أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2016
1386
التاريخ: 30-10-2016
1021
التاريخ: 30-10-2016
1427
التاريخ: 31-10-2016
1690
|
الكلدانيون (609 – 539 ق.م):
يرتبط هذا العصر بأكثر عصور تاريخ بلاد الرافدين ازدهارا وغنى وعمرانا وهو عصر نبوخذ نصر. ورغم زوال المدينة من الوجود منذ نحو ألفي عام فما يزال اسمها يحي في الذاكرة أروع صفحات التاريخ في الشرق الأدنى القديم. ولا يعرف لماذا دعيت باسم (بابل)، الذي كان يقرأ بالأكدية باب – إيلي = (بوابة الإله) وهي لم تكن في العصر الاكدي سوى قرية صغيرة أو محطة (1) ولم تصبح مدينة لها أهمية الا في الالف الثاني ق.م، وعلى الاخص في عصر حمورابي وأسرته الامورية. وبعد ان خمدت جذوتها وضعف مركزها مدة طويلة أمام اشور ولم تسترد دورها بوصفها عاصمة منافسة لأشور إلا عندما دخلها نابو بولاصر الكلداني وأعلنها عاصمة له في 626. تحدث هيرودوت عن محيط أسوارها التي بلغت ما يعادل نحو ثمانية عشر كيلومتراً. وكانت المدينة تتسع لما يقرب من ربع مليون نسمة. وهي تشتهر بالجنائن المعلقة، التي عدّت من عجائب الدنيا، والتي شيدها الملك البابلي نبوخذ نصر (لزوجه الميدية أميتسن. وأقدم من ذكر هذه الجنائن الكاتب البابلي بروسوس الذي عاش في مطلع القرن الثالث ق.م وكتب باليونانية كتابا عن تاريخ بلاده، لكنه ضاع وانتقلت فقرات منه إلى كتب عدد من المؤلفين الكلاسيكيين، مثل استرابون (64 ق.م – 19 م).
وأضحت بابل عاصمة بلاد الرافدين في هذا العصر الذي ندعوه بالعصر البابلي الثاني.
بابل الثانية: قوة دولية جديدة
بعد سقوط الامبراطورية الأشورية، سيطر البابليون على بلاد الرافدين كلها. وبعد عام فقط من الانهيار النهائي للمقاومة الأشورية كان نابو بولاصر في عام 608 يقود عمليات عسكرية على حدود أورارتو القديمة. وفي السنة التالية 607 كان ابنه نبوخذ نصر يقود عمليات اخرى في مناطق جبلية يرجح أنها كانت في تلك المنطقة أيضاً. ولا يسجل بعدئذ اي ذكر لحملات نحو تلك المناطق الشمالية بعدئذ. ويبدو أن خطاً للحدود بدأ يتشكل بين منطقتي النفوذ الميدي والبابلي كان يتبع مجرى دجلة بدءاً من نهر الزاب وامتد إلى ما وراء طوروس باتجاه حرّان، وبقيت عيلام ضمن منطقة النفوذ البابلي، وعاد المصريون إلى سورية. وامتدت خطوطهم فيها، كما رأينا، إلى كركميش شمالا. الا ان هذا النفوذ كان سطحيا، واعتمد على عدد من المراكز العسكرية وعلى تأييد بعض الحكام المحليين مثل بواقيم ملك يهوذا الذي كان يحكم في منطقة محدودة في جنوب فلسطين.
وقد كان هذا النفوذ المصري ملموساً عندما تحرك نبوخذ نصر نحو كركميش فجابهه المصريون بتحركات على طول الفرات. لكن المدينة سقطت سريعا بيد بابل، ولاحق الجيش البابلي فلول الجيش الفرعوني المؤلف من المرتزقة المجندين من الاحباش والليبيين والليديين وهو ينسحب جنوباً نحو حماة. ولكن لا تنص السجلات على وجود الفرعون تخاو شخصياً في هذا الجيش. وتدور الشكوك حول حجم الانتصار البابلي كركميش ويرجح انه سقوط للموقع المصري الفرعون وليس هزيمة لجيش كبير. ولم يمض زمن طويل حتى سقط معظم سورية وفلسطين بيد قوات نبوخذ نصر الذي لم يمض إلى أبعد من ذلك واضطر إلى العودة إلى بابل لوراثة عرش أبيه على رأس المملكة البابلية الثانية وقد تمكن من تسلم الحكم دون أية معارضة وتم الاعتراف به في كل ارجاء الامبراطورية.
كان عهد نبوبلاصر مكرسا لمحاربة أشور. ويمكن ان تكون حروبه معها من نوعية الحروب الأهلية. وما يزال كثير من تفصيلات الأحداث غير معروف بالضبط، مثل مسألة رفع الحصار عن نيبور والظروف التي أدت إلى القطيعة بينه وبين ملك أشور، سين شر إشكون وبدء الصراع بينهما. وهناك نقص كبير في توثيق الأحداث في تلك الفترة الدقيقة. وكان نابو بولاصر حذراً جداً في تحركاته، وكانت اشور ما تزال تتمتع بهيبة عسكرية كبيرة، ولذا فإن العاهل البابلي وهو يتقدم لتحطيم الامبراطورية الاشورية كان يمسك بميزان دقيق يوازن فيه بين القوة والحيلة، مستفيدا إلى أقصى حد من تحركات حليفه الميدي .
ولابد ان تقسيم الامبراطورية بين المنتصرين قد طرح مشكلات ولا ندري ما اذا كان وجد بهذا الصدد اتفاق مكتوب لتقاسم مناطق النفوذ بعد اسقاط اشور. وهناك اشارات إلى ابعاد مناطق النفوذ البابلي. فقد قام نبوخذ نصر بتنفيذ أعمال عمرانية في سوسة (عيلام) وكانت سلطته شمالاً تمتد إلى أرابخا (كركوك)، بين الزاب الأدنى ودجلة وفي غوتيوم في وادي الزاب الاعلى. فمناطق عيلام وزاغروس إذن كانت تابعة آنذاك لبابل ولكن لا شيء يدل على ان ذلك كان على عهد نابو بولاصر. وفي حين كان الجيش البابلي يتحرك في أطراف أورارتو بين 608 – 607 نجد ذكراً للميديين في منطقة حرّان في 556. وقد رد قورش فيما بعد لنابوئيد آخر الملوك البابليين تماثيل أشور كما لو انه يعترف بأن هذه المنطقة هي حق طبيعي لبابل. فهل تقدم هذه المؤشرات صورة للحدود التي أقيمت بين الامبراطوريتين الجديدتين.
نبوخذ نصر الثاني (نابوك ودورّي – أوصّر) (604 – 562):
على الرغم مما خلّفه العاهل البابلي العظيم من آثار ونقوش فإن كثيراً من الغموض ما يزال يحيط بحكمه. وأغلب هذه النقوش الكتابية هي نقوش تذكارية لتخليد الاعمال الانشائية والعمرانية التي تمت في أيامه في بابل. ولكن هذه الوثائق لا تطلعنا على فعاليته السياسية. حتى ان ما ذكر في نقش وادي بريصا على الساحل اللبناني لا يعدو ان يكون ذكرا لبعض الانجازات العسكرية بصورة موجزة. ويسرد احد النصوص الاخبارية اخبار بعض الحملات العسكرية التي تمت في السنوات العشر الأولى من حكمه كلن أخبار الاحداث التي وقعت بعدئذ لم نتمكن من الاطلاع عليها إلا من خلال بعض الوثائق الجزئية او من مصادر غير بابلية كالمرويات والتنبؤات التي وردت في سفر إرميا. وهكذا فإن الاستيلاء على القدس في 597 وعمليات نفي السكان بالسبي إلى بابل وغيرهما ثم ما وقع 587 و 582 لا ترد الا في المصادر التوراتية التي تتحدث عن تلك الأحداث. ومثل هذه الأحداث التي أبرزها الكاتب التوراتي كانت من الأحداث المتكررة المعتادة في ممالك ودول الشرق الأدنى القديم.
كان نبوخذ نصر يقطع الأراضي السورية عبر الفرات طولا وعرضا كل عام طوال عشر سنوات (حتى العام 594) لفرض هيبة الدولة وجمع الغنائم. وإننا لا نملك اية تفصيلات للإحداث التي وقعت بعد ذلك التاريخ. ويبدو ان سقوط كركميش لم يكن حاسما في فرض سيطرة الدولة على كل المناطق الواقعة غربي الفرات. فقد اضطر الملك البابلي إلى تنظيم سلسلة من الحملات المتعاقبة للقضاء على النزعات الانفصالية لدى بعض الحكام المحليين وبخاصة في فلسطين بتأييد الفرعون المصري.
ففي 604 دخل الجيش البابلي مدينة عسقلان على الساحل الفلسطيني الجنوبي وسيق ملكها أسيراً إلى بابل، إلا ان هذا الجيش لم يصطدم بالجيش المصري مباشرة. وقد قام نبوخذ نصر عام 601 بمحاولة للتقدم نحو مصر ولكنه أخفق في محاولته مما شجع بعض الحكام المؤيدين لمصر على التحرك أملا بتغيير الاوضاع الدولية.
وهكذا أعلن ملك يهوذا الذي كان يحكم مملكة صغيرة في جنوب فلسطين نقض السلم مع ملك بابل دون ان يلتفت إلى نصائح النبي إرميا فضرب نبوخذ نصر الحصار حول مملكة يهوذا يؤديه الأدوميون والمؤابيون والعمونيون. وفي العام 598 تقدم ملك بابل إلى أورشيلم وهي القدس وضرب الحصار حولها وفيها يوياقين الذي خلف أباه إلى ان سقطت المدينة في 2 آذار 597. وسيق ال ملك مع أفراد أسرته وكبار موظفيه ونخبة من السكان أسرى إلى بابل. وقام نبوخذ نصر بعد ذلك بتعيين ميتانيا ملكا جديا على يهوذا ودعاه صدقيا. وقد أثرت هذه الاحداث على المجتمع اليهودي الذي تبلور فيه اتجاهان متعارضان : الأول كان يؤيده النبي حنانيا الذي كان يتمتع بتأييد مصر ويدعو إلى مقاومة السياسة البابلية والى عودة يوياقين إلى عرشه. اما الاتجاه الثاني وكان على رأسه النبي إرميا، فكان ينادي بالتخلي عن الوعود المزيفة بالعودة والى القبول بالمصير الذي هو إرادة الرب (يهوه) الذي كان يعاقب المذنبين على يدي ملك بابل. وقد قادت هذه الظروف المجتمع اليهودي إلى التشكك في المعتقدات الدينية التي كانت سائدة، ودخلت طقوس غير يهودية المعبد اليهودي. ونهض النبي إرميا حاملا النير في عنقه تعبيراً عن قبوله بالخضوع لملك بابل انطلاقا من القبول بالقدر الإلهي داعيا إلى التهيؤ لنفي طويل، وبانتظار ساعة الخلاص يكون على المؤمنين العمل من اجل البلاد التي استقروا فيها، بينما قام حنانيا، تعبيراً عن موقعه المضاد، بكسر النير الذي كان يطوّق عنق إرميا الذي سيق إلى السجن. بينما اندلعت في بابل أحداث عنيفة دفعت الملك إلى القضاء على عدد من مثيريها.
كان صدقيا رجلا ضعيفا وغير قادر على اتخاذ قرار محاطا بحاشية ضعيفة وبرجال تافهين. تتجاذبه التيارات المتضاربة. كان خاضعة لتعاليم النبي إرميا بينما كان يضطهده. ودون روية او حساب للعواقب تقدم خطوة مدمّرة بالانصياع إلى نصحائه والانضمام إلى التحالف الذي تكوّن بتأييد الفرعون المصري مع عمون والمدن الفينيقية بينما وقف الأدوميون والمؤابيون والفلسطينيون في غزة والساحل الجنوبي على الحياد. وكان رد نبوخذ نصر سريعاً. فجاء بقواته إلى الساحل فأخضع مدن فينيقية وحاصر صور، ثم دخل أراضي مملكة يهوذا مدمراً الحصون والقلاع وضرب حصاراً على أورشيلم (القدس) عام 589. ونجح في الخروج من الحصار أحد قادة الجيش كبار ياهو وتوجه الى مصر يطلب النجدة وبعد عامين (في 587) سقطت المدينة، وقبض على صدقيا في أريحا وهو يحاول الفرار. وسيق إلى مقر قيادة الملك في ربلة على العاصي (2). وهي تقع على مقربة من بحيرة قطينة على الطريق بين حمص وبعلبك ليشهد مصرع ابنه امام ناضريه قبل ان تفقأ عيناه. ثم اقتيد اسيراً مقيداً إلى بابل مع فوج آخر من السبي. وفي هذه الاثناء قتل حاكم القدس الذي كان عينه البابليون، وهو جدلياهو (جدولياس) ويتحدث سفر إرميا عن هذه الاحداث بالتفصيل (إرميا 52 : 30). ويبدو ان هذا الحادث لم يكن فريدا فالمناطق الاخرى في سورية وفلسطين قاومت الحكم البابلي بقوة، كما حدث أيام التوسع الاشوري. إلا أننا لا نملك دائماً الوثائق الكافية لمعرفة التفاصيل. فلا يعرف مثلا كيف كان مصير مملكة يهوذا في تلك الظروف الحاسمة التي تتحدث عنها الكتب الدينية. بينما لا نجد اية مصادر أولية عن مصير دول اخرى في سورية وفلسطين.
لقد عانت الدويلات السورية – الفلسطينية، وهي غالبا دويلات – المدن الساحلية، كثيراً من مطامع الملوك المستبدين في وادي النيل ووادي الرافدين، ولم يكن أمام هذه الدويلات في فترة التوسع البابلي إلا التحالف والثورة وانتظار تأييد موهوم من الفرعون المصري.
لقد كان الوضع الدولي في الشرق العربي القديم بعد سقوط الامبراطورية الاشورية يقوم على التوازن بين أكبر قوتين وهما بابل ومصر بينما امتد نفوذ الميديين على ايران وشرقي الأناضول. وعلى الرغم من تفوق بابل في سورية وفلسطين فان مصر كانت ما تزال تمثل قوة هامة في المنطقة. وقد اخفقت محاولتا نبوخذ نصر في 601 و 568 لدخول مصر. ولم يتمكن الفراعنة من استرداد مواقعهم المفقودة في فلسطين. ولئن تمكن الفرعون تخاو من التقدم في فلسطين عن طريق غزة، فان الفرعون أحمس الثاني بعده حاول التدخل أثناء حصار أوريشلم وأرغم نبوخذ نصر على نشر قواته لكنه لم يتمكن من منع تحقيق انتصار حاسم في المدينة المقدسة التاريخية. وكان الفرعون المصري أكثر نجاحا في صور التي امتد حصارها ثلاثة عشر عاماً. وكانت تتلقى المعونة والمؤونة عن طريق البحر. ويمكن القول ان توازنا دويا جديداً قد أقيم بعد المحاولات الفاشلة من كلا الطرفين لقهر الطرف الاخر.
لم تحل هذه السياسة الخارجية الحربية للعاهل البابلي نبوخذ نصر دون متابعة سياسته الداخلية العمرانية والاصلاحية التي سار عليها ابنه بعده. فقد حشدت الجهود لكري الأقنية المهملة وترميمها ولإعادة تعمير المدن والمعابد المخربة. وأخذت الحياة في بابل وبلاد الرافدين عامة تعود إلى فعاليتها السابقة، وفق تقاليدها العريقة المعهودة. وأخذت تعود إلى الدولة مكانتها بجانب المعابد التي احتفظت بدورها الريادي في تنظيم الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية إبان الاضطرابات السابقة. وتدل النقوش والنصوص المكتشفة على ان الملك قدّم منحا سخية لإعادة العمران إلى المدن القديمة : أور، أوروك، لارسا، دلبات، كيش، كوثي، بورسيبا، سيبار... ولكن بابل هي التي حظيت بالنصيب الأوفى من الرعاية الملكية.
مدينة بابل:
كانت بابل مدينة رباعية الاضلاع تمتد على ما يقارب عشرين كيلومترا محاطة بسور مزدوج، تحميها قناة مائية. ولها ثمانية أبواب : الباب الشمالي وهو باب إشتار (عشتار، يفتح على طريق الموكب الديني الاحتفالي الذي يمتد من مزار الأكيتو (رأس السنة) إلى معبد مردوك الواقع في وسط المدينة. وكان الباب مغطّى بالآجر الخزفي الملّون اللماع الموشى بأشكال بارزة تمثل الثيران والتنين، وهي ملونة بالأصفر والأزرق. وليس بعيدا من هنا نجد القصر الملكي القائم على جدار السور والذي يشكل بتداخل قاعاته وغرفه وممراته متاهة حقيقية. ولم يكن بعد معرفة وظائف أقسام القصر ما عدا قاعة العرش الكبرى التي يبدو في وسط الجدار الرئيس فيها محراب العرش. بينما تمتد في الجهة الجنوبية كتلة معبد الإساجيل = معبد مردوك المبني على النسق المعروف على ضفتي الفرات في بابل وماري وأمورو .. وهو يضم غرفة قدس الأقداس يتقدمها مدخل ينفتح على بهو محاط بالمزارات الثانوية والمخازن والمستودعات والمشاغل. والى جانب المعبد برج بابل المدرج الذي يظن أنه كان يرتفع إلى ما يقرب من مائة متر. وفي بابل ما يزيد على خمسين معبداً كرس كل منها لرب من أرباب مجمع الأرباب ومنها : نابو، وإشتار، وتشميتوم، ونين مخ، ونينورتا وأدد ونرجال، والى الشمال الشرقي امتدت الحدائق المعلقة التي عدت بين عجائب الدنيا.
بابل من الأوج إلى الانهيار:
كانت تختفي وراء مظاهر القوة التي تمتعت بها بابل، حقائق الوضع المهدّد في بلاد الرافدين كلها. وتشير دلائل عديدة إلى ما كانت تعاني منه بابل من اضطراب داخلي عميق، وعلى وجود حركات معارضة قوية ضد الملك قمعت بالسلاح. وقد نشر فيدنر دراسة قيمة لمحاكمة، جرت في عام 594، لأحد المعارضين بتهمة الخيانة العظمة وللحكم الذي صدر عليه بالموت من مجلس الأعيان (3).
وربما كان هناك أكثر من حادث من هذا النوع لأن بعض الوثائق تشير إلى نقض العهود (آدي = Ade) مع الملك، وهي مسألة بالغة الخطورة، لان توثيق العهود بين الملك والأطراف المتعاقدة معه من الأمراء والقادة وكبار رجال الدولة، بقي في العصر البابلي الثاني، كما كان الوضع في العصر الاشوري هو الأساس المعتمد في بناء الحكم في الدولة البابلية الثانية.
خلف نبوخذ نصر ابنه أويل مردوك الذي حكم مدة قصيرة قرابة سنتين (561 – 560). وقد اختلفت الآراء حول سياسته إلا أنه أعفى عن الملك اليهودي الأسير يوياقين وأطلق سراحه. إلا ان ابن حميه نريجليسار = نرجال شر أوصر أبعده عن العرش واحتل مكانه مدة أربع سنوات أنجز خلالها بعض الأعمال العمرانية وقام بحملة على كيليكية الواقعة شمال خليج الأسكندرونه. ولم يستطع ابنه لاباشي مردوك ان يحتفظ بالحكم أكثر من شهرين فقد قتل على أيدي متآمرين رفعوا إلى العرش نبونائيد الذي لم يواجه في بادئ الأمر معارضة شديدة لسلطته في حين كانت تتطور قوة الميديين على الحدود الشرقية.
وبعد ان عزز الميديون مواقعهم على الحدود الشرقية للمملكة البابلية اخذوا يوسعون نفوذهم على الحدود الشمالية لبلاد الرافدين. فقد سيطروا على معظم أراضي أورارتو القديمة وتوسعوا في آسية الصغرى حتى بلغوا غرباً حدود مملكة ليديا الواقعة على بحر إيجة. ولم تتوقف الحرب الا بعد خمس سنوات بعد ان اتفق على عدّ نهر الهاليس في وسط الأناضول حداً فاصلا بين ميديا وليديا.
وبعد موت الملك الميدي كي أخسار خلفه ابنه أستياجس (أشتو ميغو). وقد تطور وضع الميديين على الحدود الرافدية، فبينما انصرفوا أيام نبوخذ إلى بسط نفوذهم ما بين بحر قزوين والبحر الأسود ظهروا على حدود الامبراطورية البابلية أيام نبونائيد.
آخر ملوك بابل : نابونائيد (نابوئيد) 556 – 539
نابونائيد هو آخر ملوك بابل في العصور القديمة وآخر الشخصيات الكبيرة في تاريخ بلاد الرافدين القديم (4). كان شخصية متميزة وغريبة. حكم بابل في ظروف دقيقة تهددها فيها الأخطار من داخلها ومما حولها. وفي الظروف التي حكم فيها بلاده كانت له مواقف ما تزال غير مفهومة بصورة تامة. ولم تتضح بعد الأهداف السياسية التي كان يرمي إليها.
كان والده حاكما (شاكاناكو) على إحدى المقاطعات، وكانت أمه كاهنة في معبد إله القمر سين (شهر) في حران (الواقعة في الجزيرة العليا). وربما كان من أصل آرامي على الرغم من صيغة اسمه البابلية. وهو يعترف، كما ورد في نصين منقوشين على نصبين تذكاريين في الحلة (في العراق)، وفي حرّان (في سورية) بأنه لا ينحدر من اصل ملكي.
صعد نابونائيد العرش بمؤامرة. وكان يطمح إلى ان يكون حكمه مكملا لحكم من سبقه من العواهل الكبار : نريجليسار ونبوخذ نصر، وغيرهما من ملوك بابل وأشور الأقوياء. ومن الملفت للنظر انه في كتاباته تجاهل الملوك الضعاف الذين مروا بتاري بابل وأشور. ويبدو ان دوافع امبراطورية كانت تحركه وتدفعه إلى العمل على إحياء بابل القوية كما يتضح من ترجمة حياة أمه التي كتبت بإشرافه. وكان تأثير هذه المرأة كبيراً عليه في تربيته تربية عالية في القصر الملكي أيام نبوخذ نصر ونريجليسار. وعملت على تنمية ولائه للإله سين، وعلى حثه على اتخاذ قرارات هامة بعد وصوله إلى الحكم.
فعند صعوده العرش في 556 تلقى نابونائيد في حلمه أمراً من الإله مردوك كما تزعم النصوص بأن يبنى معبد (أهُلْهُل) لعبادة الإله سين (الهلال – القمر – شهر) في حرّان الذي بقي خرابا منذ سقوط آخر معاقل المقاومة الأشورية في 610. وكان الملك شديد الاضطراب من تقدم الميديين لولا ان هذا الإله هدأ من روعه وبشره بزوال الميديين. انتقل الملك إلى لارسا عام 555 حيث أشرف هناك على إنجاز بعض الأعمال الادارية. ومنها توجه في سلسلة من الحملات استمرت ثلاث سنوات في سورية ووصل جنوبا حتى أدوم وأطراف مدين على خليج العقبة وعلى مقربة من سيناء والحجاز.
وفي العام الثالث من حكمه (553) تحققت النبوءة الإلهية بانسحاب الميديين من حران عندما نهض قورش الفارسي ملك أنزان ثائراً ضد استياجس فأسرع نابونائيد إلى بناء معبد أهلهل في حران مثيرا حفيظة معبد مردوك في بابل. واندلعت اضطرابات كبيرة في بابل وبورسيبا ونيبور واور وأوروك ولارسا. لكن الملك لم يتخاذل وأوكل مهام إدارة بابل إلى ابنه بلثاصر (بل شر أوصر) وتوجه هو بنفسه إلى واحة تيماء التي كان احتلها في 552 مع عدد من مدن الحجاز دادانو (ددان)، باداكو (فدك) وخبرا (خيبر) ويدع ويثرب. وأقام عشر سنوات في بلاد العرب بعيداً عن قاعدة ملكة في بابل وحران، معطلا بذلك احتفالات أكيتو التقليدية التي كانت تقام في رأس كل عام جديد وتبلغ ذروتها في بابل.
وقد تطور الوضع الدولي في أثناء ذلك بسرعة إذ تمكن قورش الفارسي من إيقاع هزيمة ماحقة بخصمه استياجس الميدي واحتل عاصمته إقباتان (همذان) وتمكن من توحيد القبائل الميدية الشمالية والفارسية الجنوبية بزعامته وبعد ثلاثة سنوات وجه قورش أنظاره نحو الغرب اي إلى ما وراء زاغروس باتجاه بلاد الرافدين. وأمام هذا الخطر الجديد على التوازن الدولي قام تحالف ضد ملوك بابل ومصر وليدية حسب رواية هيرودوتس. على ان قوروش كان يتصرف بسرعة مذهلة. فقد اندحر ملك ليدية وانسحب ليلتجئ إلى عاصمته سارديس على بحر إيجة دون ان يتمكن من طلب النجدة من حليفه. فعاجله قوروش بمحاصرته الى ان سقطت سارديس بعد أربعة عشر يوما.
وهكذا قامت على الحدود الشرقية والشمالية لبابل وبلاد الرافدين قوة دولية هائلة تمتد خطوطها من فارس إلى بحر إيجة. وعلى الرغم من هذه التطورات المقلقة لم تبدر من نابونائيد أية بادرة، ولم يحمله ابتعاد قوروش إلى ما وراء النهر على تعديل برنامج إقامته في جزيرة العرب.
وما تزال مسألة إقامة الملك البابلي في تيماء سرا. واكثر الدوافع قبولا لتحركه في الواحة العربية وفي الحجاز ربما كان الدافع الديني. فتيماء كانت مركزا دينيا كبيرا لعبادة القمر الذي انتشرت عبادته في أنحاء المشرق العربي القديم في أشكال مختلفة : في أور في جنوب الرافدين وفي حران وفي النيرب، جنوبي حلب وفي تيماء وسيناء وفي اليمن.. وليس من المقبول عزو تصرفه إلى هذا العامل الدين وحده. ولا يجوز نفي العوامل الاخرى الدافعة. وربما كان أهمها آنذاك دافعا مركباً، دينيا – سياسيا – استراتيجيا.
ففي تيماء تتصالب الطرق القادمة من الغرب ومن الجنوب متجهة إلى الخليج، والمؤدية إلى دمشق شمالا والى الحجاز واليمن جنوبا. وقد ذكرت في النصوص الاشورية (من زمن توكولتي إبيل إيسارا) بوصفها مدينة تجارية على طرق القوافل .. فهل كان الملك البابلي نابونائيد مؤيدا لتوجه يرمي إلى توحيد العالم البابلي – الاشوري – الآرامي – العربي بقوة متحالفة برعاية عبادة الإله سين ومراكزها الكبرى في أور وحران وتيماء لحشد التأييد لدولة كبرى في المشرق العربي يمكن لها ان تقف في وجه التحرك الهندو – اوربي المتنامي والمتقدم نحو بلاد العرب ومراكز الحضارة في المشرق القديم.
لقد طرح في هذه الفرضيات عدد من الباحثين ومنهم ت. باور، و ب. لاندسبرجر وعرضها ب. غاريلي (5). وربما كان الملك البابلي يحاول ان يعزز خطوطه الخلفية في جزيرة العرب بين اليمن والشام بعد ظهور قوة دولية مجاورة كبيرة وراء زاغروس دون ان يهمل قاعدة ملكه في بابل؟!
ومهما يكن فإن نابونائيد غادر تيماء نحو 542، وافتتح معبد القمر (اهلهل) في حران باحتفال كبير، ولا تعرف حتى الان التدابير التي اتخذها لتفادي تدهور الموقف مع الملك الفارسي. لكن الأمور توالت بسرعة كبيرة خلال خريف 539، وفي شهر تشرين الأول تحرك قوروش يؤيده جوبرياس حاكم غوتيوم (منطقة ديالى) الذي انضم إليه فاحتل سيبار ودخل بابل فجأة حيث قتل بلثاصر بن نابونائيد في قصره بينما قبض على الملك البابلي نفسه في 29 تشرين الأول ودخل قوروش بابل دخول الظافرين. هكذا سقطت بابل الثانية آخر دول بلاد الرافدين القديمة. ولا يٌدرى مصير آخر ملوكها اذ لا توجد نصوص حول هذا الموضوع، وتتضارب آراء المؤرخين الكلاسيكيين (كزينوفون وبروسوس ويوسفوس) بهذا الصدد. واتخذ قوروش لنفسه لقب ملك بابل، ملك البلاد، وسمى جوبرياس حاكما على البلاد التي أضحت ولاية في الامبراطورية الفارسية الأخمينية التي كانت حتى ذلك العصر أوسع امبراطورية شاملة في تاريخ الشرق الأدنى القديم امتدت من السند وأفغانستان شرقاً إلى بحر إيجة والمتوسط وبرقة غرباً.
وقد استأنفت الحياة مسيرتها في ظل الحكم الجديد الذي كان من اول قراراته السماح لمن تبقى من اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل قبل خمسين عاماً، بالعودة إلى فلسطين وان يحملوا معهم أمتعتهم الثمينة. وغدا قوروش ذلك العاهل الذي وحد بشخصه العقائد المتنافرة في الشرق القديم : آمن بأهورا مزدا وسمّاه مردوك وصياً على العالم ويهوه راعيا مسيحياً.
هكذا سقطت الامبراطورية البابلية الثانية (الكلدانية) وهي في ذروة قوتها سقوطا سريعا مأساويا. ولا يعرف مدى شعور المعاصرين بما حدث من تغيير. وربما بدا وكأن ما جرى كان من التقلبات العادية في الدول. فقد حل قوروش محل نابونائيد كما حل هذا محل لا باش مردوك من قبل. ولكن مهما يكن فإن ما حدث في 539 كان هائلا بنظر المؤرخ الذي يراقب تطور الأحداث على المدى الطويل. فهو مؤشر على تغيير كبير وعلى نهاية عصر وبداية عصر جديد. لكنه لم يكن حدثا فريدا ومفاجئاً، فقد كان بصورة ما تكراراً لسقوط الامبراطورية الاشورية ومصرعها الفاجع الذي هز في حينه، قبل سقوط بابل بسبعين عاماً، الشرق القديم كله وقلب موازين القوى مؤذنا ببداية عصر جديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكرت في المصادر السومرية بابيلا (بورجر، فون سودن).
(2) ر. درسو :
R. Dussaud, Ia topographie historique de Ia Syrie antiqne et Medievale Paris 1972 p. 108.
(3) حول المحاكمة انظر :
E. weldner, Hochverrat gegen Nabukadnezer II, Afo, 17, 1954 – 1956, p. 1-5.
(4) حول نابونائيد انظر :
Garelli, P. le Proche – Orient Asiatique
II, Paris 1974. P. 154 – 156; Garelli, P. D. S. V, 275
Lambert, (W.G.) Naboridus in Arabia, Seminer for Arabien Studies, London, 1972,
(5) P. Garelli, le Proche – Orient – Asiatiqne II, P. 248.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|