أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-8-2017
9727
التاريخ: 3-8-2017
18226
التاريخ: 13-1-2019
2154
التاريخ: 20-3-2017
2291
|
يمر العقد بمرحلتين أساسيتين هما: المرحلة السابقة على التعاقد وتسمى مرحلة ما قبل التعاقد، والمرحلة اللاحقة على التعاقد وتسمى مرحلة ما بعد التعاقد، ويقصد بالمرحلة الأخيرة، المرحلة التي يكون العقد قد أنعقد فيها وأصبح قائماً وصالحاً لترتيب أثاره وأحكامه، وهذه المرحلة لا تعنينا في نطاق دراسة مجلس العقد، أما المرحلة السابقة على التعاقد أو مرحلة ما قبل التعاقد فهي المرحلة التي ستنصب دراستنا عليها في هذا الموضوع تعتبر المرحلة السابقة على إبرام العقد من أهم مراحل التعاقد وأخطرها بما تحتويه من تحديد لأهم التزامات وحقوق طرفي العقد، وبما ينشأ عنها من مشكلات قانونية عديدة سواء ما يتعلق منها بالمخالفات اللاحقة للالتزامات السابق تحديدها في هذه المرحلة أو ما يتعلق منها بنطاق ونوع المسؤولية التي تنشأ على عاتق الطرف الذي يتسبب في وقوعها(1). فلم تعد العقود اليوم مقتصرة على الصورة البسيطة التي تعقد فوراً وتكون مقتصرة على صدور الإيجاب الذي يعقبه قبول مطابق كشراء الحاجات اليومية من الأسواق أو بيعها، فهذه القواعد أصبحت غير قادرة على الاستجابة لضرورات وسائل الإنتاج الصناعي وطرائق التسويق الحديثة وتعجز عن مجابهة المخاطر التي تنطوي عليها عادة العقود غير التقليدية(2). كالعقود التي تبرم من أجل الحصول على خبرات فنية (تكنولوجيا أو تقنية). لذلك تطلبت الحاجة في كثير من الأحوال اللجوء إلى المفاوضات، نظراً لاختلاف وجهات النظر في شروط هذه العقود أو بنودها، فكانت المفاوضات لتقريب وجهات النظر، ولا فرق في ذلك سواء أكان التعاقد يجري بين حاضرين أم بين غائبين(3). يتضح أن السمة المشتركة لفترتي المفاوضات ومجلس العقد هي أن الفترتين تمثلان مرحلة ما قبل التعاقد(4). والتي تمتد إلى لحظة إبرام العقد(5) . ولكن أتعد الفترتان متداخلتين أم أن لكل فترة خصوصية معينة تميزها من الفترة الأخرى؟ لغرض إعطاء وصف دقيق للتمييز بين الفترتين لا بد من توضيح ماهية المفاوضات، وتحديد الوقت الذي تعد فيه فترة المفاوضات منتهية بغية الوصول إلى اللحظة التي تبدأ فيها فترة مجلس العقد. لذلك سيقسم هذا الموضوع إلى فرعين نتناول في الفرع الأول: ماهية المفاوضات، بينما نتناول في الفرع الثاني: تحديد اللحظة التي تفصل فترة المفاوضات من فترة مجلس العقد.
الفرع الأول : ماهية المفاوضات.
المفاوضة في اللغة: تبادل الرأي من ذوي الشأن، وفاوضه في أمره أي جاراه، وتفاوض القوم في الأمر، أي فاوض بعضهم بعضا(6). فيه بغية الوصول إلى تسوية واتفاق، وفاوضه في الأمر بادله الرأي فيه بغية الوصول إلى تسوية واتفاق، ويقال فاوضه في الحديث بادله القول فيه، وتفاوضا: فاوض كل صاحبه. قد تبدأ فترة المفاوضات بدعوة تسمى بالدعوة إلى التفاوض، وهي دعوة أحد الأشخاص للآخر للدخول معه في مفاوضة بشأن عقد معين. وهذا ما يحصل عادة في العقود المهمة أو التي تمثل قيمة اقتصادية كبيرة، وقد توجه هذه الدعوة إلى الجمهور في بعض الأحيان. كما أن هذه الدعوة قد يوجهها أحد المتعاقدين أو من ينوب عنه إلى المتعاقد الآخر أو من ينوب عنه سواء كان المتعاقد الآخر شخصاً واحداً أم عدداً من الجمهور بشأن صفقة معينة دون أن تنطوي على تحديد كامل لعناصر التعاقد. فلا تشكل هذه الدعوة إذاً عرضاً بمفهوم الإيجاب(7). وإنما تكون الغاية منها التحاور وتبادل الآراء والتفاوض قبل الأقدام على التعاقد، فالمفاوضات تفتح السبيل أمام التفكير بحدود التعاقد من الناحيتين القانونية والاقتصادية قبل تحمل ما ينشأ عن التعاقد من أثار قانونية(8). كما قد يتسع مفهوم المفاوضة ليشمل المقترحات الأولية التي يبديها أحد الطرفين كإعلان الرغبة في التعاقد، التي لا تصل إلى حد الإيجاب الكامل، والمقترحات المضادة التي قد يتقدم بها الطرف الآخر، والمناقشات التي تتم بينهما شفهية أو كتابية مباشرة أو غير مباشرة(9). وتبرز أهمية المفاوضات بالنسبة إلى المتفاوض من خلال بيان رأي من يتفاوض معه(10). كما وتظهر أهمية المفاوضات بشكل خاص في الكثير من العقود التي لا تتم إلا بعد مفاوضات طويلة قد تسفر في النهاية عن أيجاب وقبول، يساهم الطرفان في إعدادهما وشروطهما، ومن ثم فأن الإيجاب في هذه الحالة هو تعبير عن الإرادة المشتركة للطرفين، وهو ما يسمى بالإيجاب المشترك(11). أي بمعنى أن الإيجاب في هذه العقود لا يصدر إلا نتيجة للمفاوضات، ومن دونها لا يصل المتعاقدون إلى صياغة الإيجاب. ويلجأ الأطراف إلى صياغة الإيجاب المشترك عادة في المعاملات المالية ذات القيمة المالية الكبيرة التي تستوجب التفاوض. وتُعرف فترة المفاوضات في الفقه الإسلامي بفترة المساومة أو المساومات(12). كما إن مفهوم المفاوضات في الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة لا يختلف عن مفهومها في الفقه القانوني، فكلاهما يقصدان بالمفاوضات بذل المحاولات للوصول إلى تفاهم متبادل بين الطرفين ليقف كل منهما على مدى استعداد كل طرف لقبول شروط الطرف الآخر، وحتى يتسنى الوصول إلى تسوية واتفاق يتم صبه في قالب أيجاب يتم توجيهه إلى الطرف الآخر(13). وتجب الإشارة إلى أنه من الممكن الاستغناء عن فترة المفاوضات وأن تكون المرحلة السابقة على التعاقد مقتصرة على فترة مجلس العقد، فـ "تقديم المساومة على البيع ليس بشرط لصحته بل لو لقي رجلاً في طريقه فقال بعتك هذا بألف فقال قبلت، أو اشتريت صح البيع بلا خلاف، لأن اللفظ صريح في حكمه فلا يتوقف على قرينة ولا سابقة(14). وقد عُرفت المفاوضات بأنها "عبارة عن تبادل في وجهات النظر حول موضوع العقد وشروطه، ومناقشة لها وتعبير عن مواقف من العروض والعروض المقابلة التي يتخذها المتفاوضون(15). كما عرفت بأنها "تبادل الاقتراحات والمساومات والمكاتبات والتقارير والدراسات الفنية بل والاستشارات القانونية التي يتبادلها أطراف التفاوض ليكون كل منهما على بينة من أفضل الأشكال القانونية التي تحقق مصلحة الأطراف، وللتعرف على ما يسفر عنه الاتفاق من حقوق والتزامات لطرفيه(16). فليس ثمة إيجاب نهائي في مرحلة المفاوضات يصلح لأن يقترن به قبول يتم به العقد، وإنما هناك مجرد عروض وعروض مضادة(17). وتجدر الإشارة إلى أن المتفاوضين لا يتقيدون بطريقة معينة للتفاوض فقد تكون المفاوضة بالألفاظ كما هو الحال عن طريق التفاوض المباشر، وقد تكون عن طريق مكاتبات أو إرسال خطابات أو مستندات بين الأطراف، كما وأن للمفاوض أن يستعمل أية صيغة سواء صيغة الماضي أم المضارع أم الأمر أم الاستفهام (18). وعلى الرغم من الدور الذي تؤديه المفاوضات في مجال العقود فإنه من النادر وجود تشريعات تقوم بإعطاء تنظيم خاص بهذه المرحلة، ومن هذه التشريعات النادرة تشريعا إيطاليا واليونان(19). ولم ينص القانون المدني العراقي ولا القوانين المقارنة على الأحكام التي تترتب على فترة المفاوضات. وأخيراً فإن تلك المفاوضات قد تكون جزءاً لا يتجزأ من العقد إذا ما ألحقت بالعقد أو تم الإشارة إلى الاستعانة بها في تكملة العقد، ففي هذه الحالة تكون المفاوضات ملزمة للمحكمة للأخذ بها، فالمحكمة في هذه الحالة ملزمة بأن تأخذ بما جاء في المفاوضات التمهيدية السابقة للعقد وفقاً للقانون، إذا تستمد هذه المفاوضات قوتها الملزمة من اتفاق الأطراف أنفسهم والذي يتمثل عادة بإلحاقها بالعقد نفسه أو بالإشارة إليها في نص العقد(20).
الفرع الثاني : تحديد اللحظة التي تفصل فترة المفاوضات من فترة مجلس العقد
بغية محاولة الإحاطة بهذا الموضوع الذي يترتب عليه العديد من النتائج الشرعية والقانونية سنقوم بتناول هذا الفرع وذلك بتقسيمه إلى قسمين نتناول أولاً موقف الفقه الإسلامي، بينما نتناول ثانياً موقف الفقه القانوني وعلى التوالي.
أولاً:- موقف الفقه الإسلامي .
لقد اهتم الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة بمجلس العقد، وحدد بداية لفترته وخصه بالتنظيم، ولم يرتب على المفاوضات التي تعقد في الفترة التي تسبق المجلس أي أثار شرعية. لذا يمكن القول بأن الفقه الإسلامي قد عد صدور الإيجاب، هو الحد الفاصل ما بين فترة المفاوضات وما بين فترة مجلس العقد، اللتين تكونان المرحلة السابقة على إبرام العقد لأنه عادةً ما تسبق فترة المفاوضات فترة مجلس العقد، لأن ما يصدر فيها لا يكون إيجاباً ولا قبولاً(21). ويمكن الاستدلال على ذلك بما ذكره الفقهاء فقد ذكر أحد الفقهاء(22). بأنه "إذا أوجب أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار، إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رده". كما أورد جانب أخر من الفقه(23). على أنه "إذا أوجب أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رده". كما ذهب أحد الفقهاء(24). بالقول بأنه "لو قال أبيعك سلعتي بعشرة إن شئت، فلم يقل أخذتها حتى أنفض المجلس لم يكن له شيء اتفاقاً". يتبين لنا من هذه النصوص أن الفقه الإسلامي قد أعتبر بأن الآثار التي تترتب على مجلس العقد تترتب بعد صدور الإيجاب، إما قبل ذلك فأن المتفاوض لا يتقيد بالطرائق التي يجب اتخاذها في مجلس العقد من قيود سلوكية أو مكانية قد تقيد المتعاقد في فترة مجلس العقد ولا تقيد المتفاوض في فترة المفاوضات التي تسبقه.
فالفقه الإسلامي يؤكد على تميز فترة المفاوضات من فترة مجلس العقد بصدور الإيجاب، ولا تأثير لفترة المفاوضات في فترة مجلس العقد، ومع ذلك فأن فترة المفاوضات لا تخلو أحياناً بوصفها وقائع مادية من فائدة في تفسير بعض الأوضاع الغامضة المرافقة لصيغة العقد في مجلس العقد(25). فالمفاوضات هي التي تحدد الموجب له في مجلس العقد، إذا ما أتت صيغة الإيجاب في هذا المجلس خالية من الخطاب. كما لو قال الموجب " بعت هذه السيارة بألف " ولم يقل" منك " أو " من فلان ". فمسألة تحديد الموجب له في الإيجاب هو أمر جوهري فيه، ينعدم الإيجاب بتخلفه، فـ "لو قال لآخر بعدما جرى بينهما مقدمات البيع نظير هذا بألف، ولم يقل منك، فقال الآخر اشتريت صح، ولزم(26).
ثانياً:- موقف الفقه القانوني .
30
لم تضع لنا التشريعات المقارنة تنظيماً قانونياً في نصوص القوانين المدنية لفترة المفاوضات، بل أشارت إلى فترة مجلس العقد(27). ووضعت التنظيم القانوني له. مما أدى إلى التضارب في آراء فقهاء القانون المدني في تحديد اللحظة التي تفصل بين الفترتين، فقد أحتدم خلاف فقهي في ذلك وظهرت آراء مختلفة سنقوم بإيضاحها بغية محاولة الوصول إلى الرأي الصحيح من هذه الآراء.
الرأي الأول: ذهب أحد الشراح(28). إلى القول أن فترة المفاوضات تمتد إلى لحظة إبرام العقد، فصدور الإيجاب على حد رأيهه وأن كان تعبيراً باتاً بالتعاقد إلا أنه لا يعني نهاية لفترة المفاوضات، ذلك أن المفاوضات تنصب على تحديد شروط التعاقد وطبيعة العقد المزمع إبرامه وصولاً إلى إبرامه. ومن ثم فإن الإيجاب يكون عنصراً في المفاوضات، ولا يعني صدوره انتهاء لفترة المفاوضات، بمعنى أن هذا الرأي لا يعطي خصوصية معينة للفترة التي تفصل ما بين صدور الإيجاب واقترانه بالقبول أو تفرق المتعاقدين قبل الانعقاد. وهذا ما يتناقض مع فكرة مجلس العقد، التي لا يمكن تجاهلها مما يترتب عليها من أحكام مختلفة من خيار للرجوع أو خيار للقبول، أو غيرها من الأحكام التي ستتوضح لدينا في هذه الدراسة.
الرأي الثاني: في حين ذهب جانب من الفقه(29). إلى أن فترة المفاوضات تنتهي بالإيجاب الذي يتصل به القبول. فالإيجاب التام على حد رأيهم، إذا لم يتصل به قبول، أي تم الإعراض عنه فأنه يؤلف مجلس عقد ناقص، ولئن أطلق عليه الفقهاء تسمية " مجلس العقد " فأن هذا الإطلاق يكون من باب المجاز لا الحقيقة اعتباراً بما سيكون عليه هذا العقد لو توافرت له شرائط تمامه، أي لو لم يسقط بالإعراض. ولكن لنا أن نتساءل في هذا المجال. ما الفائدة من إطلاق مصطلح مجلس العقد على الفترة التي تسبق الانعقاد بعد انعقاد العقد؟ هل الغاية منها هو تسمية مجردة؟ فإذا كان الحال كذلك فإن مجلس العقد سيفقد قيمته بوصفه يحدد الفترة التي يبقى فيها الإيجاب صالحاً لاقترانه بالقبول.
الرأي الثالث: يذهب جانب من الفقه(30). إلى أن المفاوضات تنتهي بصدور الإيجاب، إذ يؤشر صدور الإيجاب الدخول في مرحلة أخرى هي مرحلة تكون العقد. وحجتهم في هذا الرأي، أنه لو تمت المقارنة بين العقد الذي تسبقه مفاوضات وبين العقد الذي لا تسبقه مفاوضات، نرى أن الأخير يبدأ بصدور الإيجاب من أحد الطرفين، ولا يفعل الموجه إليه الإيجاب شيئاً أخر غير الانضمام إلى هذا الإيجاب، وعند ذاك تنشأ الرابطة العقدية، ومن هنا يقولون أن المركز العقدي يتبلور بصدور الإيجاب. وأنتقد بعض الشراح(31). هذا الرأي بالقول ما المقصود من القول بأنه بصدور الإيجاب يبدأ المركز العقدي؟ هل يعني الدخول في نطاق العقد؟ فإذا كان هذا، فأن رجوع الموجب عن أيجابه، إن أمكن عده خطأ، سيؤدي إلى تطبيق أحكام المسؤولية العقدية وهذا لا يمكن التسليم به، لأن الأخيرة لا تنهض إلا إذا كنا بصدد إخلال بالتزام ناشئ عن العقد الصحيح.
الرأي الرابع: يذهب جانب من الفقه(32). إلى أن فترة المفاوضات تنتهي بصدور الإيجاب البات، إذ يعد صدور الإيجاب بداية لمرحلة أخرى هي مرحلة مجلس العقد. فتكون فترة مجلس العقد فترة تالية لفترة المفاوضات ومكملة للفترة التي تدعى الفترة السابقة على إبرام العقد التي تنتهي إما بإبرام العقد أو بانفضاض المجلس دون انعقاد للعقد، ولا يعني الدخول في مرحلة تكون العقد. فالمفاوضات على وفق هذا الرأي ما هي إلا مرحلة تبادل وجهات النظر بما يؤدي إلى صدور الإيجاب(33). ونتفق مع أصحاب الرأي الأخير ونستند في ذلك إلى الأدلة الآتية:-
1- لقد جاءت المواد (82) من القانون المدني العراقي و (94) من القانون المدني المصري و (96) من القانون المدني الأردني لتوضح الوضع القانوني للمتعاقدين بعد صدور الإيجاب وقبل اقترانه بالقبول، وهذا دليل صريح على اعتراف المشرع العراقي والمصري والأردني بخصوصية هذه الفترة.
2- إن الرأي الغالب في الفقه المدني بأن مجلس العقد هو الفترة الزمنية التي تفصل ما بين صدور الإيجاب واقترانه بالقبول ، وبذلك تتبين خصوصية هذه المرحلة التي تميزها من مرحلة المفاوضات التي تسبقها.
3- أن الأطراف في فترة المفاوضات لا يتقيدون من حيث المكان والزمان أو السلوك والانشغال بنفس القيود التي يتقيد بها المتعاقدان في فترة مجلس العقد. فالمفاوض في مجال المكان ليس ملزماً بمكان معين فله أن يساوم الطرف الآخر ماشياً أو راكباً أو قاعداً وهو في مجال السلوك ليس مقيداً بالأحجام عن أعمال معينة يعد القيام بها أعراضاً عن التفاوض(34). من الممكن تصور إبرام العديد من العقود دون الحاجة إلى فترة المفاوضات، وكل ذلك على حسب ظروف التعاقد وأهميته ومدى الحاجة إلى فترة المفاوضات، إلا أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تخلو مرحلة ما قبل التعاقد من فترة مجلس العقد، ولا يمكن الانتقال من مرحلة ما قبل التعاقد إلى مرحلة ما بعد التعاقد إلا بالمرور بهذه الفترة(35). فالعقد لا يمكن أن يبرم دون صدور إيجاب من الموجب يتبعه قبول.
4- من الممكن تصور وجود فترة للمفاوضات من دون وجود فترة مجلس العقد ويحصل ذلك في حالة انتهاء المفاوضات قبل الوصول إلى إصدار إيجاب بات فيها. مما يوضح تميز الفترتين عن بعضهما البعض. إذاً فالإيجاب يعتبر العنصر الأساسي لتمييز فترة المفاوضات من فترة مجلس العقد سواء أكان الحال في الفقه الإسلامي أم في القانون والفقه المدني، ذلك أن الإيجاب يتضمن العناصر الجوهرية المزمع إبرام العقد بها ومن ثم فأن صدوره يعني أن الثقة المتولدة عن المفاوضات تكون في أعلى درجاتها. فيمثل مجلس العقد انتقال الفكر من مرحلة المفاوضة والمذاكرة إلى مرحلة العزم والتصميم(36). ولكن القول بأن أساس التفرقة ما بين فترة المفاوضات وفترة مجلس العقد هو صدور الإيجاب قد لا يحل المشكلة في بعض الأحيان، فقد يصعب التمييز بين التعبير الذي يدخل في فترة المفاوضات والتعبير الذي يعد إيجاباً فيدخل في فترة مجلس العقد. فالتمييز بينهما ليس بالأمر اليسير دائماً(37). وبالرغم من أن التمييز بين ما يعد إيجاباً وما يعد مفاوضة له أهمية واضحة في التعاقد. ذلك لأن قبول الإيجاب خطوة مباشرة يتم بها العقد، ولا سيما إذا كان هذا الإيجاب ملزماً، أما المفاوضات فهي خطوة إلى هذا الإيجاب(38). " فأن الفقه والقضاء لم يتوصلا إلى وضع معيار حاسم لهذا التمييز (39). لأن هذا التمييز يستند إلى وجود النية القاطعة في إحداث الأثر القانوني أو عدمه، فأن وجدت هذه النية فأنها تعد إيجاباً وإلا فأنها تعد في مجال التفاوض. أن الكشف عن هذه النية في القانون العراقي والمصري والأردني هي مسألة واقع يمكن أن تستخلص من سلوك الأطراف. وهذا هو المبدأ سواء طبقاً للقانون الفرنسي، أو القانون الإنكليزي، فكلما التعبير ليست الحاسمة فيه، فقد يكون على سبيل المفاوضة حتى ولو تضمن كلمة إيجاب(40).
أما القانون المدني الكويتي فقد وضع في المادة (39) منه(41). معياراً سليماً للتفرقة في هذا المجال(42). وقوام هذا المعيار أمران جوهريان، الأول: العزم النهائي من العاقد على إبرام العقد فلا يكفي مجرد الرغبة فيه إذا لم تصل إلى حد البت، والثاني: أن يحصل العرض المتضمن العزم النهائي على إبرام العقد على صورة بحيث إن مجرد صدور قبول من الطرف الآخر يكون من شأنه أن يؤدي إلى قيام العقد على أساسه، وهذا الأمر وذاك يتطلبان في العرض لكي يرتقي إلى مرتبة الإيجاب أن يتضمن في الأقل طبيعة العقد المراد إبرامه وشروطه الأساسية. فكل ما سبق العزم النهائي على إبرام العقد، ويهدف إلى مجرد التحضير أو التمهيد له لا يعد من قبيل الإيجاب بل هو من قبيل المفاوضات بشأنه أو من قبيل الدعوة إليه(43). وبذلك يتحدد الإيجاب بصورة واضحة، ولم يورد قانوننا المدني ولا القوانين المدنية المقارنة مثل هذا النص، الذي يوضح الإيجاب والوقت الذي يصدر فيه بصورة متكاملة وإنما اكتفى المشرع المدني العراقي بتعريفه في المادة (77) فقرة (1) بقوله: "1- الإيجاب والقبول كل لفظين مستعملين عرفاً لإنشاء العقد، وأي لفظ صدر أولاً فهو إيجاب والثاني قبول". كما لم تعالجه المجلة وإنما اكتفت بتعريفه في المادة (101) منها بقولها: "الإيجاب أول كلام يصدر من أحد العاقدين لإنشاء التصرف، وبه يوجب ويثبت التصرف". فكل من هذين النصين لا يحققان الغاية التي حققها المشرع الكويتي، وهي تحديد ما يعتبر إيجاباً وتمييزه مما قد يصاحبه من مفاوضات. من هنا يتبين لنا أن المشرع العراقي قد عد الكشف عن هذه النية أمراً يتصل بالواقع ويختلف باختلاف الظروف والملابسات ويستقل بتقديره قاضي الموضوع في ضوء ما يتبين له من ظروف الدعوى ووقائعها، ويجب على القاضي أن يبحث في كل حالة ليتخذ القرار المناسب في مدى وصول التعبير إلى مستوى الإيجاب أم وقوفه في حدود الدعوة إلى التفاوض. ففي الوقت الذي يعد إرسال رسالة عن طريق التلكس مثلاً بأسعار البضاعة دعوة إلى التفاوض في ظروف معينة فأنه يعد إيجاباً في ظروف أخرى. إذاً فالتعبير بوصفه إيجاباً أم مجرد عرض في فترة المفاوضات في القانون العراقي(44). والقوانين المقارنة هي مسألة موضوعية يحسمها قاضي الموضوع في ضوء عناصر القضية المعروضة أمامه ولا معقب على حكمه، على العكس من موقف المشرع الكويتي بحسب المادة (39) منه إذ تعد المسألة من مسائل القانون وليس الواقع، ومن ثم فأن للمحكمة العليا الرقابة على قاضي الموضوع في حالة الطعن بالدعوى أمامها.
______________________
1- د.محمد عبد الظاهر حسين، الجوانب القانونية للمرحلة السابقة على التعاقد، بحث منشور في مجلة الحقوق، العدد الثاني، السنة الثانية والعشرون، 1998م، ص727.
2- د. محمد عبد الظاهر حسين، المصدر السابق، ص727.
3- د. صلاح الدين زكي، تكون الروابط العقدية فيما بين الغائبين، ط1، دار النهضة العربية، 1963م، ص71.
4- مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن هناك العديد من العقود يتم إبرامها من دون مفاوضات تسبقها.
5- مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن هناك اتجاهاً فقهياً يأخذ بخيار المجلس، والذي يعتبر بأن مجلس العقد لا ينتهي إلا بعد انتهاء فترة الخيار، ويتمثل هذا الاتجاه أساساً بفقهاء الشافعية والحنابلة ومن ثم فإن الفترة السابقة على التعاقد تمتد إلى نهاية مجلس العقد بحسب اتجاههم.
6- محمد بن أبو بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، المصدر السابق، ص215.
7- فكل عرض لا يعني بالضرورة الإيجاب، فالعرض يكون بعدة صيغ قد يكون دعوة للتعاقد، وقد يكون إيجاباً عادياً، وقد يكون إيجاباً ملزماً، وقد يكون قبولاً وذلك عندما يكون هناك إيجاب فالعرض الذي يأتي بعد ذلك يكون قبولاً.
8- د.صبري حمد خاطر، قطع المفاوضات العقدية، بحث منشور في مجلة جامعة النهرين، المجلد1، بغداد، 1997م، ص120.
9- صابر محمد عمار، المفاوضة في عقود التجارة الإلكترونية، 2002م، ص3، مقالة منشورة في شبكة الانترنيت على الموقع:
www.mohamoon.com/montada/messagedetails.asp?p_messageid=333-51k
10- د.أنور سلطان، مصادر الالتزام، دار النهضة العربية، بيروت، 1983م، ص66.
11- صابر محمد عمار، المصدر السابق، ص5.
12- الكاساني، بدائع الصنائع، المصدر السابق، ج5، ص134 - الحطاب، مواهب الجليل، المصدر السابق، ج4، ص230.
13- صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص77.
14- النووي، المجموع، المصدر السابق، ج9، ص162.
15- اواز سليمان دزه يي، الالتزام بالإدلاء بالمعلومات عند التعاقد، اطروحة دكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية القانون بجامعة بغداد، 2000م، ص14.
16- صابر محمد عمار، المصدر السابق، ص3.
17-Carbonnier, Droit Civil, T, 4, Les Obligations, Collection Themis, Paris, 1996.P.72.
18- د.محمد وحيد الدين سوار، الشكل في الفقه الإسلامي، المصدر السابق، ص141.
19- د.محمد عبد الظاهر حسين، المصدر السابق، ص727.
20- نزار حازم محمد حسين الدملوجي، التعاقد عن طريق شبكة المعلومات العالمية (الانترنيت)، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية القانون بجامعة الموصل، 2002م، ص49.
21- الكاساني، بدائع الصنائع، المصدر السابق، ج5، ص134.
22- ابن الهمام، شرح فتح القدير، المصدر السابق، ج5، ص78.
23- الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، الفتاوى الهندية، المصدر السابق، ص7.
24- الحطاب، مواهب الجليل، المصدر السابق، ج4، ص230.
25- د.محمد وحيد الدين سوار، الشكل في الفقه الإسلامي، المصدر السابق، ص141.
26- ابن الهمام، شرح فتح القدير، ط2، ج3، دار الفكر، بيروت، بدون سنة طبع، ص190.
27- ينظر – م(82) عراقي، م(94) مصري، م(96) أردني.
28- سليمان براك دايح الجميلي، المفاوضات العقدية، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية النهرين للحقوق، 1998م، ص17.
29- د.محمد وحيد الدين سوار، الشكل في الفقه الإسلامي، المصدر السابق، ص140–141.
30- د.حلمي بهجت بدوي، أصول الالتزامات، الكتاب الأول في نظرية العقد، مطبعة نوري، القاهرة، 1943م، ص95 _ د.صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص71.
31- سليمان براك دايح الجميلي، المفاوضات العقدية، المصدر السابق، ص17.
32- ينظر – د.جابر عبد الهادي سالم الشافعي، مجلس العقد، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2001م، ص25 – د.عبد الواحد كرم علي، التعاقد بين غائبين في تشريعات الدول العربية، بحث منشور في مجلة الإدارة العامة، المجلد (41)، العدد الثاني، السعودية، 2001م، ص352.
33- Carbonnier , Droit Civil, OP. Cit . P.72.
34- د.محمد وحيد الدين سوار، الشكل في الفقه الإسلامي، المصدر السابق، ص141.
35- وما يؤكد ذلك ما جاء في المجموع " قال المتولي والأصحاب تقديم المساومة على البيع ليس بشرط لصحته بل لو لقى رجلاً في الطريق فقال بعتك هذا بألف فقال قبلت أو اشتريت صح البيع بلا خلاف، لأن اللفظ صريح في حكمه فلا يتوقف على قرينة ولا سابقة ".
يراجع: النووي، المجموع، المصدر السابق، ج9، ص162.
36- د.محمد وحيد الدين سوار، الشكل في الفقه الإسلامي، المصدر السابق، ص141.
37- Clarence W. Dunhan, contracts specifications and Law for Engineers, 3rd
edifien, B Ma Graw – Hill Book companiy, london, 1962. P.33.
38- د.عبد الفتاح عبد الباقي، مصادر الالتزام في القانون المدني الكويتي، ج1، نظرية العقد، القاهرة، 1983م، ص105.
39- أستاذنا الدكتور عباس زبون العبودي، التعاقد عن طريق وسائل الاتصال الفوري وحجيتها في الإثبات، أطروحة دكتوراه مقدمة الى مجلس كلية القانون بجامعة بغداد، 1994م، ص78.
40- Spencer V. Harding (1870) L.R.S.C. P.561 - Clifton palumbo (1944) 2 all E.R . P.497 .
نقلاً عن: د.فتحي عبد الرحيم عبد الله، العناصر المكونة للعقد كمصدر للالتزام، القاهرة، 1979م، ص88.
41- وقد نصت المادة (39) من القانون المدني الكويتي المرقم (67) لسنة (1980) على ما يأتي:
"يعتبر إيجاباً العرض الذي يتضمن عزم صاحبه على إبرام العقد بمجرد أن يقبله الموجب له. ويلزم أن يتضمن في الأقل، طبيعة العقد المراد إبرامه وشروطه الأساسية ".
42- وقد جاءت المذكرة الإيضاحية، في تعليقها على المادة (39) مدني كويتي وفي التفرقة بين ما يرتقي إلى مرتبة الإيجاب وما يبقى عند حد الدعوة إلى التعاقد بقولها :-
"تعمد المادة (39) لتحديد ما يعتبر إيجاباً ، يقوم العقد بقبوله، فقد يدق، في بعض الأحيان، تكييف ما يصدر من المتعاقد أهو إيجاب أم هو مجرد دعوة إلى التعاقد، أو من قبيل التفاوض بشأنه. ولهذا التكييف أهمية لا تخفى. فالإيجاب خطوة إلى العقد، تصل به إليه بمجرد أن يقترن به القبول، وعندئذ يمتنع على صاحبه الرجوع والنكوص. أما الدعوة إلى التعاقد، فإن تلبيتها تتضمن إيجاباً، يلزم قبوله ممن وجهها، ليقوم العقد، وبهذه الصورة يجوز لهذا الأخير أن يتحلل من إبرام العقد، مع عدم الإخلال بما تقتضيه قواعد المسؤولية التقصيرية من تحميله بالتعويض إذا كان له محل".
نقلاً عن: د.عبد الفتاح عبد الباقي، مصادر الالتزام في القانون المدني الكويتي، المصدر السابق، ص105.
43- د.حسن علي الذنون / محمد سعيد الرحو، النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، ج1، ط1، دار وائل للطباعة والنشر، عمان، الأردن، 2002م، ص64.
44- مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن القانون المدني العراقي قد حسم مسألة عرض البضائع مع بيان ثمنها باعتبارها إيجاباً في المادة (80) فقرة (1) والتي جاء فيها " 1- يعتبر عرض البضائع مع بيان ثمنها إيجاباً ".
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|