أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-4-2019
1549
التاريخ: 15-12-2020
3854
التاريخ: 20-4-2021
2033
التاريخ: 2023-04-11
1115
|
التوراة:
وتأتي التوراة في مقدمة مصادرنا عن العراق القديم قبل الكشف عن آثاره عن طريق التنقيبات، فقد حوت أسفارها طائفة من الأخبار عن بلاد ما بين النهرين وتأريخها، بنتيجة التأثيرات الحضارية التي خلفتها حضارة وادي الرافدين في العبرانيين الذين اقتبسوا منها أشياء كثيرة في حقل الأساطير والقصص والمعارف فضمنوها في توراتهم منذ بدء الخليفة. وإلى هذه التأثير الحضارية نشأت بين العبرانيين وسكان وادي الرافدين القدماء صلات مباشرة، اتسم معظمها بالعداء والبعض من جراء الضربات الشديدة التي وجهها الملوك الآشوريون على العبرانيين، ولا سيما في عهد الامبراطورية الآشورية الأخيرة، مما جعل مدوني أسفار التوراة يفردون فصولاً مطولة عن تلك العلاقات (راجع بوجه خاص سفر الملوك الأول والثاني وأسفار الأنبياء) وكذل يقال في علاقات اليهود بالإمبراطورية البابلية الكلدانية، ولا سيما الملك "نبوخذ نصر" الثاني المشهور (562 – 605 ق.م) الذي أزال الدولة اليهودية من الوجود ودمر أورشليم، وكان صاحب السبي المشهور (596 و 586 ق.م)، وما استتبع ذلك السبي من بقاء اليهود في بلاد باب ردحاً من الزمن فازدادت تأثيرات حضارة وادي الرافدين فيهم، بحيث إن أسفار التوراة التي جاءت إلينا في شكلها الأخير إنما تم تدوينها في بلاد بابل (ما بين القرنين السادس والخامس ق.م) ودون التلمود اليهودي المعروف بالتلمود البابلي في بلاد بابل (القرن السادس الميلادي).
ومع أننا الآن في وضع يمتاز بوفرة المصادر عن حضارة وادي الرافدين بيد أن أخبار التوراة لا تزال من المصادر التي يمكن الرجوع إليها بشرط تطبيق أصول النقد التأريخي عليها، والنظر بعين الاعتبار إلى تعصب مدوني التوراة وتجيزهم والتشهير بأعدائهم من ملوك بابل وآشور.
المصادر الكلاسيكية:
أما الأخبار الواردة في المصادر الكلاسيكية فتأتي في مقدمتها اخبار "هيرودوتس" ( في حدود 425 – 480 ق.م) الملقب بأبي التأريخ. وكان أول من استعمل مصطلح "هستوريا" (Historia) للتأريخ وأصل كلمة تأريخ في معظم اللغات الأوروبية. ومن ناحية موضوعنا كان تأريخ هيرودوتس أقدم الكتب التأريخية، على أن الإفادة من أخباره عن أحوال العراق القديم لا تتم إلا من بعده نقدها، ويدخل في ذلك التعرف على شخصيته وطريقة روايته للأخبار والحوادث، فهو مولع بسرد القصص والحكايات والأساطير خالطاً إياها في كثير من الأحايين بالأخبار التأريخية بدون أن ينبه على الحد الفاصل ما بين الأثنين. كما توجد شكوك في ان هيرودوتس قد زار في الواقع بلاد بابل، بل إن الأخبار التي ذكرها عنها استقاها بالدرجة الأولى من مشاهدين آخرين، فقد ورد فيها اضطراب في الوصف مثل تسميته بلاد بابل آشور، مع أن المصطلحين كانا معروفين لدى اليونان. كما وردت مبالغات في وصف مدينة "بابل" في قياس أسوارها وبعض أبنيتها. ومع كل هذه الهنات يجد القارئ لأخبار هيرودوتس عن العراق القديم(1) طرائف ممتعة، في وصف بعض مدنه وأنهاره، ولا سيما مدينة "بابل" في العهد الفارسي الأخميني (331 – 539 ق.م) حيث كانت معابدها وبرجها الشهير وقصورها لا تزال قائمة.
وعاصر "هيرودوتس" في أواخر حياته المؤرخ المسمى "زينبقون" (355 – 430 ق.م) الذي دون طائفة مهمة عن اخبار العراق والإمبراطورية الفارسية الأخميينية بوجع عام. وكان قد التحق في آسية الصغرى بحملة "كورش" الأصغر، حاكم ولاية " ليدية"، وأخو الملك الفارسي "ارتحششتا" الثاني (artaxerexes) (539 – 404 ق.م)، وقد ثار " كورش" عليه وجرد خملة عسكرية معظمها من مرتزقة الإغريق، عرفت" بحملة العشرة آلاف إغريقي" (401 ق.م)، وبعد فشل الحملة قاد "زينفون" فلول الإغريق في تقهقرهم وعودتهم من العراق إلى الأناضول، وخلف لنا أخبار هذه الاحداث وضمتها وصفاً للعراق والمدن والاماكن التي مر بها، وتعد أخباره أوثق من أخبار هيرودوتس (2).
ومن المؤرخين اليونان مالشهورين نذكر " بوليبيوس" (Polybius) ( 202 – 120 ق.م) الذي ألف في تاريخ الرمان وذكر احوال عالم البحر المتوسط وأحداثه التأريخية. والمرجع أنه كان أول من استعمل مصطلح "ميزوبوتامية" (ما بين النهرين) لإطلاقه على الجزء الأوسط والشمالي من أرض الرافدين.
ومن الكتاب الكلاسيكيين الذي يجدر ذكرهم الجغرافي الشهير "سترابو" أو " سترابون" (Strabo . Strabon) (في حدود 64ق.م – 19م) الذي اشتهر بمؤلفه عن جغرافية العالم الموسوم (Georaphica) ، وقد جاء بسبعة عشر جزءاً، وصف فيها الأقاليم المعروفة آنذاك، ومنها بلاد بابل وآشور (3). وقد اقتبس من جملة مؤلفين سبقوه كما يخبرنا، منهم الكاتب اليوناني الشهير "اراتوسثينس" (Eratosthenes) الذي كان من مواليد المدينة الشهيرة "قورينا" (Cyrene) (منتصف القرن الثالث ق.م، وتعرف بقاياها الآن باسم "شحنات" في إقليم برقة بليبيا، واشتغل في مكتبة الاسكندرية الشهيرة، وألف في موضوعات مختلفة منها الجغرافية ولكن لم تأتنا مؤلفاته الأصلية إلا بطريق الاقتباسات منها. واستقى أيضاً من الجغرافي المسمى "بوزيدونيوس" (Poseidones من مواليد مدينة "أفامية" ( في بلاد الشام) (135ق.م).
وجاء في جغرافية "سترابو" أشياء مفيدة عن بلاد العرب ومصر وبلاد بابل ولا سيما مدينة بابل التي ذكر عنها أنها كانت مدينة مهجورة تقريباً (الجزء السادس عشر من جغرافيته، الفقرة الخامسة)(4)، ولكن مع ذلك يصف أحوالها الماضية، وأسوارها المشهورة وجنائنها المعلقة التي يذكرها بالمصطلح الإغريقي (Kremastos Kepos).
ونذكر أيضاً المؤرخ الشهير "ديودورس" الصقلي (Diodorus Sicouly) (40 ق.م ــ ؟ ) الذي ألف كتابه في تأريخ العالم وعنونه باليونانية (Bibliotheke Historike)، وقد جاء في الجزء الثاني منه وصف بلاد بابل ومعبد الإله "مردوخ" (بيل)، ووصف الجنائن المعلقة وأن الملكة "سميراميس" هي التي شيدتها. ودون المؤرخ الرماني المسمى "كورتيوس روفس" (Curtius Rufus) (القرن الأول الميلادي) تأريخ الإسكندر، تطرق فيه إلى وصف بلاد بابل ومنها مدينة بابل ووصف جنائنها المعلقة وسمّاها بالمصطلح اللاتيني (Pensiles Horti).
واشتهر الكاتب الروماني "بليني الأكبر"(Pliny) (23 أو 79-24م) بمؤلفاته التأريخية والجغرافية، أشهرها كتابه المعنون " التأريخ الطبيعي" وباللاتينية (Naturalis Historia)، الذي وصف فيه جغرافية القارات المعروفة في زمنه وعادات أهلها ومواردها، وذكر أشياء مهمة عن العراق ولا سيما أنهاره وعين منابع النهرين بصورة مضبوطة كما ذكر أحوال الري والملاحة، وان دجلة والفرات كانا يصبان كلاً على انفراد في البحر وأن المسافة ما بين مصبيهما نحو (25) ميلاً، ووصف كذلك بعض المدن القديمة التي بقيت في زمنه مثل "سلوقية" (تل عمر الآن مقابل طاق كسرى على دجلة) ومدينة "أرتميتا" والوركاء (أورخوى (Orchoi) ) ، وطيفسون وغيرها.
وجاءت في كتاب المؤرخ اليهودي "جوزيفس" (Flavius Joesphus) (37 – 100م) عن تأريخ اليهود والحرب الرومانية ــ اليهودية نتف عن أخبار بلاد بابل ولا سيما وصف جنائنها المعلقة التي سمّاها (Pensile Paradise).
ووردت اقتباسات كثيرة في مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين في كتاب الكاهن البابلي في عهد الملك السلوقي "سلوقس" الأول (مطلع القرن الثالث ق.م)، ولكن كتابه فقد ولم يبق من محتوياته سوى الاقتباسات التي نوهنا بها(5).
ومن الكتاب الرومان الذين يجدر التنويه بهم الكاتب المسمى "أريان" (Arrian) (175-95م) الذي اشتهر بمؤلفه عن حروب الإسكندر الكبير في كتابه المعنون "حملة الإسكندر" (Anabasis of Alexander) وجاءت فيه طائفة من الأخبار عن بلاد بابل وبلاد الهند والاستكشافات البحرية التي قام بها قائد الإسكندر "نيرخش" (Nearchus) في الخليج العربي والبحر الهندي؛ وقد سبق أن نوهنا في أول المقدمة الجغرافية عن أسماء القطر التأريخية باحتمال ظهور استعمال المصطلح الجغرافي "ميزوبوتامية" (ما بين النهرين في عهد الإسكندر. ونذكر كذلك الجغرافي والفلكي اليوناني الشهير "بطليموس" (Claudrius Ptolemaeus) الذي عاش في الإسكندرية في حدود منتصف القرن الثاني الميلادي، وألف باليونانية في الفلك والرياضيات والجغرافية، واشتهر من مؤلفاته كتاباه الموسوم أحدهما " نظام الرياضيات" (Mathematike Syntaxis) وقد ضمنه خلاصة المعارف والنظريات الفلكية في عصره، وهو الذي ترجم إلى العربية بعنوان "المجسطي" (الكتاب العظيم)، وكتابه الثاني في الجغرافية (Geographike Huphegesis) والحق به جداول مهمة بأسماء الأمكنة وموضعها بخطوط الطول والعرض وخرائط مطولة عن العالم القديم المعروف آنذاك، وبضمن ذلك بلاد ما بين النهرين ومدنها(6).
وننوه أيضاً بالكاتب الروماني "كلوديوس اليانوس" (Claudius Aelianus) من اهل القرن الثاني الميلادي الذي روى في جملة ما روى قصة طريفة عن البطل الشهيد "جلجامش" وسمّاه "كل كاموس" (7). وعن أحوال العراق في العهد الساساني نذكر المؤرخ البيزنطي "أميانوس مركلينيوس" (Ammianus Marcellinus) من أهل القرن الرابع الميلادي، وقد دون في تأريخه الشهير أخبار حملات الأباطرة الرومان "جوليان" (363 -360 م) وجوفيان (364 – 363م) وفلنتيان الأول (375 -364م) على العراق والأجزاء الأخرى من الامبراطورية الساسانية (8).
ونذكر من المؤرخين الكلاسيكيين "يوسيبيوس" (Eusebius) (340 – 265 م) الذي كان بطرك قيصرية في فلسطين ومؤلف كتاب "الأخبار" باليونانية، وقد ترجمه القديس "جيروم" إلى اللاتينية، وجاء فيه جملة اقتباسات مهمة من المؤرخ البابلي (بيروسس) الذي سبق أن ذكرناه. ومنهم أيضاً الكاتب البيزنطي الملقب بالدمشقي الذي عاش في زمن الامبراطور البيزنطي "جستنيان" (565- 527م) وقد روى جانباً مهماً من أسطورة الخليفة البابلية.
ونختتم هذا العرض الموجز بالتنويه بالمؤرخين الآراميين (السريان من أمثال "ثيودور برهوني" (893م) الذي ذكر ثبتاً بأسماء ملوك بابل، وكذلك الأخبار الطريفة التي وردت في كتب المؤرخين والبلدانيين العرب، ولا سيما أوال العراق في عهوده الأخيرة وبالأخص العصر الساساني (637 – 266/7م) حيث تكون الأخبار التأريخية مما يعتمد عليها لقرب العهد.
أخبار الرحالة والسياح:
قبل أن نبدأ التحريات والتنقيبات الفعلية عن بقايا حضارة وادي الرافدين منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ الغرب يتعرف على أحوال العراق وبلدان الشرق الادنى بوجه عام وعلى بقايا الأثرية فيها عن طريق أخبار الرحالة الأوروبيين الذين شرعوا يؤمنون الشرق منذ القرن الثاني عشر الميلادي؛ ويمكن تحديد بداية هذه الرحلات في زيارة السائح اليهودي "بنيامين التطيلي" (1160م)، كما يمكن إنهاء طور الرحلات ببداية أولى تحريات آثارية على أيدي الهواة وقناصل الدول الأجنبية من أمثال "بوتا" و "ليرد" و "رولنصن" منذ عام 1842/3 وبالنسبة إلى الموضوع الذي بين أيدينا لا يخفى ما لأثر مثل أولئك الرحالة والسياح في جعل العالم المتمدن يطلع على بقايا حضارات الشرق القديم وأثاره، وإثارة الرغبة في القوم لمعرفة ماضي هذا الشرق، لا سيما وأن كثيراً من مدنه القديمة ذات صلة وثيقة بأخبار التوراة وبتأريخ الديانتين العبرانية والمسيحية، بالإضافة إلى الأطماع السياسية والاقتصادية. وسنى مما سنوجزه ن أخبار أولئك السياح كيف أن بعضهم تقل إلى أوروبا نماذج من آثار العراق، من بينها تلك الكتابة الغريبة التي سميت بعدئذ بالكتابة المسمارية؛ كل هذا وغيره مهد السبيل للشروع بالتنقيبات الفعلية وحل رموز الخط المسماري في منتصف القرن الماضي. ولذلك فيحسن أن نورد نبذاً عن مشاهير أولئك الرحالة والسياح والتنويه بإسهام المشهورين منهم في تعريف مدن العراق وآثاره إلى العالم الحديث.
بنيامين التطيلي:
يرجع أن يكون "بنيامين" التطيلي (9) الذي سبق ذكره اول سائح أم العراق من الغرب (إسبانية) في العام 1160م، وكانت زيارته في زمن الخليفة العباسي المقتفي بالله (1170 – 1160 555 – 530م) وخلافه المستنجد بالله (566 – 555هـ). وسلك في رحلته طريف إيطاليا واليونان وقبرص ثم فلسطين وانتهى به المطاف إلى العراق وبلاد فارس، وقد خصص مذكراته بالدرجة الأولى لوصف احوال الجاليات اليهودية في الأقطار التي زارها ولا سيما يهود العراق. وإلى هذا وصف ما شاهده من أطلال بعض المدن القديمة مثل نينوى وبابل، وعين موقع المدينة الأولى بالنسبة إلى الموصل، وزار بقايا بابل التي قال عنها إنها تمتد مسافة ثلاثة أميال، ووصف الخرائب التي سمّاها قصر "نبوخذ نصر"، واكد أنه شاهد "برج" بابل المشهور، وارتقى السلالم الملتوية التي يرقى بها إلى القمة، وفسر ما شاهده من بقايا الأجر المنصهر (صخريج) بأنها من أثر صاعقة ضربت البرج. إن هذا الوصف ينطبق على بقايا البرج المسمى "برس نمرود" (بورسبا القديمة جنوب بابل بنحو 20كم) وليس على برج بابل. وعندما ترجمت رحلته إلى الفرنسية والإنجليزية أثارت الاهتمام بين المؤرخين في أوروبا، ووضعت في تناول أيديهم وصفاً لشاهد وصفاً لشاهد عيان عن بقايا مدن يعرفون أسماءها وطرفاً من أخبارها مما ورد عنها في التوراة وأخبار المؤرخين اليونان والرومان.
بترو ديلا قاله:
وتعاقب من بعد "بنيامين" التطيلي في زيارة العراق جملة رحالة وسياج كتبوا عنه، نذكر من مشاهيرهم العالم الطبيعي الألماني "راوولف" (Rauwolf) من أهل القرن السادس عشر وزار العراق في مطلع القرن السادس عشر نبيل إيطالي اسمه "بترو ديلا قاله" (Pietro Della Valle)؛ وقد استغرقت رجلته في بلدان الشرق والعراق من عام 1616 إلى عام 1625، فزار بقايا بابل (1616) وبقايا "أور" (1625) وهو في طريق عودته إلى بلاده عن طريق البصرة. وكان على ما يرجح أول رحالة أوروبي زار بقايا "الأخيضر" الشهيرة ووصفها، كما زار المدينة الفارسية القديمة "برسيبوليس" (اصطخر) وجلب منها أولى نماذج من الخط المسماري الغريب، كما أخذ معه آجراً مختوماً بهذا الخط من بابل و "أور".
وتلا "ديلا فاله" سياح آخرون في القرن السابع عشر نذكر من مشاهيرهم السائح الفرنسي " ثفينو" (Thevenot ) الذي زار العراق وبغداد في ولاية "قرة مصطفى" (1664)، ووصف بغداد وذكر نتفاً عن بعض البقايا الأثرية، والرحالة الفرنسي" تافرنيه" في القرن نفسه (10).
رحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر:
صادف حب التطلع والاهتمام اللذين أثارتهما أخبار أمثال أولئك السياح والرحالة ظهور ما يعرف في تأريخ أوروبا بالحركة "الرومانطيقية" التي انصفت من جملة ما اتصفت به بالرغبة في الوقوف على أخبار الماضي واستكشافات المجهول من الأقاليم، فنشطت الأكاديميات والمؤسسات العلمية الأوربية في إرسال البعثات إلى أنحاء الشرق، وكانت أول بعثة من هذا النوع البعثة الاستطلاعية المنتظمة التي أرسلها ملك الدنيمرك في عامي 1761 و 1767 برئاسة العالم الرياضي الدنمركي " كارستن نيبور" (Kaeasten Niebuhr) لجمع المعلومات العلمية في مختلف المواضيع ومنها بقايا الماضي وآثاره. وقد امتاز رئيس تلك البعثة بالدقة العلمية في وصفه لبقايا نينوى وبابل ورسم لها مخططات، واستنتج نماذج عديدة من الكتابات المسمارية ولا سيما من مدينة " برسيبوليس"، فوضع بذلك في متناول أيدي الباحثين واللغويين مادة أصلية مهمة. وسنرى كيف أن تلك الجهود المحمودة قد أسفرت في القرن التالي (منتصف القرن التاسع عشر) عن حل رموز الخط المسماري، مفتاح معرفتنا بحضارة وادي الرافدين. ونشر "نيبور" نتائج تحرياته" في عام 1778.
وتقدمت مرحل الكشف عن ماضي العراق خطوات اخرى حينما صار المهتمون بهذا الموضوع يقيمون في العراق فترات أطول، مدفوعين في ذلك بالشؤون السياسية والتجارية مثل وكلاء الشركات الأجنبية والمقيمين الممثلين لدولهم. وعمت هذه الرغبة حتى بين السياح لمدد قصيرة ممن زار البقايا الأثرية الشهيرة واستنتج الكتابات وجمع الآثار، نذكر منهم عالم النبات الفرنسي "ميشو" (Michaux) الذي عثر في منطقة طيسفون (سلمان باك) على حجرة حدود منقوشة بالخط المسماري وقد باعها إلى المكتبة الوطنية في باريس وحاول البعض ترجمتها، فكانت ترجمة خيالية عجيبة.
ونذكر من مشاهير المقيمين في بغداد مدداً طويلة المبعوث الباوي" بوشام" (Abbe joseph Beauchamp) الذي مكث في بغداد من عام 1785 إلى 1790. وكان فلكاً وزار من بين ما زار من المدن القديمة بقايا بابل مراراً كثيرة، واجرى التنقيبات فيها وأزاح الانقاض عن أسد بابل الشهير، كما كشف عن بعض الأجزاء من باب "عشتار" وكان يراسل أكاديمية العلوم الفرنسية ونشر نتائج تحرياته في مجلة العلماء الفرنسببن (Journal Des Savants) في عامي 1785 و 1790 فكان ذلك من العوامل المهمة في إثارة الرغبة بين الباحثين والمؤسسات العلمية الأوروبية للاستزادة من المعلومات بمتابعة الدراسات ومواصلة البحوث. وشملت هذه الرغبة الرأي العام الأوروبي ويوجه خاص في إنكلترا، حتى أن شركة الهند الشرقية المعروفة في لندن طلبت من ممثليها في البصرة أن يرسلوا إلى إنكلترا المزيد من الآجر المختوم بالكتابة المسمارية. ونشط العمل أكثر بإرسال الشركة مقيماً لها في بغداد هو "كلوديوس رج" (Cludius Rich) الذي شغل بالإضافة إلى ذلك وظيفة القنصل البريطاني العام في بغداد (807)، بيد أنه توفي بمرض الكوليرا وهو في سن مبكرة (1821)؛ وقد امتاز "رج" بموهبة في تعلم اللغات الشرقية، فكان يجيد العربية والتركية، وزار بقايا بابل (1811) ورسم مخططات لها كما اجرى بعض التنقيبات فيها وزار نينوى وجمع منها بعض الألواح المسمارية. وكان مسكنه في بغداد (11) مركزاً وملتقى للرحالة والباحثين من أمثال "بكنكهام" (James Buckingham) و "بلينو" و "كير بورتر" (Ker Parter) ومن مشاهير رحالة هذه الفترة "روبرت مينان" (Robert Mignan) (1828-1827) الذي حفر في بابل ووجد اسطوانة من الطين منقوشة بالخط المسمار. و "وليم أنزورث" (Wiliam Ainsworth) و "بيلي فريزر" (Baillie Frazer) في الثلاثينات من القرن الثامن عشر، ونذكر كذلك بعثة "جسني" البريطانية لمسح النهرين ودراسة صلاحيتهما للملاحة (1836 – 1835).
تنقيبات الهواة (1899 – 1842):
إن ما نوهنا به من تحريات السابقين في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر لم تكن في الواقع سوى نيش او حفر مشوش، ولم يبدأ الحفر الواسع أو التنقيبات إلا حين قارب التاسع عشر من الانتصاف، ولكن هذه التنقيبات كانت بعيدة عن الأساليب العلمية المتبعة في علم الآثار في مراحل تطوره التالية، فكانت أقرب ما تكون إلى النيش لاستخراج الآثار الكبيرة كالمنحوتات. ولم تكن لتعنى بتسجيل ما يعرف في علم الآثار بالطبقات الأثرية والأدوار التأريخية العائدة إليها، كما أهملت الآثار الصغيرة القابلة للتلف مثل ألواح الطين المسمارية، وأهملت تسجيل مخططات المباني. وكان الحفارون في هذه الفترة، التي يمكن تحديد بدايتها من تنقيبات "بوتا" في خرسباد (1843) ونهايتها بشروع التنقيبات الألمانية في بابل (1899)، لا يستطيعون ان يميزوا دائماً الجدران المبنية باللبن عن أنقاض التراب والطين فأزالوا معالم الأبنية القديمة المشيدة بهذه المادة، وتلفت مجاميع مهمة من الآثار بسبب إهمال تغليفها ووسائل النقل. وخلاصة القول كان هم اولئك المنقبين الهواة محصوراً بالدرجة الاولى في استخراج التماثيل والألواح الحجرية الكبيرة المنحوتة إلى المتاحف الشهيرة في أوروبا.
بدأ هذا الطور من التنقيبات، كما ذكرنا، في عام 1843 – 1842 في العواصم الآشورية في منطقة الموصل، وكان معظم المنقبين من قناصل الدول الأجنبية، واشتد التنافس ما بين الفرنسيين والإنجليز. ففي أواخر عام 1842 شرح القنصل الفرنسي "بول أميل بوتا" (Paul Emile Botta) بفحص خرائب نينوى من فوق تل "قوينجق" وبينا كان ينقب فيه أخبره رجل من أهل "خرسباد" بأنه يستطيع أن يجد آثاراً أكثر وأحسن في "خرسباد"، فنقل عمله إلى هناك في مطلق عام 1843، وسرعان ما تحققت أخبار ذلك الرجل، إذ بدأ "بوتا" يستظهر المنحوتات الآشورية الشهيرة من قصر الملك الآشوري "سرجون"، وواصل عمله في خرسباد إلى عام 1844(12)، وشحن اولى غنائمه في فرنسا.
وظهر في المسرح في هذه الفترة رجل إنجليزي اسمه "هنري ليرد" (Henry Layard)، ونال نصيباً من الشهرة في هذا الطور من التنقيبات وقد شجعه نجاح "بوتا" في خرسباد على أن ينقب في نمرود (مدينة كالح القديمة في عام 1845 وفي نينوى ففاز بكنوز أثرية شحنتها إلى لندن في عام 1847وكانت أولى الآثار الآشورية التي حاز عليها المتحف البريطاني. وثار نجاح "ليرد" اهتماماً وحماساً في إنكلترا مكناه من متتابعة نشاطه الأثري بالحفر في نينوى ولا سيما القسم المعروف منها بتل قوينجق، كما واصل العمل في "نمرود" من عام 1849 إلى 1851، وتحرى أيضاً عدة تلول أثرية في المنطقة. وبعد أن اعتزل العمل خلفه في النشاط الأثري الإنجليزي "هنزي رولنصن" (1895 – 1810) (Henry Rawlinson) الذي أسهم في حل رموز الخط المسماري، كما سيأتي إيجاز ذلك. وخلف "بوتا" الباحث الفرنسي "فكتور بلاس" (Victor Place). وقام في هذه الفترة من تأريخ التنقيبات تنافس مشين بين المنقبين الفرنسيين والإنجليز. أما "بلاس" فقد واصل التحريات في "خرسباد" فكشف عن قصر الملك "سرجون"، وامتازت أعماله بالدقة العلمية بالمقارنة مع معاصريه الآخرين، ولا سيما من ناحية التسجيل ورسم المخططات، فقد استطاع مساعدة المهندس المعماري "توماس" تسجيل مباني تلك العاصمة الآشورية في كتاب ضخم من الرسوم والمخططات.
وتابع "رولنصن" ومساعده "هرمز رسام" (من اهل الموصل) التنقيبات في نينوى وظفراً بمجاميع نفيسة من المنحوتات الآشورية في قصر الملك "آشور بانيبال" (627 – 668 ق.م)، وعثر أيضاً على كنوز مكتبة القصر الشهيرة.
ولم يقتصر التنافس الإنجليزي الفرنسي في نهب الآثار على عواصم الدولة الآشورية في شمالي العراق بل امتد إلى جنوب العراق، ولا سيما في التلول الأثرية المشهورة باسم "تلو" (مركز دولة لجش السومرية)، حيث سمع القنصل الفرنسي في البصرة " إميل دي سارزك" (Emile De Sarzec) بما يحتوي عليه ذلك الموضع من كنوز أثرية ، وسرعان ما شرع في نهبه (1878 – 1877) بدون إذن رسمي من الدولة العثمانية، وغنم كميات كبيرة من الآثار السومرية القيمة، من بينها المنحوتات والكتابات، وقد باعها إلى متحف "اللوفر" في باريس بمبلغ (13000) فرنك، وكان هذا مبلغاً ضخماً بالنسبة إلى ذلك العهد. وفي أثناء غياب "دي سارزك" أسرع " هرمز رسام" في نهب المنطقة الأثرية بالنيابة عن المتحف البريطاني. ونشطت في الوقت نفسه حقائر الأهليين ورجال القبائل المجاورة، ولنا أن نتصور مبلع التخريب والتدمير الذي أصاب التلول في هذه المنطقة الأثرية المهمة. وعلى الرغم من هذه الأضرار والمساوئ حفز وصول تلك الآثار النفسية إلى أوروبا الباحثين ومؤرخي الفن على درس هذه الآثار. وتمتاز الحقائر التي أجريت في منطقة "تلو" بأنها وضعت في متناول أيدي الباحثين اولى نماذج من الكتابات والفنون السومرية؛ وصادف ذلك التوصيل إلى حل رموز الخط المسماري في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. وظلت "تلو" موضع اهتمام المنقبين الفرنسيين من متحف اللوفر إلى عام 1931.
ودخلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى ميدان التحريات الآثارية في عام 1877، يوم أرسلت جامعة بنسلفانية بعثة أثرية برئاسة "بيترز" (Peters) أستاذ اللغة العبرية في تلك الجامعة، ومساعده "هلبرشت" (Hilprecht) للتنقيب في مدينة " نفر" الشهيرة (بالقرب من عفك) واستخرجت منها عشرات الألوف من ألواح الطين المسمارية المهمة، من بينها مجموعات ثمينة مدونة بالأدب السومري. ومع أن باكورة أعمال هذه البعثة شابتها الاضطرابات والقلاقل مع عشائر منطقة عفك المجاورة، إلا أنها استأنفت عملها بعد أعوام قليلة (1900 – 1889).
ولما أوشك القرن التاسع عشر على الانتهاء بدأ ما يصح أن نسميه بطور التنقيبات الأثرية العلمية، وفي وسعنا جعل التنقيبات الألمانية في بابل (1899- 1917) وفي آشور (قلة الشرقاط) (1914 – 1904) فاتحة هذا الطور الجديد في تأريخ التنقيبات في العراق.
___________
(1) سمي هيرودوتس الاجزاء المتضمنة مؤلفة في التأريخ، وعددها تسعة اجزاء، بأسماء الآلهات او الحوريات الخاصة بالموسيقى والغناء والشعر والتأريخ، وعددهم تسع آلهات (Muses) بحسب الأساطير اليونانية. ويجد القارئ الأخبار الخاصة ببلاد ما بين النهرين في الجزء الأول المسمى باسم آلهة التأريخ "كيلو" (Cilo). وقد ترجم تأريخ هيرودوتس عدة ترجمات إلى اللغات الأوروبية المختلفة، ومنها ترجمة "جورج رولنصن" :
G. Rawlinson , the History of Herodotus (Every Man's Library, 1910).
وعن هيرودوتس وتأريخه بوجه عام نختار من الدراسات الكثيرة:
J. L. Myres, Herodtus, Father of History (1953).
وعن وصفه لبلاد بابل:
W. Baumgartner, ''Herodotus Babylonische and Assyrische Nachrichten'', in Archiv Orientalni, (1950) 69ff.
(2) يسمى كتاب "ينيفون" بحملة "ينيفون" (Anabasis):
Xenophon Anabasis: The Expedition of Cyrus the Younger.
(3) ترجم كتاب " سترابو" في الجغرافية عدة ترجمات منها:
H. L. Jones, Atrabo, Gtrabo, Geyraphy.
(4) ترجم كتاب "سترابو" في الجغرافية عدة ترجمات منها:
H. L. jones, Strabo, Gegraphy.
(5) عن المؤرخ "بيروسس" راجع:
Schnabel, Berosos and die Babylonische Hellenistische Literatur (1923).
وتحت مادة (Berosos) في المرجع المرموز له بـ RLA , I.
(6) عن جغرافية بطليموس ومؤلفاته الأخرى انظر:
Stevenson, Claudius Ptoleny, Geograrphy .
وراجع المتن تحت ثبت "بطليموس"، وهو ما يسمى "قانون بطليموس" المتضمن أسماء ملوك بابل وآشور منذ القرن الثامن ق.م إلى منتصف القرن الثاني الميلادي.
(7) انظر ملخصها في ملحمة "جلجامش"، ترجمة طه باقر، (الطبعة الثانية 1971).
(8) عن " أميانوس مركيلينيوس" أو "مرشيلينيوس" راجع:
Yonge, Ammianus Marcellinus (1911).
(9) "بنيامين" بن يوحنا "رابي" تطيلة (Tudela) في مملكة "نافار" (Navarre) ولم تنشر أخبار حلته إلا في القرن السادس عشر حيث ترجمت من بعد ذلك إلى اللغات الأوروبية المختلفة، وترجمها إلى العربية الاستاذ "عزرا حداد".
(10) ترجم السيدان بشير فرنسيس وكوركيس عواد القسم الخاص بالعراق من رحلة "تافريته" (بغداد 1944).
(11) اشتهر "رج" أيضاً في رحلته الشهيرة إلى كردستان، ونشر عن ذلك كتاباً قيماً، ونشر كذلك نتائج تحرياته في بابل في كتاب خاص بعنوان:
C. Rich, Memoir on the Ruins of Babylon (1812 – 18).
وعن حياة " رج" وسيرته راجع:
C. Alexander, Baghdad in the Bygone Days (1928).
S, Lloyed, Foundations in the Dust (1974).
(12) حول التنقيبات في العراق راجع المصادر الأساسية التالية:
(1)RLA,L, (Ausgrabungen)
(2) W. Budje, Rise and Progress of Assyriology (1925).
(3) S. Lloyd, Foundations in the Dust (1947).
(4) S. Lloyd, Mounds of the Near East (1962).
(5) A. Parrot, Am, I, II.
(6) G. contrnau, Manuel D'Archeologie orientale. 4 vols. (1927 – 47).
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|