع البدن كيف اتفق .
وقسّم الشيعة الإمامية غسل الجنابة إلى نوعين : ترتيب وارتماس ، والترتيب ان يصب المغتسل الماء على جسمه صبا ، وفي هذه الحال أوجبوا الابتداء بالرأس ،
ثم بالجانب الأيمن من الجسم ، ثم الأيسر ، فلو أخل ، وقدّم المؤخر ، أو أخر المقدم يبطل الغسل . أما الإرتماس فهو غمس تمام البدن تحت الماء دفعة واحدة ، فلو خرج جزء منه عن الماء لم يكف .
{ وإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } . تقدم تفسيره في سورة النساء الآية 43 .
{ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ولكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . الحرج الضيق والمشقة ، والضرر حرج وزيادة ، ومنه الأذى والمرض وذهاب المال . . والإسلام لم يشرع حكما يستدعي أي نحو من الضيق والمشقة ، فضلا عن الضرر ، فما أمر بشيء الا وفيه خير وصلاح ، وما نهى عن شيء إلا وفيه شر وفساد ، وإذا كان في الشيء الواحد جانبان : نفع وضرر ، ينظر : فان كان النفع أكبر فهو مطلوب ، وان كان الضرر أكبر فهو منهي عنه ، فالعبرة دائما بالأكثر ، ومع التساوي فالخيار في الفعل والترك ، قال تعالى :
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ } [الأنفال : 24 ] .
وقال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة : 185 ] .
{ واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ } . كل من دخل في دين أو حزب فقد قطع عهدا على نفسه أن يستجيب لمبادئه وتعاليمه ، ويعمل بها عن رضى وطيب نفس . . وهذا هو الميثاق الذي واثقنا اللَّه به نحن المسلمين حين ارتضينا الإسلام دينا ، ومن قام بهذا الميثاق وأداه كما أمر اللَّه فقد وفي مع اللَّه ، ومن عصى فقد خان اللَّه ، ومن أظهر معاني الوفاء للَّه سبحانه الإخلاص لعباده . والصدق في معاملتهم ، ولا أعرف علامة على الصدق في الدين حقا وواقعا غير الوفاء . . وأنصح كل إنسان ان لا يأتمن أحدا لعلمه أو عبادته ، أو لمنصبه وشهرته ، بل يأتمنه ويثق به بعد اليقين بصدقه ووفائه .
________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 21-24 .
تتضمن الآية الأولى حكم الطهارات الثلاث : الوضوء وغسل الجنابة والتيمم والآية التالية كالمتممة أو المؤكدة لحكم الآية الأولى ، وفي بيان حكم الطهارات الثلاث آية أخرى تقدمت في سورة النساء ، وهي قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً } : ( النساء : 43 ) .
وهذه الآية أعني آية المائدة أوضح وأبين من آية النساء ، وأشمل لجهات الحكم ولذلك أخرنا بيان آية النساء إلى هاهنا لسهولة التفهم عند المقايسة .
قوله تعالى . { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } القيام إذا عدي بإلى ربما كني به عن إرادة الشيء المذكور للملازمة والقران بينهما ، فإن إرادة الشيء لا تنفك عن الحركة إليه ، وإذا فرض الإنسان مثلا قاعدا لأنه حال سكونه ولازم سباته عادة ، وفرض الشيء المراد فعلا متعارفا يتحرك إليه عادة كان مما يحتاج في إتيانه إلى القيام غالبا ، فأخذ الإنسان في ترك السكون والانتصاب لإدراك العمل هو القيام إلى الفعل ، وهو يلازم الإرادة . ونظيره قوله تعالى : { وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } : ( النساء : 102 ) أي أردت أن تقيم لهم الصلاة . وعكسه من وجه قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً } : ( النساء : 20 ) أي إذا طلقتم زوجا وتزوجتم بأخرى ، فوضعت إرادة الفعل وطلبه مقام القيام به .
وبالجملة الآية تدل على اشتراط الصلاة بما تذكره من الغسل والمسح أعني الوضوء ولو تم لها إطلاق لدل على اشتراط كل صلاة بوضوء مع الغض عن قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } لكن الآيات المشرعة قلما يتم لها الإطلاق من جميع الجهات . على أنه يمكن أن يكون قوله الآتي : { وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } مفسرا لهذا الاشتراط على ما سيجيء من الكلام . هذا هو المقدار الذي يمكن أن يبحث عنه في تفسير الآية ، والزائد عليه مما أطنب فيه المفسرون بحث فقهي خارج عن صناعة التفسير .
قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ } الغسل بفتح الغين إمرار الماء على الشيء ، ويكون غالبا لغرض التنظيف وإزالة الوسخ والدرن والوجه ما يستقبلك من الشيء ، وغلب في الجانب المقبل من رأس الإنسان مثلا ، وهو الجانب الذي فيه العين والأنف والفم ، ويعين بالظهور عند المشافهة ، وقد فسر في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت صلى الله عليه وآله بما بين قصاص الشعر من الناصية وآخر الذقن طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى والسبابة ، وهناك تحديدات أخر ذكرها المفسرون والفقهاء .
والأيدي جمع يد وهي العضو الخاص الذي به القبض والبسط والبطش وغير ذلك ، وهو ما بين المنكب وأطراف الأصابع ، وإذ كانت العناية في الأعضاء بالمقاصد التي يقصدها الإنسان منها كالقبض والبسط في اليد مثلا ، وكان المعظم من مقاصد اليد تحصل بما دون المرفق إلى أطراف الأصابع سمي أيضا باليد ، ولذلك بعينه ما سمي ما دون الزند إلى أطراف الأصابع فصار اللفظ بذلك مشتركا أو كالمشترك بين الكل والأبعاض .
وهذا الاشتراك هو الموجب لذكر القرينة المعينة إذا أريد به أحد المعاني ، ولذلك قيد تعالى قوله : { وَأَيْدِيَكُمْ } بقوله : { إِلَى الْمَرافِقِ } ليتعين أن المراد غسل اليد التي تنتهي إلى المرافق ، ثم القرينة أفادت أن المراد به القطعة من العضو التي فيها الكف ، وكذا فسرتها السنة . والذي يفيده الاستعمال في لفظة { إِلَى } أنها لانتهاء الفعل الذي لا يخلو من امتداد الحركة ، وأما دخول مدخول { إِلَى } في حكم ما قبله أو عدم دخوله فأمر خارج عن معنى الحرف ، فشمول حكم الغسل للمرافق لا يستند إلى لفظة { إِلَى } بل إلى ما بينه السنة من الحكم .
وربما ذكر بعضهم أن { إِلَى } في الآية بمعنى مع كقوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ } : ( النساء : 2 ) وقد استند في ذلك إلى ما ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله كان يغسلهما إذا توضأ ، وهو من عجيب الجرأة في تفسير كلام الله ، فإن ما ورد من السنة في ذلك إما فعل والفعل مبهم ذو وجوه فكيف يسوغ أن يحصل بها معنى لفظ من الألفاظ حتى يعد ذلك أحد معاني اللفظ؟ وإما قول وارد في بيان الحكم دون تفسير الآية ، ومن الممكن أن يكون وجوب الغسل للمقدمة العلمية أو مما زاده النبي صلى الله عليه وآله وكان له ذلك كما فعله صلى الله عليه وآله في الصلوات الخمس على ما وردت به الروايات الصحيحة .
وأما قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ } فهو من قبيل تضمين الأكل معنى الضم ونحوه مما يتعدى بإلى لا أن لفظة { إِلَى } هنالك بمعنى مع .
وقد تبين بما مر أن قوله { إِلَى الْمَرافِقِ } قيد لقوله { أَيْدِيَكُمْ } فيكون الغسل المتعلق بها مطلقا غير مقيد بالغاية يمكن أن يبدأ فيه من المرفق إلى أطراف الأصابع وهو الذي يأتي به الإنسان طبعا إذا غسل يده في غير حال الوضوء من سائر الأحوال أو يبدأ من أطراف الأصابع ويختم بالمرفق ، لكن الأخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت عليه السلام تفتي بالنحو الأول دون الثاني .
وبذلك يندفع ما ربما يقال : إن تقييد الجملة بقوله { إِلَى الْمَرافِقِ } يدل على وجوب الشروع في الغسل من أطراف الأصابع والانتهاء إلى المرافق . وجه الاندفاع أن الإشكال مبني على كون قوله { إِلَى الْمَرافِقِ } قيدا لقوله { فَاغْسِلُوا } وقد تقدم أنه قيد للأيدي ، ولا مناص منه لكونه مشتركا محتاجا إلى القرينة المعينة ، ولا معنى لكونه قيدا لهما جميعا .
على أن الأمة أجمعت على صحة وضوء من بدأ في الغسل بالمرافق وانتهى إلى أطراف الأصابع كما في المجمع ، وليس إلا لأن الآية تحتمله : وليس إلا لأن قوله { إِلَى الْمَرافِقِ } قيد للأيدي دون الغسل .
قوله تعالى : { وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } المسح : إمرار اليد أو كل عضو لامس على الشيء بالمباشرة ، يقال . مسحت الشيء ومسحت بالشيء ، فإذا عدي بنفسه أفاد الاستيعاب ، وإذا عدي بالباء دل على المسح ببعضه من غير استيعاب وإحاطة .
فقوله : { وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ } يدل على مسح بعض الرأس في الجملة ، وأما أنه أي بعض من الرأس فمما هو خارج من مدلول الآية ، والمتكفل لبيانه السنة ، وقد صح أنه جانب الناصية من الرأس .
وأما قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } فقد قرئ بالجر ، وهو لا محالة بالعطف على رءوسكم .
وربما قال القائل : إن الجر للإتباع ، كقوله : { وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } : ( الأنبياء : 30 ) وهو خطأ فإن الإتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى . وأما قوله : { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق ، وليس من الإتباع في شيء .
على أن الإتباع ـ كما قيل ـ إنما ثبت في صورة اتصال التابع والمتبوع كما قيل في قولهم : جحر ضب خرب بجر الخرب ، اتباعا لا في مثل المورد مما يفضل العاطف بين الكلمتين .
وقرأ : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلي الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن { أَرْجُلَكُمْ } معطوف على موضع { بِرُؤُسِكُمْ } وهو النصب ، وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين ، ومسح الرأس والرجلين ، ولم يخطر ببالك أن ترد { أَرْجُلَكُمْ } إلى { وُجُوهَكُمْ } في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ } بحكم آخر وهو قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } ، فإن الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك ، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلا : قبلت وجه زيد ورأسه ومسحت بكتفه ويده بنصب يد عطفا على { وجه زيد } مع انقطاع الكلام الأول ، وصلاحية قوله { يده } لأن يعطف على محل المجرور المتصل به ، وهو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم .
وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية ، وإنما تحكي عمل النبي صلى الله عليه وآله وفتوى بعض الصحابة ، لكنها مختلفة : منها ما يوجب مسح الرجلين ، ومنها ما يوجب غسلهما .
وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح ، ولا كلام لنا معهم في هذا المقام لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه ، خارج عن صناعة التفسير .
لكنهم مع ذلك حاولوا تطبيق الآية على ما ذهبوا إليه من الحكم الفقهي بتوجيهات مختلفة ذكروها في المقام ، والآية لا تحتمل شيئا منها إلا مع ردها من أوج بلاغتها إلى مهبط الرداءة .
فربما قيل : إن { أَرْجُلَكُمْ } عطف على { وُجُوهَكُمْ } كما تقدم هذا على قراءة النصب ، وأما على قراءة الجر فتحمل على الإتباع ، وقد عرفت أن شيئا منهما لا يحتمله الكلام البليغ الذي يطابق فيه الوضع الطبع .
وربما قيل في توجيه قراءة الجر : إنه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى كقوله : علفتها تبنا وماء باردا .
وفيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف كما يدل عليه ما استشهد به من الشعر . وهذا المقدر في الآية إما { فَاغْسِلُوا } وهو يتعدى بنفسه لا بحرف الجر ، وإما غيره وهو خلاف ظاهر الكلام لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة وأيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي ، وإما بتضمين علفت معنى أعطيت وأشبعت ونحوهما . وأيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير ونحوه ، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية ، وأما الآية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللفظ يقطع بها .
وربما قيل في توجيه الجر بناء على وجوب غسل الأرجل : أن العطف في محله غير أن المسح خفيف الغسل فهو غسل بوجه فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها ، ويقوي ذلك أن التحديد والتوقيت أنما جاء في المغسول وهو الوجه ، ولم يجيء في الممسوح فلما رفع التحديد في المسح وهو قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد .
وهذا من أراد الوجوه ، فإن المسح غير الغسل ولا ملازمة بينهما أصلا . على أن حمل مسح الأرجل على الغسل دون مسح الرؤوس ترجيح بلا مرجح . وليت شعري ما ذا يمنعه أن يحمل كل ما ورد فيه المسح مطلقا في كتاب أو سنة على الغسل وبالعكس وما المانع حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح ، وروايات المسح على الغسل فتعود الأدلة عن آخرها مجملات لا مبين لها؟ .
وأما ما قواه به فهو من تحميل الدلالة على اللفظ بالقياس ، وهو من أفسد القياسات .
وربما قيل إن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم فإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل ، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء ، ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما ، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح ، فالنصب في قوله : { أَرْجُلَكُمْ } بعناية أن الواجب هو غسلهما ، والجر بعناية أنه ماسح بالماء غسلا ، انتهى ملخصا .
وما أدري كيف يثبت بهذا الوجه أن المراد بمسح الرأس في الآية هو المسح من غير غسل ، وبمسح الرجلين هو المسح بالغسل ؟ وهذا الوجه هو الوجه السابق بعينه ويزيد عليه فسادا ، ولذلك يرد على هذا ما يرد على ذاك .
ويزيد عليه إشكالا أن قوله : إن الله أمر بعموم مسح الرجلين في الوضوء (إلخ) الذي قاس فيه الوضوء على التيمم إن أراد به قياس الحكم على الحكم أعني ما ثبت عنده بالروايات فأي دلالة له على دلالة الآية على ذلك؟ وليست الروايات ـ كما عرفت ـ بصدد تفسير لفظ الكتاب ، وإن أراد به قياس قوله : { وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } في الوضوء على قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } في التيمم فهو ممنوع في المقيس والمقيس عليه جميعا فإن الله تعالى عبر في كليهما بالمسح المتعدي بالباء ، وقد تقدم أن المسح المتعدي بالباء لا يدل في اللغة على استيعاب المسح الممسوح ، وأن الذي يدل على ذلك هو المسح المتعدي بنفسه .
وهذه الوجوه وأمثالها مما وجهت بها الآية بحملها على خلاف ظاهرها حفظا للروايات فرارا من لزوم مخالفة الكتاب فيها ، ولو جاز لنا تحميل معنى الرواية على الآية بتأويل الآية بحملها على خلاف ظاهرها لم يتحقق لمخالفة الكتاب مصداق .
فالأحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس والشعبي وغيرهما على ما نقل عنهم : أنه نزل جبرئيل بالمسح والسنة الغسل ، ومعناه نسخ الكتاب بالسنة . وينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الأصولية : هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز ، والبحث فيه من شأن الأصولي دون المفسر ، وليس قول المفسر بما هو مفسر : أن الخبر الكذائي مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعي الذي هو شأن الفقيه .
وأما قوله تعالى : { إِلَى الْكَعْبَيْنِ } فالكعب هو العظم الناتئ في ظهر القدم . وربما قيل : إن الكعب هو العظم الناتئ في مفصل الساق والقدم ، وهما كعبان في كل قدم في المفصل .
قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } الجنب في الأصل مصدر غلب عليه الاستعمال بمعنى اسم الفاعل ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره ، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ورجلان أو امرأتان جنب ، ورجال أو نساء جنب ، واختص الاستعمال بمعنى المصدر للجنابة .
والجملة أعني قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } معطوفة على قوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } لأن الآية مسوقة لبيان اشتراط الصلاة بالطهارة فالتقدير : وتطهروا إن كنتم جنبا ، فيئول إلى تقدير شرط الخلاف في جانب الوضوء وتقدير الكلام : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إن لم تكونوا جنبا وإن كنتم جنبا فاطهروا ويستفاد من ذلك أن تشريع الوضوء إنما هو في حال عدم الجنابة ، وأما عند الجنابة فالغسل فحسب كما دلت عليه الأخبار .
وقد بين الحكم بعينه في آية النساء بقوله : { وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } فهذه الآية تزيد على تلك الآية بيانا بتسمية الاغتسال تطهرا ، وهذا غير الطهارة الحاصلة بالغسل ، فإنها أثر مترتب ، وهذا نفس الفعل الذي هو الاغتسال وقد سمي تطهرا كما يسمى غسل أوساخ البدن بالماء تنظفا .
ويستفاد من ذلك ما ورد في بعض الأخبار من قوله عليه السلام : { ما جرى عليه الماء فقد طهر } .
قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا } شروع في بيان حكم من لا يقدر على الماء حتى يغسل أو يغتسل .
والذي ذكر من الموارد وعد بالترديد ليس بعضها يقابل بعضا مقابلة حقيقية ، فإن المرض والسفر ليسا بنفسهما يوجبان حدثا مستدعيا للطهارة بالوضوء أو الغسل بل إنما يوجبانه إذا أحدث المكلف معهما حدثا صغيرا أو كبيرا ، فالشقان الأخيران لا يقابلان الأولين بل كل من الأولين كالمنقسم إلى الأخيرين ، ولذلك احتمل بعضهم أن يكون { أَوْ } في قوله : { أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ } ، بمعنى الواو كما سيجيء ، على أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر بل له مصاديق أخر .
لكن الله سبحانه ذكر المرض والسفر وهما مظنة عدم التمكن من الماء غالبا ، وذكر المجيء من الغائط وملامسة النساء وفقدان الماء معهما اتفاقي ، ومن جهة أخرى ـ وهي عكس الجهة الأولى ـ عروض المرض والسفر للإنسان بالنظر إلى بنيته الطبيعية أمر اتفاقي بخلاف التردد إلى الغائط وملامسة النساء فإنهما من حاجة الطبيعة : أحدهما يوجب الحدث الأصغر الذي يرتفع بالوضوء ، والآخر الحدث الأكبر الذي يرتفع بالغسل .
فهذه الموارد الأربع موارد يبتلى الإنسان ببعضها اتفاقا وببعضها طبعا . وهي تصاحب فقدان الماء غالبا كالمرض والسفر أو اتفاقا كالتخلي والمباشرة إذا انضم إليها عدم وجدان الماء فالحكم هو التيمم .
وعلى هذا يكون عدم وجدان الماء كناية عن عدم القدرة على الاستعمال . كنى به عنه لأن الغالب هو استناد عدم القدرة إلى عدم الوجدان ، ولازم ذلك أن يكون عدم الوجدان قيدا لجميع الأمور الأربعة المذكورة حتى المرض .
وقد تبين بما قدمناه أولا : أن المراد بالمرض في قوله : { كُنْتُمْ مَرْضى } هو المرض الذي يتحرج معه الإنسان من استعمال الماء ويتضرر به على ما يعطيه التقييد بقوله : { فَلَمْ تَجِدُوا ماءً } ويفيده أيضا سياق الكلام في الآية .
وثانيا : أن قوله : { أَوْ عَلى سَفَرٍ } شق برأسه يبتلى به الإنسان اتفاقا ويغلب عليه فيه فقدان الماء ، فليس بمقيد بقوله : { أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ } (إلخ) بل هو معطوف على قوله : { فَاغْسِلُوا } والتقدير : إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا ، فحال هذا الفرض في إطلاقه وعدم تقيده بوقوع أحد الحدثين حال المعطوف عليه أعني قوله : { إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا } (إلخ) فكما لم يحتج إلى التقييد ابتداء لم يحتج إليه ثانيا عند العطف .
وثالثا : أن قوله : { أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ } شق آخر مستقلا وليس كما قيل : إن { أَوْ } فيه بمعنى الواو كقوله تعالى : { وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } : ( الصافات : 147 ) لما عرفت من عدم الحاجة إلى ذلك . على أن { أَوْ } في الآية المستشهد بها ليس إلا بمعناها الحقيقي ، وإنما الترديد راجع إلى كون المقام مقاما يتردد فيه بالطبع لا لجهل في المتكلم كما يقال بمثله في الترجي والتمني الواقعين في القرآن كقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } : ( البقرة : 21 ) ، وقوله : { لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ } : ( البقرة : 102 ) .
وحكم هذه الجملة في العطف حكم سابقتها ، والتقدير : إذا قمتم إلى الصلاة وكان جاء أحد منكم من الغائط ولم تجدوا ماء فتيمموا .
وليس من البعيد أن يستفاد من ذلك عدم وجوب إعادة التيمم أو الوضوء لمن لم تنتقض طهارته بالحدث الأصغر إن كان على طهارة بناء على مفهوم الشرط فيتأيد به من الروايات ما يدل على عدم وجوب التطهر لمن كان على طهارة .
وفي قوله تعالى : { أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ } من الأدب البارع ما لا يخفى للمتدبر حيث كنى عن المراد بالمجيء من الغائط ، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ليتستروا به من الناس تأدبا ، واستعمال الغائط في معناه المعروف اليوم استعمال مستحدث من قبيل الكنايات المبتذلة كما أن لفظ العذرة كذلك ، والأصل في معناها عتبة الباب سميت بها لأنهم كانوا يخلون ما اجتمع في كنيف البيت فيها على ما ذكره الجوهري في الصحاح .
ولم يقل : أو جئتم من الغائط لما فيه من تعيين المنسوب إليه ، وكذا لم يقل : أو جاء أحدكم من الغائط لما فيه من الإضافة التي فيها شوب التعيين بل بالغ في الإبهام فقال : { أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ } رعاية لجانب الأدب .
ورابعا : أن قوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ } كسابقه شق من الشقوق المفروضة مستقل وحكمه في العطف والمعنى حكم سابقه ، وهو كناية عن الجماع أدبا صونا للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به .
فإن قلت : لو كان كذلك كان التعبير بمثل ما عبر به عنه سابقا بقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً } أولى لكونه أبلغ في رعاية الأدب .
قلت : نعم لكنه كان يفوت نكتة مرعية في الكلام ، وهي الدلالة على كون الأمر مما يقتضيه الطبيعة كما تقدم بيانه ، والتعبير بالجنابة فاقد للإشعار بهذه النكتة .
وظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم : أن المراد بملامسة النساء هو الملامسة حقيقة بنحو التصريح من غير أن تكون كناية عن الجماع . وجه فساده أن سياق الآية لا يلائمه ، وإنما يلائم الكناية فإن الله سبحانه ابتدأ في كلامه ببيان حكم الحدث الأصغر بالوضوء وحكم الجنابة بالغسل في الحال العادي ، وهو حال وجدان الماء ، ثم انتقل الكلام إلى بيان الحكم في الحال غير العادي ، وهو حال فقدان الماء فبين فيه حال بدل الوضوء وهو التيمم فكان الأحرى والأنسب بالطبع أن يذكر حال بدل الغسل أيضا ، وهو قرين الوضوء ، وقد ذكر ما يمكن أن ينطبق عليه ، وهو قوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ } على سبيل الكناية ، فالمراد به ذلك لا محالة ، ولا وجه لتخصيص الكلام ببيان حكم بدل الوضوء وهو أحد القرينين ، وإهمال حكم بدل القرين الآخر وهو الغسل رأسا .
وخامسا : يظهر بما تقدم فساد ما أورد على الآية من الإشكالات : فمنها أن ذكر المرض والسفر مستدرك ، فإنهما أنما يوجبان التيمم بانضمام أحد الشقين الأخيرين وهو الحدث والملامسة ، مع أنهما يوجبانه ولو لم يكن معهما مرض أو سفر فذكر الأخيرين يغني عن ذكر الأولين . والجواب أن ذكر الشقين الأخيرين ليس لغرض انضمامهما إلى أحد الأولين بل كل من الأربعة شق مستقل مذكور لغرض خاص به يفوت بحذفه من الكلام على ما تقدم بيانه .
ومنها : أن الشق الثاني وهو قوله : { أَوْ عَلى سَفَرٍ } مستدرك وذلك بمثل ما وجه به الإشكال السابق غير أن المرض لما كان عذره الموجب للانتقال إلى البدل هو عدم التمكن من استعمال الماء الموجود لا عدم وجدان الماء كان من اللازم أن يقدر له ذلك في الكلام ، ولا يغني عن ذكره ذكر الشقين الأخيرين مع عدم وجدان الماء ، ونتيجة هذا الوجه كون السفر مستدركا فقط . والجواب أن عدم الوجدان في الآية كناية عن عدم التمكن من استعمال الماء أعم من صورة وجدانه أو فقدانه كما تقدم .
ومنها : أن قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا ماءً } يغني عن ذكر جميع الشقوق ، ولو قيل مكان قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى } (إلخ) : { وإن لم تجدوا ماء } لكان أوجز وأبين ، والجواب : أن فيه إضاعة لما تقدم من النكات .
ومنها : أن لو قيل : وإن لم تقدروا على الماء أو ما يفيد معناه كان أولى ، لشموله عذر المرض مضافا إلى عذر غيره . والجواب : أنه أفيد بالكناية ، وهي أبلغ .
قوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } التيمم هو القصد ، والصعيد هو وجه الأرض ، وتوصيفه بالطيب ـ والطيب في الشيء كونه على حال يقتضيه طبعه ـ للإشارة إلى اشتراط كونه على حاله الأصلي كالتراب والأحجار العادية دون ما خرج من الأرضية بطبخ أو نضج أو غير ذلك من عوامل التغيير كالجص والنورة والخزف والمواد المعدنية ، قال تعالى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً } : ( الأعراف : 58 ) ومن ذلك يستفاد الشروط التي أخذت السنة في الصعيد الذي يتيمم به .
وربما يقال : إن المراد بالطيب الطهارة ، فيدل على اشتراط الطهارة في الصعيد .
وقوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } ينطبق ما ذكره في التيمم للمسح على ما ذكره في الوضوء للغسل ، فالتيمم في الحقيقة وضوء أسقطت فيه المسحتان : مسح الرأس ومسح الرجلين ، وأبدلت فيه الغسلتان : غسلة الوجه واليدين إلى المرفقين بالمسحتين ، وأبدل الماء بالتراب تخفيفا .
وهذا يشعر بأن العضوين في التيمم هما العضوان في الوضوء ، ولما عبر تعالى بالمسح المتعدي بالباء دل ذلك على أن المعتبر في التيمم هو مسح بعض عضوي الغسل في الوضوء أعني بعض الوجه ، وبعض اليد إلى المرفق ، وينطبق على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليه السلام من تحديد الممسوح من الوجه بما بين الجبينين والممسوح من اليد بما دون الزند منها .
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم من تحديد اليد بما دون الإبطين . وما ذكره آخرون أن المعتبر من اليد في التيمم عين ما اعتبر في الوضوء وهو ما دون المرفق ، وذلك أنه لا يلائم المسح المتعدي بالباء الدال على مرور الماسح ببعض الممسوح .
و { من } في قوله : { مِنْهُ } كأنها ابتدائية والمراد أن يكون المسح بالوجه واليدين مبتدأ من الصعيد ، وقد بينته السنة بأنه بضرب اليدين على الصعيد ومسحهما بالوجه واليدين .
ويظهر من بعضهم : أن { من } هاهنا تبعيضية فتفيد أن يكون في اليدين بعد الضرب بقية من الصعيد كغبار ونحوه بمسح الوجه واليدين واستنتج منه وجوب كون الصعيد المضروب عليه مشتملا على شيء من الغبار يمسح منه بالوجه واليدين فلا يصح التيمم على حجر أملس لم يتعلق به غبار ، والظاهر ما قدمناه ـ والله أعلم ـ وما استنتجه من الحكم لا يختص بما احتمله .
قوله تعالى : { ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } دخول { مِنَ } على مفعول { ما يُرِيدُ } لتأكيد النفي ، فلا حكم يراد به الحرج بين الأحكام الدينية أصلا ، ولذلك علق النفي على إرادة الجعل دون نفس الحرج .
والحرج حرجان : حرج يعرض ملاك الحكم ومصلحته المطلوبة ، ويصدر الحكم حينئذ حرجيا بذاته لتبعية ملاكه كما لو حرم الالتذاذ من الغذاء لغرض حصول ملكة الزهد ، فالحكم حرجي من رأس ، وحرج بعرض الحكم من خارج عن أسباب اتفاقية فيكون بعض أفراده حرجيا ويسقط الحكم حينئذ في تلك الأفراد الحرجية لا في غيرها مما لا حرج فيه ، كمن يتحرج عن القيام في الصلاة لمرض يضره معه ذلك ، ويسقط حينئذ وجوب القيام عنه لا عن غيره ممن يستطيعه .
وإضرابه تعالى بقوله : { وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } ، عن قوله : { ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } يدل على أن المراد بالآية نفي الحرج الذي في الملاك أي أن الأحكام التي يجعلها عليكم ليست بحرجية شرعت لغرض الحرج ، وذلك لأن معنى الكلام أن مرادنا بهذه الأحكام المجعولة تطهيركم وإتمام النعمة وهو الملاك ، لا أن نشق عليكم ونحرجكم ، ولذلك لما وجدنا الوضوء والغسل حرجيين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء والغسل إلى إيجاب التيمم الذي هو في وسعكم ، ولم يبطل حكم الطهارة من رأس لإرادة تطهيركم وإتمام النعمة عليكم لعلكم تشكرون .
قوله تعالى : { وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لازم ما تقدم من معنى نفي إرادة الحرج أن يكون المراد بقوله : { يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } أن تشريع الوضوء والغسل والتيمم إنما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسبابا لذلك ، وهذه الطهارة أيا ما كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنوية حاصلة بأحد هذه الأعمال الثلاثة ، وهي التي تشترط بها الصلاة في الحقيقة .
ومن الممكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى كل صلاة إذا كان المصلي على طهارة غير منقوضة ، ولا ينافي ذلك ظهور صدر الآية في الإطلاق لأن التشريع أعم مما يكون على سبيل الوجوب .
وأما قوله . { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ، فقد مر معنى النعمة وإتمامها في الكلام على قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } : ( المائدة : 3 ) ومعنى الشكر في الكلام على قوله تعالى : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) : ( آل عمران : 144 ) في الجزء الرابع من الكتاب .
فالمراد بالنعمة في الآية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف والأحكام ، بل من حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشئون ، وهو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم ، وإنما يتم ذلك باستيفاء التشريع جميع الأحكام الدينية التي منها حكم الطهارات الثلاث .
ومن هنا يظهر أن بين الغايتين أعني قوله : { لِيُطَهِّرَكُمْ } وقوله : { لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ } فرقا ، وهو أن الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة ، فإنه غاية لتشريع جميع الأحكام ، وليس للطهارات الثلاث منها إلا سهمها ، فالغايتان خاصة وعامة .
وعلى هذا فالمعنى : ولكن نريد بجعل الطهارات الثلاث حصول الطهارة بها خاصة لكم ، ولأنها بعض الدين الذي يتم بتشريع جميعها نعمة الله عليكم لعلكم تشكرون الله على نعمته فيخلصكم لنفسه ، فافهم ذلك .
قوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ) ، هذا هو الميثاق الذي كان مأخوذا منهم على الإسلام كما تشهد به تذكرته لهم بقوله : { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا } فإنه السمع المطلق ، والطاعة المطلقة ، وهو الإسلام لله فالمعني بالنعمة في قوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ } هو المواهب الجميلة التي وهبهم الله سبحانه إياها في شعاع الإسلام ، وهو التفاضل الذي بين حالهم في جاهليتهم وحالهم في إسلامهم من الأمن والعافية والثروة وصفاء القلوب وطهارة الأعمال كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها } : ( آل عمران : 103 ) .
أو أن الإسلام بحقيقته هو المراد بالنعمة ، فإنه أم النعم ترتضع منها كل نعمة كما تقدم بيانه ، وغير مخفي عليك أن المراد بكون النعمة هي الإسلام بحقيقته أو الولاية أنما هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللفظ ، فإن المفهوم هو الذي يشخصه اللغة ، ولا كلام لنا فيه .
ثم ذكرهم نفسه وأنه عالم بخفايا زوايا القلوب ، فأمرهم بالتقوى بقوله : { وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ } . .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 187-199 .
تطهير الجسم والرّوح :
لقد تناولت الآيات السابقة بحوثا متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية ، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سببا لطهارة الرّوح والنفس الإنسانية ، فقد بيّنت هذه الآية أحكاما مثل الوضوء والغسل والتيمم ، التي تكون سببا في صفاء وطهارة الروح الإنسانية ـ فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ (2) إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
لم توضّح الآية مناطق الوجه التي يجب غسلها في الوضوء ، لكن الروايات التي وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد بيّنت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي كانت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بها .
١ـ إنّ حدود الوجه طولا من منابت الشعر على الجبهة حتى منتهى الذقن ، وعرضا ما يقع من الوجه بين الأصبع الوسطى والإبهام ـ وهذا هو ما يسمّى ويفهم من الوجه عرفا، لأنّ الوجه هو ذلك الجزء من الجسم الذي يواجه الإنسان لدى التلاقي مع نظيره .
٢ـ لقد ذكرت الآية حدود ما يجب غسله من اليدين في الوضوء ، فأشارت إلى أنّ الغسل يكون حتى المرفقين ـ وقد جاء التصريح بالمرفقين في الآية لكي لا يتوهم بأنّ الغسل المطلوب هو للرسغين كما هو العادة في غسل الأيدي .
ويتبيّن من هذا التوضيح أنّ كلمة «إلى» الواردة في الآية هي لمجرّد بيان حد الغسل وليست لبيان أسلوبه كما التبس على البعض ، حيث ظنوا أنّ المقصود في الآية هو غسل اليدين ابتداء من أطراف الأصابع حتى المرفقين (وراج هذا الأسلوب لدى جماعات من أهل السنة) .
ولتوضيح هذا الأمر نقول : أنّه حين يطلب إنسان من صباغ أن يصبغ جدار غرفة من حد ارضيتها لغاية متر واحد ، فالمفهوم من ذلك أنّه لا يطلب أن يبدأ الصباغ عمله من تحت إلى فوق ، بل إنّ ذكر هذه الحدود هو فقط لبيان المساحة المراد صبغها لا أكثر ولا أقل ، وعلى هذا الأساس فإن الآية أرادت من ذكر حدود اليد بيان المقدار الذي يجب غسله منها لا أسلوب وكيفية الغسل.
وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام أسلوب الغسل وفق سنّة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.
ويجب الانتباه إلى أنّ المرفق ـ أيضا ـ يجب غسله أثناء الوضوء ، لأن الغاية في مثل هذه الحالات تدخل ضمن المغيّى ، أي أن الحدّ يدخل في حكم المحدود (3) .
٣ـ إنّ حرف (ب) الوارد مع عبارة «برؤوسكم» في الآية يعني التبعيض ، كما صرّحت به بعض الروايات وأيده البعض من علماء اللغة ، والمراد بذلك بعض من الرأس، أي مسح بعض من الرأس حيث أكدت روايات الشيعة أنّ هذا البعض هو ربع الرأس من مقدمته ، فيجب مسح جزء من هذا الربع حتى لو كان قليلا باليد ، بينما الرائج بين البعض من طوائف السنّة في مسح كل الرأس وحتى الأذنين لا يتلاءم مع ما يفهم من هذه الآية الكريمة .
٤ـ إنّ اقتران عبارة «أرجلكم» بعبارة «رؤوسكم» دليل على أنّ الأرجل يجب أن تمسح هي ـ أيضا ـ لا أن تغسل ، وما فتح اللام في «أرجلكم» إلّا لأنّها معطوفة محلا على «رؤوسكم» وليست معطوفة على «وجوهكم» (4) .
٥ ـ تعني كلمة «كعب» في اللغة النتوء الظاهر خلف الرجل ، كما تعني ـ أيضا ـ المفصل الذي يربط مشط الرجل بالساق (5) .
بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت : {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...} والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم ، لأنّه لو كان المراد جزءا خاصا منه لاقتضى ذكر ذلك الجزء ، وعلى هذا الأساس فإنّ العبارة المذكورة تعني جميع الجسم ـ وقد جاء حكم مشابه لهذا الحكم في الآية (٤٣) من سورة النساء حيث تقول : {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}.
إنّ كلمة «جنبا» ـ وكما أوضحنا سابقا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا ، لدى تفسير الآية (٤٣) من سورة النساء ـ مصدر ، وقد وردت بمعنى اسم الفاعل ، وتعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» لأنّ الجذر الأصلي هو «جنابة» بمعنى «بعد» ، وسبب إطلاق هذا اللفظ على الإنسان المجنب لأن هذا الإنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها .
وتطلق هذه الكلمة «جنب» على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث ، وإطلاق «جار الجنب» على البعيد هو لنفس المناسبة.
ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الاغتسال قبل الصّلاة على أن غسل الجنابة يجزئ ، وينوب عن الوضوء أيضا .
* * *
ومن ثمّ بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت : {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ...} .
وهنا يجب الالتفات إلى أن جملتي {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} و {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} هما ـ كما أشرنا سابقا ـ معطوفتان على بداية الآية ، أي على جملة : {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فالآية أشارت في البداية حقيقة إلى قضية النوم ، وتطرقت في آخرها إلى نوعين آخرين من موجبات الوضوء والغسل .
أمّا لو عطفنا الجملتين على جملة {عَلى سَفَرٍ} فسنواجه مشكلتين في هذه الآية وهما أوّلا : إنّ عودة الإنسان بعد التخلي لا يمكن أن تكون كحالة المرض أو السّفر فلا تناظر بين تلك وهاتين الحالتين ، لذلك ترانا مضطرين إلى أن نأخذ حرف «أو» الوارد في الآية بمعنى الواو العاطفة (وأكّد هذا الأمر جمع من المفسّرين) وهذا خلاف لظاهر الآية .
بالإضافة إلى ذلك فإنّ ذكر التغوط بصورة خاصّة من بين كل موجبات الوضوء سيبقى بدون مبرر ، لكننا لو فسّرنا الآية بالصورة التي قلناها سابقا فلا يبقى بعد ذلك مبرر لهذين الاعتراضين الأخيرين ، (ومع أنّنا اعتبرنا في تفسير الآية (٤٣) من سورة النساء) ، وجريا على ما فعله الكثير من المفسّرين ، اعتبرنا كلمة «أو» بمعنى الواو العاطفة ، إلّا أنّ الذي ذكرناه مؤخرا ـ هنا ـ يعتبر أقرب إلى القبول من ذلك.
أمّا الموضوع الآخر فهو تكرار موضوع الجنابة مرّتين في هذه الآية ، ويحتمل أن يكون هدف هذا التكرار هو التأكيد على هذه القضية ، أو قد تكون كلمة «جنبا» الواردة بمعنى الجنابة التي تحدث أثناء النوم أو بسبب الاحتلام ، بينما المراد من جملة {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} هو الجنابة الحاصلة نتيجة المقاربة الجنسية بين الرجل والمرأة ، وإذا فسّرنا كلمة «قمتم» الواردة في الآية بالقيام من النوم (كما ورد في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام وأيضا اشتملت الآية على قرينة بهذا الخصوص) يكون تفسيرنا هذا تأييدا للمعنى الذي أوردناه بخصوص تكرار موضوع الجنابة .
لقد بيّنت الآية ـ بعد ذلك ـ أسلوب التيمم بصورة إجمالية فقالت : {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ...} والواضح هنا هو أنّ المراد ليس حمل شيء من التراب ومسح الوجه واليدين به ، بل أنّ المقصود هو ضرب الكفين على تراب طاهر ثمّ مسح الوجه واليدين بهما ، لكن بعض الفقهاء استدلوا بعبارة «منه» الموجودة في الآية وقالوا بضرورة أن يلاصق الكفين شيء ولو قليل من التراب (6) .
بقيت مسألة أخيرة في هذا المجال ، وهي مسألة معنى كلمتي {صَعِيداً طَيِّباً} فقد ذهب الكثير من علماء اللغة إلى أنّ لكلمة «صعيد» معنيين هما التراب أوّلا ، أو كل شيء يغطي سطح البسيطة أي الكرة الأرضية ثانيا ، سواء كان ترابا أو صخرا أو حصى أو حجرا أو غير ذلك من الأشياء ، وقد أدى هذا إلى حصول اختلاف في آراء الفقهاء حول الشيء الذي يجوز التيمم به ، هل هو التراب وحده أو أنّ الحجر والرمل وأمثالهما ـ أيضا ـ يجوز التيمم بهما ؟
وحين نرجع إلى الأصل اللغوي لكلمة «صعيد» الذي يدل على «الصعود والارتفاع» فإن المعنى الثّاني لهذه الكلمة يبدو أقرب إلى الذهن.
وتطلق كلمة «طيب» على الأشياء التي تلائم الطبع والذوق الإنساني ، وقد أطلق القرآن الكريم هذه الكلمة في موارد كثيرة مثل : «البلد الطيب» و «مساكن طيبة» و «ريح طيبة» و «حياة طيبة» وغيرها ... وكذلك فإنّ كل شيء طاهر يعتبر طيبا ، لأنّ طبع الإنسان ينفر من الأشياء النجسة المدنّسة ، ومن هذا نستدل على أنّ تراب التيمم يجب أن يكون ترابا طاهرا أيضا.
وقد أكّدت الروايات الواردة إلينا عن أئمّة الإسلام عليهم السلام على هذا الموضوع بصورة متكررة ، ونقرأ واحدة من هذه الروايات وهي تقول : «نهى أمير المؤمنين أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق» (7) .
والجدير بالنظر أنّ عبارة «التيمم» الواردة في القرآن والحديث بمعنى التكليف الشرعي الذي مضى الحديث عنه ، جاءت في اللغة بمعنى «القصد» والقرآن الكريم يقرر أنّ الإنسان لدى قصد التيمم عليه أن يختار قطعة طاهرة من الأرض من بين القطعات المختلفة للتيمم منها. قطعة ينطبق عليها مفهوم «الصعيد» معرضة للأمطار والشمس والرياح ، وبديهي أن تكون قبل اتخاذهما للتيمم مثل هذه القطعة من الأرض التي لم تتعرض لوطء الأقدام ، فيها الصفات التي تستوعبها كلمة «طيب» وعندئذ فإن هذه القطعة من الأرض ـ بالإضافة إلى كونها لا تضرّ بالصحّة ـ تكون أيضا ـ وكما أسلفنا لدى تفسيرنا للآية (٤٣) من سورة النساء ـ ذات أثر أيضا في قتل الجراثيم والميكروبات ، كما يؤكّده العلماء من ذوي الإختصاص في هذا المجال .
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ } [المائدة : 7] .
العهود الرّبانية :
تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين ، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات ، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمها نعمة الإيمان والهداية والإسلام ، تقول الآية : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...} ومع أن كلمة «نعمة» جاءت بصيغة المفرد في هذه الآية ، إلّا أنّها وردت اسم جنس لتفيد العموم، حيث عنى بالنعمة جميع النعم ، كما يحتمل أيضا أن يكون المراد نعمة الإسلام بصورة خاصّة، والتي أشارت إليها الآية السابقة بصورة إجمالية حيث قالت : {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ...} فأي نعمة أعظم من أن ينال الإنسان ـ في ظل الإسلام ـ كل الهبات الإلهية والمفاخر والإمكانيات الدنيوية ، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب ، وكان الفساد والظلم يعم مجتمعهم آنذاك ، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الاتحاد والتماسك والعلم ، ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة .
بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله، فتقول{وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ...} .
هناك احتمالان حول المعنى المراد بلفظة «العهد» الواردة في الآية وموضوعه .
الاحتمال الأوّل : أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور الإسلام في واقعة «الحديبية» أو واقعة «حجة الوداع» أو «العقبة» مع الله ، أو بصورة عامّة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع الله بمجرّد قبولهم الإسلام .
والاحتمال الثّاني : هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو ذلك العهد المعقود بين كل فرد إنساني ـ بحكم فطرته وخلقه ـ وبين الله ، والذي يقال عنه بأنّه تم في «عالم الذر» (8) .
وبيان ذلك هو أنّ الله حين خلق الإنسان أودع فيه استعدادات ومواهب كثيرة، ومنها نعمة العلم التي بها يتتبع أسرار الخليقة ، وتتحقق لديه معرفة الحق ، وكذلك نعم كالعقل والذكاء والإدراك ليعرف الإنسان بها أنبياء الله ويلتزم بأوامرهم ، والله سبحانه حين أودع هذه النعم لدى الإنسان أخذ منه عهدا بأنّ يستغلها خير استغلال ، وأن لا يهملها أو يسيء استعمالها ، فردّ الإنسان بلسان الحال والاستعداد «سمعنا وأطعنا».
ويعتبر هذا العهد أوسع وأحكم وأعم عهد أخذه الله من عباده البشر ، وهذا هو العهد الذي يشير إليه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبته الأولى الواردة في كتاب «نهج البلاغة» بقوله : «ليستأدوهم ميثاق فطرته» أي ليطلب منهم أداء الميثاق الفطري الذي أخذه منهم والوفاء به.
وبديهي أنّ يشمل هذا العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية.
ولا مانع مطلقا من أن تكون في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النّبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة ، وهنا يتوضح لنا الحديث القائل بأنّ المراد من الميثاق هو العهد الذي أخذه النّبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين في حجّة الوداع بخصوص ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام (9) ويتفق هذا التّفسير مع ما ورد أعلاه.
وقد أكّدنا مرارا أنّ التفاسير التي ترد على الآيات القرآنية ، ما هي إلّا إشارة لواحد من المصاديق الجلية المعنية في كل آية ، ولا تعني مطلقا انحصار المعنى بالتّفسير الوارد.
وتجدر الإشارة ـ أيضا ـ إلى أنّ كلمة «ميثاق» مشتقّة من المصدر «وثاقة» أو «وثوق» وتعني الشدّ المحكم بالحبل وأمثاله ، كما يطلق على كل عمل يؤدي إلى راحة البال واطمئنان الخاطر ، حيث أنّ العهد يكون بمثابة عقدة تربط شخصين أو جماعتين أحدهما بالآخر ، ولذلك سمّى «ميثاقا».
وفي النهاية تؤكّد الآية على ضرورة التزام التقوى ، محذرة أنّ الله محيط بأسرار البشر ، وعالم بما يختلج في صدورهم ، بقولها : {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
وتدل عبارة {ذاتِ الصُّدُورِ} على أنّ الله عالم بأدقّ أسرار البشر المكنونة في أعماق نفوسهم والتي لا يمكن لأيّ مخلوق معرفتها غير صاحب السرّ وخالقه ، أي الله العالم بذات الصدور.
وقد شرحنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا سبب نسبة العواطف والمشاعر والنوايا والعزائم إلى القلب أو إلى مكنونات الصدور.
* * *
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 435-446 .
2. وردت روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تؤكّد أنّ المراد بجملة «قمتم» هو القيام من النوم ، حيث لدى الإمعان في محتويات الآية يتأكد لنا هذا الأمر أيضا ، لأن الجمل التالية التي تبين فيها الآية حكم التيمم قد وردت فيها عبارة {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} ، فلو كانت الآية تبيّن في بدايتها حكم جميع من ليسوا على وضوء ، فإن عطف الجملة الأخيرة ـ وبالأخص ـ بحرف «أو» لا يتلاءم وظاهر هذه الآية ، لأنّ المقصود فيها يدخل ضمن عنوان من هو ليس على وضوء أيضا. أمّا إذا كان الآية في بدايتها تتكلم بصورة خاصة عن الذين يقومون من النوم ، أي أنها تبيّن فقط ما أصطلح عليه بـ «حدث النوم» فإن الجملة المذكورة تصبح مفهومة بشكل تام .
3. لقد ذكر «سيبويه» الذي هو من مشاهير علماء اللغة العربية أنّه متى ما كان الشيء الوارد بعد (إلى) والشيء الوارد قبلها من جنس واحد ، ويدخل هذا (المابعد) في الحكم ـ أمّا لو كانا من جنسين مختلفين فيعتبر خارجا عن الحكم ـ فلو قيل : أمسك إلى آخر ساعة من النهار ، يكون المفهوم من هذه الجملة أن الإمساك يشمل الساعة الأخيرة أيضا ، بينما لو قيل : أمسك إلى أول الليل فإن أوّل الليل لا يدخل ضمن حكم الإمساك (المنار ، ج ٦ ، ص ٢٢٣) .
4. ليس هناك من شك بأنّ عبارة «وجوهكم» تفصلها مسافة كبيرة نسبيا عن عبارة «أرجلكم» لذلك يستبعد أن تكون الأخيرة معطوفة على «وجوهكم» ، إضافة إلى ذلك فإنّ الكثير من القراء قد قرءوا عبارة «أرجلكم» بكسر اللام .
5. لقد ذكر القاموس ثلاثة معان للكعب وهي : النتوء الظاهر خلف الرجل ، والمفصل ، والنتوئين البارزين على جانبي الرجل ـ وقد بينت السنة الشريفة أن المراد في الآية ليس النتوآت المذكورات ولكن العلماء اختلفوا في هل أن المراد هو النتوء البارز خلف الرجل أو هو المفصل ؟ ـ وعلى أي حال ـ فإن الاحتياط يوجب أن يكون المسح حتى المفصل .
6. لقد أوضحنا في تفسير الآية (٤٣) من سورة النساء ، بصورة مفصلة ، أحكام التيمم وفلسفتها الإسلامية وكيف أن التيمم لا يعتبر مغايرا للوقاية الصحيّة ، بل فيه جانب وقائي صحي أيضا ، وكذلك حول معنى «غائط» وقضايا أخرى فليراجع ....
7. وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 257 ؛ وبحار الأنوار ، ج6 ، ص 64 .
8. سيرد شرح مفصل عن «عالم الذر» وسبب تسميته بهذا الاسم في تفسير الآية (١٧٢) من سورة الأعراف، بإذن الله .
9. تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٥٤.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|