المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8186 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

حق العامل بمكافأة نهاية الخدمة حسب قانون العمل
12-3-2020
فضل سورة الإسراء وخواصها
30-04-2015
Simple Interest
16-8-2021
التروبوسفير Troposphere
13-10-2020
الفانيليا Vanilla fragrans
9-11-2017
النفاس
2024-02-14


قاعدة الصحة أو « أصالة الصحة في الأفعال الصادرة من الغير أو من النفس »  
  
2364   09:42 صباحاً   التاريخ: 18-9-2016
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج1 ص113 - 157.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / الصحة - اصالة الصحة /

وهذه القاعدة ... من أشهر القواعد الفقهية المتداولة بينهم، يتمسك بها في جل أبواب الفقه أو كلها وقد عنونها كثير منهم بعنوان «أصالة الصحة في فعل الغير» وظاهره عدم جواز تمسك المكلف بها لإثبات صحة أفعال نفسه عند الشك فيها، بل صرح بعضهم- كالمحقق النائيني- باختصاصها بفعل الغير وان المتبع في أفعال شخص المكلف هو «قاعدة الفراغ، لا غير؛ وستعرف في «المقام الثالث» إنشاء اللّه عدم صحة هذه الدعوى ولزوم تعميم القاعدة لأفعال المكلف نفسه، ولذا نجعل عنوان بحثنا «أصالة الصحة في الأفعال الصادرة من الغير أو من النفس» وان كان بعض الأدلة يختص بالقسم الأول منه كما ان تقييد عنوان البحث بقيد «أفعال المسلم» كما يتراءى من بعض بلا وجه ولذا أسقطناه منه.

ثمَّ اعلم ان هنا ابحاثا تقع في مقامات:

المقام الأول في مدرك القاعدة :

واستدل لها بالأدلة الأربعة ولكن عمدتها- كما ستعرف- هو الإجماع العملي والسيرة المستمرة المتداولة بين العقلاء والاستقراء، ولذا لم يتعرض غير واحد من الاعلام لما استدل له من الكتاب والسنة، لعدم دلالتهما عليها.

ولكن لما كان في ذكرها بعض الفوائد نشير إليها على سبيل الاجمال والاختصار، وقبل البحث عنها لا بد لنا من تقديم أمر ينفعنا في تحقيق حال تلك الأدلة وهو:

ان حمل فعل الغير على الصحة يتصور له معان ثلاث‌ :

أولها- الاعتقاد الجميل في حقه وترك سوء الظن به بان لا يضمر المسلم لأخيه ما يزري به ويشينه، ويعتقد انه لم يفعل سوءا عن علم وعمد وان صدر منه ذلك خطأ أو نسيانا.

وما قد يقال من ان الاعتقاد من الأمور الغير القابلة للخطاب التكليفي تحريما أو إيجابا لخروجه عن حيطة الاختيار، ممنوع جدا، لأنه في كثير من موارده أمر مقدور؛ وكثيرا ما يحصل لنا اعتقاد سوء في حق احد وبعد ذلك نتفكر في امره ونبدى لأنفسنا احتمالات فيما شاهدناه أو سمعناه منه مما صار منشئا لهذا الاعتقاد، ونقول لعله كان كذا وكذا، من الاحتمالات التي كانت مغفولة بادي الأمر بما يصرفنا عن ذاك الاعتقاد القطعي أو الظني بالسوء، وهذا أمر ممكن واقع كثيرا فهو قابل للخطاب الشرعي تحريما أو إيجابا.

والحاصل ان كثيرا من الاعتقادات الحاصلة لنا حاصلة من الأنظار البادية في أفعال الغير وعدم التوجه بما يحتمله من الاحتمالات، فهي تزول بسرعة عند التوجه الى الوجوه التي تحتملها. فلا مانع من ان يأمر الشارع الحكيم بتحصيل الاعتقاد الحسن في حق المسلمين ونفى اعتقاد السوء عنهم، لما فيه من المصالح التي لا تحصى، كجلب اعتماد المسلمين بعضهم ببعض، ودفع الضغائن عنهم، ودفعا لما في سوء الظن والاعتقاد من التفرقة والتباعد واختلال النظام واثارة الفتن بينهم؛ كما هو ظاهر لمن تدبر.

ثانيها- ترتيب آثار الحسن الفاعلي عليها؛ أي المعاملة مع فاعلة معاملة من اتى بفعل حسن وعدم المعاملة معه معاملة من ركب امرا قبيحا، من حسن العشرة معه والركون اليه فيما يركن على من لم ير منه قبيح والفرق بينه وبين المعنى السابق ان الحمل على الصحة بهذا المعنى عمل خارجي بخلاف المعنى الأول فإن الحمل عليها هناك بمعنى الاعتقاد الحسن وترك اعتقاد السوء، وهو وان كان مستلزما للثاني كثيرا الا ان الفرق بينهما ثابت في المعنى، وفي النتيجة أحيانا.

وثالثها- ترتيب آثار الفعل الصحيح الواقعي على فعله، بمعنى فرض عمله صحيحا واقعا وفي نفس الأمر؛ لا بحسب اعتقاده فقط كما في الوجه السابق، فيرتب عليه ما هو من آثاره الواقعية، فيفرض فعله تام الاجزاء والشرائط واقعا ويرتب عليه ما يرتب عليه، ويكون عمله منشئا للآثار الشرعية، وهذا هو الذي نحن بصدده في إثبات هذه‌ القاعدة لا المعنيين السابقين.

وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع الى ذكر أدلتها الأربعة:

الأول- الكتاب :

واستدل له من الكتاب العزيز بآيات منها قوله تعالى مخاطبا لبني إسرائيل:

{إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [البقرة: 83] والاستدلال به يتوقف على أمرين:

«أحدهما» كون القول هنا بمعنى الاعتقاد و«الثاني» كون الاعتقاد كناية عن ترتيب آثاره؛ نظرا الى ما قد قيل من انه ليس امرا مقدورا قابلا للخطاب الشرعي، فالأمر بالقول الحسن في حق الناس يؤول الى الأمر بترتيب آثار الحسن على أفعالهم.

و كلاهما محل تأمل وإشكال: اما الأول فلان حمل القول على هذا المعنى مضافا الى انه لا شاهد له في المقام، مخالف لما يظهر من غير واحد من الاخبار الواردة في تفسير الآية:

منها- ما عن تفسير العسكري عليه السّلام ان معناه: «عاملوهم بخلق جميل» ويظهر من هذه الرواية ان القول الحسن كناية عن المعاشرة بالمعروف .

ومنها- ما عن جابر عن ابى جعفر عليه السّلام في قول اللّه عز وجل { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } قال قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم فان اللّه يبغض اللعان الساب، الحديث .

ومنها- ما عن عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول- الى ان قال- وقولوا للناس حسنا قال عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وصلوا معهم في مساجدهم الحديث، وهذا الحديث أيضا إشارة إلى المعاشرة الحسنة. الى غير ذلك من الروايات الدالة على هذا المعنى.

واما الثاني فلان غاية ما يستفاد من الآية- بناء على تفسير القول بالاعتقاد- هو احد المعنيين الأولين ولا دلالة لها على المعنى الثالث أصلا.

ويرد على الاستدلال بها اشكال آخر و هو ان هذا الأمر وقع في سياق أوامر أخر بعضها وجوبي وبعضها استحبابي فان الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين‌ (المقابل للزكاة) غير واجب فهذا السياق يضعف دلالتها على الوجوب فتدبر اما كون الخطاب إلى بني إسرائيل فلا يوجب وهنا في دلالة الآية كما لا يخفى. هذا كله مضافا الى ان الاعتقاد الحسن أمر مقدور كما عرفت.

ومنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } [الحجرات: 12] تقريب الاستدلال بها كما ذكر في الفرائد وغيره انه سبحانه نهى عن بعض الظن والقدر المتيقن منه ظن السوء ومعناه النهى عن ترتيب آثاره عليه لما مر آنفا، ولازمه الأمر بترتيب آثار الحسن عليه لعدم الواسطة.

ويعلم الجواب منها مما ذكرناه في الجواب عن الاستدلال بالاية الاولى.

ومنها آيات وجوب الوفاء بالعقود والتجارة عن تراض وما أشبهها، استدل بها شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره في الفرائد. والاستدلال بها عجيب، لان هذه أحكام كلية واردة على موضوعاتها الواقعية، والتمسك بعمومها عند الشك في تحقق مصداق التجارة عن تراض أو العقد العرفي المقيد بقيوده الثابتة شرعا؛ من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية كما هو ظاهر.

الثاني- الاخبار :

واستدل له من الاخبار بما دل على لزوم حمل أمر الأخ على أحسنه وهو كثير:

منها ما ورد مستفيضا من ان المؤمن لا يتهم أخاه؛ وانه إذا اتهم أخاه انماث الايمان في قلبه كانمياث الملح في الماء، وان من اتهم أخاه فهو ملعون .

ومنها ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا.

ومنها ما ورد في وجوب تكذيب السمع والبصر عن الأخ المؤمن وانه ان شهد عندك خمسون قسامة فكذبهم وصدقه. الى غير ذلك مما هو كثير.

وعدم دلالتها على المقصود ظاهر، فإنها ناظرة الى احد المعنيين الأولين من المعاني‌ الثلاثة المذكورة لحمل فعل الغير على الصحة لا المعنى الثالث الذي نحن بصدده والغرض من جميع هذه التأكيدات تحكيم مباني الاخوة بين المؤمنين وإلزامهم بالمعاشرة بالمعروف وله شواهد كثير في نفس هذه الروايات لا تخفى.

هذا مضافا الى ان ذكر الأخ في كثيرة منها دليل على انه ليس حكما عموميا في حق كل احد وجميع الناس من المؤمنين وغيرهم (كما أشار إليه العلامة النراقي في عوائده) فلعله نظير كثير من الحقوق الواردة في باب حق المؤمن على أخيه التي لا تجري في حق جميع المسلمين بل ولا جميع المؤمنين بل يختص بالذين استحكمت بينهم عرى المودة والإخاء كما حقق في باب حقوق المؤمن.

الثالث- الإجماع :

اما الإجماع القولي فإثباته بوجه كلى بعنوان «وجوب حمل أفعال المسلمين أو أفعال الغير مطلقا على الصحة» دونه خرط القتاد، فان كلمات أكثرهم (كما اعترف به المحقق المولى محمد باقر الخراساني في كفايته وغيره فيما حكى عنهم، والعلامة النراقي في عوائده) خالية عنه وانما تعرض لهذه القاعدة بعنوان مستقل شرذمة من متأخري الأصوليين، وان كان الظاهر من بعض العبائر انها من القواعد المقبولة على نحو كلى ولكن الاكتفاء بمجرد ذلك في إثبات هذه القاعدة على نحو عام مشكل جدا والحاصل ان دعوى الإجماع القولي عليها كما يتراءى من بعضهم قابلة للذب والإنكار، وعلى تقدير ثبوته- وهو غير ثابت- فالاعتماد على مثل هذه الإجماعات في أمثال هذه المسائل التي لها مدارك كثيرة أخر كما ترى.

نعم يمكن دعوى الإجماع في موارد خاصة كأبواب الذبائح والمناكح وبعض أبواب المعاملات وغير ذلك ولكنه غير كاف في إثبات هذه الكلية هذا حال الإجماع القولي اما الإجماع العملي من العلماء بل من المسلمين جميعا، وهو الذي يعبر عنه بسيرة المسلمين، فهو غير قابل للإنكار في جل موارد هذه القاعدة أو كلها، لأنهم لا يزالون يعاملون مع الأفعال الصادرة عن غيرهم معاملة الصحة في أبواب العبادات كصلاة الامام ، وأذان المؤذن واقامة المقيم للجماعة، وصلاة الميت وتغسيله وحج النائب، وأشباهها وكذا في أبواب المعاملات كالمعاملات الصادرة من الوكلاء، وأبواب الذبائح والجلود والثياب والأواني التي يغسلها الغير، ونظائرها، فإنه لا شك لأحد في ان المسلمين في جميع الأعصار والأمصار يعاملون مع هذه الأفعال إذا صدرت من غيرهم معاملة الصحة، ولا يتوقفون عن ترتيب آثارها عليها استنادا إلى أنهم شاكون في صحتها، وكذلك جرى ديدنهم على حمل أفعال أولياء الصغار والمجانين؛ وأوصياء الأموات ومتولي الأوقاف وجباة الصدقات على الصحيح وهذا أمر معلوم لكل من عاشرهم ولو أياما قلائل.

وفي بعض هذه الموارد وان كانت قواعد وأمارات أخر تقتضي صحتها، كقاعدة اليد، وسوق المسلمين ونحوهما، الا ان الناظر فيها بعين الانصاف يعلم علما قطعيا ان عملهم في هذه الموارد لا يكون مستندا الى هذه القواعد بل المدرك فيها جميعا هو قاعدة الصحة وان كانت مؤيدة في بعض مواردها بقواعد وأمارات أخرى، كما انه لا يحتمل استناد المجمعين في جميع هذه الموارد على اختلافها الى نصوص خاصة وردت فيها والعجب من المحقق النراقي (قده) حيث أنكر هذا الإجماع العملي في «عوائده» ولكن الظاهر- كما يظهر بمراجعة كلامه- ان عمدة اشكاله نشأت من تعميم البحث وعقد عنوانه للافعال والأقوال، ولكنك خبير بان للبحث في الأقوال الصادرة عن الغير مقاما آخر لا يرتبط بالمقام.

بل التحقيق انه لا ينحصر هذا الإجماع العملي بالمسلمين بما هم مسلمون بل مدار أمور العقلاء على اختلافهم في العقائد والمذاهب والآراء والعادات، في جميع الأزمنة والعصور عليه، كما يظهر بأدنى تأمل في معاملاتهم وسياساتهم وغيرها فما لم يثبت فساد عمل الغير لهم يحكمون بصحته ويطالبون مدعى الفساد في الأفعال التي صدرت عن غيرهم من الوكلاء والأوصياء والخدام وأرباب الحرف والصنائع وآحاد الناس الدليل على ما ادعاه، والا لا يتأملون في ترتيب آثار الصحة عليها.

اللهم الا ان يكون هناك أمارات الفساد وبعض قرائنه؛ أو يكون الفاعل متهما‌ فقد يتوقفون في هاتين الصورتين عن الحمل عليها حتى بتفحص عن حاله. وسيأتي إنشاء اللّه إمكان القول باستثنائهما عن قاعدة الصحة حتى في الأمور الشرعية عند ذكر التنبيهات وحيث ان أفعال العقلاء وسيرهم وما يستندون إليها في أمورهم مبنية على أصول عقلائية غير تعبدية، لا بد لنا من البحث في منشأ هذه السيرة وتحقيق حالها كي نكون على بصيرة من الفروع المشكوكة التي تترتب على هذا الأصل. فنقول ومن اللّه سبحانه نستمد التوفيق والهداية:

ان منشأ هذه السيرة العامة العقلائية في حمل الأفعال الصادرة عن الغير على الصحة لا يخلو عن أحد أمور ثلاثة :

أولها «الغلبة»- بأن يقال ان الافعال الصادرة عن الغير لما كانت صحيحة غالبا فصارت هذه الغلبة مورثة للظن بصحة الفرد المشكوك، إلحاقا له بالأعم الأغلب فهذا الظن الناشي من الغلبة حجة عندهم في المقام؛ ولا يلازم القول بحجية هذا الظن هنا حجيته في جميع المقامات، لما فيه من دواع أخر، كشدة الحاجة وعموم الابتلاء وغير ذلك، انضمت اليه فأوجبت بنائهم على العمل به.

ولكن هذا احتمال ضعيف، لما نشاهده من عدم اعتنائهم بشأن هذه الغلبة وبنائهم على هذا الأصل ولو في مقامات لا تكون الصحة غالبة فيها كبنائهم في غير هذه المقامات، مضافا الى إمكان منع دعوى الغلبة وإنكار كون غالب الأفعال الصادرة من الناس صحيحة لو لم يكن الغالب على أفعالهم الفساد فتدبر.

ثانيها- توقف حفظ النظام وصلاح المجتمع عليها، نظرا إلى انه لو لم يبن على الصحة في موارد الشك في الأفعال الصادرة عن الغير لزم العسر الأكيد والحرج الشديد واختل أمر المعاش ونظام أمور الناس، لانسداد باب العلم العادي الذي يمكن الوصول اليه بطرق متعارفة في هذه الموارد لغالب الناس فصار هذا منشئا لبنائهم واتفاقهم على حملها على الصحة فيما إذا لم يقم دليل خاص عليها، بل ومطالبة مدعى الفساد بالدليل ويقرب هذا المعنى الى الذهن ويزيده وضوحا ما يلزم من عدم البناء على هذا الأصل من فساد الأموال‌ والأنفس والتنازع والتشاجر ولو في يوم واحد.

ثالثها- اقتضاء العمل بحسب طبيعته الأولية للصحة، بيان ذلك: لا ريب في ان الاثار المترقبة من الأفعال إنما تترتب عليها إذا صدرت صحيحة والافراد الفاسدة لا يترتب عليها أثر أو الأثر المترقب منه وحيث ان غرض العقلاء من كل فعل هو آثاره المطلوبة فالدواعي النفسية والبواعث الفكرية انما تدعوا الى الافراد الصحيحة، فكل فاعل- لو خلى وطبعه- يقصد الافعال الصحيحة ويتحرك نحوها فإنها التي تفيض عليه الاثار التي يطلبها والفوائد التي يرومها ؛ فلا يطلب الفاعل بحسب طبعها الأولى إلا الفرد الصحيح وما يصدر من الأفعال الفاسدة من بعض الفاعلين اما تكون من غفلة واشتباه أو أغراض فاسدة غير طبيعية، وكل ذلك على خلاف الطبع. ويتضح ذلك عند ملاحظة حال العقلاء في جميع أمورهم من الحرف والصنائع وبناء الابنية، ومن معاملاتهم وسياساتهم وغيرها.

فكما ان الصحة في مقابل العيب هو الأصل في كل مبيع لأنها مقتضى طبعها الاولى وسنة اللّه التي قد جرت في خلقه، فينصرف البيع إليها من غير حاجة الى التصريح بها، فيكون المعيب غير مقصود للمتبايعين لأنه مخالف للطبيعة الأولية في الخلقة؛ فكذلك الأمر في الأفعال الصادرة من العقلاء فإن الدواعي الحاصلة لهم الباعثة على العمل انما تدعوا الى الفرد الصحيح الذي يكون منشئا للآثار، لا الفاسد الذي لا يترتب عليه الأثر المرغوب فيه، فبذلك صار الأصل في الأفعال الصادرة من الفاعلين- مسلمين كانوا أو غير مسلمين- هو الصحة، والفساد انما ينشأ من أغراض غير طبيعية أو من خطأ الفاعل وغفلته الذي هو أيضا على خلاف الأصل والطبع. هذا غاية ما يمكن ان يقال في منشأ هذا الاعتبار العقلائي والأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ثمَّ الثاني.

وكيف كان- استقرار سيرة العقلاء على هذا الأصل مما لا يكاد ينكر، من غير فرق بين أرباب الديانات وغيرهم؛ ومن غير فرق بين كون الفاعل مسلما أو غيره، وجميع ما ورد في الشرع في هذا الباب في الموارد الخاصة كلها إمضاء لهذا البناء العقلائي لا تأسيس لأصل جديد.

الرابع- دليل العقل :

ودلالته عليه من وجهين:

الأول- انه لو لم يبن على الصحة في الأفعال الصادرة من الغير لاختل أمر المعاد، والمعاش جميعا وبطلان التالي واضح عقلا وشرعا، فلا يمكن الاقتداء بإمام إلا بعد العلم بصحة صلوته من حيث القراءة والطهارة وغيرهما، ولا الركون الى فعل النائب والأجير، ولا الاعتماد على الأفعال الواجبة كفاية الصادرة من الغير الا عند العلم بصحتها ولا يمكن الاعتماد على العقود والإيقاعات الصادرة من الغير مما يكون محلا لا بتلاء المكلف وكذا في تطهير الثياب وذبح الذبائح وغيرها مما لا تحصى وقد يخدش فيه من وجهين من ناحية الصغرى والكبرى:

اما الأول فلان اختلال النظام فيما إذا اقتصر على العمل بما تطمئن به النفس من أفعال الغير، وما يوجد فيه أمارات شرعية أخرى تدل على صحتها، من «اليد» و«السوق» وغيرهما مما قامت الأدلة على اعتبارها، لا يخلو عن اشكال، واما ما ذكره المحقق الآشتياني في بعض كلماته في المقام؛ من لزوم الاختلال في أمر المعاد لو لم يلزم في المعاش لاستلزامه عدم جواز الصلاة إلا خلف النبي ووصيه عليهم السلام فهو ممنوع لكفاية الاطمئنان الحاصل في كثير من الموارد لكثير من الناس كما لا يخفى.

واما الثاني فلعدم إثباته حجية هذا الأصل إلا في الجملة ولا يكفي في إثبات هذه الكلية؛ فإن اللازم الاقتصار على العمل بما يندفع منه محذور اختلال النظام واما غيره فلا هذا ولكن لا يخفى أن ملاحظة ما يلزم منه الاختلال وما لا يلزم منه ذلك والتفكيك بينهما أيضا قد يكون بنفسه حرجيا ومنشأ للاختلال، والإيكال على وجدان المكلفين في تشخيص مواردها قد يؤدى الى ذلك كما لا يخفى على الخبير.

وقد يستند في إثبات الكبرى تبعا لشيخنا الأعظم العلامة الأنصاري (قده) الى فحوى ما ورد في باب اليد في رواية «حفص بن غياث» من انه «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» بعد حكمه «عليه السّلام» بترتيب آثار الملكية على ما في اليد، فيدل على ان كل ما لولاه لزم الاختلال فهو حق.

ويمكن تأييده أيضا بما ورد في جواز شراء‌ الفراء من سوق المسلمين عند الشك في تذكيتها وعدم وجوب السؤال عنه معللا بقوله «عليه السّلام» ان الدين أوسع من ذلك وذم الخوارج الذين ضيقوا على أنفسهم «1» وغيره من أشباهه مما يدل على التوسعة في أمور الدين.

هذا ولكن الاستناد في إثبات الكبرى إلى الأدلة النقلية يخرجه عن الاستدلال العقلي مضافا الى ان إمكان منع الأولوية بعد ملاحظة إمكان الاعتماد إلى أمارات أخرى في كثير من موارد الشك في الصحة، ولكن الإنصاف ان الدليل مما يمكن الركون اليه ولا أقل من تأييد المدعى به مع قطع النظر عن كونه دليلا عقليا أو نقليا.

الثاني- «الاستقراء» فان الناقد البصير إذا أمعن النظر في الأحكام الواردة في الشرع، الثابتة عند أهله بإجماع أو غيره، يرى ان الشارع المقدس لا يخرج في حكمه عما يطابق هذا الأصل في موارده، بحيث يورثه الاطمئنان بثبوت هذه الكلية في الشرع فلا حظ ما ورد من الأحكام المختلفة في أبواب الطهارات والنجاسات مما يرتبط بفعل الغير وأبواب الذبائح والجلود، وأبواب الشهادات، والدعاوي والتنازع في صحة بعض العقود والإيقاعات وفسادها وغيرها تجده شاهد صدق على ما ذكرنا، وكلما كررت النظر زادك وضوحا وظهورا.

وأورد عليه المحقق النراقي (قده) في «عوائده» بأن هذا الاستقراء غير مفيد لأن تامة لم يتحقق وناقصه لو سلمنا كونه مفيدا فإنما يفيد لو لم يعارضه خلافه في موارد خاصة اخرى أزيد مما يوافقه.

ففي صحيحة الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال سئل عن رجل جمال استكرى منه إبل وبعث معه زيت إلى أرض فزعم ان بعض الزقاق انخرق فأهراق ما فيه فقال عليه السّلام: انه ان شاء أخذ الزيت وقال انه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة، وهذا صريح في عدم حمل قول الجمال على الصحة وموثقة عمار ابن موسى عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه سئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث فقال: ان كان مسلما ورعا مأمونا فلا بأس ان يشرب؛ الى غير ذلك مما ذكره.

وفيه ان التحقيق كما ذكرنا في محله حجية كل ما يورث الظن الاطمئناني‌ وسكون النفس، لبناء العقلاء عليها كافة في جل أمورهم (عدا موارد خاصة) والاستقراء الغالبي وان لم يوجب العلم، فلذا لا يعتمد عليه في الأمور التي تحتاج إلى أدلة قاطعة؛ الا انه كاف في إثبات الأحكام الفرعية إذا انضم إليه قرائن أخر وحصل منه الاطمئنان.

واما ما ذكره من المعارضات فهي اما واردة في مورد «أقوال الغير» لا أفعاله، كالحديث الأول، أو في موارد الاتهام كالحديث الثاني فتأمل.

هذا تمام الكلام فيما أردنا ذكره من أدلة هذه القاعدة، وتحصل من جميعها ان هذه القاعدة من القواعد التي استقرت عليها سيرة أهل الشرع بل العقلاء جميعا وان العمدة في إثباتها هو ذلك وان كان غيرها من الأدلة أيضا لا يخلو عن تأييد لها أو دلالة عليها.

المقام الثاني تنبيهات أصالة الصحة :

الأول- هل المراد من «الصحة» هي الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟

فيه خلاف مشهور، وقد يعبر عن الصحة الواقعية بالصحة عند «الحامل» نظرا الى ان الصحيح الواقعي في نظره هو ما بنى على صحته اجتهاد أو تقليدا؛ فلا فرق بين هذين التعبيرين فيما يراد في المقام.

وعلى كل حال المحكى عن المشهور هو البناء على الصحة الواقعية، ويحكى عن «صاحب المدارك (قده) الأول، ولكن قد عرفت عند حكاية الإجماع على الحجية ان هذه القاعدة بكليتها غير معنونة في كلمات المشهور فإسناد القول الثاني إليهم هنا لعله لظهور كلماتهم فيه في مقامات خاصة، كفروع التنازع في أبواب المعاملات حيث أطلقوا القول بتقديم قول مدعى الصحة ولم يقيدوه بكونه عالما بالصحة والفساد الواقعيين، كي يكون الحمل على الصحة عند الفاعل مساوقا للحمل على الصحة الواقعية، ولو كان مرادهم من الصحة عند الفاعل لم يكن هناك بد من التقييد به ومن البعيد جدا ان يفرق بين الأبواب المختلفة فيحمل على الصحة الواقعية في مقام والصحة الفاعلية في مقام آخر، فإسناد هذا القول الى المشهور بهذا الاعتبار قريب.

و تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كان معتقد الفاعل مخالفا لمعتقد الحامل كما إذا كان البائع ممن يرى جواز العقد بالفارسية أو بغير صيغة الماضي أو جواز تقديم القبول على الإيجاب أو غير ذلك؛ على خلاف ما يعتقده الحامل.

فاذا شك في صحة بيعه وفساده‌ لم يفده حمل فعل البائع على الصحة على القول الأول، ويفيده على الثاني، فإذن تنحصر فائدة هذه القاعدة على القول الأول بالموارد التي تطابق الصحة عند الفاعل الصحة عند الحامل، واما في غيرها فإنما تفيد بالنسبة إلى الآثار التي يكون موضوعها الصحة الفاعلية كالايتمام على قول .

ثمَّ اعلم ان المدرك الوحيد في هذه المسألة هو ملاحظة الدليل الذي استندنا إليه في إثبات أصل القاعدة؛ وحيث ان عمدتها- كما عرفت- هي السيرة المستمرة بين العقلاء من جميع الأمم وفي جميع الأعصار على اختلافهم في المذاهب والآراء فالحق هو الحمل على الصحة الواقعية لأنه لم يعهد منهم ان يتساءلوا بينهم من معتقد الفاعلين في المسائل المختلفة عند حمل أفعالهم على الصحة، ويزيدك وضوحا ملاحظة حال المسلمين في الأعصار المختلفة مع تشعبهم في المذهب واختلافهم في المسائل الفرعية فلم يعهد منهم السؤال عن معتقد الفاعل إذا كان وكيلا في البيع وغيره أو وصيا عن ميت أو وليا على صغير أو غير ذلك، بل تحمل أفعالهم على الصحيح عند الشك من غير فحص عن حال فاعلها.

و لعل قائلا يقول: ان منشأ هذه السيرة كما ذكرت أحد أمور ثلثة: أما الغلبة؛ أو اقتضاء طبيعة العمل، أو التعبد العقلائي دفعا للحرج وحفظا لنظام المجتمع ولا شك ان شيئا منها لا يقتضي أزيد من الصحة الفاعلية ضرورة أن الدواعي الباعثة على العمل انما تدعو الى الصحيح في نظر الفاعل وبحسب معتقده، والغلبة انما تكون في موافقة عمله لما هو الصحيح عنده، والحرج والاختلال يندفعان بالحمل على الصحة الفاعلية، لتطابق الصحة عند الفاعل والحامل في كثير من الموارد وكفى بها في دفع محذور الحرج والاختلال.

وفيه- انه انما ذكرنا هذه الأمور بعنوان الحكمة والداعي لبناء العقلاء على هذا الأصل، لا العلة التي يدور الحكم مدارها وقد عرفت ان ما نشاهده من سيرتهم هذه لا تنحصر بالموارد التي تطابق الصحة الفاعلية والصحة عند الحامل بل تعمها وغيرها.

و قد عرفت ان استمرار سيرة المسلمين على هذه القاعدة المتخذة من سيرة العقلاء يؤكد‌ هذا المعنى، لأنها جرت على ترتيب آثار الصحة الواقعية على العقود والإيقاعات الصادرة عن الغير وعباداتهم النيابية وأداء الواجبات الكفائية وغيرها من غير تحقيق وتفحص عن حال فاعليها ومعتقدهم، مع ما يرى من الاختلاف الشديد بينهم في أحكام العبادات والمعاملات، لا سيما مع ملاحظة ان هذه القاعدة تعم المخالفين أيضا وتدل على حمل أفعالهم على الصحة وترتيب آثارها عليها فيما لا يشترط فيه الولاية، ومخالفتهم لنا في كثير من الفروع الفقهية واضح لكل احد، ولم يعهد السؤال عن مذهب الفاعل أو الفحص عنه بطريق آخر.

نعم هاهنا صورتان قابلتان للبحث:

الاولى- ما إذا علم تفصيلا اعتقاد الفاعل ومخالفته لمعتقد الحامل بالكلية بحيث لم يجمعهما جامع؛ كما إذا اعتقد الفاعل وجوب الجهر بالبسملة في الصلوات الإخفائية حينما يعتقد الحامل حرمته. فان حمل فعله على الصحة هنا- من باب احتمال مصادفته للواقع ولو سهوا منه- مشكل جدا، لعدم جريان شي‌ء من الأدلة السابقة فيه. وان هو الا الحمل على الفساد بالنظر الى معتقد فاعله.

الثانية- ما إذا علم جهل الفاعل بالحكم أو الموضوع أو كليهما علما تفصيليا كمن لا يعلم ترتيب اجزاء الوضوء أو الصلاة أو غيرهما ويأتي بها من غير علم بأحكامها ولكن يحتمل مطابقتها للواقع أحيانا من باب الصدفة والاتفاق، والحمل على الصحة الواقعية هنا أيضا مشكل؛ وان كان أخف اشكالا من الصورة الاولى؛ ولذا اختار «المحقق الأصفهاني» قدس سره في تعليقاته على الكفاية الحمل عليها في هذه الصورة وادعى قيام السيرة عليها خصوصا بعد ملاحظة جهل غالب العوام بالأحكام.

وفيه - انه لم يثبت استقرار السيرة في الموارد التي يعلم فيها علما تفصيليا بجهل فاعلها في خصوص مسائل معينة، نعم لا يبعد جريانها في موارد يعلم إجمالا بجهلهم ببعض المسائل أو بكثير منها، لان غالب العوام- لا سيما أهل البوادي ومن ضاهاهم- من هذا القبيل، مع انه لا إشكال في حمل أفعالهم على الصحة الواقعية وترتيب آثارها عليها.

ويمكن استظهار المقصود- اعنى لزوم الحمل على الصحة الواقعية لا الصحة بنظر الفاعل- من غير واحد من الروايات الواردة في موارد خاصة: مثل ما رواه الشيخ «رضوان اللّه عليه» في التهذيب والفقيه بإسناده عن إسماعيل بن عيسى قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال: «إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه» «2» بناء على شموله لصورة العلم بكون معتقد الفاعل جواز الصلاة فيما دبغ من الجلود وان كانت غير مذكى لاشتهار فتاوى أبي حنيفة في العراق في ذاك العصر ومفروض سؤال الراوي أيضا هو الشراء من المخالفين، فالعمل بهذه الامارة- اعنى الصلاة فيها- ليس الا من جهة حمل أفعال المسلمين على الصحة الواقعية فبالصلاة فيها يستكشف كونها مذكى لاعتبار التذكية في لباس المصلى واقعا.

اللهم الا ان يقال ان الرواية غير معمول بها لكفاية الأخذ من سوق المسلمين ومن يد المسلم من غير اعتبار الصلاة فيها، فيحمل هذا الحكم على الاستحباب وضرب من الاحتياط ولكن يمكن القول بكفاية الحكم المذكور في إثبات المدعى وان كان حكما استحبابيا فتأمل.

نعم يظهر من بعض الروايات خلاف ذلك وان الحمل على الصحة انما يجوز فيما يوافق معتقد الفاعل لمعتقد الحامل كالروايات الكثيرة الواردة في باب «تحريم العصير إذا أخذ مطبوخا ممن يستحله» مثل ما رواه الكليني «رضوان اللّه عليه» بإسناده عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يهدى اليه البختج من غير أصحابنا؟ فقال: «ان كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه وان كان ممن لا يستحل فاشربه» ومثله غيره.

فان حمل فعل المسلم على الصحيح الواقعي يقتضي الحكم بالحلية هنا وليس هذه الصورة من الصورتين اللتين اخترنا استثنائهما من هذه القاعدة لوجود الجامع بين العقيدتين لاستحلال الفريقين المطبوخ على الثلث.

ويمكن الجواب عنه بان المورد من موارد التهمة وسيأتي الإشكال في جريان‌ القاعدة فيها، وذلك لان مستحل المسكر لا داعي له الى طبخ العصير على الثلث غالبا فيسقط القاعدة في مورده، فيكون المرجع فيه هو الاستصحاب ولا شك في انه يقتضي الحرمة.

التنبيه الثاني في وجوب إحراز صورة العمل :

يعتبر في جريان هذه القاعدة إحراز صورة العمل، وهو القدر المشترك بين صحيحه وفاسده؛ بحيث يصدق عليه عنوان ذاك العمل بالمعنى الأعم من الصحيح والفاسد؛ فإذا رأينا رجلا يأتي بحركات نشك في صدق عنوان الصلاة عليها ولو فاسدا، كما إذا انحنى ولا ندري أنه انحناء ركوع أو انحناء لأخذ شي‌ء من الأرض، لم يكن هناك مورد للحمل على الصحة كما هو ظاهر ومجرد كون الاتى بها قاصدا العنوان الصلاة غير كاف في هذا المعنى ما لم يحرز صورة العمل خارجا؛ لوضوح عدم كفاية مجرد القصد في صدق عنوان على عمل خارجي حتى يؤتى بصورته الخاصة.

نعم إذا كانت صورة خاصة مشتركة بين عملين فالمميز هناك هو القصد، فهذا الشرط غير ما سيأتي الإشارة إليه إنشاء اللّه عن قريب من اشتراط إحراز كون الفاعل بصدد العنوان الذي يراد حمل فعله على الصحيح منه.

وعلى كل حال اعتبار هذا الشرط في جريان أصالة الصحة في جميع مواردها أمر ظاهر لا سترة عليه؛ وكأن ما ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد من:

«عدم جريان أصالة الصحة في العقود الا بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود العقد واما قبله فلا وجود له» أيضا ناظر الى هذا المعنى ولذا مثل له في بعض كلماته بما إذا اختلفا في كون المعقود عليه حرا أو عبدا أو اختلف الضامن والمضمون له فقال الضامن: ضمنت وانا صبي؛ وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت بالغ وكذا ما يحكى عن «العلامة» قدس سره من الإشكال في جريانها في هذا الفرض، فان الظاهر ان منشأ استشكالهما في جريان قاعدة الصحة هنا هو ما ذكرنا من عدم إحراز عنوان العمل في هذه الأمثلة.

وعلى اى حال فان كان مراد المحقق الثاني قدس سره من‌ استكمال الأركان ما ذكر،- كما يظهر من أمثلته- فهو مما لا ينبغي الريب فيه؛ وان كان مراده امرا ورائه فهو قابل للتأمل والبحث، ولا نظن أحدا يخالف ما ذكرنا عند العمل بقاعدة الصحة، وهل ترى أحدا يحكم بالصحة فيما يشك في صدق عنوان البيع أو النكاح ولو فاسدا على الفعل الخارجي؟ وهل تظن أحدا فيما إذا رأى أحدا ينحني لا يدرى أهو انحناء ركوع أو انحناء لأخذ شي‌ء من الأرض يحكم بحمل فعله على الركوع الصحيح؟

فكلما يكون الشك فيه مساوقا للشك في صدق عنوان العمل وصورته لا يكون مجرى للقاعدة، فإذا شك في مالية العوضين رأسا لم يصدق هناك عنوان البيع، لان البيع انما يصدق في محل قابل له ولو إجمالا؛ فإذا شك في ان المبيع حر أو عبد أو انه خمر أو مائع آخر مباح، بناء على ان الشارع تصرف في موضوع الخمر وأسقطها عن المالية رأسا، لم يصدق هناك عنوان البيع، وان هو إلا كبيع الماء على الشاطئ وأشباهه؛ مما لا مالية له بنظر العرف والعقلاء فإنهم لا يرون بيعها إلا سفها وهذلا، لا بيعا حقيقيا (و لو بيعا فاسدا) وكذلك إذا شك في بلوغ الضامن مثلا؛ بناء على سقوط ذمة غير البالغ وعدم الاعتبار بعهدته وكونه في الشرع كمن لا اعتبار بذمته وعهدته عند العقلاء كغير المميزين والمجانين؛ فإنه لا يصدق هناك عنوان الضمان ولو فاسدا.

وبعض هذه الأمثلة وان كان قابلا للنقض والإبرام الا انه لا إشكال في الكلية المذكورة وهو ان ما لا يصدق عليه عنوان العمل- ولو بالمعنى الأعم- خارج عن مسألة أصالة الصحة.

ومن المعلوم ان انهدام الأركان أو الشك فيها يساوق الشك في تحقق العنوان غالبا أو دائما بل لعل المراد من الركن هنا هو ما يلزم من عدمه انتفاء العنوان فتأمل؛ فإذن يكون قول المحقق الثاني ومن وافقه من لزوم إحراز أركان العقد في إجراء أصالة الصحة فيه قويا.

ثمَّ انه لا يختص هذا البحث بباب البيع بل هو عام لجميع موارد جريان أصالة الصحة لاتحاد الدليل ولأنا لا نجد اى مخصص له بباب دون باب للزوم إحراز عنوان العمل المشترك بين الصحيح والفاسد في الحكم عليه بالصحة عند الشك بمقتضى هذه‌ القاعدة، ففي باب الوضوء إذا رأينا رجلا من بعيد يغسل يديه ولا ندري ان غسله غسل وضوء أو غيره فهل ترى أحدا يقول بحمل فعله على الوضوء الصحيح ؟

ولكن العجب من «المحقق النائيني» قدس سره حيث خص البحث هنا بباب العقود، بل لعل ظاهر بعض كلمات شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري (قده) أيضا ذلك، وقد عرفت مغزى البحث وما يؤول إليه كما عرفت انه لا وجه لتخصيصه بباب دون باب ثمَّ اعلم ان في المسألة أقوالا أخر عدى ما ذكرنا وذكره المحقق الثاني :

أحدها- ما اختاره العلامة الأنصاري (قده) من لزوم إحراز جميع ما يعتبر إحرازه في صدق عنوان العقد الصحيح عرفا واختصاص القاعدة بما إذا شك فيما عداها من الشرائط الشرعية، نظرا إلى انه ما لم يحرز العنوان الصحيح العرفي لا يكون هناك مجال لإجراء القاعدة.

وفيه: ما عرفت من كفاية إحراز القدر المشترك بين الصحيح والفاسد لأن هذه القاعدة لا تختص بالمتشرعين، بل أهل العرف إذا حصل لهم الشك في صحة الأعمال الصادرة من غيرهم من العقود وغيرها يعتمدون على هذه القاعدة ويحكمون بصحتها ولا يتوقفون عن ذلك إذا أحرزوا صورة العمل، وان الفاعل كان من قصده إيجاد العمل الصحيح خارجا، ولو كان مجرى القاعدة خصوص موارد الشك في الشرائط الشرعية لم يبق لها مجال عند أهل العرف والعقلاء فيما بأيديهم من الاحكام.

ثانيها- ما ذهب اليه المحقق النحرير «العلامة الأصفهاني» (قدس سره): من كفاية إحراز مجرد الإنشاء في العقود، وانه أحرز مجرد إنشاء البيع أو النكاح أو غيرهما ثمَّ شك فيما يعتبر فيها من الشرائط عند العقلاء أو عند الشرع يحكم بصحتها حتى انه (قده) لم يعتبر إحراز كون الإنشاء بقصد الجد، بل اكتفى بكون المنشئ في مقام الجد وان لم يعلم قصده لذلك جدا؛ كل ذلك لعموم الأدلة التي عمدتها السيرة العقلائية وفيه: انه ان كان مراده (قده) من الإنشاء هو ما يصدق عليه عنوان المعاملة المشترك بين صحيحها وفاسدها، فلا ينبغي الشك في عدم كفاية مجرد الإنشاء في إحراز عنوانها؛ بل يعتبر فيه مضافا إليه، سائر أركانها من صلاحية العوضين والمتعاقدين ولو‌ إجمالا فلا وجه للاقتصار على الإنشاء فقط، وان كان مراده كفاية مجرد الإنشاء ولو لم يصدق عليه عنوان المعاملة فقد عرفت في بيان المختار انه بمعزل عن الحق.

ثالثها- ما اختاره المحقق النائيني قدس سره، وهو من أغرب الأقوال في المسألة، وحاصلة لزوم إحراز جميع شرائط العوضين والمتعاقدين واختصاص القاعدة بموارد الشك في شرائط العقد فقط؛ ودليله على هذا التبعيض ان العمدة في إثبات هذه القاعدة هنا هو الإجماع ومعقده هو «الشك في صحة العقد» وظاهر هذا العنوان خصوص الشرائط المعتبرة في العقد نفسه دون غيره مما يعتبر في صحته من صفات المتعاقدين والعوضين.

وفيه أولا- ما قد عرفت آنفا من ان حمل العقد الصادر من الغير على الصحة جزئي من جزئيات مسألة حمل فعل الغير على الصحة مطلقا؛ وانه لم يقم دليل خاص عليه في أبواب المعاملات، وقد عرفت أيضا ان دعوى الإجماع القولي في أصل المسألة مشكلة فضلا عن حصر الدليل فيه فتدبر.

ثمَّ ان لازم ما افاده وجوب التماس دليل آخر لحمل فعل الغير على الصحة في أبواب العبادات وشبهها فيكون هناك قاعدتان مستقلتان إحداهما في أبواب المعاملات والأخرى في غيرها، وربما يلوح من بعض كلماته قدس سره في المقام التزامه بهذا اللازم، وهو عجيب، حيث انه لا شك في أنها قاعدة واحدة مستندة الى دليل أو أدلة معلومة جارية في جميع أبواب الفقه من غير فرق بين أبواب العقود وغيرها؛ ولم أقف على احتمال التفكيك بينهما في كلام غيره ثانيا- سلمنا انحصار مورد القاعدة ومعقد الإجماع في أبواب المعاملات بالشك في «صحة العقد» ولكن الإنصاف ان المراد من صحة العقد- بظاهرها- هو صحته بمعنى ترتيب جميع آثاره الشرعية عليه من النقل والانتقال وغيرهما لا صحة العقد الإنشائي فقط؛ ومن الواضح ان صحة العقد بهذا المعنى تتوقف على ضم سائر الشرائط المعتبرة في العوضين والمتعاقدين إلى شرائط الإنشاء ولا يكفى فيها مجرد إحراز شرائط الصيغة فإذن لا يبقى مجال لهذا التفصيل.

ثالثها- انه لا يظن بأحد الالتزام بهذا التفصيل عملا في الفقه في مختلف‌ أبواب المعاملات؛ حتى انه نفسه لا يمكنه الجري على وفق ما افاده عند العمل، فان لازمه حصر مورد القاعدة بموارد الشك في صحة الإنشاء من ناحية الماضوية والصراحة، والتنجيز وأمثالها؛ بناء على اعتبار هذه الأمور فيها، واما إذا شك في معلومية العوضين أو زيادة أحد العوضين على الأخر وعدمها مع كونهما جنسا واحدا وما أشبه ذلك فلا يمكن التمسك بها لإثبات صحة المعاملة المشكوكة من ناحيتها وهو كما ترى.

وما قد يلوح من بعض كلماته في المقام من: «ان اعتبار معلومية العوضين أو عدم كون أحدهما زائدا على الأخر انما هو مأخوذ في صحة العقد» لم نتحقق معناه؛ فإنه ان أراد اعتبارها في صحة العقد بمعنى إنشاء الصيغة فهو كما ترى، وان أراد اعتبارها في العقد المسببي وما يترتب عليه النقل والانتقال، فجميع الشرائط كذلك ولا يرى بينها من تفاوت.

ولا بأس بالإشارة الى بعض الموارد التي صرحوا بجريان قاعدة الصحة فيها مع كون الشك فيها من ناحية شرائط المتعاقدين أو العوضين وهو ما ذكروه في رواية «ابن أشيم» المشهورة الواردة في العبد المأذون الذي دفع اليه مال ليشتري به نسمة ويعتقها ويحج عن أبيه، فاشترى أباه وأعتقه؛ ثمَّ تنازع مولى المأذون ومولى الأب وورثة الدافع وادعى كل منهم انه اشتراه بماله، فقال أبو جعفر عليه السّلام : «يرد المملوك رقا لمولاه واى الفريقين أقاموا البينة بعد ذلك على انه اشتراه بماله كان رقا له».

حيث استشكلوا على ظاهر الحديث بمخالفته للقواعد حيث ان الحكم بفساد العقد المذكور ومطالبة البينة من مدعى الصحة مخالف للقاعدة لأن مدعى الصحة تكفيه أصالة الصحة مع يمينه.

ومن الواضح ان منشأ الشك هنا ليس من ناحية صحة الإنشاء وشرائطه بل من ناحية العوضين وان العبد المأذون اشترى أباه بمال مولى الأب حتى يكون البيع باطلا أو بمال مولاه أو ورثة الدافع حتى يكون صحيحا.

التنبيه الثالث في ان الصحة المستفادة منها في كل مورد بحسبه :

لا إشكال في انه لا تثبت بهذه القاعدة إلا الآثار المترتبة على صحة موردها ومجراها ومن المعلوم ان صحة كل شي‌ء بحسبه؛ فان كان موردها عبادة أو عقدا بجميع اجزائه وشرائطه فصحته صحة فعلية ويترتب عليه ما يترقب منه من الاثار فعلا.

واما إذا كان موردها جزاء من اجزائهما فصحته صحة تأهلية بمعنى قابلية ذاك الجزء لانضمام سائر الاجزاء أو الشرائط اليه وصيرورتها عبادة أو معاملة تامة، وتترتب عليها آثار تلك العبادة أو المعاملة إذا لحقه سائر اجزائها وشرائطها.

وهذا المعنى مما لا ينبغي التأمل فيه ، الا ان الكلام في بعض ما فرعوا عليه. فقد فرع عليه شيخنا الأعظم قدس سره الشريف فروعا:

منها- إذا شك في لحوق الإجازة لبيع الفضولي فأصالة الصحة في البيع الصادر منه لا تثبت لحوق اجازة المالك به، لان صحته صحة تأهلية لا تدل على أزيد من صحة الإنشاء الصادر من الفضولي واشتماله على شرائط الصحة ومنها ما إذا شك في تحقق القبض في الصرف والسلم، فان جريان أصالة الصحة في العقد لا يدل على تحقق القبض.

ومنها ما لو ادعى بائع الوقف وجود المسوغ له في بيعه فإن أصالة الصحة لا تثبت وجوده لا سيما مع بناء بيع الوقف على الفساد.

ومنها ما لو ادعى الراهن اذن المرتهن في بيع العين المرهونة فإن أصالة صحة البيع لا تثبت اذنه «هذا ملخص ما أفاده».

أقول- قد عرفت من التنبيه السابق ان القاعدة الكلية في مجرى هذه القاعدة أنه مهما حصلت أركان العمل، بأقل ما يصدق عليه عنوانه الأعم من الصحيح والفاسد؛ جرت فيه أصالة الصحة عند الشك فيما زاد عليها، مما يعتبر في صحته؛ وأنت بعد الإحاطة بهذا تعرف حال هذه الفروع: فان من المعلوم ان مجرد الإيجاب والقبول لا يجدي في تحقق عنوان البيع أو النكاح أو غير هما ما لم ينضم إليه قابلية محله، وغيره مما به قوامه وعليه أساسه، فلا يكفي إحراز مجرد الإنشاء في إجراء القاعدة في البيع والنكاح‌ وشبههما، لا لأن صحة كل شي‌ء بحسبه، بل لان عنوان البيع وأشباهه لا يصدق بمجرد نفس الإنشاء كما لا يخفى.

ومن هنا يعلم حال البيع الصادر من الفضولي فإنه بدون اجازة المالك ليس بيعا حقيقيا ولا يصدق عليه عنوانه (ولو بمعناه الأعم) ضرورة عدم أهلية الفضولي للعقد على مال غيره بل هو أشبه شي‌ء بكتابة السند وتنظيمه للتوقيع عليه ممن بيده امره، فليس موقف الفضولي موقف البائع حقيقة ولا يصدق على إنشائه عنوان البيع نعم إذا تحقق إيجاب البيع وقبوله في محل قابل له ولو في الجملة، ثمَّ شك في حصول بعض ما يتوقف صحته عليه من الشرائط، كالقبض في الصرف والسلم فلا ينبغي الإشكال في جواز الاعتماد على هذا الأصل لإثباتها.

فهل نجد من أنفسنا إلزاما على البحث والفحص عن حال بيع صرف أو سلم صدر من وكيلنا وانه هل اقبض المثمن أو قبض الثمن في مجلسه أم لا؟ فما افاده قدس سره من عدم جواز الركون الى هذا الأصل لإثبات صحة البيع وحصول النقل والانتقال، عند الشك في تحقق القبض في الصرف والسلم بمعزل عن الحق وليت شعري ما الفرق بين هذا الشرط وغيره من الشروط المقارنة المعتبرة في العقود؟.

نعم إذا علمنا من الخارج ان المتبايعين أوقعا العقد مترددين في القبض والإقباض ثمَّ شككنا في انه بدا لهما فيهما فالأمر كما ذكره (قده) اما إذا أحرزنا انهما أوقعاه قاصدين للنقل والانتقال؛ عازمين على القبض والإقباض ثمَّ شككنا في لحوقه فلا إشكال في جريان قاعدة الصحة فيه وبالجملة لا نجد اى فرق بين الشروط المقارنة للعقد والمتاخرة عنه بعد إحراز عنوانه خارجا فلا وجه للفرق بينهما أصلا.

واما مسألة الشك في مسوغات بيع الوقف فالظاهر انه لا ينبغي الإشكال فيها أيضا من الجهة المبحوث عنها لما عرفت في سابقة بل الظاهر انه ليس من فروع هذا البحث فان وجود المسوغات من الشرائط المقارنة المعتبرة في صحة العقد حين صدوره كالمالية والملكية وأشباههما، ولو قلنا بأن أركان البيع غير حاصلة مع الشك في وجود المسوغ سقطت أصالة الصحة فيه من هذه الجهة لا لأن الصحة المستفادة منها صحة تأهلية كما هو محل‌ البحث نعم هنا اشكال آخر أشار إليه شيخنا الأعظم في ضمن كلامه في المقام وهو ان طبع هذه المعاملة وبنائها على الفساد وسيأتي الإشكال في جريان أصالة الصحة في أمثال هذه المسألة.

وقد ظهر مما ذكرنا حال الفرع الأخير وهو ما إذا شك في اجازة المرتهن في بيع العين المرهونة؛ والأقوى فيه أيضا جريان أصالة الصحة لصدق عنوان البيع معه ، وعدم وجود اى فرق بين هذا الشرط وسائر شروطه، اللهم الا ان يقال ان بيع العين المرهونة أيضا مبنى على الفساد كبيع العين الموقوفة وسيأتي الإشكال في أمثاله.

التنبيه الرابع في لزوم إحراز كون الفاعل بصدد الفعل الذي يراد ترتيب آثاره :

يعتبر في إجراء هذه القاعدة إحراز عنوان الفعل وكون الفاعل بصدده إذا كان مما يصلح لانطباق عناوين مختلفة عليه ولا يمتاز بعضها من بعض الا بقصد فاعله، فغسل الثوب تارة يكون بعنوان التطهير الشرعي، واخرى بعنوان ازالة قذارته العرفية ففي الأول يراعى إطلاق الماء وطهارته شرعا دون الثاني، وكذاك حال قراءة الحمد بعنوان جزئيته للصلاة وقرائته بعنوان قراءة القرآن، ولا شك في ان الحمل على الصحة من ناحية عنوان خاص يحتاج إلى إحراز كون الفاعل بصدده.

والأصل في ذلك ما مر مرارا من لزوم صدق العنوان الأعم من الصحيح والفاسد في إجراء هذه القاعدة، فإذا كان العنوان من العناوين القصدية لا يكاد يصدق إلا إذا كان فاعله قاصدا له.

ولكن هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو ان القوم قد افرطوا في باب العناوين القصدية وقد حققنا في محله ان «القصد» في كثير من هذه الموارد التي يسمونها عناوين قصدية لا اثر لا إلا في كون الفعل بعنوانه الخاص «اختياريا» مستندا الى فاعله لا في تحقق عنوان الفعل خارجا الا ترى ان عنوان التوهين- وهو من أظهر العناوين القصدية عندهم- كثيرا ما لا يتوقف وجوده خارجا على قصد فاعله كمن أقدم على تلويث بيت اللّه والكتب المقدسة- العياذ باللّه- بأعين الناس ومرآهم وكان ذلك من غفلة أو نسيان‌ حيث انه لا يشك أهل العرف في ان عمله هذا يوجب وهنا لهذه المقدسات في أنظار الناس، فيستنكرونها ويسرعون الى تطهيرها وازالة النجاسة عنها، وان كان فاعلها عندهم معذورا غير مستحق للمؤاخذة واللوم من جهة غفلته ونسيانه إذا لم يكن مقصرا في مقدماته نعم لو كان العمل مشتركا بين عنوانين ولم يكن هناك ما يمتاز به خارجا من جهة من الجهات (لو وجد اعمال كذلك) ففي مثله يمكن القول بتوقف صدق احد العنوانين عليه على قصده.

وبناء على هذا المبنى يكون الدليل على اعتبار إحراز قصد الفاعل لهذه العناوين عدم جريان القاعدة في غير الأفعال الاختيارية لعدم بناء العقلاء عليه كما هو واضح وقد عرفت ان الفعل في هذه الموارد لا يكون اختياريا الا بقصد عنوانه.

نعم لا يبعد ان يقال بأنه لا يجب إحرازه بطرق علمية بل يكفى الظن الحاصل من ظاهر الحال بان يكون ظاهر حال الفاعل انه بصدد العنوان الفلاني، فإن هذا الظن مما استقر بناء العقلاء على العمل به في مورد الصفات الباطنية، كالقصد والعلم والعدالة مما لا طريق إليها غالبا الا ظواهر الحالات ويستندون إليها في كثير من احتجاجاتهم كما لا يخفى على من سبر أحوالهم، نعم في غير هذه المقامات من الصفات الظاهرة التي يمكن إثباتها بطرق علمية غالبا لا اعتبار به عندهم.

بل هذا الظهور معتبر عندهم وان لم يكن هناك شك في صحة العمل على فرض قصده فحجية ظهور حال الفاعل في هذه المقامات أجنبية عن قاعدة الصحة وان كان يظهر بعض ثمراتها في إجراء القاعدة كما عرفت ومن هنا يظهر وجه النظر في بعض ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام بما لا نطيل الكلام بذكره فراجعه وتأمل.

وانما عقدنا تنبيها خاصا لهذا البحث مع ان شيخنا العلامة الأنصاري وغيره من المحققين أدرجوه في التنبيه الآتي، لما فيه من الاثار الخاصة التي تظهر في إجراء القاعدة في مقامات مختلفة.

التنبيه الخامس قد عرفت ان الصحة التي يحمل عليها فعل الغير هي الصحة عند الحامل :

وبعبارة أخرى الصحة الواقعية لا الصحة الفاعلية فيرتب عليه جميع ما يترتب على الفعل الصحيح الواقعي من آثاره من غير فرق بين تلك الاثار الا انه قد يظهر من بعض كلماتهم في بعض المقامات التفكيك بينها أحيانا، مثل ما نسب الى المشهور من عدم جواز الاكتفاء بعمل النائب عند الشك الا ان يكون عدلا وان كان مستحقا للأجرة؛ ومثل ما حكاه شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري قدس سره عن بعض من اشترط العدالة فيمن يوضؤ العاجز عن الوضوء، وارتضاه المحقق الهمداني قده في بعض تعليقاته على الفرائد.

أقول- اما ذهاب المشهور الى اعتبار العدالة في النائب فمحل تأمل واشكال قال في «المدارك» في بحث النيابة من كتاب «الحج» ما لفظه: «و لم يذكر المصنف من الشرائط عدالة الأجير وقد اعتبرها المتأخرون في الحج الواجب لا لأن عبادة الفاسق تقع فاسدة بل لأن الإتيان بالحج الصحيح انما يعلم بخبره والفاسق لا يقبل اخباره بذلك». ويظهر منه ان الشهرة لو ثبتت فإنما هي حادثة بين المتأخرين؛ هذا مضافا الى إمكان حمل كلام من اعتبر العدالة على خصوص صورة الشك في أصل تحقق العمل لا في صحته مع العلم بصدوره.

وعلى اى حال فقد استوجه الشيخ (قده) ما نسب الى المشهور من عدم جريان أصالة الصحة في عمل النائب ووجهه بما حاصله: ان لفعل النائب عنوانين: أحدهما: من حيث انه فعل من أفعاله وبه يستحق الأجرة ويترتب عليه غيره من آثاره ثانيهما: من حيث انه عمل تسبيبي للمنوب عنه، حيث ان المنوب عنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب وكأن فعل النائب صادر عنه وقائم به؛ ومن هذه الجهة الفعل فعل المنوب عنه، وأصالة الصحة في فعل النائب انما تنفع في ترتيب آثاره عليه من الجهة الأولى دون الثانية، ففي موارد الشك لا محيص عن التفكيك بين العنوانين وترتيب خصوص آثاره التي تترتب عليه بعنوان انه فعل‌ النائب، لا ما يترتب عليه بعنوان انه فعل المنوب عنه؛ فمن هنا يحكم باستحقاقه الأجرة ولا يحكم ببراءة ذمة المنوب عنه. (انتهى محصل كلامه).

واعترض عليه جمع ممن تأخر عنه، قائلين بشمول القاعدة لباب النيابة، وجواز الحكم ببراءة ذمة المنوب عنه وعدم لزوم الاستنابة عنه ثانيا، وذكروا في دفع استدلاله (قده) مقالات شتى تعلم من مراجعة كتبهم. ولكن الذي ظهر لي ان عمدة الإشكال في كلامه «قدس سره» انما نشأ من حسبانه فعل النائب فعلا تسبيبيا للمنوب عنه، مع انه لا ينبغي الريب في عدم جواز إسناده اليه الا مجازا، لان المفروض ان النائب فاعل مختار مستقل في فعله وان كان المنوب عنه محركا وداعيا له الى العمل؛ ولا شك ان الفعل في هذه المقامات يستند الى المباشر، فالفعل فعل النائب لا غير، ولا فرق في ذلك بين القول بأن حقيقة النيابة عبارة عن تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه، والقول بان حقيقتها هي قصد تفريغ ذمة الغير بعمله وانه لا يعقل تنزيل نفسه منزلته أو تنزيل فعله منزلة فعله. فان الفعل حقيقة فعله وصادر عنه باختياره وارادته وان كان فائدته لغيره.

نعم قد يسند الفعل الى السبب وذلك فيما إذا كان أقوى من المباشر وكان المباشر مقهورا على العمل غير مستقل في إرادته، لا في مثل المقام المفروض استقلاله فيه. فإذا جرت أصالة الصحة في حق النائب والأجير يحكم بصحة فعلهما وتترتب عليه جميع ما للعمل الصحيح من الاثار، فان كان عمله صلاة فهي صلاة صحيحة بحكم هذه القاعدة ويترتب عليها جميع ما للصلاة الصحيحة الصادرة منهما بهذا العنوان من الأثر، ومنها براءة ذمة المنوب عنه وعدم لزوم الاستنابة عنه ثانيا.

ثمَّ ان المحقق النائيني «قده» أورد في بعض كلماته في المقام على مقالة الشيخ «قده» إيرادا حاصله ان التفكيك المذكور في كلام الشيخ بين استحقاق الأجرة وبين براءة ذمة المنوب عنه من غرائب الكلام، إذ مع إحراز قصد النيابة يحكم بمقتضى قاعدة الصحة بصحة الفعل النيابي ويترتب عليه استحقاق الأجرة وبراءة ذمة المنوب عنه؛ ومع عدم إحرازه لا يحكم بشي‌ء منهما، فان ما يترتب عليه استحقاق الأجرة ليس الا صدور الفعل الصحيح من النائب، وهو بعينه موضوع للأثر الأخر وهو فراغ‌ ذمة المنوب عنه. فكيف يمكن التفكيك بينهما (انتهى) ولكن يمكن ان يوجه هذا التفكيك بأن الملازمة بين هذين الأثرين وان كانت ثابتة بحسب الحكم الواقعي؛ كما ان قاعدة الصحة لو كانت جارية اثبتتهما، الا انه بعد المنع من جريانها لبعض ما ذكر يمكن القول باستحقاق الأجير الأجرة على ذاك العمل الذي يدعى صحته، لا لقاعدة الصحة؛ بل لأنه لما لم يكن هناك طريق عادة لإثبات صحة عمل الأجير إلا قوله فلا محالة تنصرف الإجارة إليه، نعم للمستأجر ان يراقب الأجير أو يبعث معه من يراقبه في عمله، واما إذا لم يراقبه وخلاه ونفسه وأو كل الأمر إليه فعليه ان يقبل قوله، وهذا أمر ظاهر لمن سبر حال العقلاء في استيجاراتهم فتأمل.

ثمَّ انه قد يفصل في المقام بين مسألة النيابة، ومسألة وضوء العاجز وشبهها، بجريان القاعدة في الأولى دون الثانية، اختاره المحقق الهمداني «قده» في بعض تعليقاته على الفرائد، واستدل على مختاره بما حاصله: ان تكليف العاجز هو إيجاد الفعل بإعانة غيره فالواجب عليه هو الوضوء ولو كان بإعانة الغير فإجراء أصالة الصحة في فعل غيره- وهو التوضئة- لا يثبت صحة فعله وهو الوضوء هذا ملخص كلامه.

و فيه- ان فعل المعين إذا كان محكوما بالصحة بمقتضى القاعدة يترتب عليه جميع آثارها حتى ما كان مترتبا على لوازمه العقلية لأنها من الامارات المعتبرة لا من الأصول العملية ومن المعلوم ان صحة وضوئه من آثار صحة فعل الغير؛ بل هما أمر واحد يتفاوتان من ناحية الإسناد إلى العاجز ومن يعينه، فما افاده قدس سره من عدم إثباته صحة الوضوء ممنوع، الا ان يرى القاعدة من الأصول العملية التي لا تثبت لوازمها العقلية، ويرى هذين العنوانين المنطبق على فعل واحد باعتبارين من قبيل اللوازم العقلية وكلاهما محل اشكال.

نعم يمكن الإيراد على جريان القاعدة في أمثال المقام من ناحية أخرى، وهو:

ان السيرة العقلائية التي يستند إليها في إثبات كلية القاعدة غير جارية في أفعال الغير إذا كانت بمرأى ومسمع من المكلف ويكون منشأ شكه فيه عروض الغفلة له عن فعله أحيانا؛ وانسداد باب العلم الذي هو الحكمة في حجية أمثال هذه الطرق انما هو في غير‌ هذه الأفعال التي تكون بمرأى من المكلف، نعم إذا كان الفاعل مع حضوره كالبعيد؛ كالحجام بالنسبة إلى غسل موضع الحجامة في الظهر؛ فلا يبعد حينذاك إجراء أصالة الصحة في فعله، ولعله اليه يشير ما ورد من «ان الحجام مؤتمن» فتأمل.

التنبيه السادس هل القاعدة من الامارات أو من الأصول العملية؟

وقع الكلام بين الاعلام في أن قاعدة الصحة هل هي من الامارات المعتبرة- كما يظهر من كل من استند في حجيتها الى ظهور حال المسلم- أو من الأصول العملية- كما اختاره المحقق النائيني وبعض من تأخر عنه وقد يستظهر من عبارة الشيخ الأعظم أيضا، وان كان هذا الاستظهار محل تأمل وإشكال.

أو يفصل بين مواردها: فان كان منشأ الشك في الصحة احتمال تعمد الإخلال بما يعتبر في العمل من الاجزاء والشرائط أو احتمال عروض الغفلة والسهو مع علم الفاعل بالحكم فهي من الامارات نظرا الى ان احتمال التعمد خلاف ظاهر حال الفاعل، كما ان احتمال عروض الغفلة والسهو مناف لما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بالاذكرية حين الفعل حيث ان وروده في ذاك الباب لا يوجب اختصاصه به بعد كونه امرا عاما يعم العامل والحامل (الأول في قاعدة الفراغ والثاني فيما نحن بصدده).

واما ان كان منشأ الشك احتمال جهل الفاعل بالحكم؛ بناء على شمول القاعدة له؛ فلا محالة يكون أصلا تعبديا، لعدم وجود ملاك الأمارية فيه أصلا، وقد اختار هذا المذهب المحقق الأصفهاني (قده) في تعليقاته على الكفاية وانتصر له بما ذكر.

وأورد عليه المحقق النائيني في بعض كلماته في المقام بما حاصله : ان غاية ما يستفاد من التعليل بالأذكرية (وكذلك ظهور حال المسلم) هو حمل فعله على الصحة عند فاعله، لا الصحة الواقعية التي نحن بصددها؛ فاذن لا مجال لعد هذا الأصل من الامارات المعتبرة بل لا يكون الا من سنخ الأصول العملية.

أقول: لا طريق لنا الى تحقيق حال هذه القاعدة من حيث كونها امارة أو‌ أصلا من الأصول العملية إلا بمراجعة أدلة حجيتها وتنقيح مفادها، وحيث كان العمدة من بينها السيرة المستمرة بين العقلاء فلا بد من تحقيق حال هذه السيرة ومبدئها، فنقول ومنه عز شأنه التوفيق- ان كان منشئها الغلبة الخارجية فتكون القاعدة من الظنون المعتبرة والأمارات العقلائية لا محالة، وان كان الوجه فيها اقتضاء طبع العمل لذلك وان الفاسد على خلاف طبعه، حيث ان الفاعل بحسب دواعيه الخارجية لا يتوجه إلا نحو العمل الصحيح عادة فإنه منبع الاثار واليه يرغب الراغبون كما عرفت بيانه وافيا عند ذكر الأدلة، فهذا أيضا يقتضي كونها من الامارات؛ اللهم الا ان يقال ان مقتضاها هي الصحة الفاعلية لا الصحة الواقعية فإن الذي يقتضيه طبع العمل بحسب دواعي العاملين هو الصحة عندهم لا الصحة الواقعية التي بنينا عليها الأمر في هذه القاعدة، ومن هنا يسرى الإشكال إلى أساس هذا الوجه ويسقط بناء هذه السيرة على هذا الأساس.

و لكن يمكن دفع الإشكال بأن مخالفة اعتقاد الفاعل للحامل وان لم يكن نادرا الا ان الأغلب اتفاقهما في موارد الابتلاء كما هو ظاهر لمن تتبعها، فالوجه في استناد سيرة العقلاء الى اقتضاء طبع العمل هو ملاحظة الغلبة بهذا النحو.

ونظيره من بعض الجهات ما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بقوله «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك» فان الفاعل إذا كان بحسب الغالب حال اشتغاله بالعمل اذكر فظاهر حاله انه يجرى على وفق دواعيه الى الفعل الصحيح لأنه الذي يوصله إلى أغراضه، ومن البعيد اقدامه على فعل فاسد؛ فهو بحسب طبعه الأولي يتوجه نحو العمل الصحيح فالتعليل المذكور هناك يشبه ما أشرنا إليه هنا من اقتضاء طبع العمل للصحة؛ وان كان الوجه في استقرار السيرة عليه لزوم الحرج واختلال النظام على تقدير عدم حمل فعل الغير على الصحة، فالظاهر كونها من الأصول العملية التعبدية لأن المفروض عدم ملاك الأمارية فيها على هذا التقدير، بل لا يبنى عليها الا لبعض مصالح المجتمع.

وحيث قد عرفت ان الأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني فالأقوى كونها من الامارات؛ كما انه ظهر بما ذكرنا اندفاع ما افاده «المحقق النائيني» في‌ توجيه عدم كونها من الامارات من ان ظاهر حال الفاعل جريه على العمل الصحيح باعتقاده لا الصحيح الواقعي الذي هو المقصود في المقام، وذلك لما أشرنا إليه من تطابق المعنيين في أغلب موارد الابتلاء وان كان اختلافهما أيضا غير نادر في نفسه فملاك الأمارية وهو الكشف الظني عن الواقع موجود فيه.

كما يظهر وجه اندفاع ما اختاره «المحقق الأصفهاني» من القول بالتفصيل بين ما كان منشأ الشك فيه احتمال التعمد أو عروض الغفلة والسهو مع العلم بالحكم فهو من الامارات؛ وبين ما إذا كان منشأه احتمال الجهل بالحكم، فهو من الأصول العملية.

وذلك لكفاية إيراثه الظن النوعي وكونه كاشفا ظنيا بحسب أغلب موارده في كونه من الامارات وان لم يورث الظن الشخصي في بعض موارده لأمور عرضية.

وما ذكره قدس سره من دعوى غلبة جهل الفاعلين بصحيح الافعال وفاسدها ممنوعة.

ثمرة هذا النزاع :

قد يقال بظهور ثمرة النزاع بين كون هذا الأصل من الامارات أو الأصول العملية في إثبات اللوازم العقلية والعادية- كما هو الشأن في غيره من موارد اختلاف الامارات والأصول- وقد مثل له بما لو شك في ان الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك، كالخمر والخنزير؛ أو بعين من أعيان ماله، فعلى القول بكونه من الأصول التعبدية يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شي‌ء من تركة المشترى الى البائع وعدم خروج تلك العين من تركته، لأصالة عدمه؛ واما على القول بكونه من الامارات فيحكم بمقتضى قاعدة الصحة بانتقال شي‌ء من تركته إلى البائع (هكذا افاده الشيخ الأعظم قدس سره).

وحكى «عن العلامة» قدس سره في «القواعد»: فيما لو اختلف الموجر والمستأجر، فقال الموجر: «آجرتك كل شهر بدرهم» وقال المستأجر: بل سنة بدينار، ففي تقديم قول المستأجر نظر؛ فان قدمنا قول المالك فالأقوى صحة العقد في الشهر الأول؛ وكذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة‌ معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما، والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى» انتهى.

ولا يخفى ان ما قواه أخيرا من تقديم قول المستأجر المدعى لصحة الإجارة في المقامين إذا لم يتضمن دعوى وعدم قبوله فيما يتضمن ذلك، ظاهر في عدم إثبات القاعدة لما يترتب على الصحة من اللوازم العقلية، فإن الحكم بصحة الإجارة في الفرض الأول لا يقتضي شرعا كونها سنة بدينار بل هو من اللوازم العقلية لمفروض البحث.

كما ان الصحة في الفرض الثاني لا تقتضي وقوعها على مدة معينة أو عوض معين وانما يلزمها لما علمناه من الخارج من كيفية مورد تنازعهما.

والتحقيق- كما ذكرناه في محله ان ما هو المعروف من ان مجرد كون شي‌ء من الامارات المعتبرة يوجب ترتب جميع الاثار الشرعية الثابتة لمورده عليه ولو كانت بوسائط عقلية أو عادية- أياما كان- مما لا أصل له، وان اشتهر بين الأصوليين في العصور الأخيرة. بل الحق انه تابع لدليل حجيتها بحسب اختلاف الغايات المقامات- والمقامات في ذلك مختلفة جدا- حتى ان «البينة» التي لا اشكال عندهم في كونها من الامارات الشرعية لا يمكن الحكم بترتب جميع لوازمها العقلية عليها وان صرح به غير واحد.

أترى انه لو علمنا من الخارج بان هذا المائع المعلوم لو كان نجسا لكان خمرا ثمَّ قامت البينة على نجاسته؛ فهل يحكم بكونه خمرا ويجرى عليه جميع ما للخمر من الاثار لا نظن أحدا يلتزم به في عمله وان لهج به لسانه أحيانا عند البحث، وليس ذلك إلا لأن اعتبار هذه اللوازم مقصورة على ما يفهم من إطلاق أدلة حجيتها فمفاد قاعدة «اليد» مثلا لو قلنا بحجيتها من باب الامارات ليس إلا إثبات الملكية وأحكامها ولوازمها واما الاحكام التي تثبت لموردها لا من جهة الملكية فلا يمكن الحكم بثبوتها، فلو علمنا إجمالا ان المائع الفلاني إما خمر أو ماء مطلق ثمَّ دلت اليد على انه «ملك» فلا يمكن الحكم بكونه ماء مطلقا بحيث‌ يجرى عليه احكامه من الطهارة الحدثية والخبثية. والحاصل ان مفاد قاعدة اليد ثبوت الملكية لصاحبها ويترتب على موردها ما للملك من الأثر؛ ولا يبعد إثبات بعض لوازمها من «الشهادة» التي نطق به بعض الاخبار، الدالة على جواز الشهادة على الملك بمجرد اليد؛ ولكن لا يترتب عليه جميع ماله من اللوازم والاثار العقلية والعادية وان كانت غير مرتبطة بعنوان الملكية.

وكذلك قاعدة «الفراغ» ان قلنا بأنها من الامارات؛ فإن غاية ما يستفاد منها صحة العمل المفروغ عنه وترتب آثاره عليه من فراغ الذمة وما يترتب عليه من الاحكام لا كل ما يلازمه عقلا وعادة ولو من جهات أخر، مثل كون المصلى على وضوء فعلا لو كان منشأ الشك في صحة الصلاة الصادرة منه كونه على وضوء حالها؛ فلذا حكموا بوجوب تحصيل الطهارة عليه للأعمال المستقبلة.

ومن هذا القبيل أصالة الصحة في فعل الغير فان مفادها، ولو على القول باماريتها، كون الفعل صحيحا ويترتب عليه جميع أحكام الصحة ولو كانت بوسائط عقلية أو عادية واما ما يترتب على لوازمها وملزوماتها من الاحكام التي لم تؤخذ في موضوعها الصحة والفساد فلا يمكن إثباتها بهذه القاعدة.

ففي الفرع الأول من الفرعين اللذين سبق ذكرهما صحة الشراء وان كان واقعا مستلزما لانتقال شي‌ء من تركة المشترى الى البائع الا ان ذلك ليس من أحكام صحة الشراء بما هي هي فإن أثرها هو انتقال الثمن إلى البائع أياما كان، واما ان هذا الثمن الشخصي كان عينا من الأعيان المملوكة وانها كانت في أمواله التي تركها للورثة فهو شي‌ء آخر علمناه من الخارج، لا انه من آثار الصحة ولو بالواسطة.

هذا بالنسبة إلى جريان أصالة الصحة في هذا الفرع واما ما قد يقال من انا نعلم هنا إجمالا بأن المشترى اما لم يملك المثمن واما انتقل شي‌ء من تركته إلى البائع، فالحكم بملكيته للمثمن وانتقال جميع تركته الى الوراث أمر مقطوع البطلان، فهو حق ولكن لا دخل له بقاعدة الصحة وأحكامها وان كان دخيلا في‌ استنباط حكم هذه المسألة.

ومن هنا يظهر الحال في «الفرع الثاني» المحكى عن «القواعد» وهو ما إذا اختلف المالك والمستأجر في المدة أو العوض: فادعى المستأجر مدة معلومة أو عوضا معينا وأنكره المالك، فإن أصالة الصحة تقتضي تقديم قول المستأجر وعدم قبول قول المالك المدعى للفساد إلا ببينة ويترتب على صحة الإجارة مالها من الاحكام ولو بوسائط عقلية أو عادية، واما ان مدة الإجارة وعوضها ما ذا؟ فهذا أمر لا يمكن إثباته بمجرد الحكم بالصحة؛ حتى إذا علمنا من الخارج بأنها لو كانت صحيحة لكانت على هذا العوض المعلوم أو بهذه المدة المعلومة، فإن صحة الإجارة من حيث هي لا تتوقف على مدة خاصة أو عوض كذلك بل هي أعم منه. ولقد أجاد العلامة قدس سره فيما أفاده أخيرا «من تقديم قول المستأجر فيما لم يتضمن دعوى».

واما حكم هذه المسألة من حيث صحة الإجارة في الشهر الأول- إذا اختلفا وقال الموجر آجرتك كل شهر بدرهم وقال المستأجر بل سنة بدينار- أو عدم صحتها فله مقام آخر لا دخل له بما نحن بصدده من فروع أصالة الصحة وموعدنا فيه كتاب الإجارة.

التنبيه السابع في تقديم قاعدة الصحة على أصالة الفساد والأصول الموضوعية :

لا إشكال في تقدم القاعدة على «أصالة الفساد» في المعاملات؛ و«أصالة الاشتغال» في العبادات، اما على المختار من حجيتها على نحو سائر الأمارات المعتبرة فواضح، واما على القول بكونها أصلا عمليا فللزوم لغويتها رأسا على تقدير عدم تقدمها عليهما، فإنه ما من مورد يجرى فيه قاعدة الصحة الا وهناك أصالة الفساد (ان كان معاملة) أو أصالة بقاء شغل الذمة (ان كان عبادة) كما هو ظاهر لا يخفى.

مضافا الى ما قد يقال من: ان أصالة الصحة بالنسبة إليهما من قبيل الأصول السببية فإن الشك في بقاء شغل الذمة في العبادات، أو حصول آثار المعاملات من النقل والانتقال وغيرها، مسبب عن صحة العمل العبادي أو العقد الصادر من عاقده، هذا حالها بالنسبة إلى «أصالة الفساد».

واما بالنسبة إلى «الأصول الموضوعية» الجارية في موارد قاعدة الصحة فلا إشكال في تقدم القاعدة عليها أيضا، اما بناء على كونها من الامارات المعتبرة فظاهر؛ واما بناء على عدها من الأصول العملية فلما عرفت في أصالة الفساد من لزوم اللغوية، فإنه قلما يوجد مورد يجرى فيه أصالة الصحة الا ويوجد هناك أصول موضوعية على خلافها؛ مثلا إذا شك في صحة العبادة من جهة الشك في الطهارة أو الاستقبال أو غيرهما فأصالة عدم هذه الأمور تدل على فسادها كما انه إذا شك في صحة عقد من العقود، من جهة الشك في معلومية العوضين أو الإنشاء الصحيح أو القدرة على التسليم أو غير ذلك؛ فأصالة عدم هذه الأمور تقتضي فساده؛ لان علم المتعاقدين وقدرتهما وصدور الإنشاء الصحيح منهما كلها أمور حادثة، مسبوقة بالعدم؛ فاذن لا يبقى لأصالة الصحة إلا موارد طفيفة.

لا يقال: ان شرائط المتعاقدين أو العوضين ليست دائما من الأمور الوجودية المسبوقة بالعدم؛ فإن منشأ الشك قد يكون من ناحية زوال قدرة المتعاقدين أو علمهما بعد القطع بوجوده، ومثل هذا كثير جدا؛ فاذن لا يبقى مجال للقول بلزوم اللغوية على فرض تقديم الأصول الموضوعية عليها.

لأنا نقول: ان ما لا يكون مسبوقا بالعدم فالغالب معلومية سبق وجودها، كما إذا شك في بقاء المتعاقدين أو العوضين على ما كانا عليه من شرائط الصحة ومن الواضح ان اعتبار أصالة الصحة في هذه المقامات أيضا لغو للاستغناء عنها بالأصول الوجودية الجارية في مجراها فتدبر. واما الموارد التي لا يعلم حالها من الوجود والعدم فقليلة جدا، لا يمكن تنزيل القاعدة عليها.

التنبيه الثامن في مستثنيات هذه القاعدة :

يستثنى من عموم قاعدة الصحة صورتان:

الاولى: ما إذا كان العمل بحسب طبيعته مبنيا على الفساد ، بحيث يكون الصحة فيه امرا استثنائيا على خلاف طبعه ؛ كبيع الوقف فإنه بمقتضى طبعه فاسد، لأنه لا يباع ولا يورث وانما يجوز بيعه لأمور خاصة عارضة أحيانا تقتضي الجري على خلاف مقتضى طبيعته، كالخلف بين أربابه، وأدائه إلى الخراب، على ما فصلوه في كتاب الوقف.

وكذلك بيع العين المرهونة فإن طبعه الأولي يقتضي الفساد وصحته انما يكون بإذن من المرتهن، وأمثلته في أبواب العبادات أيضا كثيرة كالصلاة في النجس المعلوم، فإنها فاسدة إلا في موارد الضرورة لبرد أو نحوه.

ففي هذه المقامات وأمثالها لو شك في صحة العقد أو العبادات الصادرة من الغير لا يجوز الحكم بصحتها بمقتضى هذه القاعدة بل لا بد من اقامة دليل آخر عليها؛ وذلك لما عرفت غير مرة من ان عمدة أدلتها هي السيرة المستمرة بين العقلاء، وهي غير جارية في هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع مواردها.

وللمحقق اليزدي (قده) في المجلد الأول من ملحقات العروة كلام لا يخلو إيراده عن الفائدة في المقام، وإليك نص عبارته قال في المسألة «63» من كتاب الوقف: «إذا باع الموقوف عليه أو الناظر، العين الموقوفة ولم يعلم ان بيعه كان مع وجود المسوغ أو لا؛ فالظاهر عدم جريان «قاعدة الحمل على الصحة» فلو لم يثبت المسوغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يدي المشتري؛ فهو كما‌ لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده ولم يعلم كونه وكيلا عن ذلك الغير، فإنه لا يصح ترتيب اثر البيع عليه، ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ لا تكفي في الحكم بصحة الشراء ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما.

و دعوى الكفاية من حيث كونهما من «ذي اليد» الذي قوله مسموع بالنسبة الى ما في يده، ولذا إذا رأينا شيئا في يد الدلال المدعى للوكالة عن صاحبه في بيعه جاز لنا الشراء منه مدفوعة، بأن يد مدعى الوكالة يد مستقلة وامارة على السلطنة على التصرف فيه، بخلاف يد الموقوف عليه مع اعترافه بان ما في يده وقف، فإنها ليست يدا مستقلة لأنها في الحقيقة يد الوقف، المفروض عدم جواز بيعه؛ فيد الموقوف عليه والناظر انما تنفع في كيفية التصرفات التي هي مقتضى الوقف لا في مثل البيع الذي هو مناف ومبطل له؛ فهي نظير يد الودعي التي لا تنفع إلا في الحفظ لا في البيع، فاذا ادعى الوكالة بعد هذا في البيع احتاج الى الإثبات؛ وان يد الامانة صارت يد وكالة والا فالأصل بقائها على ما كانت عليه» انتهى.

أقول: اما ما افاده قدس اللّه سره من عدم جريان قاعدة الصحة هنا فهو صحيح متين ووجهه ما ذكرناه.

واما عدم جواز الاعتماد على دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ؛ من باب قبول دعوى صاحب اليد، ففيه أن المتصدي لبيع الوقف- على ما صرح به في كتاب البيع- هو البطن الموجود من الموقوف عليهم بضميمة الحاكم ولاية عن سائر البطون، أو خصوص الناظر عليه. قال شيخنا الأعظم في «المكاسب» :

«أن المتولي للبيع هو البطن الموجود بضميمة الحاكم القيم من قبل سائر البطون، ويحتمل ان يكون هذا الى الناظر ان كان، لأنه المنصوب لمعظم الأمور الراجعة إلى الوقف، الا ان يقال بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قبل الواقف الى التصرف في نفس العين» انتهى.

وكيف كان، المتولي لبيع الوقف اما هو الموقوف عليه مع الحاكم أو‌ الناظر؛ فيد هما قبل عروض المسوغات يد التصرف في منافع الوقف بصرفها في مصارفها، وفي عينه بالإصلاح والتدبير، واما بعد عروض المسوغ فيدهما يد البيع وابدال العين الموقوفة أو صرف قيمتها في مصارف خاصة؛ على تفصيل ذكروه في أبواب بيع الوقف.

والحاصل ان الموقوف عليه والناظر تختلف يدهما باختلاف الظروف، ففي ظرف عدم وجود المسوغ يدهما ليست يدا مستقلة، واما في ظرف وجود المسوغ يد مستقلة يجوز لها البيع؛ وان شئت قلت: ان يدهما يد مستقلة في كل حال ولكن تصرفاتهما في العين الموقوفة ببيعها مشروطة بشرائط معينة؛ ونظيره في ذلك يد الولي فإنها يد مستقلة في أموال المولى عليه ولكن تصرفاته فيها منوطة بوجود المصلحة فيها أو عدم المفسدة، على خلاف فيها.

وحينئذ لا يبعد جواز الركون الى دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ في بيعها كما يجوز الاعتماد على دعوى الولي وجوده في بيع مال المولى عليه بلا اشكال.

اللهم الا ان يقال ان وجود المسوغ في بيع الوقف أمر نادر اتفاقي، بخلاف وجود المصلحة في بيع مال المولى عليه فإنه شائع ذائع، وهذا هو الفارق بين المقامين، فالمتولي لبيع الوقف المدعى لوجود المسوغ متهم في دعواه وان كان ذا اليد بالنسبة إلى العين الموقوفة فلا يسمع دعواه بخلاف الولي، وهو قريب جدا. فهذا هو السر في عدم سماع دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ في بيع العين الموقوفة لا ما ذكره «قده».

اما ما افاده من عدم سماع قول الودعي إذا ادعى الوكالة في بيع الوديعة وانه محتاج إلى إثبات انقلاب يد الأمانة إلى يد الوكالة، فهو عجيب، فإنه لا ينبغي الشك في سماع دعواه ضرورة انه إذا رأينا مالا في يد زيد ثمَّ رأيناها بعد ذلك في يد عمرو يدعي الوكالة عن زيد في بيعها فلا شك في قبول دعواه فيه؛ فهل يد الودعي هنا اسوء حالا من عدم اليد على المال بالمرة. وبالجملة انقلاب اليد أمر شائع يقبل قول مدعيه إذا لم يكن متهما. مثلا إذا ادعى أحد الوكالة عن غيره في بيع‌ ماله ثمَّ ادعى بعد يوم انه اشتراه بنفسه عن مالكه أو وهبه إياه فلا شك في قبول قوله؛ وانقلاب يد الوكالة يد الملك، وكذا إذا رأينا أحدا يسكن دارا يدعى انه استأجره، ثمَّ رأيناه يدعى انه اشتراه من مالكه ولم يكن متهما، فلا ريب في قبول قوله وانقلاب يد الاستيجار يد الملك وأمثلته كثيرة جدا.

الثانية: إذا كان الفاعل متهما في فعله، فإنه يشكل حمل فعله على الصحيح :

والمراد من الاتهام وجود قرائن ظنية خارجية توجب الظن بالفساد عادة لمن اطلع عليها لا كل ظن شخصي؛ من اى واد حصل.

و ذلك كما إذا ادعى من كان وكيلا في شراء أموال كثيرة تحتاج الى الكيل أو الوزن انه اشتراها مراعيا لجميع شروط الصحة فيها من الكيل والوزن اللازمين وغيرهما، في وقت لا يسعه عادة، فإنه وان كانت مراعاة تلك الشروط ممكنة في حد ذاتها على خلاف العادة الا ان العادة تقضى بخلافها، وهذه قرينة ظنية توجب سوء الظن بدعواه واتهامه فيما يقول لغالب الناس. وكذا إذا ادعى الأجير في الصلاة وغيرها انه اتى بصلوات كثيرة مراعيا لجميع اجزائها وشرائطها من الطهارة والموالاة وغيرهما في وقت لا يسعها عادة، الى غير ذلك من الأمثلة. والركون الى القاعدة في تصحيح هذه الافعال عند الشك في صحتها مشكل جدا.

والوجه فيه ما عرفت نظيره في الصورة السابقة من قصور أدلة حجيتها- وعمدتها السيرة المستمرة بين العقلاء- عن شمول هذه الموارد كما هو ظاهر لمن تتبعها. ولا أقل من الشك وهو كاف في الحكم بعدمها في أمثال المقام.

هذا ويمكن القول برجوع الصورة الأولى إليها أيضا، فإن بيع الوقف بدعوى وجود المسوغ وأمثاله من مظان التهمة غالبا ويكون مدعيه متهما فيما يدعيه فتدبر.

التنبيه التاسع هل القاعدة تجري في أفعال المكلف نفسه؟

ظاهر كثير من عناوين كلمات القوم اختصاص قاعدة الصحة بأفعال الغير، بل ظاهر بعضها اختصاصها بأفعال المسلمين فحسب. لكن قد عرفت في صدر البحث انه لا فرق في هذا بين المسلم وغيره أصلا، بعد ما كان مدركه بناء العقلاء عليه وسيرتهم المستمرة في أمورهم، لا يفرقون في ذلك بين اتباع المذاهب المختلفة والمليين وغيرهم وقد أمضاها- على هذا الوجه الشارع المقدس ولم يردع عنها، ولا يزال المسلمون يعملون مع المعاملات الصادرة عن أهل الذمة معاملة الصحيح، مع ما فيها من احتمال الفساد ولو على مذهبهم، وليس هذا الا لعمومية القاعدة وعدم اختصاصها بالمسلمين.

نعم في الموارد التي لا يتمشى الفعل الصحيح من غير المسلم أو يعلم علما تفصيليا باختلاف عقيدتهم مع ما عليه المسلمون من الاحكام ولا يكون بينهما جامع، لا يمكن حمل فعلهم على الصحيح، ولكنك عرفت في التنبيه الأول جريان هذا المعنى في حق المسلمين أيضا إذا اختلفوا في الآراء الفقهية ولم يجمعهم جامع، على ما فصلناه هناك فراجع، فليس هذا أيضا مقصورا على غير المسلمين.

واما تخصيص القاعدة بأفعال الغير فهو وان كان ظاهر عناوينهم وكلماتهم في مقامات مختلفة؛ بل وظاهر غير واحد من أدلتهم (كالآيات والاخبار التي استدلوا بها هنا) بل وقع التصريح به في كلمات بعضهم كالمحقق النائيني «قده» حيث انه صرح في صدر كلامه في المسألة بأنه: «لا ريب في اختصاصها بفعل الغير واما بالنسبة إلى فعل نفس الشخص فالمتبع فيه هو «قاعدة الفراغ» فليس هناك أصل آخر يسمى بأصالة الصحة غير تلك القاعدة» انتهى.

والحق انه لو قلنا بعموم «قاعدة الفراغ» وشمولها لجميع الافعال من العبادات‌ وغيرها من غير فرق بين الصلاة والصيام والبيع والشراء والنكاح والعتق وتطهير الثياب ودفن الموتى الى غيرها من الأفعال التي يتصور فيها الصحة والفساد؛ فلا يبقى مجال للنزاع في شمول هذه القاعدة لأفعال نفس المكلف للاستغناء عنها بقاعدة الفراغ؛ واما إذا قلنا باختصاصها بالعبادات وما يرتبط بها، فالظاهر جواز الاستناد إلى قاعدة الصحة في موارد الشك في صحة أفعال النفس من ناحية الإخلال ببعض اجزائها وشرائطها أو وجود بعض موانعها.

والدليل على جريانها في المقام هو الدليل على جريانها في غير المقام- من أفعال الغير- وقد عرفت ان عمدة الدليل عليها هناك هي السيرة المستمرة بين العقلاء، فانا إذا تتبعنا حالهم نجدهم عاملين بها في أفعال أنفسهم، فهل ترى احد من العقلاء يتوقف عن الحكم بآثار ما صدرت منه من العقود والإيقاعات في الأزمنة السالفة إذا شك في صحتها من بعض الجهات ولم يجد عليها دليلا؟ كلا.

بل لا يزالون يعاملون مع ما صدر منهم في الأزمنة البعيدة والقريبة معاملة الصحة ويرتبون آثارها عليها ولا يمسكون عن ذلك بمجرد الشك ولا يمنعهم عن ذلك شي‌ء إلا إذا وجدوا على الفساد دليلا.

والسر فيه ان العلة التي دعتهم الى هذه السيرة هناك موجودة بعينها هنا، وكل ما كان ملاكا لها في أفعال الغير موجود في أفعال النفس، وذلك لما عرفت من ان العلة الباعثة الى هذا البناء لا يخلو عن أمور ثلاث: الغلبة الخارجية المورثة للظن واقتضاء طبع العمل للصحة من جهة جرى الفاعل بحسب دواعيه الخارجية نحو الفعل الصحيح، والعسر والحرج أو اختلال النظام الحاصلان من ترك مراعاة هذه القاعدة.

ومن الواضح انها جارية بالنسبة إلى أفعال النفس كجريها في ناحية أفعال الغير؛ بل لعل جريانها هنا أسهل منه في أفعال الغير فإن الإشكال الحاصل من جهة اختلاف «الصحة عند الفاعل» مع «الصحة عند العامل» هناك، غير موجود هنا، لان الحامل هنا هو الفاعل بعينه.

التنبيه العاشر أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات :

هل القاعدة مختصة بالأفعال الصادرة من الغير أو تشمل أقواله واعتقاداته أيضا؟

والحق انه ان كان المراد من الصحة في باب الأقوال مطابقة مداليلها للواقع فحملها على الصحة بهذا المعنى عبارة أخرى عن حجيتها، والمتكفل له مبحث حجية خبر الواحد، ومن المعلوم عدم حجية خبر كل مخبر بل هو مشروط بشرائط مذكورة في محلها، على اختلاف المذاهب في ذلك.

وان كان المراد صحتها بما انها أفعال صادرة عن المتكلمين بها وكان لها آثار شرعية بهذا الاعتبار كما إذا شك في صحة القراءة والأذكار الصلوتية الصادرة من الامام أو الأجير؛ فإنها وان كانت من سنخ الأقوال ولها معان معلومة؛ الا انها باعتبار ألفاظها الصادرة عن المكلف جزء للصلاة، فهي من هذه الجهة فعل من أفعاله يترتب على صحيحها آثار خاصة ؛ ولا شك في أنها بهذا الاعتبار تشملها أدلة حجية القاعدة فتجري فيها ويترتب عليها آثارها. هذا ملخص الكلام في «الأقوال».

واما «الاعتقادات» فتارة يكون البحث فيها عن الاعتقادات المتعلقة بالموضوعات الخارجية، واخرى فيما يتعلق بالأحكام الفرعية، وثالثة فيما يتعلق بأصول الدين.

اما الأول فكما إذا اعتقد إنسان ان هذا الماء الخاص بلغ قدر كر، وشككنا في صحة اعتقاده ذلك، لاحتمال خطائه عند تقديره بالأشبار أو الوزن، فان كان لاعتقاده ذلك آثار عملية خارجية كما إذا غسل ثوبا بذاك الماء المشكوك كريته عندنا، فلا ينبغي الإشكال في لزوم حمل اعتقاده على الصحة وترتيب آثار الطهارة على الثوب المغسول به، بل هو في الحقيقة من مصاديق حمل فعل الغير على الصحة وان كان منشأ الشك في صحته هو احتمال خطائه في اعتقاده، ففي المثال‌ المذكور فعل الغير وهو الغسل محمول على الغسل الصحيح وان كان منشأ الشك فيه الشك في صحة اعتقاده كون الماء المغسول به كرا.

ومن المعلوم ان أدلة حمل أفعال الغير على الصحيح مطلقة من جهة منشأ الشك، ولا فرق بين كونه من جهة احتمال غفلة الفاعل وسهوه أو تعمده في الجري على خلاف معتقده؛ أو اعتقاد فاسد بنى عليه في عمله وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

واما الثاني وهو الاعتقاد المتعلق بالأحكام الفرعية، فإن كان المراد من حمله على الصحة الحكم بمطابقته للواقع؛ فيجوز اتباعه والجري على وفقه، فهو راجع الى حجية رأى الغير وجواز تقليده في الأحكام الفرعية، والمتبع فيه أدلة حجية قول المجتهد للعامي بماله من الشرائط والقيود، وان كان المراد منه ترتيب آثاره العملية عليه إذا عمل بما اعتقده من الاحكام كما إذا كان اماما وشك في صحة صلوته وكان منشأ الشك فيها احتمال خطائه في بعض أحكامها ومخالفتها لما حصله اجتهادا أو تقليدا، فلا شك ان اللازم هنا أيضا هو حمل اعتقاده على الصحيح وتترتب عليه هذه الاثار، فيجوز الايتمام به كما يجوز استيجاره، ويكتفى بإعماله في أداء الواجبات الكفائية.

بل هو في الواقع من باب حمل فعل الغير على الصحة وان كان منشأ الشك فيها خطائه في اعتقاده.

والوجه فيه ما عرفت من عدم الفرق في حجية هذه القاعدة بين كون منشأ الشك في صحة فعل الغير خطائه في تشخيص المصاديق الخارجية؛ أو خطائه في استنباط الاحكام من أدلتها الشرعية، أو غير ذلك مما لا يرجع الى خطائه في الاعتقاد.

واما الثالث اعنى الاعتقاد المتعلق بأصول الدين فان كان هناك أثر عملي يترتب على الاعتقاد الصحيح كما إذا كان هناك ذبيحة نشك في تذكيتها من جهة الشك في صحة عقائد ذابحها؛ فان كان مدعيا للإسلام إجمالا فاللازم حمل اعتقاده على الصحة، وترتيب جميع آثار الإسلام عليه وان شك في صحة عقائده، ولا يجب الفحص عن تفاصيل معتقده في ناحية المبدء والمعاد وغيرهما، والدليل عليه هو ما مر في القسم السابق بعينه من إطلاق أدلة حجية هذه القاعدة وشمولها لجميع موارد الشك في صحة فعل الغير من اى واد حصل ومن أي منشأ نشأ؛ فاذا شك في صحة فعله من جهة الشك في صحة اعتقاد فاعله في الموارد التي يكون الاعتقاد الصحيح دخيلا في صحة العمل فاللازم حمله على الصحة بعد ان كان صاحبها متظاهرا بالايمان ومدعيا للإسلام إجمالا ولم يعلم خطائه.

بل لا يبعد جواز الحكم بإسلام كل من شك في إسلامه وان لم يدع الإسلام إذا كان في دار الايمان، والوجه فيه استقرار سيرة المسلمين على إجراء أحكام الإسلام، في المناكح والذبائح والطهارة وغيرها، على كل من كان في بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه؛ حتى يقوم دليل على فساده.

هذا آخر ما أردنا تحريره من تنبيهات هذه القاعدة الشريفة، النافعة في جل أبواب الفقه أو كلها حينما أجملها كثير منهم، وبه نختم البحث عنها حامد اللّه ومسلما ومصليا على نبيه وآله الخيرة الكرام. اللهم ما بنا من نعمة فمنك، فلا تسلبنا صالح ما أنعمت به عليها وزدنا من فضلك ومواهبك.

___________________

(1) راجع الحديث 3 من أبواب 50 من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة من الوسائل .

(2) الحديث 7 من الباب 50 من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة من الوسائل .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.