المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4876 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

تفسير الآية (112) من سورة ال عمران
23-3-2021
Del Bar Operator
27-11-2018
الوليد بن يزيد
20-11-2016
العدادات (Counters)
2023-08-28
حالة العالم في الإسلام وحال الأولين من المسلمين.
2023-08-08
فاكهة المارولة Sclerocarya birrea
12-11-2017


مسلك الصوفيّة في اثبات عموم القدرة  
  
2340   04:05 مساءاً   التاريخ: 1-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص452.ج1
القسم : العقائد الاسلامية / مقالات عقائدية /

انّ للصوفية مسلكا في اثبات عموم القدرة وهو ـ على ما ذكره بعضهم ـ : انّ التأثير بالغير لا يستقرّ ما لم ينضمّ إليه التأثير بالذات ـ أعني التأثير التامّ المبرّي عن شوائب القوّة والامكان ـ ، وهو ينحصر في حقّه ـ تعالى ـ ، فيرجع جميع التأثيرات الامكانية إلى هذا التأثير الّذي هو بالذات. وارجاعها إليه يقتضي ارجاع مباديها ـ أي : القدرة الّتي بالغير ـ إلى منشأها ـ أعني : القدرة الّتي هي بالذات ـ ، فظهر شمول قدرة الله ـ تعالى ـ لكلّ شيء بهذا المعنى ـ أي : بمعنى انبساط تلك القدرة المطلقة الكاملة في هياكل الموجودات وظهورها في تلك المجالي على وجه النزول من غير أن ينقص عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة ـ. وهذا هو توحيد الأفعال وتوحيد الصفات. ومنه يعلم أيضا كيفية ارجاع الذوات الممكنة إلى ذاته المقدّسة على وجه يعرفه العارفون ، وهو توحيد الذات ، وهذه نهاية مرتبة التوحيد ومن لم يبلغ إلى هذه المرتبة في التوحيد فهو قاصر في معرفة الله ـ تعالى ـ ؛ انتهى.

وحاصل كلامهم : انّ الوجود المطلق التامّ الكامل الّذي هو الحقيقة الواجبيّة إذا نزل وانبسط على المهيات الامكانية حصلت الكثرات والوجودات الامكانية من غير أن ينقص عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة ، فذوات الممكنات مجال ومرايا له وهويات الاشياء شئونات له ـ وهذا هو توحيد الذات عندهم ـ. والقدرة المطلقة التامّة الكاملة بالذات ـ الّتي هي القدرة الواجبة ـ إذا تنزّلت وانبسطت بانبساط الوجود في هياكل الموجودات حصلت القدرة الّتي للأشياء من غير نقصان في مرتبتها المطلقة ورتبتها الذاتية الكاملة ، فتلك القدر هي المظاهر والمجالي الشئونات الذاتية لها ، وقس عليها العلم والإرادة وغيرهما من الصفات الكمالية الإلهيّة ـ وهذا هو توحيد الصفات عندهم ـ. والتأثير المطلق التامّ الكامل بالذات ـ أي : التأثير الواجبي ـ إذا تنزّل وانبسط بانبساط الوجود والقدرة في هويات الممكنات حصلت التأثيرات الغيرية الامكانية من غير انحطاط في مرتبته العليا ونقصان في رتبته الأسنى ؛ فتلك التأثيرات الغيرية الامكانية مجال ومظاهر لهذا التأثير التامّ بالذات ـ وهذا هو توحيد الافعال عندهم ـ.

وأنت تعلم انّ هذا المسلك مبنى على طريقة وحدة الوجود ؛ وعقول أمثالنا قاصرة عن دركه والاذعان به والقبول لحقّيّته!.

فائدة :

قول المحقق الطوسي في التجريد : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة » ـ على ما اشير إليه ـ اشارة إلى الدليل الّذي ذكر أوّلا ، فالمراد من « العلّة » : الامكان ، ومن « الصفة » : المقدورية. يعنى : انّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فانّ علّتها الامكان وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون معلوله ـ أعني : المقدورية ـ عامّا في جميعها ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يراد من « الصفة » : الاحتياج إلى المؤثّر.

ثمّ المراد منه إمّا اثبات عمومية القدرة بالمعنى لجميع الممكنات بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها ، وإمّا اثبات عمومية القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات إمّا بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة. وقد عرفت انّ مطلوب القوم وما هو محلّ النزاع من هذه الاحتمالات ما ذا ، وانّ أيّا من هذه الاحتمالات يمكن أن يثبت بهذا الدليل وايّا منها لا يمكن أن يثبت به.

وقيل : يمكن أن يراد « بالعلّة » في تلك العبارة : دليل اختيار الواجب ـ وهو الحدوث ـ ، ويكون المراد : انّ الحدوث لمّا كان عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله يكون اختياره عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله. وعلى هذا لا يكون المراد تعميم القدرة بالمعنى المشهور بالنسبة إلى كلّ الممكنات ، بل يكون المراد : انّ صدور كلّ افعاله إنّما هو بالقدرة والاختيار.

وأنت تعلم انّ المراد من القدرة حينئذ : القدرة الملزومة للحدوث ؛ وغير خفيّ انّ اثبات هذا الأمر قليل الفائدة جدّا بالنسبة إلى ما هو مطلوب القوم.

تتميم :

اعلم! أنّ هذا الاصل ـ أعني : عموم قدرة الله وشمولها لجميع المهيات الامكانية ـ أعظم الأصول الملية ، وقد ابتنى عليه كثير من المطالب الاسلامية.

والمخالف فيه فرق أعظمها : الثنوية ، القائلون بفاعلين اثنين ،

منهم : المانوية : أصحاب ماني الحكيم البابلي الّذي ظهر في زمان سابور بن أردشير بن بابك ، وذلك بعد عصر عيسى ـ عليه السلام ـ ، فأخذ دينا بين المجوسية والنصرانية فقال بنبوّة المسيح، وزعم انّ العالم مصنوع من أصلين قديمين أحدهما : نور ، والآخر : ظلمة. وأنّهما أزليان لم يزالا ولا يزالان ، وهما حسّاسان سميعان ودرّاكان بصيران. وهو قد أنكر وجود شيء وحدوثه لا من أصل قديم. وقال : انّ فاعل الخير بأسره هو النور وفاعل الشرّ بأسره هو الظلمة.

ومنهم : الديصانية : اصحاب الديصان ، اثبتوا أصلين قديمين : النور والظلمة ، وقالوا : النور يفعل الخير قصدا واختيارا والظلمة يفعل الشرّ طبعا واضطرارا.

ومنهم : المجوس : الذاهبون إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشرّ هو أهرمن ـ ويعنون به الشيطان ـ. وقالوا : انّ يزدان قديم أزلي وأهرمن حادث منه. وذكروا في سبب حدوثه وفي سبب قدرته على فعل الشرّ ما يشمئزّ طباع العقلاء عن استماعه!.

ثمّ الظاهر من كلام الشهرستاني في الملل والنحل انّ المجوس لا تعدّون من الثنوية حيث قال : الثنوية أصحاب الاثنين الأزليين ، وهم يزعمون انّ النور والظلمة أزليان قديمان متساويان في القدم والازلية مع اختلافهما في الجوهر والطبع والفعل. بخلاف المجوس ، فانّهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه (1). ويؤيّد عدم كون المجوس من الثنوية ـ : المنكرين لهذا الأصل بالكلّية القائلين بتعدّد المبدأ ـ انّهم قالوا : انّ ايجاد أهرمن ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه ، فيزدان اوجد اهرمن وجميع الشرور يصدر من اهرمن. ولا ريب انّه على هذا لا يكون المجوس قائلين بإلهين اثنين ، بل يسندون الجميع إليه ـ تعالى ـ. لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة ـ لكونه خيرا محضا ـ ، بل اسندوها إلى اهرمن وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا ، بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشرّ عن اهرمن لا عنه ـ تعالى ـ.

ثمّ شبهة هؤلاء الطوائف الثلاث : هي انّا نجد في العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا وإنّ الواحد لا يكون خيرا وشرّيرا ، فلكلّ منهما فاعل على حدة. وبتقرير آخر اوضح : انّ الله خير محض فلا يمكن أن يوجد الشرّ. بيان ذلك : انّ ذاته المقدّسة عالم بجميع الخيرات والشرور غير محتاج إلى شيء منها ، ومن كان كذلك لا يصدر عنه الشر بالضرورة ، فيكون خيرا محضا لا يمكن أن يوجد الشرّ. أو لأنّه ـ تعالى ـ عين الوجود والوجود خير محض ـ على ما هو المشهور ـ ، فهو ـ تعالى ـ خير محض إذ الشرّ ليس إلاّ العدم ، ولا يمكن صدور العدم عن الوجود ـ على ما هو طريقة الحكماء ـ. أو انّه ـ تعالى ـ واحد محض منزّه عن شوائب الكثرة والتركيب وكلّ فاعل فعل يجب أن يكون بينهما مناسبة لا محالة ، والواجب ـ سبحانه ـ قد فعل خيرات كثيرة ظاهرة ، فلو صدر منه ـ سبحانه ـ مع ذلك شرّ أو ظلم لزم اشتمال محض الأحدية الخالصة على كثرة متقابلة.

وأجيب عن تلك الشبهة بوجوه ثلاثة :

أحدها : انّ الشرور الواقعة في العالم انّما هي شرور اضافية ـ أي : وجودات توصف بالشرّ بالإضافة ، كوجود النار في الثوب مثلا ومصادفة القاطع للعضو المقطوع ـ ، وهذه الشرور وإن استدعت علّة موجودة لكن هذا الاستدعاء من حيث أنّها خيرات لا من حيث أنّها شرور ، فهي من حيث كونها شرورا مجعولة وصادرة من المبدأ الّذي هو صرف الوجود بالعرض لا بالذات. ولا استحالة فيه ، انّما المحال صدور الشرّ عن الخير المحض بالذات ، ولم يلزم ذلك.

والتوضيح : انّ هذه الأمور الّتي تظنّ أنها شرور ـ مثل الأمراض والاسقام والمصائب والاعدام ـ فانّها وان كانت من وجه شرورا ولكنّها لازم خيرات كثيرة لو تركت لتركت هذه ، وهو ـ سبحانه ـ لا يفعلها من حيث أنّها شرور بل انّما يفعلها من حيث انّها خيرات. فهي من الحيثية الّتي بها صدرت عنه ـ سبحانه ـ انّما هي خيرات كثيرة وإن كانت باعتبار آخر شرورا قليلة. مثال ذلك انّ سآمة لو لصغت اصبعا واحدة من انسان لو تركت تلك الاصبع ليسري السمّ إلى بدنه كلّه وادّى إلى قتله ، فالطبيب الحبيب يقطع الاصبع البتة لينجيه من الموت. فالقطع وان كان من حيث فقد الاصبع ووجدان الألم شرّا لكن الطبيب لم يفعله من هذه الجهة ، بل انّما فعله من حيث هو سبب الحياة ، فهو انّما يفعل خيرا كثيرا لو لم يفعله لكان قد فعل اذن شرّا كثيرا. وعلى هذا فجميع الشرور الوجودية الواقعة في العالم شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض ولا يوجد شرّ يكون متعلّقا لإرادته ـ تعالى ـ بالذات ـ لا كثير ولا قليل ـ.

وهذا الحكم يشتمل على دعويين : إحداهما : انّ كلّ ما يوجد في العالم من الشرور شرّ اضافي ولا يوجد في العالم شرّ حقيقي. وسرّ ذلك انّ الشرّ الحقيقي هو العدم والخير الفيضي هو الوجود، فانّ الوجود بما هو وجود والموجود بما هو موجود خير محض لا شرية فيه اصلا ، إذ لو كان في نفس معنى الوجود والموجود شرّية لكان كلّ وجود شرّا ، والعدم والمعدوم بخلاف ذلك ؛ ولذا إن يحتسب الأمور الّتي تظنّ أنّها شرور وجدت شرّياتها راجعة امّا إلى أعدام لذوات ـ كالموت والفناء ـ أو فقدان لكمالات ـ كالظلم والزنا ـ ، فانّهما من حيث كونهما أثرين لقوّتي الغضب والشهوة خير لهما وكمال ، وليست شرّا إلاّ من حيث فقدان المال وهتك الستر (2). فلا يوجد موجود يكون شرّا حقيقيا. فان كان موجود شرّا فانّما يكون شرا بالإضافة إلى شيء آخر ـ كالنار بالنسبة إلى الثوب والقاطع بالنسبة إلى العضو المقطوع ، فانّ النار من حيث هو موجود خير في ذاتها ليس فيها بهذا الاعتبار شرّية أصلا ، وانّما شرّيتها بالنسبة إلى ما يتّفق احراقها له ـ. وكذا لا يوجد عدم يكون خيرا حقيقيّا. نعم! قد يتّصف العدم بالخير الإضافي كعدم ما وجوده شرّ اضافي لشيء بالنسبة إلى هذا الشيء ، فانّ عدم النار خير بالنسبة إلى الثوب المحروق. ولا ريب في أنّ وقوع هذا الشرّ الاضافي لم يكن مرادا بالذات ومقصودا بالأصالة ، بل انّما دخل في عالم الايجاد بالعرض ، فانّ المقصود بالذات من ايجاد النار بلوازمها انّما هو كونها خيرا يترتّب عليها المنافع العظيمة في عالم الايجاد. ثمّ ربما تقع شرّية منها بفعل أحد على ثوب شخص محرقة أو على خشب من بيت فيسري إلى أن يحرق البيت كلّه أو البلد كلّه. وكذا الحال في الطوفانات والطواعين وغيرها من البليات العامّة والخاصّة للحيوانات ، فانّ القصد الأوّل والإرادة الذاتية من ايجاد تلك العلل والاسباب انّما هو خيرات عامّة بالنسبة إلى النظام الأصلح ، وقد يلزمها شرور بالنسبة إلى بعض الافراد والأشخاص.

ووقوعها في القضاء الإلهي والإرادة الأزلية انّما هو بالعرض. والوقوع بالعرض

لا استحالة فيه ، إذ هو من لوازم الطبائع وخواصّ الاشياء ولا مدخلية للإرادة الالهيّة.

ولا يمكن دفع تلك الشرور الاضافية ، لأنّ دفعها إنّما هو منع للأشياء والمهيات عن تأثيراتها الذاتية اللازمة لا نفسها الضرورية في نظام الخير ، وهو غير ممكن. فاذا ألقى انسان نارا على ثوب فاحترقه لم يكن لقائل أن يقول : لمَ لم يمنع الله ـ تعالى ـ هذه النار عن احراق الثوب؟ ؛ لأنّ كون النار محرقة وثبوت الاحراق لها عن اللوازم الذاتية لها ، فلا معنى لمنعها عنه. وكذا ليس له ان يقول : لمَ لم يمنع الله الانسان عن الالقاء؟ ؛ لأنّ هذا أيضا من لوازم اختياره وقدرته اللازمة في نظام الخير. فإيجاد لوازم النار وتأثيراته واختيار العبد وقدرته وان كان من الله ـ سبحانه ـ إلاّ أنّ المقصود بالذات من ايجادها إنّما كان ما يلزمها من الخيرات الجمّة والمنافع العظيمة ، ولم يكن المقصود من ايجادها احراق نفس محترمة أو مال محترم ، وانّما وقع ذلك إمّا بالعرض (3).

وعلى هذا فجواب الشبهة الثنوية : انّ الشرور لوقوعها بالعرض وعدم كونها مقصودة بالذات للواجب وعدم صدورها منه ـ تعالى ـ بلا واسطة لا يلزم كونها فاعلا للشرّ ، فلا يلزم كون الواحد خيرا شرّيرا ولا كون الخير المحض والفاعل للخير فاعلا للشرّ أيضا ولاستنادها إلى بعض الموجودات المخلوقة له ـ تعالى ـ وامكان صدورها عنه ـ تعالى بالنظر إلى الذات بلا واسطة ـ وإن لم يصدر عنه بالنظر إلى العلم والإرادة ـ لا يلزم وجود فاعل واحد مستقلّ للشرّ غير مخلوق له ـ تعالى كما قالت المانوية والديصانية ـ ، أو مخلوق له ـ تعالى ، كما قال المجوس ـ ، فلا يلزم نفى عموم القدرة. ويأتي لذلك زيادة بيان.

وثانيها : انّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة ، كما انّه لو لصغت اصبع واحدة ولم تقطع يسري السمّ إلى جميع البدن ، فقطع الاصبع وإن كان شرّا إلاّ أنّه شرّ قليل لو لم يفعل لادّى إلى ترك الخير الكثير. وعلى هذا فجميع الشرور الواقعة في العالم مستندة إليه ـ تعالى ـ. إلاّ أنّه لكونها شرورا قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة لم يكن في فعلها بأس ، بل يجب فعلها بالنسبة إلى الخير المحض. فما يوجد في العالم إمّا خير محض ليس فيه شرّية أصلا أو ما هو خيره غالب على شرّه. ولا يوجد في العالم شرّ محض لا يكون فيه خير أصلا ولا ما هو شرّه غالب على خيره ولا ما هو خيره وشرّه متساويان ؛ فانّ الأشياء عند العقل على خمسة احتمالات :

أحدها : الشيء الّذي لا خير فيه أصلا ؛

وثانيها : الشيء الّذي لا شرّ فيه أصلا ؛

وثالثها : الشيء الّذي يتساوى الخير والشرّ فيه ؛

ورابعها : ما يكون خيريته غالبا ؛

وخامسها : ما تكون فيه غلبة الشرّ.

وذات الواجب بالذات لمّا وجب أن يكون مبدأ لجميع الخيرات ولم يمكن أن يصير مبدأ للشرّ وجب أن يصدر عنه قسمان من الأقسام المذكورة ـ أي : القسم الثاني الّذي ليس فيه شرّية اصلا والرابع الّذي خيريته غالب ، لان ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير ـ ، وأن لا يصدر عنه الاقسام الثلاثة الأخر لاستلزام صدورها مبدئيّته ـ تعالى ـ للشرّ.

والأمر في الواقع والخارج كذلك ، لأنّ جميع الأشياء الموجودة في العالم لا يخلوا من كونه خيرا محضا أو ما هو خيريته غالب ، ولا يوجد فيه شيء يكون واحدا من الأقسام الثلاثة الأخر.

ثمّ الخير المحض هو الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ هو محض الوجود وعينه والوجود المحض خير محض ، إذ لا عدم فيه بوجه ؛ ومناط الشرّ هو العدم والشرّ المحض لا وجود له ، إذ كلّ موجود لا يخلوا عن الوجود وهو خير ، فلا ينفكّ موجود عن الخير.

ووجود ما شرّه غالب على الخير أو ما يتساوى الخير والشرّ فيه خلاف مقتضى الحكمة ، بل مجرّد ثبوت أنّ الوجود خير محض يوجب عدم تحقّق موجود يكون شرّه أغلب أو مساويا للخير، فالموجودات الممكنة كلّها ممّا يغلب خيره على شرّه. إلاّ أنّ ما فيه شوب العدم اقلّ يكون إلى الخير المحض اقرب. ولغلبة خيرها على شرّها وجب صدورها عن الواجب ، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ؛ فلا ينبغي وقوعه من الحكيم.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل : انّ في هذا الوجه التزم وقوع الشرّ في القضاء الإلهي بالذات ، إلاّ أنّه قيل : انّ ما نفع (4) شرّ قليل تركه يوجب ترك الخير الكثير ، فلا مانع من استناده إليه ـ تعالى ـ ؛ وفي الوجه الأوّل لم يلتزم وقوع الشرّ اصلا في القضاء الإلهي بالذات ، ومنع استناد الشرّ بالذات ـ كثيرا كان أو قليلا ـ إليه ـ سبحانه ـ.

بل قيل : انّ ما يقع من الشرور في القضاء الإلهي فوقوعه بالعرض ، والتزم عدم المنع في الوقوع بالعرض. فعلى هذا الوجه ـ أي : الوجه الثاني ـ فدفع شبهة الثنوية : انّ الواجب ـ تعالى ـ مبدأ لأشياء خيريتها غالب ، ولا بأس بصدور ما فيه غلبة الخير عنه ـ تعالى ـ وإن وجد فيها شرّ قليل. فمن حيث انّ تلك الشرور شرور قليلة خيريتها غالبة لا يلزم فساد في استنادها إليه ـ تعالى ـ ، ومن حيث استنادها إليه ـ تعالى ـ دون غيره لا يرد وهن على عموم قدرته ـ سبحانه ـ.

وغير خفيّ انّ شبهة الثنوية بالتقرير الأوضح المذكور اشتملت على تعليلات ثلاثة لعدم جواز مبدئية الواجب للشرّ ، فعلى هذا الوجه وان اندفعت الشبهة بالتعليل الأوّل إلاّ أنّها لا تندفع بالتعليلين الأخيرين ، إذ حاصل الشبهة على التعليل الثاني انّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ صرف الوجود ومحض الموجود الخير ، فيمتنع أن يصير مبدأ للشرّ ـ سواء كان قليلا أو كثيرا ـ ، اذ الشرّ إمّا عدم أو تابع له وراجع إليه ، فكيف يمكن أن يحصل العدم عمّا هو موجود محض لا عدم فيه بوجه من الوجوه؟!. وحاصلها على التعليل الآخر انّ الواجب ـ سبحانه ـ واحد بسيط من جميع الجهات مناسب للخير وإن كان بهذه المثابة يمتنع صدور الشرّ عنه لعدم المناسبة ـ سواء كان كثيرا أو قليلا ـ.

والقول بأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، مغالطة في هذا المقام! ، لأنّ الخير الكثير المشتمل على الشرّ وإن كان قليلا يمتنع صدوره عمّن هو محض الخير وصرف الوجود وواحد من جميع الجهات مناسب للخير ، بل عين الخير وصرفه ، فترك ذلك الخير ليس شرّا بل هو خير ، وكيف لا؟! وعلى قواعد الحكمة من لزوم المناسبة بين العلّة والمعلول لا يمكن أن يصدر المتقابلان عن واحد بسيط من جميع الجهات ؛ وإذا ناسب أحدهما وصدر عنه ـ كالخير فيما نحن فيه ـ لم يناسب الشرّ ولم يمكن صدوره عنه.

ويمكن أن يقال : من قال بهذا الوجه واسند الشرّ القليل إليه ـ تعالى ـ لم يقل باستناده إليه بلا واسطة ليلزم ما ذكر من مبدئيته ـ تعالى ـ لأمرين متقابلين ، بل قال باستناده إليه ـ سبحانه ـ بالواسطة بمعنى انّ جميع الشرور الواقعة في العالم مع كونها شرورا قليلة مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه ـ تعالى ـ ، فمن حيث استنادها إلى غيره ـ تعالى ـ لا تلزم المفاسد الّتي تترتّب على استناد الشرّ إليه ـ تعالى ـ من لزوم كون الخير المحض شرّيرا والواحد من جميع الجهات مبدأ لصدور المتقابلات ، ومن حيث كون هذا الغير الّذي يصدر منه تلك الشرور مخلوقا له ـ تعالى ـ وامكان صدورها منه ـ تعالى ـ بلا واسطة بالنظر إلى ( الذات ) (5) وإن لم يكن بالنظر إلى العلم والإرادة لا يلزم وهن على عموم قدرته وعظم سلطانه.

فان قيل : إذا كان الشرّ مستندا إلى غيره ـ تعالى ـ فلا يرد عليه ـ تعالى ـ نقص سواء كان قليلا أو كثيرا ـ ؛ فأيّ فائدة حينئذ في القول بأنّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة؟! ، بل إذا كانت كثيرة ولم تقلب الخيرية لم يكن به حينئذ بأس! ؛

قلنا : لا ريب في أنّ هذا النظام بأسره صادر منه ـ تعالى ـ إمّا بلا واسطة أو أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة ، والنظام الصادر منه ـ سبحانه ـ بأيّ طريق كان يجب أن يكون على أحسن الانحاء وأصلح الوجوه. ولا ريب في أنّه إذا وجد فيه شيء يكون شرّا محضا أو تكون شرّيته غالبة على خيريته أو تتساوي الشرية والخيرية لم يكن نظاما أصلح ، فيجب أن يكون ما يوجد فيه الشرّ بحيث يشتمل على خير غلب على شرّه ، فمن حيث تخلّل الواسطة لا يلزم عدم المناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن حيث غلبة خيره على شرّه لا يلزم وقوع غير الأصلح في النظام الأصلح ، لأنّه لا ريب في أصلحية ما يغلب خيره على شرّه.

ثمّ أصلحيه وجود هذا الشيء الّذي يغلب خيره على شرّه يتصوّر بوجهين :

أحدهما : أن يكون أصلحيته لأجل غلبة المنافع المترتّبة على وجوده بالنسبة إلى المضارّ المترتبة عليه مع كون تلك المضارّ مضارّا وشرّا بالنسبة إلى الأشخاص الّذي أصابهم هذا الشرّ وبالنسبة إلى النظام الكلّ أيضا ، إلاّ أنّا إذا قايسنا بين منافعه وبين مضارّه كان منافعه أكثر ، فمع اكثرية المنافع يتحقّق الأصلحية وإن اشتمل على المضارّ القليلة بالنسبة إلى النظام وبعض الافراد ؛

وثانيهما : أن يكون أصلحيته لأجل تلك المنافع العالية مع كون مضارّه الجزئية وشرّه القليل خيرا وصلاحا بالنسبة إلى نظام الكلّ وان كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى بعض الاشخاص ، مثلا علّة حدوث الطاعون في بعض البلاد حدوث رطوبة كثيرة وحرارة قليلة في الهواء يصير منشئا لعفونته وسمّيته ، وعلّة هذا الحدوث اسباب سماوية وأرضية ؛ ولا ريب انّ تلك الأسباب ـ بل نفس هذا الحدوث ـ يشتمل على خيرات كثيرة ضرورية في نظام الكلّ وتلك الخيرات غالبة على الشرّ المترتّب على هذا الحدوث من موت جمع من الحيوانات ، فهذا الموت يمكن أن يكون شرّا بالنسبة إلى الاشخاص الفانية وبالنسبة إلى نظام الكلّ أيضا ، إلاّ انّ هذا الحدوث لاشتماله على الخيرات الكثيرة الغالبة على فناء هذه الأشخاص يكون أصلح من عدمه في نظام الكلّ. ويمكن أن يكون هذا الموت والفناء خيرا وصلاحا بالنظر إلى النظام الأعلى وإن كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى هذه الأشخاص ؛ ولذا قال الحكماء : انّ الطاعون تنقية للعالم وحدوثه سبب لصلاح العالم. وقد ظهر ممّا ذكر انّه ما لم يتمسّك في هذا الوجه باستناد الشرّ القليل إلى الواسطة لم يتمّ ، بل مع ذلك ينبغي أن يقيّد أيضا بما ذكر في الوجه الأوّل من أنّ وقوعه في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات ، إذ لو كان هذا الشرّ القليل الواقع في النظام الأصلح ولو بالصدور عن الواسطة مقصودا له ـ تعالى ـ بالذات ـ كما انّ الخيرات الصادرة عنه تعالى بالواسطة وبدونها مقصودة له بالذات ـ لزم أن لا يكون خيرا محضا ، فيجب أن تكون مقصودة بالعرض ـ أي : من حيث أنّه تابع لخيرات كثيرة ، لا من حيث هو ـ. كما انّه ينبغي أن يقيّد الوجه الأوّل بكون الشرّ الواقع بالعرض شرّا قليلا ومستندا إلى واسطة لا إليه ـ تعالى ـ ؛ إذ لو وجد في نظام الكلّ موجود شرّه مساو لخيره أو غالب على خيره لم يكن النظام نظاما أصلح  ولو لم يكن هذا الشرّ مستندا إلى غيره ـ تعالى ـ ، بل كان مستندا إليه ـ تعالى ـ ولو بالعرض لزم مناسبة الخير المحض للشرّ. فإحراق شخص أو بلدة أو افناء خلق كثير بالطاعون أو غيره مع عدم كونه مقصودا بالذات في النظام يجب أن يكون فاعله القريب غيره ـ تعالى ـ ، ولا يجوز أن يكون الواجب ـ تعالى ـ فاعله القريب. وكونه تابعا ومقصودا بالعرض مع كون فاعله القريب هو الله ـ سبحانه ـ انّما يتصوّر بأن يصدر هذا الاحراق أو الافناء منه ـ تعالى ـ بلا واسطة وكان مشتملة على صلاح راجع إلى نظام الكلّ ويكون المقصود بالذات منه هذا الصلاح دون الشرّ الراجع إلى الاشخاص الفانية. وأمّا إذا جعل (6) الاحراق مستندا إلى النار والاماتة إلى الهواء وكيفياته وكان وجود النار والهواء مستندا إلى الله ـ سبحانه ـ وكان المقصود بالذات له ـ تعالى ـ من ايجادهما ما يلزمها من المنافع العظيمة والخيرات الجسيمة دون هذا الاحراق المؤذي لبعض الاشخاص وهذه الاماتة الّتي هو شرّ لطائفة ، فحينئذ يكون وقوعها بالعرض ولا يكون فاعلهما القريب هو الله ـ تعالى ـ ، فلا يلزم كونه ـ تعالى ـ مناسبا للشرّ. فظهر انّ مجرّد القول بأنّ الشرور الواقعة في نظام الكلّ شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض ـ كما هو ظاهر الوجه الاوّل ـ أو مجرّد القول بأنّها شرور قليلة خيراتها أو خيرات الأشياء المتبوعة لها كثيرة غالبة ـ كما هو ظاهر الوجه الثاني ـ ليس قامعا لشبهة الثنوية ؛ بل لا بدّ من القول بهما جميعا مع ضمّ انّ تلك الشرور القليلة الإضافية الواقعة بالعرض صادرة عن غيره ـ تعالى ـ من الوسائط الممكنة مع كون صدورها منه ـ تعالى ـ ممكنا بالنظر إلى ذاته تعالى ـ حتّى يندفع الشبهة ويثبت عموم القدرة. وسنشير إلى ذلك ببيان أوضح.

فقائل كلّ من الوجهين إن كان غرضه انّ مجرد ما ذكره دافع للشبهة ، فليس الأمر كما زعمه ـ على ما عرفت ـ ؛ وإن كان غرضه انّ ما ذكره بعلاوة ما أضيف إليه ممّا ذكره القائل الأخير وما ذكرناه دافع للشبهة إلاّ أنّه اكتفى بما ذكره وترك البواقي حوالة على الظهور ، فهو حقّ ، إلاّ انّ فيه مسامحة لا يجوز مثلها في المقام.

وثالثها : انّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم أعدام وليس امورا موجودة ، فانّ تصفّح الأمور وتتبّعها يعطى الجزم بأنّ جميع الشرور راجعة إلى الاعدام والموجود من حيث هو موجود ليس إلاّ خيرا ؛ وقد اشرنا قبل ذلك إلى كيفية رجوعها إلى الاعدام اجمالا.

والتفصيل : انّه لا ريب في أنّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم لا ينفكّ عن اعدام وسلب لأحد الخمسة الضرورية أو ما يتعلق بها ويحملها ـ أعني : الأديان والنفوس والعقول والفروج والاموال ـ. فانّ الكفر والشرك شرّ لرجوعها إلى سلب الايمان ونفي العقائد الحقّة المطابقة للواقع ؛ والقتل والاماتة والافناء شرور لإيجابها سلب النفوس ؛ والقطع والجرح وامثالهما شرور لاستلزامها رفع الاتصال وتفرّقه ؛ والامراض والآلام شرور لاقتضائها رفع الصحّة وازالة صدور الأفعال على ما ينبغى ؛ والزنا شرّ لعدم انفكاكه عن هتك الستر وسلب البضع عن أهلها ؛ والسرقة والغصب والخيانة وأمثالها شرور لاستلزامها سلب الأموال عن أهلها ، وقس على ما ذكر ما لم يذكر من الضرب والشتم والحرق والغرق وغير ذلك.

وإذا تصفّحنا الشرور الواقعة في العالم وتجسّسناها لم يخرج شيء منها عمّا ذكرناه.

وإذا كان الأمر كذلك نقول : ليس شأنه ـ تعالى ـ إلاّ اعطاء الوجود ، فلا يصدر عنه ـ سبحانه ـ إلاّ الخير وانّما يصدر الشرّ ـ الّذي هو العدم ـ عن الممكنات المعلولة له ـ تعالى ـ ، فالعدم مستند إليه ـ تعالى ـ بالواسطة ؛ ولا محذور فيه.

هذا لو جوّز صدور العدم عن الممكنات بناء على أنّها ليست عين الوجود ، بل ماهيّات غير الوجود مخلوط بالوجود والعدم ، لإمكانها . ولا استحالة في صدور العدم  حينئذ ، انّما المحال صدوره عن الوجود المحض.

وأمّا لو لم يجز صدوره عن الوجود أصلا فالجواب بعد تسليم ذلك هو : انّ الشرّ إمّا شرّ حقيقي ـ وهو العدم الصرف والليس المحض ، كعدم ما لم يوجد ولا يوجد قطّ ـ ؛ أو شرّ اضافي ـ وهو الوجود المخلوط بالعدم ـ. والأوّل لا يحتاج إلى علّة موجودة ، إذ العدم المحض لا يصدر عن موجود أصلا بل علّته عدم مثله ـ أعني : عدم علّة الوجود ـ. والثاني وان احتاج إلى علّة موجودة إلاّ أنّ الاحتياج إليها من حيث جهة الوجود لا من حيث جهة العدم الّتي هي الشرّ ، فانّ القتل من حيث انّه قتل وجودى ـ أي : لا بدّ فيه من ايصال آلة قطّاعة محتاج إلى فاعل ـ. إلاّ أنّه من هذه الجهة ليس شرّا ، لأنّه لو كان مجرّد اتصال الآلة القطّاعة شرّا لكان ايصال السيف إلى الارض ضربة على الحجر والشجر شرّا ، وليس كذلك. ومن حيث انّه أمر عدمي ـ أي : يلزمه فقد الشخص وازهاق الروح ـ وإن كان شرّا إلاّ انّه من هذه الجهة لا يحتاج إلى علّة موجودة. وعلى هذا فدفع شبهة الثنوية انّ الشرّ الّذي هو العدم ليس صادرا عنه ـ تعالى ـ حتّى يلزم كون الواحد المحض خيّرا أو شرّيرا وكون الخير الصرف شرّيرا ؛ ولا يلزم وهن في عموم القدرة ، لأنّ المراد به انّ كلّ موجود يستند إليه. ولا يعتبر فيه استناد الاعدام أيضا إليه ـ سبحانه ـ ، كيف؟! والوجود المحض لا يناسب العدم مع انّ العدم يكفي في تحقّقه عدم علّة الوجود.

وأقول : لا ريب في أنّ أكثر ما يطلق عليه اسم الشرّ في العالم لا ينفكّ عن عدم ما بمعنى استلزامها لفقد وجود أو كمال ، وليست اعداما صرفة ونفيا محضا. لانّه لا يشكّ عاقل في انّ مثل القتل والضرب والغصب وحدوث الأمراض وغير ذلك أمور وجودية. نعم! عدم انفكاكها عن عدم لوجود أو فقد لكمال مسلّم واطلاق الشرّ عليها بهذه الجهة أيضا مسلّم ، إلاّ انّ عدم افتقار مثل هذا العدم من الأمر الوجودي وكفاية عدم علّة الوجود لتحقّقه ممنوع ، فانّه لا ريب في انّ ازهاق النفس وهتك الستر انّما ترتّب على اتصال الآلة القطّاعة واتصال عضو خاصّ بعضو خاصّ وهما وجوديان ، فاستند فقد الروح واعدام الستر إلى امرين وجوديين هما أيضا مستندان إلى علّة موجودة ، فالعدم المتحقّق في ضمن الشرور الاضافية لا بدّ له من علّة موجودة ولا يمكن أن تكون علّته عدما محضا ، فلا بدّ امّا أن يقال : انّ علّته الواجب ـ تعالى ـ ولكنّه وقع بالعرض لا بالذات ـ ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ ـ ، فيرجع حينئذ إلى الوجه الأوّل ؛ أو يقال : انّ علّته بعض الممكنات وليس علّته واجب الوجود بالذات بلا واسطة ـ ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ ـ ، بل جميع الموجودات مستندة إليه ـ تعالى ـ. إلاّ أنّ الشرور ليست مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل هي مستندة إلى بعض الممكنات الموجودة منه ـ تعالى ـ. وليس ايجاد هذا البعض من الممكنات شرّا ، بل هو خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا والشرّ انّما صدر عن هذا البعض لا منه ـ تعالى ـ.

ولا يخفى انّ هذا الوجه ـ أي : استناد الشرور إلى بعض الممكنات ـ لا يثبت به تمام المطلوب ما لم يقيّد بكون تلك الشرور شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة ، وبوقوعها في النظام بالعرض لا بالذات ، وبأنّ صدورها عنه ـ تعالى ـ ممكنة بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ وإن لم يكن بالنظر إلى علمه بالأصلح. إذ لو لم يقيّد بالأوّل وجوّز كونها شرورا وكانت شرّيتها غالبة على خيريتها أو مساوية لخيريتها لم يكن النظام نظاما أصلح ، ولو لم يقيّد بالثاني وجوّز وقوعها بالذات ـ أي: كونها مقصودة له تعالى بالذات ـ لزم مناسبته للشرّ وان صدر عنه بالواسطة ، بل لزم وقوع الظلم والجور في العناية الإلهية. ولو لم يقيّد بالثالث وجوّز عدم افتقاره ـ تعالى ـ على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته لزم نفي عموم قدرته بالمعنى المشهور على جميع الممكنات. فالحقّ ـ كما اشير إليه ـ أن لا يكتفى في الجواب عن شبهة الثنوية والاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء الإلهي بمجرّد القول بكونها واقعة بالعرض ـ كما في الوجه الاول ـ ، أو كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة ـ كما في الوجه الثاني ـ ، أو مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه ـ تعالى ، كما في الوجه الثالث ـ. بل اللازم في الجواب أن يجمع بين الوجوه الثلاثة.

وحينئذ فالجواب الصحيح الّذي يندفع به الشبهة ويثبت به عموم القدرة والتحقيق التامّ الصريح الّذي يرتفع به الاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء الإلهي هو أن يقال : الشرّ إمّا حقيقي وهو العدم المحض ؛ ولا ريب في عدم استناده إلى موجود أصلا ـ لا (7) الواجب ولا غيره ـ ، بل هو مستند إلى عدم مثله ـ أعني : عدم علّة الوجود ـ ؛

وإمّا شرّ اضافي ، وهو العدم المخلوط بالوجود ـ أي : الاعدام الاربعة التابعة لبعض الموجودات ، كفقد النفس التابع للقتل ، وتفرق الاتصال التابع للقطع وغير ذلك ـ. وجميع الشرور الواقعة في نظام الخير من هذا القبيل ـ كما اشرنا إليه ـ. وجميع تلك الشرور مستندة إلى غيره ـ تعالى ـ من الممكنات المعلولة له ـ سبحانه ـ ، فهي مستندة إليه ـ تعالى ـ بالواسطة ومع ذلك شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض بمعنى أنّها ليست مقصودة للواجب بالذات ـ أي : المقصود منها بالذات ما هو متبوع لها من الخيرات الكثيرة ـ ، وهي مقصودة له ـ تعالى ـ بالعرض. ومع ذلك كلّه هي مقدورة له ـ تعالى ـ بالقدرة بالمعنى المشهور ـ أي : ممكنة الصدور عنه تعالى بالنظر إلى ذاته تعالى ـ وإن لم تمكن بالنظر إلى العلم والإرادة من حيث كونها مستندة إلى غيره ـ سبحانه ـ. وعدم كونها مقصودة له ـ تعالى ـ بالذات لا يلزم مناسبة الخير المحض والوجود الصرف للشرّ والعدم. ومن حيث استنادها إلى الممكنات المعلولة له ـ سبحانه ـ لا يلزم اثنينية المبدأ ، فيثبت به عموم القدرة المستجمعة بالنسبة إلى جميع الممكنات بالواسطة. ومن حيث كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة لا يلزم منافاتها لأصلحية النظام ، ومن حيث اقتداره ـ تعالى ـ على ايجادها بالنظر إلى الذات لا ينافي عموم القدرة على الكلّ بالمعنى المشهور بلا واسطة.

ثمّ توهم الايراد على هذا التفصيل انّما يتصوّر من وجوه :

منها : انّ الممكن لا يجوز أن يكون فاعلا للشرّ ، لأنّه من حيث الجهة المستندة إلى ذاته عدم صرف ولا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون بهذه الجهة علّة لشيء اصلا سواء كان هذا الشيء وجودا أو عدما اضافيا. ومن حيث جهته المستندة إلى الواجب ـ تعالى ـ وجود محض ، فكيف تصير هذه الجهة علّة للشرّ الّذي هو العدم مع انّه

لا مناسبة بين الوجود والعدم؟!.

والجواب : انّ الممكن من حيث جهته المستندة إلى الواجب ـ أي : الممكن الموجود ـ ليس وجودا محضا وخيرا صرفا ، فانّ محض الوجود ليس إلاّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، بل هو وجود مشوب بالعدم وأيس مخلوط بالليس ، فانّ وجوده وان صدر عن الواجب ملزوم للافتقار الذاتي والاحتياج الواقعي ، فلا يمكن أن ينفكّ عن العدم والشرور الواقعة في هذا العالم أيضا شرور إضافية ـ أي : اعدام مخلوطة بالوجود ـ. وليست اعداما صرفة ولا وجودات صرفة فيصير وجود مخلوطة بالعدم علّة وفاعلا لما هو مثله ـ أي : ما هو وجود مخلوط بالعدم ـ. إلاّ انّ جهة العدم في المعلول الّذي هو الشرّ أكثر. وهذا أمر كلّي بالنسبة إلى كلّ معلول ، فانّ جهة العدم والشرّية في كلّ معلول أكثر منها في العلّة ، وجهة الوجود والخيرية بالعكس من ذلك.

وتوضيح ذلك : انّ واجب الوجود بالذات وجود محض وخير صرف لا يتصوّر فيه شائبة من العدم والشرّ ، كما انّ العدم الصرف عدم محض وشرّ صرف لا يتصوّر فيه شائبة من الوجود والخيرية. ثمّ ما يصدر عنه ـ سبحانه ـ بلا واسطة كاد أن يكون وجودا محضا وخيرا صرفا ، إلاّ انّه ليس بهما لافتقاره الذاتي وتنزّله وبعده عن الوجود المحض والخير الصرف بمرتبة ، فله شوب من العدم.

ثمّ ما يصدر عن هذا الصادر يكون شوب العدم فيه أكثر ـ لبعده عن الوجود الصرف بمرتبتين وقربه بمرتبتين إلى العدم والشرّ ـ ، وهكذا كلّما تكثّر الوسائط ويصير المعلول أبعد عن الوجود المحض والخير الصرف يكون شوب العدم وجهة الشرّ فيه أكثر من سابقه إلى أن يصل إلى ما يحصل فيه نحو من العدم والشرّ بالفعل ويتميّز فيه جهتاهما وان كان مع ذلك جهة وجوده وخيريته غالبة ؛ فظهر انّ علّية الممكنات الموجودة للشرور الاضافية جائزة ، والمناسبة بينهما ثابتة.

ومنها : انّ النظام الأصلح بأي سبب تقع فيه تلك الشرور الاضافية؟! ، وبأيّ جهة لا بدّ من وقوعها فيه؟! ، ولم لا يمكن للواجب ـ تعالى ـ ايجاد هذا النظام كما هو بحيث لا يقع فيه تلك الشرور؟! ؛ فانّه لا شبهة في أنّ النظام إذا كان بحيث لم يقع فيه تلك الشرور يكون أصلح ؛

والجواب عنه : انّ وقوعها من لوازم وقوع الممكنات وايجادها ، فانّ الممكن لا يمكن أن ينفكّ حقيقته ومهيته ـ وإن صار موجودا ـ عن عدم ما ، فيحتوي على شر ما البتة ، إلاّ انّه لا يظهر الشرّية فيه لنا إلى أن ينحطّ عن الوجود المحض والخير الصرف بمراتب كثيرة ، فكلّما تنزّل سلسلة العلل والمعلولات عن الواجب الحقّ يكون ظهور العدم والشرّية أكثر إلى أن يصل إلى النهاية.

وايجاد تلك الممكنات بحيث لا تشتمل حينئذ على تلك الأعدام اللازمة لذواتها أمر ممتنع ، لأنّه قلب للحقيقة. وعدم إيجادها رأسا منع لإفاضة الوجود الغالب على العدم ، فهو شرّ كثير.

ومنها : انّ اقتداره على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته يوجب مناسبة الوجود المحض للعدم والخير الصرف للشرّ ، وهو باطل ؛ إذ لو لا تلك المناسبة لم يتصوّر امكان ايجاده بالنظر إلى ذاته ، فانّ مجرّد الامكان المذكور ـ أي : امكان الوقوع بالنظر إلى الذات ـ وإن لم يقع عنه بالنظر إلى العلم والإرادة يوجب تحقّق المناسبة المذكورة ؛

والجواب عنه : انّ امكان الصدور انّما هو بالنظر إلى ذات العلّة فقط ـ أي : الواجب تعالى ـ ، لا بالنظر إلى ذات المعلول ـ أعني : الشرّ أيضا ـ حتّى يلزم المناسبة.

فانّ المطلوب انّ صدور كلّ ممكن حتّى الشرّ بالنظر إلى ذات الواجب ممكن ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ من حيث هي لا يأبى ولا يعجز عن ايجاد كلّ شيء. إلاّ انّ بعض الأشياء لخسّتها وانحطاطها في درجات الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ، فلا يمكن صدورها بالنظر إلى ذواتها عن الواجب ـ تعالى ـ وإن امكن صدورها عنه بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ.

ومنها : انّ تلك الشرور كثيرا ما يصيب بعض المظلومين من دون جرم وتقصير ، وهو ينافي الحكمة ولا يناسب العدل والرحمة ؛ ولهم أن يقولوا : بأيّ سبب اصابنا هذا الشرّ والظلم مع انّا عباد مطيعون لم يصدر منّا جرم وتقصير؟!.

وإن قيل لهم : هذا صلاح لنظام الكلّ! ؛

فلهم أن يقولوا : ليس من الحكمة والعدالة أن يظلم ويزجر مسكين فقير ويبتلى بأنواع العذاب والبليّات لأجل انّه صلاح لغيره. مع أنّ هذا لا يناسب القدرة التامّة الكاملة ، لأنّ الفاعل حينئذ عاجز عن ايجاد نظام الكلّ بحيث لا تقع فيه تلك الشرور ، ولا يمكنه ايجاد ما يوجده إلاّ بإصابة الظلم والشرور ببعض الضعفاء والمساكين. وأيّ عجز أشدّ من عدم اقتداره على ايجاد هذا النظام بدون تلك الشرور؟! ؛

على أنّ بعض الموجودات الممكنة كالشيطان وغيره منبع الشرور أبد الآباد ، فليس في وجوده خيرية اصلا!.

والجواب : انّ اصابة بعض الشرور ببعض المظلومين مع قطع النظر عن كونه صلاحا  بالنسبة إلى نظام الكلّ إنّما هو خير وصلاح بالنسبة إلى هؤلاء الاشخاص المظلومين ، لأنّه إمّا متضمّن لخير غالب لهم عاجلا أو آجلا بالذات أو بعوض الله ـ تعالى ـ عنهم بما يجبر هذا الشرّ والظلم ـ كما هو مذهب العدلية ـ. ولو كان صدور الشرّ الّذي يصيب المظلومين عمّن يصدر عنه بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فالأمر أظهر.

وأمّا ما ذكر من انّه لو لم يخلق النظام بحيث لا يقع فيه تلك الشرور ؛ فجوابه ما مرّ من أنّ تلك الشرور من الأعدام اللازمة لطبائع الممكنات ولا يمكن انفكاكها عنها ، ولو فرض انفكاكها عنها لزم انقلاب حقائقها ، ولو كانت وجودات محضة وخيرات صرفة خرجت عن الامكان. فعدم وقوع تلك الشرور يتوقّف على عدم صدور الممكنات رأسا ، وهو يؤدّي إلى قطع الفيض والجود رأسا ؛ ولا ريب في انّه شرّ كثير.

وما ذكر من انّ بعض الموجودات منبع الشرور أبد الآباد ـ كالشيطان ـ وأيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد مثل هذا الموجود ؛

ففيه : انّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بأنّه لا محذور في ذلك ، إذ الصادر منه ليس إلاّ الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه ـ تعالى ـ لو أصاب شرّه مظلوما ـ كما اشير إليه ـ.

مع انّه في ايجاده (8) فوائد عظيمة وخيرات جسيمة عائدة إلى النظام الأعلى ولا يعلمها أحد إلاّ خالقه.

وبما ذكر اندفعت شبهة الثنوية في اثنينية المبدأ مع ما يستنبط منها من لزوم نفي عدم قدرته ـ تعالى ـ من غير أن يلزم كونه ـ تعالى ـ فاعلا للشرّ ، لأنّه لمّا ثبت انّ الشرور مستندة إلى بعض الممكنات المخلوقة له ـ تعالى ـ مع كونها مقدورة له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته بلا واسطة أيضا ـ وبه يثبت كونها مقدورة له بالقدرة المستجمعة للشرائط بالواسطة وبالقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ـ ، فيبطل اثنينية المبدأ ويثبت عموم القدرة بالمعنيين وإن كان العموم في احدهما بالواسطة ؛ ولا بأس فيه ـ كما تقدّم ـ.

ولمّا تقرر انّ تلك الشرور مع استنادها إلى غيره ـ تعالى ـ قليلة تابعة لخيرات كثيرة واقعة بالعرض فلا يكون الواجب ـ سبحانه ـ فاعلا بالذات لشرّ اصلا.

والعجب انّ الثنوية لمّا ارادوا تنزيهه ـ سبحانه ـ عن صدور الشرّ منه ارتكبوا ما هو أشدّ عنه وافضح! ـ أعني : اثبات اثنينية المبدأ ونفي عموم القدرة ـ ؛ هذا.

وقد اجاب بعض الأفاضل عن شبهة الثنوية بوجه آخر ؛ وهو : انّ الأمر الّذي يستندون إليه الشرّ لا يخلوا من أن يكون واجبا أو ممكنا ، فان كان واجبا بالذات فهو باطل ، لأنّ البرهان قائم على أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع بالذات ؛ وإن كان ممكنا بالذات فلا يجوز أن يكون مفيضا لوجود ممكن آخر ، لانّه قد ثبت بالبرهان انّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب بالذات.

فإن قيل : بناء على ما ذكرتم يلزم أن يكون وجود الشرّ من الله ـ تعالى ـ ، فيلزم أن يكون تعذيب العباد قبيحا! ؛

قلت : تعذيب العباد باعتبار انّ ارادتهم تكون جزء أخير من العلّة التامّة ، فمفيض الوجود هو الله ـ تعالى ـ وإرادة العبد شرط لإفاضة وجود الشرّ.

هذا على تقدير كون الشرّ أمرا وجوديا.

أمّا على تقدير كون الشرّ عدما ـ كما نقل من الحكماء من أنّ الشرّ انّما هو العدم والوجود من حيث هو وجود خير ـ ، فلا احتياج في استناد الشرّ إلى مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر ؛ كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة. فحينئذ ينهدم بنيان ما ذهب إليه الثنوية من انّ الشرّ لا بدّ له من مبدأ موجود ، لأنّ الشرّ إذا كان هو نفس العدم فلا يلزم أن يكون له مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه خبير بجلية الحال في هذا الكلام صحّة وسقما!.

ثمّ الظاهر انّ مراد كلّ من الطوائف الثلاث ـ أعني : المجوس والمانوية والديصانية ـ ليس ما هو ظاهر كلامهم من القول بتعدّد المبدأ والذهاب إلى إلهين اثنين ؛

وأمّا المجوس : فلما أشير إليه من انّهم يقولون : انّ اهرمن مخلوق ليزدان وايجاده ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه. فيزدان أوجد اهرمن والشرور بأسرها انّما يصدر من اهرمن. وهذا كما ترى لا يدلّ على كون اهرمن مبدأ قديما يكون وجوده منه.

وأمّا المانوية والديصانية : فانّهم صرّحوا بأنّ النور ـ الّذي هو فاعل الخير ـ حيّ قادر عالم سميع ؛ ( و) (9) كيف يتّصف النور في المعنى المشهور بتلك الصفات؟! ؛ وكيف يقول عاقل بأنّ النور والظلمة مبدءان قديمان مستقلاّن بالوجود مع أنّهما عرضان محتاجان إلى الجسم؟! ، فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه. فالظاهر انّ غرضهم معنى آخر سوى المتعارف.

أمّا المجوس فظاهر كلامهم أيضا ـ على ما نقلناه ـ لا يستلزم المخالفة لأصل التوحيد واصل عموم القدرة ، لأنّهم يستندون الجميع إليه ـ تعالى ـ ، لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل اسندوها إلى اهرمن ، وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشر عن اهرمن لا منه ـ تعالى ـ.

وما قيل : انّ أيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد موجود يكون منبعا للشرور أبد الآباد ؛ مدفوع : بأنّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بانّه لا محذور في

ذلك ، إذ الصادر منه ـ تعالى ـ ليس إلاّ اعطاء الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه ـ تعالى ـ لو أصاب شرّه مظلوما ـ كما هو مذهب العدلية ـ.

ثمّ لو كان صدور الشرّ عن ذلك الشرير بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فما ذكرناه يكون ظاهرا جدّا. نعم! لو لم يجعلوا اهرمن معلولا ليزدان بل واجبا لذاته لكان كفرا ، إلاّ انّه خلاف ما صرّحوا به. وأيضا لو قالوا : انّه ـ تعالى ـ لا يقدر ذاته بذاته على ايجاد تلك الشرور بلا واسطة لكانوا أيضا من المخالفين في عموم القدرة ، لكن ذلك أيضا لا يظهر من كلامهم. نعم! لو كان مرادهم بأهرمن هو الشيطان ـ كما هو المشهور منهم ـ لم يصحّ نسبة جميع الشرور إليه ؛ إذ لا شكّ في وجود شرور لا يمكن استنادها إليه. فالحقّ انّ الشرور مستندة إلى الممكنات الّتي هي مبادي لها ـ سواء كان شيطانا أو نارا أو غيرهما ـ. فقولهما بالتخصيص تحكّم باطل ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يكون مراد المجوس من « اليزدان » : الوجود الواجبي ، ومن « الاهرمن »: الامكان ؛ ويرجع قولهم إلى انّ فاعل الخير هو الوجوب وفاعل الشرّ هو الامكان. فانّك قد عرفت انّ الخيرات كلّها راجعة إلى الوجود ومنبع الوجود هو الواجب ـ تعالى ـ ، والشرور كلّها راجعة إلى العدم ومنبع العدم هو الامكان ، وحينئذ لا يلزم شرك اصلا. لأنّ الشرك انّما يلزم لو كان كلّ من المبدئين موجودا ومؤثّرا في الوجود ، ولكنّه ليس كذلك ؛ بل احدهما موجود مؤثّر في الوجودات ـ وهو الواجب تعالى ـ والآخر عدمي منشئا للأعدام ـ وهو الامكان ـ.

غاية ما في الباب أن يكون اطلاق المؤثّر والفاعل على العدم الّذي هو الامكان على التجوّز ـ كما يقال : علّة العدم عدم علّة الوجود ـ ؛ انتهى.

وأمّا المانوية والديصانية وإن كان ظاهر كلامهم دالا على تحقّق مبدئين ـ كما عرفت ـ إلاّ أنّه لمّا كان ظاهر كلامهم ممّا لا يقول به عاقل ـ وقد صرّحوا أيضا بأنّ النور الّذي هو فاعل الخير حيّ عالم سميع درّاك ـ أوّل جماعة كلامهم بأنّ مرادهم من النور هو الوجود ، ومن الظلمة هو الامكان حتّى يؤول مذهبهم إلى أنّ فاعل الخير هو الوجود الواجبي وفاعل الشرّ هو الامكان ، لما مرّ من أنّ الخيرات كلّها راجعة إلى الوجود والاعدام راجعة إلى العدم ، ومنبع الوجود هو الواجب ـ تعالى ـ ومنشأ الشرّ هو العدم ؛ ولا يلزم حينئذ شرك ـ كما مرّ في تأويل مذهب المجوس ـ. وعلى هذا يكون مرادهم من الخير والشرّ في شبهتهم : الوجود والعدم ومن الخيّر والشرّير : فاعل الوجود والعدم. فتقرير شبهتهم حينئذ : انّا نرى في العالم تحقّق الموجودات والاعدام والواحد لا يكون خيّرا شرّيرا ـ أي : فاعلا لهما ـ ، فيجب أن يتحقّق مبدءان. ثمّ لمّا وجب أن يكون فاعل الوجود وجودا وفاعل العدم عدما البتة فلو كان الفاعل لهما شيئا واحدا يلزم أن يكون خيرا محضا وشرّا محضا ، لأنّ الوجود خير محض والعدم شرّ محض. وبذلك يندفع ما لعلّه يقال : « انّه لمجرد تحقّق الوجودات والأعدام في العالم لا يلزم أن يكون شيء واحد ـ لو كان هو المبدأ ـ خيرا محضا وشرّا محضا ».

ثمّ كون الشيء الواحد خيرا محضا وشرّا محضا ـ أي : وجودا وعدما ـ بديهي البطلان ؛ ولذا قالوا : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا ـ أي : خيّرا محضا أو شرّيرا محضا ـ. ولا يحمل الخيّر في شبهتهم على من يغلب خيره على شرّه ، والشرّير على من يغلب شرّه على خيره ـ كما ينبئ عنه ظاهر العبارة ـ. ولم يرد على هذا الحمل : انّ ذلك غير لازم ممّا ذكر ـ أي : لزوم كون الواحد بحيث يغلب خيره على شرّه وشرّه على خيره غير لازم من دليلهم ـ ، لأنّهم قالوا : نجد في العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا ، وهذا لا يستلزم أن يكون كلّ واحد من الخير والشرّ غالبا ومغلوبا حتّى لو كان الفاعل لهما واحدا كان كلّ واحد من خيره وشرّه غالبا. لانّه يجوز أن يكونا متساويين في الكثرة أو أحدهما فقط غالبا. فلم يلزم من دليلهم ثبوت العلّية بهما معا حتّى يراد من الخير من يغلب خيره ومن الشرّ من يغلب شرّه على خيره. فتعيّن ـ كما اوردنا ـ أن يراد من الخير والشرّ : الخير المحض والشرّ المحض ـ بالتوجيه الّذي ذكرناه ـ. ولو لم يحمل الخيّر والشرّير على ذلك لتوجّه المنع على قولهم : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا اذ لقائل أن يقول : يجوز أن يكون شيء واحد مبدأ للخير والشرّ ، إمّا بالتساوي أو مع غلبة أحدهما. وعلى ما ذكر من التأويل لكلامهم يكون كلامهم مرموزا ، فما يرد عليهم وإن كان متوجّها على ظاهر أقاويلهم الاّ أنّه لا يرد على مقاصدهم ؛ لانّه لا ايراد على الرمز (10). والحمل على الوجوب والامكان مبنى قاعدة الاشراق في النور والظلمة الّتي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسب وبوزرجمهر وغيرهما ممّن كان قبلهما ، قال العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق : وعلى الرمز يبتنى قاعدة أهل الاشراق ، وهم حكماء الفرس القائلون بأصلين أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّه رمز على الوجوب والامكان. فالنور قائم مقام الوجود الواجبي والظلمة قائمة مقام الوجود الممكن ، لا أنّ المبدأ اثنان : أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّ هذا ممّا لا يقول به عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخائضين غمرات العلوم الحقيقية ؛ ولذا قال النبيّ ـ 9 ـ في مدحهم : لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من فارس (11). ثمّ قال : وهي ـ أي : قاعدة الاشراق في النور والظلمة ـ ليست قاعدة كفر المجوس القائلين بظهور النور والظلمة وأنّهما مبدءان ، لأنّهم مشركون لا موحّدون ، وكذا كلّ من يثبت مبدئين مؤثّرين في الخير والشرّ كالقدرية ـ وكانّه بهذا المعنى أشار بقوله 9 : القدرية مجوس هذه الأمّة ـ (12). وليست أيضا قاعدة الحاد ماني البابلي الّذي كان نصراني الدين مجوسي الطين ، وإليه ينسب الثنوية القائلون بإلهين أحدهما إله الخير وخالقه ـ وهو النور ـ والآخر إله الشرّ وخالقه ـ وهو الظلمة ـ. وليست  أيضا قاعدة ما يفضي إلى الشرك بالله ـ تعالى ـ كقواعد بعض المشركين من المليين وغيرهم (13) ؛ انتهى.

وعلى ما ذكره العلاّمة ليس مذهب الثنوية والمجوس قابلا للتأويل عنده بحيث يخرج عن الشرك والالحاد. وقد عرفت انّه يمكن أن يكون رمزا ومؤوّلا بما أوّل به قاعدة الاشراق ؛ بل قال بعضهم : انّ تأويل كلام الثنوية بما ذكر لو لم يكن أقرب من تأويل حكماء الفرس فليس بأبعد منه ؛ هذا.

وقد عدّ بعضهم الفلاسفة والمنجّمين والجبائية والنظام والبلخي أيضا من المخالفين في أصل عموم القدرة ؛ قال بعض المشاهير : (14) هذا ـ أي : عموم قدرة الله ـ تعالى ـ أصل عظيم خالف فيه كثيرون ؛

الأوّل : الفلاسفة القائلون بأنّه واحد حقيقي لا يصدر عنه شيء بلا واسطة واحد ، هكذا في المواقف. وقد عرفت انّ الفلاسفة يقولون بإيجاب الواجب لا بكونه قادرا ، فهم ينفون اصل القدرة لا عمومها.

الثّاني : المنجّمون ، ومنهم الصائبة القائلون بأنّ الكواكب بحركاتها مؤثّرات في الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف الفلك من اختلاف الفصول الأربعة وتأثيرات الطبائع في المواليد. وأنت خبير بأنّ هذا من متفرّعات ايجاب الواجب وانّه لا يصدر عنه بلا واسطة إلاّ واحد.

الثالث : الثنوية ، ومنهم المجوس القائلون بأنّه ـ تعالى ـ لا يقدر على الشرّ.

الرابع : النظام ومتابعوه ، حيث ذهبوا ـ كما في المواقف ـ إلى انّه ـ تعالى ـ لا يقدر على القبيح. وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ الله ـ تعالى ـ لا يقدر على القبيح وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ الله ـ تعالى ـ لا يفعل القبيح ، فبينهما فرق بيّن. ولك أن تقول : إذا لم يفعل القبيح لم يقدر عليه ، إذ القدرة على الشيء بالمعنى المذكور يقتضي صحّة صدور ذلك الشيء في وقت وصحّة عدم صدوره في وقت آخر.

الخامس : أبو القاسم البلخي ومتابعوه ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على مثل فعل العبد.

السادس : الجبائية ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على عين فعل العبد.

وتفصيل دلائلهم وما يتوجّه عليها مذكور في شرح المواقف وغيره. واثبات عموم قدرته ـ تعالى ـ يبطل المذاهب المذكورة ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ ما نسب هذا القائل إلى الحكماء ـ : من انّهم ينفون اصل القدرة لا عمومها ـ ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّ الايجاب الّذي يقول به الحكيم لا ينفي القدرة بالمعنى الأوّل والقدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ الايجاب عندهم انّما هو بعد العلم بالأصلح والإرادة لا مع قطع النظر عنهما ، والايجاب بالإرادة لو كان منافيا للقدرة للزم مثل ذلك على المعتزلة وأكثر المحقّقين ـ كالمحقق الطوسي ـ ، والفرق بقدم الأثر وحدوثه لا دخل له في ذلك.

وأمّا ما نسب إلى ساير الطوائف فالحقّ ـ كما افاده بعض أهل التحقيق ـ انّ أحدا من العقلاء لم ينف قدرة الله ـ تعالى ـ على جميع الممكنات مطلقا على التحقيق ، بل أرادوا بأجمعهم تنزيه الله ـ تعالى ـ وتقديسه ، فمنعوا صدور ما يحيله العقل على زعمهم عنه ـ تعالى ـ ، كصدور الكثرة عن الواحد الحقيقي بلا ترتيب ـ عند الحكماء ـ ، وصدور الشرّ ـ عند الثنوية ـ ، وصدور القبائح مطلقا ـ عند النظام ـ ، وصدور مثل فعل العبد وعينه ـ عند البلخي والجبائية ـ. وعلى هذا فالمعنى : انّ صدور تلك الأشياء وإن كان ممكنا عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى قدرته العامّة لكن بالنظر إلى وحدته الحقيقية أو حكمته أو ارادته ومشيّته يمتنع أن يصدر عنه ـ تعالى ـ شيء منها.

وعلى هذا لا يكون أحد من الطوائف المذكورة من المنكرين لهذا الأصل.

__________________

(1) راجع : الملل والنحل ، ج 1 ، ص 224 ، باختلاف يسير في اللفظ.

(2) الاصل : السرّ.

(3) كذا في النسختين.

(4) كذا في النسختين ؛ والظاهر : + وفيه.

(5) لفظة الذات لم توجد في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

(6) في النسختين : أجل.

(7) الاصل : الا.

(8) الاصل : ايجاد.

(9) لفظة ( و) لم توجد في النسختين.

(10) الاصل : على الرمز.

(11) راجع : شرح حكمة الإشراق ، ص 18.

(12) راجع : بحار الأنوار ، ج 5 ص 6 ؛ سنن أبي داود ، ج 4 ، ص 222 ، الرقم 4691.

(13) راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص 19.

(14) هامش « د » : هو الفاضل السماكي.




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.