يختلف علماء اللغات والاثار في تحديد الاطار الجغرافي لمفهوم حضارات الشرق القديم, فالشرق حسب مفهوم بعضهم يعني منطقتنا العربية, في غرب اسيا , بالاضافة الى الهند والصين واليابان, ويعني لبعضهم تلك البلدان المجاورة الى البحر المتوسط بما في ذلك تركيا وايران والجزيرة العربية, ويحدد اخرون الشرق في منطقة الهلال الخصيب بحدوده الطبيعية , وكل له ما يثبت وجهة نظره و ويدعم رايه من وثائق وبراهين, سواء كانت هذه الوثائق والبراهين جنسية عرقية, ام جغرافية بشرية.

ونحن نجزم بعدم انغلاق حضارة على نفسها لاسيما منطقتنا العربية, وان كنا لا نعتقد بوجود تأثيرات حضارية وافده من الصين واليابان, رغم بعض التشابه النسبي في بعض نواحي الفن مع ما يوجد في الهند, او خلف جبال القفقاس (القوقاز) لذا علينا الا نفاجا بتشابه الاثار المادية الحضارية المكتشفة في اوغاريت على الساحل السوري مع ما يماثلها في شمال الجزيرة السورية , او جنوب الاناضول, او عند ملتقى النهرين (دجلة والفرات) جنوب العراق.

فالحضارة وحدة فاعلة ومنفعلة, فبعض اعمال التنقيب الاثري التي جرت في جنوب الرافدين القت وما زال تلقي اضواء على اماكن سورية كانت حتى الامس القريب مجهولة, والتنقيبات التي جرت في حوض الفرات السوري (منطقة السد) سوق تكمل وتشرح وتوسع ما عرفناه عن تاريخ العراق القديم, علما ان دراسة آثار الرافدين كانت الاساس الذي انطلقت منه علماء الاثار من جنسيات مختلفة في دراسة الاثار المكتشفة في حوض الفرات الاوسط ناهيك عن مواقع اخرى منتشرة في سورية الداخلية والساحل. فالوحدة الحضارية التي تجمع اقطار الوطن العربي ولا سيما في بلاد الشام والرافدين قديمة قدم هذه الارض ,وتبقى للأسف معلوماتنا ناقصة عن الجزيرة العربية يعتروها النقص بسبب انغلاقها امام المنقيبين والدارسين الآثاريين.

من هي الشعوب التي صنعت الحضارة ؟

نحن نجهل ما هية الشعوب التي قطنت هذه المنطقة قبل اختراع الكتابة رغم رقي حضارتها, وسوف تبقى بلا اسم الى ما لانهاية, وان استطعنا ان نحدد مواقع نشاطها وامتداد سكانها وحلها وترحالها في بعض الاحيان, الا اننا عاجزون عن تسميتها باسمها ونكتفي بتسمية العصور التي نشأت فيها.

واذا تجاوزنا العصور الحجرية القديمة والمتوسطة – نظرا لفقر الدراسات التي تمت حولها في منطقتنا نصل الى نهاية العصر الحجري الوسيط, وبداية العصر الحجري الحديث, حيث تعطينا الحفريات في منطقة حوض الفرات فكرة عن نمط الاستيطانات البشرية الجماعية الاولى في سوريا , ويمثل (تل الريبط) على الضفة الغربية من نهر الفرات في الجزيرة السورية (حوالي 80 كم شرقي حلب) هذه الفترة خير تمثيل, حيث نشأت اقدم قرية سكنية عرفتها سورية, وتعود الى بداية الالف التاسع قبل الميلاد وتنتمي هذه الحضارة الى الحضارة النطوفية (نسبة الى احد المواقع في فلسطين) التي كانت منتشرة بين النيل والفرات, وتتميز في اسلوب بناء البيوت, وكانت البيوت عبارة عن غرف دائرية كبيرة الشكل استخدم الانسان في بنائها الخشب الذي كان يشذب بواسطة قدوم من الصوان , ليصنع منه العواميد التي كانت تنصب جانب بعضها لتشكل حاجزا يطلى من الداخل بالطين بمواد خفيفة كالحصر والاغصان وجلود الحيوانات . وقد بقي هذا النمط من البناء سائدا حتى فترة الاستيطان الثانية بعد 500 عام واستعيض عن الخشب بالطين واصبحت الجدران اكثر سماكة واساساتها من الحجر الا انها بقت بيوت بسيطة تتألف من غرفة واحدة دون تقسيمات داخلية. وفي بداية الالف الثامن قبل الميلاد ظهرت في المريبط بيوت دائرية كبيرة يصل قطرها الى 10م وتشمل على غرف داخلية تفصل بينها جدران مستقيمة, وفي مرجلة الاستيطان الاخيرة في المريبط في الالف السابع قبل الميلاد تخلى السكان عن البيوت الدائرية واستبدلوها ببيوت مستطيلة, وقد كشفت التنقيبات في موقع اخر في منطقة الغمر(موقع ابي هريرة) عن بيوت مستطيلة مشابهة تعود الى نفس العصر وهي ذات باحات مكشوفة وممرات ضيقة, وهناك مواقع مشابهه من هذا العصر في محافظة حلب مثل موقع الجرف الاحمر الذي تنقب فيه بعثة فرنسية سورية مشتركة وتل قرامل على طريق المسلمية وتنقب فيه بعثة بولونية سورية مشتركة.

وقد اكتشفت الدلائل السكنية الاولى في اوغاريت (راس شمرة على بعد 11 كم شمال اللاذقية) بطريقة غير مباشرة فوق الارض العذراء وتعود بتأريخها الى مرحلة الاستيطان الاخيرة في المريبط اي الالف السابع ق.م.