أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-08-05
987
التاريخ: 23-6-2021
4004
التاريخ: 26-10-2019
8665
التاريخ: 18-7-2019
1931
|
جاء في كتب السيرة والتاريخ: أنه في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة اتفقت قريش وجماعة من الأعراب واليهود على غزو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة. وفي الموعد المعين خرجت قريش بقيادة أبي سفيان في أربعة آلاف مقاتل، بينهم ثلاثة آلاف فارس، وعقدوا لواءهم في دار الندوة وأعطوه إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقادوا معهم ألفا وخمسمائة بعير، وخرج من بني سليم سبعمائة بقيادة سفيان بن شمس حليف حرب بن أمية، وخرج معهم بنو أسد وفزارة في ألف مقاتل بقيادة عيينة بن حصن، وخرج معهم من أشجع وبني مرة بن عوف وغيرهم عدد كبير، حتى بلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل. وبلغ خبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق جماعة من خزاعة وفدوا عليه وأخبروه بالتجمع الذي أعدته قريش وأحلافها من العرب واليهود لغزوه. فجمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة من أصحابه وأخبرهم بما اجتمعت عليه قريش وأحلافها، وحثهم على الجهاد والاستعداد لمقابلة الغزاة، واستشارهم فيما يجب أن يتخذه لمنعهم من دخول المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي بأن يحفر خندقا من الجهة التي يمكن للمشركين أن يدخلوا منها، وقال له: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقا يحول بيننا وبين عدونا، فاستحسن النبي وأصحابه هذا الرأي وأمر بحفره، وحدد لكل عشرة من المسلمين بحفر أربعين ذراعا. وجاء في كتب السيرة:
أنه بينما سلمان مع تسعة يحفرون في المساحة المحددة لهم، وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم وهم يحفرون فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئا، فقالوا لسلمان: إذهب إلى رسول الله وأخبره بذلك فلعله يأمرنا بالعدول عنها، فإنا لا نريد أن نتخطى أمره. ولما أخبره بذلك أقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم على حد تعبير الراوي، فكبر رسول الله، ثم ضربها ضربة ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول، وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء وراء المدينة، فكبر رسول الله وكبر المسلمون وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية، ثم أخذ بيده سلمان وصعد من الخندق، فقال له: بأبي وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط، فالتفت رسول الله إلى القوم وقال: هل رأيتم ما يقول سلمان فقالوا: نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا لقد رأيناك تضرب فيخرج البرق كالموج فرأيناك تكبر فكبرنا ولم نر غير ذلك. قال: صدقتم لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبرئيل بأن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبرئيل بأن أمتي ظاهرة عليها، وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبرئيل بأن أمتي ظاهرة عليها، فاستبشر المسلمون بذلك. وقال المنافقون حينما سمعوا بذلك: ألا تعجبون من محمد يحدثكم ويمنيكم ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وأنتم تحفرون خندقا ليحول بينكم وبين أعدائكم، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب لقضاء حاجته، فنزلت الآية: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [الأحزاب: 12] (1). ومضى المسلمون يشتدون في حفر الخندق حتى أتموه في ستة أيام كما جاء في رواية الطبري وغيره. وأقبل المشركون بعدتهم وعددهم البالغ نحوا من عشرة آلاف مقاتل بين فارس وراجل حتى نزلوا بالجانب الآخر من الخندق. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وكان يهود بني قريظة لا يزالون على عهدهم مع رسول الله الذي تم بينهم حينما دخل إلى المدينة، فدس إليهم أبو سفيان حي بن أخطب لينقضوا العهود وينضموا إلى صفوف المشركين، وبذلك يشتد الحصار على النبي وأصحابه، وكان زعيمهم كعب بن أسد القرظي، هو الذي وقع العهد مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذهب إليهم حي بن أخطب، ولما أحس به عرف غايته فأغلق الباب في وجهه فاستأذنه بالدخول فأبى أن يأذن له، وقال له: إنك امرؤ مشؤوم وقد عاهدت محمدا ولست بناقض عهده، ويحك يا حي دعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء، فلم يزل حي يفتله في الغدوة والغارب حتى سمح له بالدخول وأعطاه عهدا وميثاقا، قال: إذا رجعت قريش وغطفان ولمن يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه ويواسيه بنفسه وقومه، فنقض كعب عهده مع الرسول وبرئ مما كان عليه بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولما انتهى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كعبا قد نقض العهد وانحاز إلى الغزاة، بعث رسول الله سعد بن عبادة حليف بني قريضة، وعبد الله بن رواحة، وخوان بن جبير أحد بني عوف، وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا ولا تصرحوا، وإن كان لا يزال على العهد الذي كان بيننا وبينه فاجهروا بذلك ليعلم الناس كذب ما بلغنا. فلما انتهوا إليه وجدوا بني قريظة على أخبث ما بلغهم، فنالوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمد، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وعادوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: عضل والقارة، يعنون بذلك أنهم غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، وهم حبيب بن عدي وأصحابه، فقال رسول الله: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين، واشتد عند ذلك البلاء وعظم الخوف. وجاء في كتب السيرة: أن الغزاة ألفوا ثلاث كتائب لمحاربة المسلمين، فأتت كتيبة ابن الأعور السلمي من فوق الوادي، وأتت كتيبة عيينة بن حصن من الجنب، ووقف أبو سفيان بمن معه في الناحية الثانية للخندق. ووصف الله سبحانه موقف المشركين والمسلمين بقوله: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 10 - 12] (2). وأقام المشركون أياما والمسلمون في مقابلهم يترامون أحيانا بالنبال واشتد الخوف والبلاء على المسلمين، وفيما هم كذلك وإذا بعمرو بن عبد ود العامري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب بن مرداس قد خرجوا على خيولهم ومروا على بني كنانة وأمروهم بأن يستعدوا للحرب، ثم أقبلوا نحو الخندق فلما رأوه قالوا: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها، ووجدوا مكانا ضيقا في الخندق فضربوا خيولهم واقتحموه إلى الجانب الثاني، وجعلوا يجولون بين الخندق وعسكر المسلمين. وقال ابن هشام في سيرته، والطبري في تاريخه وابن كثير وغيرهم: إن عمرو بن عبد ود لما اقتحم الخندق من تلك الثغرة أقبل علي (عليه السلام) في نفر من المسلمين ورابطوا عليها حتى لا يقتحمها أحد غيرهم، وأقبلت فرسان قريش تحاول العبور، ولكن موقف علي (عليه السلام) إلى جانب الثغرة صدهم عنها. وأضافوا إلى ذلك: أن عمرو بن عبد ود العامري قاتل مع المشركين في معركة بدر وأصيب بجراحات بالغة منعته عن الاشتراك معهم في أحد، وكان من فرسان العرب المبرزين، فلما كان يوم الأحزاب خرج معلما ليرى مكانه على حد تعبير الطبري وابن هشام وغيرهما، وجعل يدعو الناس إلى البراز، والمسلمون يرتعدون من الخوف، ولم يستطع أحد أن يرد عليه، ولما سمعه علي (عليه السلام) يدعو إلى البراز ترك مكانه وجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أنا له يا رسول الله، فقال له النبي: إجلس إنه عمرو بن عبد ود، وكرر عمرو النداء فلم يتحرك له أحد من المسلمين غير علي، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمره بالجلوس ليرى مقدار التضحية والبذل والعطاء من المسلمين لا رغبة بعلي من المخاطر، ولما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه جعل يتحداهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها، أفلا يبرز إلي أحد، وأنشد، كما في رواية الحلبي في سيرته، والمفيد في إرشاده:
ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز
إني كـــذلك لــــــم أزل *** متسرعا نحو الهــزاهز
إن الشجـاعة في الفتى *** والجود من خير الغرائز
والنبي يلتفت يمنة ويسرة ويدعو المسلمين إلى مبارزته، فلم يستجب له أحد، فقام علي (عليه السلام) إلى النبي وقال: أنا يا رسول الله، والنبي يقول له: إجلس إنه عمرو، فقال علي: وإن كان، فأذن له وأعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه وعممه بعمامته، وقال كما جاء في بعض المرويات: اللهم إنك قد أخذت مني عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين. فبرز إليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك مجيب *** صـــوتك غـــــير عاجز
ذو نيـــــــة وبصــــــيرة *** والصدق منجي كل فائز
إنـــــي لأرجـــــو أن أقيم *** عليــــك نائحـــة الجنائز
من ضــــربة نجـلاء يبقى *** صيتهـــا بعـد الهزاهز
ولما برز له علي (عليه السلام) إلى عمرو، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): برز الإيمان كله إلى الشرك كله. كما جاء في شرح النهج المجلد الرابع. ولما تقابلا قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال: ليبرز إلي غيرك يا بن أخي من أعمامك من هو أشد منك، فإني أكره أن أقتلك لأن أباك كان صديقا لي في الجاهلية. ثم إن عليا (عليه السلام) قال له: لكني أحب أن أقتلك. فأعاد وقال: يا ابن أخي إني أكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك. فقال له علي (عليه السلام): إن قريشا تتحدث عنك أنك تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث خصال إلا أجبت، ولو واحدة منها. قال: أجل.
فقال له علي (عليه السلام): فإني أدعوك إلى الإسلام. فقال: دع عنك هذه. قال: الثانية، فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن معك ومن تبعك من قريش إلى مكة، قال إذن تتحدث عني نساء قريش أن غلاما مثلك خدعني. قال: فإني أدعوك إلى البراز، (وقيل): قال له: تترجل مثلي وأن تنزل عن فرسك. فقال له: إني لا أحب أن أقتلك. فقال له: ولكني أحب أن أقتلك، فأخذه الحماس عندئذ واقتحم فرسه وعقره، ثم أقبل على علي (عليه السلام) فتنازلا، وتجاولا، فضربه عمرو بسيفه فاتقاه علي (عليه السلام) بدرقته فأثبت فيها السيف وأصاب رأسه كما جاء في بعض الروايات، فضربه علي (عليه السلام) على حبل عاتقه فسقط يخور بدمه. وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: كنت قد تبعت عليا لأنظر ما يكون من أمره، ولما ضربه علي (عليه السلام) ثارت غبرة شديدة حالت بيني وبينهما، غير أني سمعت تكبيرا، فكبر المسلمون عند ذلك. فعلمنا أن عليا قد قتله، وانجلت الغبرة عنهما فإذا علي (عليه السلام) على صدره يحز رأسه، وفر أصحابه ليعبروا الخندق، فعبرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر به فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة، فقال: يا معشر المسلمين قتله أكرم من هذه فنزل إليه علي (عليه السلام) فقتله. وجاء في سيرة ابن هشام: عن الزهري، أنه كان مع عمرو بن عبد ود ابنه مسحل فقتله علي (عليه السلام)، وألحقه علي بهبيرة بن أبي وهب، وكان علي (عليه السلام) راجلا وهبيرة فارسا فضربه بالسيف فأصاب قربوس سرجه فسقط درعه، وانهزم عكرمة ابن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وأصيب منبه بن عثمان بن عبيدة بن السباق بسهم فمات منهم بمكة، كما جاء في رواية الطبري. ولما قتل علي (عليه السلام) عمرو بن عبد ود، وأقبل نحو رسول الله ووجهه يتهلل، فقال له بعض الأصحاب: هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع مثلها فقال: إني استحييت أن أكشف سوءته أي عورته . وفي المجلد الثاني من فضائل الخمسة من الصحاح الستة: عن مستدرك الصحيحين عن سفيان الثوري بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل أعمال أمتي إلى يوم القيامة، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه ج 13 ص 19، وذكر هذا الحديث بنصه الرازي في تفسيره الكبير في الجزء الأخير، خلال حديث عن ليلة القدر وفضلها وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين. ولما نعي إلى أخته عمرة قالت: من قتله، من الذي اجترأ عليه؟ قيل لها: علي بن أبي طالب. قالت: لقد قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كف ء كريم من قومه: ثم أنشأت تقول:
لو كان قاتل عمرو غـــير قاتلـــه *** لكنــــت أبكـــي عليه دائم الأبد
لكـــن قــــاتله من لا يعــــاب بــه *** قد كان يدعى أبوه بيضــة البلد
من هاشم في ذراها وهي صاعدة *** إلى السماء تميت الناس بالحسد
قــــوم أبــــى الله إلا أن تكون لهم *** كــــرامة الـــدين والدنيا بلا لدد
يـــا أم كلــــثوم ابكيه ولا تـــدعي *** بكـــاء معــــولة حرى على ولد
ورغم هذه الضربة القاسية التي أصابت قريش، والتي لم تكن هي أو أحلافها يتوقعونها، فقد بقي الغزاة على مواقفهم، وتأزمت الأمور على المسلمين بعد أن نقض بنو قريظة العهد مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانحازوا مع المشركين، وخاف المسلمون أن يهاجموهم من حصونهم، فأخذوا يتسللون إلى المرتفعات التي فيها النساء. وظل الحصار مضروبا على المدينة، وثبت المؤمنون الصادقون بالدفاع عنها يحدوهم الأمر بنصر الله سبحانه كما وعدهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنزل الله فيهم قوله { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [الأحزاب: 22] (3). وأما المنافقون وضعاف الإيمان من المهاجرين والأنصار فقد استغلوا تلك الأزمة للتضليل والتشكيك، فأنزل الله فيهم قوله {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] (4). وظل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفكر ويعمل للخلاص من تلك الأزمة التي لم يعرف لها المسلمون نظيرا من قبل، وفيما هو يفكر في عمل يخفف من حدة الموقف، ويؤدي إلى تشتيت القوم وبعث الخلاف بينهم، وإذا بنعيم بن مسعود ابن عامل ينسل من بين الثغرة ويأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقول له: إني قد أسلمت وآمنت برسالتك يا رسول الله، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فوجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفرصة بأن يوجهه لبث الفرقة بين القوم، ما داموا يحترمون رأيه ويعتقدون بأنه منهم، فقال له: إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى انتهى إلى بني قريظة، وكان نديما لهم من قبل، فقال لهم: يا بني قريظة لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكم، فقالوا: قل ما تريد فلست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم وفيه أموالكم وأولادكم ونساؤكم ومن الصعب عليكم أن تتحولوا لغيره. أما قريش وغطفان فقد جاءوا لحرب محمد وتركوا نساءهم وأموالهم وأولادهم في بلدهم آمنين، فإن قدر لهم أن يصيبوا محمدا وأصحابه فذاك ما يريدون، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبينهم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم محمد، وأرى لكم أن لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونوا بأيديكم وعندها يضطرون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم.
واقتنعت قريظة بهذا الرأي وقالوا له: لقد أشرت بالصواب، ثم خرج وأتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت علي حقا أن أبلغكموه فاكتموه علي فقالوا: لك ذلك، قال: بلغني أن معشر يهود بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه بذلك وعرضوا عليه أن يأخذوا رجالا منكم ومن غطفان ويسلموه إياهم ليضرب أعناقهم ثم ينحازوا معه حتى يستأصلوكم، فأجابهم هو لذلك، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تسلموا لهم أحدا. ثم خرج إلى غطفان وقال: يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني في شيء، فقالوا: أنت لست بمتهم عندنا، ثم قال لهم ما قاله لقريش وحذرهم من اليهود وغدرهم بهم، واستطاع أن يشحن جو قريش وغطفان بالشك والريب في يهود بني قريظة. وجاء في كتب السيرة: أنه لما كانت ليلة السبت من شوال أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ومعه جماعة من قريش وغطفان وقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر فاستعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم، أن اليوم يوم السبت ونحن لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا يكون بأيدينا لنطمئن بأنكم ستقاتلون إلى النهاية، فإنا نخشى أن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا. فرجع عكرمة ومن معه إلى قريش وغطفان وأخبروهما بمقالة بني قريظة فقالوا عند ذلك: صدق نعيم بما حدثنا به، فأرسلوا إليهم إنا لا ندفع لكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا لنقاتله غدا، وأصر كل من الطرفين على موقفه، ورفض اليهود أن يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن. وصمم أبو سفيان ومن معه من الأعراب وغطفان على أن يناجزوا محمدا الحرب في صبيحة يومهم التالي، بعد أن يئسوا من بني قريظة. فلما كان الليل عصفت ريح شديدة هوجاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لهم بها وظلت العواصف والأمطار تشتد حتى اقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، وداخلهم من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تاريخهم الطويل، وخيل إليهم أن المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثوب عليهم والتنكيل بهم. فقام طلحة بن خويلد ونادى: أن محمدا قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة، وقال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام، لقد هلك الكراع، والخف، واخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم ما نكره، وقد لقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا، فإني راحل الساعة، فأسرع القوم والعواصف تعبث بخيامهم وأمتعتهم واستخفوا ما أمكنهم حمله في تلك الحالة من أمتعتهم، وانطلقوا بمن معهم من الأعراب وغطفان والأحزاب راجعين عن المدينة، وقد استولى عليهم الهلع، والخوف، والرعب، ولم يعد لهم طمع إلا النجاة بأنفسهم، تاركين الكثير من أمتعتهم حيث كانوا. كما رجع سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الحقيق من زعماء بني النضير ومن معهم إلى حصونهم في خيبر، أما حي بن أخطب فقد دخل هو ومن معه إلى حصون بني قريظة وفاء بعهده الذي قطعه لهم، وإلى ذلك تشير الآية الشريفة: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11] (5). ورجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون إلى منازلهم، بعد تلك الجهود المضنية، وتمنى كل واحد منهم أن يخلد إلى الراحة ولو بضعة أيام، ولكن أنى لهم ذلك ويهود بني قريظة الذين غدروا بهم بين ظهرانيهم، وقد مثلوا الغدر بأبشع مما مثله بنو قينقاع وبنو النضير، من الخيانة والغدر، ولم يستقر حتى جلاهم عن المدينة، ومع ذلك كادوا له مع قريش وغطفان المكائد والدسائس.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12.
(2) سورة الأحزاب الآية 10 - 12.
(3) الأحزاب الآية 22.
(4) الأحزاب الآية 12.
(5) الأحزاب الآية 10، 11.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|