أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-02-08
1198
التاريخ: 14-11-2016
2139
التاريخ: 20-4-2016
6213
التاريخ: 10-1-2018
2002
|
إن البحث في أدب الطفولة لن يكون موضوعياً وعلمياً إن لم ينطلق من مفاهيم الإسلام وأحكامه التي اهتمت بالإنسان - عموماً - والطفولة - بشكل خاص -، وأدب الطفل لن تتحدد معالمه وسماته بحق إن لم نتعرف على رأي الإسلام في تربية الطفل، وتنشئته، لأن هذا الدين منهج للإنسانية، من أهم سماته التكامل والشمول، ينظم حياة الإنسانية، ويتعهدها منذ الولادة حتى الوفاة... فالدين ليس مناسك وشعائر فقط، بل هو نظام وتشريع وتربية.. هو وجدان وعمل، لأنه ينبع من أعماق الفطرة التي تتطلع إلى اكتشاف سر الوجود وكنه الكائنات(1).
وأدب الأطفال - عند كل الشعوب مرتبط بالتربية ارتباطاً وثيقاً، لأن هدف التربية الأخذ بيد النشء إلى أفضل الطرق لتنميتهم جسدياً وعاطفياً وعقلياً واجتماعياً، ومعرفة ومهارة(2)، وهي تهدف إلى اتخاذ العبودية الخالصة لله تعالى هدفاً نهائياً، أو غاية للتربية، ولهذه الغاية فروع وأهداف جزئية، منها ما يتعلق بالجسم، أو اللسان، أو العقل، أو المهن، أو الشعور، أو المجتمع، أو الإنسانية(3).
والإسلام كان سابقاً ورائداً في توضيح معالم التربية للطفل.. ويقوم الأساس التربوي للأطفال على مفهوم المسؤولية أمام الله (عز وجل) - والقيام بأداء الأمانة عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وعملاً بقوله (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)(4).
وقوله (صلى الله عليه وآله): (علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم)(5)، وقوله: (أدبوا أولادكم وأحسنوا أدبهم)(6).
وأقوال كثيرة له (صلى الله عليه وآله)، في حمل هذه المسؤولية التربوية؛ لأنها أساس بناء المجتمع الإسلامي.
ولقد فهم ذلك أجدادنا، وقدروا المسألة قدرها - ولذلك نشؤُوا أبناءهم تنشئة صالحة، فكان منهم الأمراء والقواد والفرسان والعلماء والقضاة والأدباء... إلخ، وكلهم ضمن هذا المجتمع الإسلامي الفاضل.
عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في قوله (عز وجل): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، قال: علموا أنفسكم وأهليكم الخير..
وقال مقاتل: أن يؤدب المسلم نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر. ويقول ابن القيم: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، ومن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً. كما عاتب بعضهم والده على العقوق فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً(7).
ولا بد من تحديد الركائز الأساسية لتربية الطفل المسلم، حتى نتبين فيما بعد المعالم التي يسير على أساسها أدب الطفل المسلم أيضاً.
إن الدارس لفلسفات التربية الحديثة في الشرق والغرب يدرك أنها تقوم على أساس معتقدات، بعضها يعود إلى معتقدات الفلاسفة القدماء عند اليونان، أو إلى معتقدات النصارى، أو إلى معتقدات الفلاسفة المحدثين في الغرب... لأن التربية تستند إلى نظرة الإنسان إلى الكون، وإلى القوة التي تُسير هذا الكون، وإلى علاقة الإنسان بهذه القوة وبالكون.. وبالتالي تعمل التربية على تهيئة الإنسان ليتحمل مسؤوليته، وللقيام بما عليه في هذا الكون وفق هذه المعتقدات.
ولهذا فإن التربية في المجتمعات البدائية كانت في جوهرها تدريباً آلياً تدريجياً على معتقدات الزمرة الاجتماعية وعاداتها وأعمالها(8).
وكذلك كانت التربية في المجتمعات الحديثة تقوم على اعتقاد فلسفي وضعي له نظرته الخاصة للكون والإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الإنسان بخالق الكون..
وقد تتقارب الفلسفات أو تتباعد ولكنها تتفق في كثير من الغايات والأهداف؛ لأنها تنبع من التفكير المادي النفعي.
ولهذا فإن الناقد الذي يرى النتائج التربوية المزعومة في العالم الغربي، ثم يقومها تقويماً موضوعياً - علمياً وتاريخياً وفنياً - لا يجد ما يبرر هذه الادعاءات والحماقات التربوية المعاصرة في توجيه الإنسان توجيهاً يجعله لا يتعارض مع مكانته في هذا الكون، الذي له رب وخالق ومدبر.. وإن لم يكن كذلك، فلماذا امتلأت الدنيا اليوم - دنيا التربية - بالأفراد والجماعات والدول ترعب وتعتدي وتعلن الظلم وتبيح الغش والحرام وتحلل المنكرات، وتحمي الشذوذ والمفاسد، وتشعل نيران الحروب وتغتصب حقوق الشعوب، وتسوق السموم إلى الناس باسم الروح، والمشروبات الروحية، وتنشر أنواع الموضات والموديلات في الميوعة والإفساد، وكل ذلك لطمس معالم الإنسان وقهره، ليصبح - حقيقة - مثالاً للإنسان الذي وصفته نظرية التطور(9).
وها هي ذي أوروبا بدأت تنقض غزلها، وتثور على واقعها بصور مختلفة، وكلها تنبىء عن فساد التصور الذي بنيت عليه التربيات الحديثة حتى مُسخ الإنسان ودثرت قيمه الحقيقية.
* ولهذا فإن الإسلام، والتربية الإسلامية تعنى أول ما تعنى بالعقيدة والتصور، كأساس أهم في تربية النشء، وبناء الشخصية الإسلامية.
* ولذلك كان الأساس العقدي أهم أساس في التربية الإسلامية، ولقد أشارت آيات وأحاديث كثيرة إلى هذا، وأقتطف من ذلك كله هذه الآيات التي وردت على لسان لقمان (عليه السلام): وهو يتوجه إلى ولده الصغير بالوصية: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان: 13 - 19].
هذه الآيات تبرز لنا أموراً مهمة في تربية الطفل من خلال هذه الوصايا الأبوية الممزوجة بصورة الأب القدوة، والمربي المثل، ومن خلال الأسلوب الحاني الرفيق، الذي يستثير العقل والوجدان معاً.
* وأول الأمور التي تبرزها الآيات هي ترسيخ العقيدة الصحيحة، لا بالتلقين والجدل والفلسفة، بل بالربط بين العقيدة والحياة، والعبادة، واستثارة كافة الحواس التي تستشف حقائق العقيدة مما تسمع أو تبصر أو تحس... {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، لأن توحيد الله (عز وجل)، ونفي الشرك، بله الكفر، بدهية من بدهيات الوجود الإنساني.. ولأن كل شيء شاهد على ذلك دال عليه.
بل تشير الآيات إلى تبصير الطفل بخطورة الشرك على النفس والمجتمع في الدنيا والآخرة. ومن آثار هذه العقيدة، بل من آثارها على المرء أن يتجه الطفل بصدق ومرحمة واحترام إلى الوالدين.. يتجه بالشكر والطاعة فيما لا يغضب الله (عز وجل).
ثم تتعمق حقائق العقيدة بالصورة المجسمة التي تناسب الطفل، التي توضح عظمة الله وقدرته وعلمه بطريقة مُمثلة: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
ثم تربط الآيات العقيدة بالسلوك... والعبادة بالمعاملة والتطبيق العملي والتعامل مع الناس(10).
وهكذا فإن العقيدة وترسيخها وتوضيحها بالطرق والأساليب المناسبة من أهم الأسس للتربية الإسلامية، وتأتي العقيدة عن طرق كثيرة، لا عن طريق التلقين الآلي وحفظ النصوص الجاهزة فقط بل بطرق عديدة، مثل ربط الطفل بالعبادة، وبتلاوة القرآن الكريم، وتعويده على ارتياد المساجد، وعلى ذكر الله والتوجه إليه بالدعاء، والتقرب إلى الله بالنوافل، والالتجاء إليه في الملمات، وفتح بصره على آثار قدرة الله في الكون وفي الإنسان، وتنبيه القلب والعقل لمراقبة الله تعالى في السر والعلن، وبيان الصفات التي تصور الله (عز وجل)، في حالة قريبة من الإنسان بحيث يراه ويرعاه، واستخدام الأدلة البديهية في الإقناع، واستخدام الحقائق والمكتشفات العلمية الحديثة أيضاً، وتكوين العاطفة الإيمانية القوية... إلخ...(11).
والإيمان يقوى بالسلوك والتطبيق العملي، ولذلك ربط الإسلام بين الاعتقاد والعمل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
وهكذا فالتربية عملية شاملة متكاملة، وليست أوامر وفلسفات نظرية... وترسيخ العقيدة من أهم الأسس التربوية التي ترتبط بالحياة عامة.
* ومن الأمور الأساسية في التربية غرس حب الله تعالى. وحب رسوله (صلى الله عليه وآله)، وتعليم الطفل القرآن الكريم(12)، وقد وردت في ذلك نصوص كثيرة... منها:
- روى الحاكم عن ابن عباس (رض)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: (افتحوا على صبيانكم أول كلمة لا إله إلا الله، ولقنوهم عند الموت لا إله إلا الله).
- وروى عبد الرزاق أنهم كانوا يستحبون أول ما يفصح الولد أن يعلموه لا إله إلا الله سبع مرات، فيكون ذلك أول ما يتكلم به.
- وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يأمر أصحابه بأن يؤذن أحدهم في أذن المولود اليمنى ويقيم في اليسرى).
وفي الحديث: (أذن ـ صلى الله عليه وآله ـ في أذن الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ حين ولدته فاطمة ـ عليها السلام ـ)(13).
ـ وروى البيهقي في الشعب من حديث الحسن بن علي (عليهما السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى رُفعت عنه أم الصبيان).
ويقول ابن القيم عن ذلك: (وسر التأذين والله أعلم: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته. والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كتلقينه شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به، وإن لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد، فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه أول أوقات تعلقه به.
وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته، سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم)(14).
ويقول الغزالي حول الاهتمام بعقيدة الطفل وتلقينه إياها منذ صغره: (اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوئه ليحفظه حفظاً لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً، فابتداؤه الحفظ، ثم الفهم، ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق، وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان، فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان أن شرحه في اول نشوئه للإيمان من غير حاجة إلى حجة أو برهان)(15).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعلم الأولاد ذلك. فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: كنت خلف النبي (صلى الله عليه وآله)، يوماً فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وورد في الحديث أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله): (أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن)(16).
* ولم تقتصر تربية الطفل على أمور العقيدة والعبادة، بل كانت تربية شاملة تربط بين العقيدة والحياة.. ولم تكن نظرة التربية الإسلامية إلى الناحية الروحية نظرة فلسفية، أو نظرية، وإنما كانت نظرة واقعية عملية تهدف إلى تكوين شخصية إنسانية متكاملة من جميع النواحي: الروحية، والأخلاقية، والعقلية، والجسمية.
* وهدف التربية الروحية بالدرجة الأولى حماية الشخصية الإنسانية وبالذات شخصية الطفل مما يشوه جوهرها ويسبب مرضها، إضافة لتنميتها بمختلف وجوهها وجوانبها بأساليب مختلفة، مع ترقية هذه الشخصية لتستطيع التقرب من خالق الكون (عز وجل)، والانسجام بين السر والعلن عن طريق الشعور الداخلي الراسخ بالصلة المستمرة برب العالمين... وبهذا تستمد هذه الشخصية من الله (عز وجل)، العون والثقة والإشراق والطمأنينة، مما يعطيها قوة دافعة راسخة واعية للحياة، بصورة متوازنة تتحمل المشقات، وتواجه الصعوبات بشجاعة وصبر، وتتسلح بالوقاية ضد الأمراض النفسية، والقلق والاضطراب الذي يصيب البعيدين عن الله (عز وجل)(17).
* ومثل هذه التربية تجعل العبادة في نظر الطفل رحلة روحية مشوقة.. لأنه يؤدي العبادة بروح العبادة لا بشكلها، ولا بدافع الخوف والعادة. ولهذا فلقد حرصت التربية الإسلامية على تنشئة الأطفال على عبادة الله من المراحل الأولى عن طريق الترغيب والتشويق والاعتياد، وكذلك حرصت على الربط بين العبادات وتزكية النفس وتطهيرها من الرذائل والسلوك السيئ، وتحليتها بالفضائل الأخلاقية المختلفة، (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً)(18)، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].
* وتوجه هذه التربية الطفل ليربط بين العبادة والحياة.. وأن تتطابق أعماله بين السر والعلن، وأن يكون في كل عمله على صلة بربه (عز وجل): (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى)(19).
- (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)(20).
- (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(21).
وهناك نصوص كثيرة جداً ترسخ هذه المفاهيم، وتنمي شخصية الطفل على منوالها(22)، وكلها تؤدي إلى تكوين الشخصية المتكاملة المتوازنة التي تدرك قيمة الحياة الروحية وضرورتها للحياة الإنسانية.
* وكان المربون المسلمون يدركون ذلك، ويعلمون أهمية التربية وشموليتها، ويعرفون الأسس الركيزة التي ينبغي أن تقوم عليها.. ولهذا كانت وصاياهم تؤكد ذلك في شتى المناسبات والأحوال.
يقول الغزالي في هذا الشأن: (الطريق في رياضة الأطفال من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش عليه، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه وولي أمره، وعلى الولي أن يصون الصبي عن الآثام بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم، ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر) .
(وينبغي أن يتذكر الولي أن تربية الصبيان ليست مقصورة على تعليمهم، وإنما تشمل ألواناً أخرى لا تقل أهمية عن التعليم، فيجب أن يراقبه الولي من أول أمره، لا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال... وينبغي أن يحسن مراقبته، وأن يقوي فيه خلق الحياء عند ظهوره فيه، وأن يعلمه الطريق المستقيم في تناول الطعام والمشاركة فيه).
(ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية، ولبس الثياب الفاخرة.. وكذلك الصبيان الذين ساءت أخلاقهم).
(ويرسل إلى المكتب مبكراً، فيتعلم القرآن، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار، وأحوالهم، ليغرس في نفسه حب الصالحين، ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذور الفساد)(23).
* وكذلك بدأت الدراسات الحديثة تلتفت إلى أسس التربية الإسلامية وتعنى بها، وتبحث عن أسس التصور الإسلامي في هذا المجال، وتدرك أهمية الانطلاق والاعتماد على هذا التصور في قضايا التربية والتعليم بعامة، وفي تنشئة الأطفال وتربية الشباب بخاصة، لأن ذلك يتعلق بعقيدة الأمة، وسلامة المجتمع، وبناء المستقبل.
ولا يمنع هذا استفادتنا من كل الدراسات التي تلتزم الحقيقة والموضوعية وتتفق مع حقائق الحياة، لأنها حينذاك سوف تلتقي مع التصور الإسلامي الذي انبثق من خالق الحياة، (سبحانه وتعالى).
ويحضرني في هذا المجال كلمة للشيخ محمد الخضر حسين في كتابه: (السعادة العظمى)، حيث يقول: (أيها الكفيل، إذا ألقيت مسؤولية الطفل في مراتع وخيمة، أخشى أن يضاعف لك العذاب ضعفين، تُعذب على تشويه تلك الجوهرة المكرمة عذاباً نكراً، وتحوز من تلك الجناية العامة نصيباً مفروضاً)(24).
ويقول في هذا الشأن أيضاً: (لا يدري كثير من الناس أن الطفل واحد من رجال الأمة، إلا أنه مستتر بثياب الصبا، فلو كشف عنه وهو كامن تحتها لرأيناه واقفاً في مصاف الرجال القوّامين، لكن جرت سنة الله ألا يتفق زوال تلك الأستار إلا بالتربية شيئاً فشيئاً، ولا تؤخذ إلا بالسياسات الجيدة من التدريج)(25).
من هذا كله ندرك أهمية التربية للطفل لينشأ نشأة سوية متكاملة، وليكون عنصر خير وبناء، يعطي ويبدع بثقة وطمأنينة واقتدار، دون أن تفقده صعوبات الحياة ومزالق الأيام توازنه، ودون أن تحرفه عن أهدافه الأساسية في الحياة كمخلوق مكرم.
ومن هنا ندرك أيضاً أهمية الأطفال لأنهم عدة المستقبل، والنبت الذي تنتظر منه الأمة على الدوام الثمر والعطاء، ونرى فيه التجدد والنماء، وهم القوة التي تبث في روح المجتمع الأمل والاستمرار، وهم السبيل الذي يمكن عن طريقه أن تنهض الأمة بحق، وتسمو وترتفع.
والإسلام هو الذي وضع المعالم الواضحة الراسخة التي تضيء الطريق لتربية الأطفال، وتوضح السبل أمام الباحثين لمعرفة خطوات الدرب، وأساليب التربية، بل لمعرفة الأساس في التربية والأهداف الثابتة لها، بالنظر إلى حقيقة الطبيعة الإنسانية المكرمة، المخلوقة المسؤولة عن أمانة عظيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ وحدة لتنمية الشعور الديني عند الأطفال: تأليف د / عواطف إبراهيم محمد، 1399 هـ - 1979م. وانظر أيضاً: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته / 1 ـ 2، للأستاذ سيد قطب رحمه الله، دار الشروق، وكذلك: هذا الدين: لسيد قطب، دار الشروق.
2ـ المرشد التربوي لمعلمات رياض الأطفال بدول الخليج / 36.
3ـ مدخل إلى التربية: للأستاذ عبد الرحمن الباني / 71، 72.
4ـ متفق عليه.
5ـ رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور.
6ـ رواه ابن ماجه.
7ـ منهج التربية النبوية للطفل، وهذا رأي الغزالي، وليس هذا شأناً مضطرداً، ولكنه يشير إلى مسؤولية الوالدين أمام الله سبحانه في تربية الأولاد.
8ـ التربية عبر التاريخ: د / عبد الله عبد الدايم، ط / 6، 1987.
9ـ انظر: مقال في تصور التربية الإسلامية: محمد بن محمد الأمين الأنصاري ط / 1، 1407هـ ـ 1986م.
10ـ المرأة المسلمة الداعية: للمؤلف /127، ط 5، 1405هـ.
11ـ جوانب التربية الإسلامية الأساسية: د / مقداد يالجن / 141 - 175، ط 1، 1406هـ، تربية الأولاد في الإسلام: للشيخ عبد الله علوان - رحمه الله ـ 2 / 819، ط 3، 1401هـ.
12ـ منهج التربية النبوية للطفل / 81.
13ـ رواه الترمذي وأبو داود وقالا: حديث صحيح.
14ـ تحفة المودود / 16، وانظر إلى هذه النظرات المبكرة في تأثير المسموعات على الطفل وعلى أثرها في تربيته وترسيخ بعض المعاني والمشاعر لديه.
15ـ إحياء علوم الدين 1 / 94.
16ـ أخرجه الطبراني والديلمي.
17ـ جوانب التربية الإسلامية الأساسية: د / مقداد يالجن / 240، ط 1.
18ـ رواه أحمد، كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2 / 32 - 38.
19ـ أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي.
20ـ أخرجه مسلم، كتاب البر والأخلاق.
21ـ أخرجه البخاري ومسلم، كتاب الإيمان.
22ـ جوانب التربية الإسلامية الأساسية: للدكتور مقداد يالجن / 240-262.
23ـ إحياء علوم الدين 3 / 57، وانظر كتاب: التربية والتعليم في الفكر الإسلامي: د / أحمد شلبي، الباب الرابع/ 289 - 359.
24ـ السعادة العظمى: محمد الخضر حسين/ 90.
25ـ المصدر السابق.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|