قياس المسافة :

إن اتخاذ القرار الخاص باختيار المكان، يجري في العادة على أساس تقييم سابق للمسافة (Distance)، وبتعبير آخر، يأخذ بعين الاعتبار البعد عن مصادر المواد الخام وسوق الاستهلاك وأي عامل آخر يمارس نفوذه على اختيار المكان. والمسافة في مختلف هذه الأمثلة يمكن ترجمتها إلى ما يصرف من جهد أو زمن أو تكلفة، خلال قطع المسافة المطلوبة.

وفي ضوء ما سبق، يمكن النظر إلى المسافة بأكثر من طريقة، وهذا ما توضحه الأسئلة الآتية:

- كم يبعد المسكن الذي تعيش فيه عن الجامعة؟

يبعد نصف كيلو مت تقرباً (البعد الإقليمي).

- وكم يبعد عن السوق التجارية؟

حوالي 5 ليرات سورية بالباص (البعد بمعيار التكلفة).

- وكم يبعد عن المحطة ؟

نحو  دقائق مشياً على الأقدام (البعد مقاساً بالزمن).

وحتى في أيام الطفولة المبكرة، نادراً ما كنا نقيس المسافة بالمر أو الكيلو مر، بل غالبا ما ننظر إليها على أساس الزمن المطلوب، أو التكلفة اللازمة.

إن المسافر إلى باريس على سبيل المثال، يسأل عن سعر بطاقة السفر إلى باريس؟ وبكم ساعة تقطع الطائرة هذه المسافة؟ ونادراً ما يسأل عن المسافة إلى العاصمة الفرنسية؟ فالناس في أسفارهم ونقل بضائعهم لا يهتمون بالمسافة المطلقة اهتمامه١ بالزمن وا لتكلفة.

ويبين الشكل (٢٧) مدينة افتراضية ب، تحيط بها عشر قرى مجاورة، على مسافات

مختلفة. ويتضمن الجدول (٥) المسافة بالكيلو مترات بين المدينة ب، وكل قرية من هذه القرى العشرة (الحقل س)، والنسبة المئوية من سكان كل قرية، التي زارت مدينة ب خلال شهر واحد، من أجل التسوق (الحقل ع).

ومن دراسة هذه الأرقام، أو الخبرة المكتسبة من مواقع هذه الأمكنة، يمكن أن نستنتج الفرضية التالية: إن نسبة المتسوقين من سكان قرية ما من مدينة معينة خلال فترة محددة (شهر واحد مثلاً) تتناسب عكساً مع بعد القرية عن المدينة.

والآن، إذا مثلنا هذه البيانات بصورة بيانية، فإننا نستطيع أن نرى مدى العلاقة بين المتغيرين (البعد، والنسبة المئوية للقروين المتسوقين من المدينة)، كما نستطيع أن نحدد درجة الارتباط، باستخدام أسلوب خط الانحدار، ويمكن التثبت من درجة الارتباط، باستخدام معامل (سبيرمان) لارتباط الرتب.

وفي هذه المرحلة من الدراسة، قد نشعر بعدم الرضى لوجود عدد من الظاهرات الشاذة، كما هي الحال في قريتي ٨، ٩ مثلاً. وعلى الرغم من ذلك، فمن المستبعد التخلي عن فرضيتنا كلية، ولكن من الممكن النظر فيما إذا كان باستطاعتنا تقويم أي انحرافات مكانية محتملة. ونحن نشعر، بالطبع، أن أبعاد الطرقات في حد ذاتها ليست واقعية، ولابد لنا أن نأخذ الزمن الذي تستغرقه الرحلة بعين الاعتبار. ففي مثالنا يمكننا أن نتفحص أنواع الطرقات وما تقدمه من خدمات، وبالتالي تقدير سرعة الحركة بحوالي . ٦ كم/ساعة على الطرقات الرئيسية، و 30 كم/ساعة على الطرقات الثانوية.

وبعد حساب الزمن المحتمل للرحلة (مع إضافة عشر دقائق تقريباً للوقوف وغيره داخل المدينة ب)، يمكن أن نصل إلى البيانات التالية:

ولكن إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الطريقة أكثر صلاحية ؟

إن الجواب على ذلك يمكن معرفته عن طريق التمثيل البياني واستخدام معامل (سبيرمان) لارتباط الرتب. وإذا لم نحصل على نتائج أفضل على أساس الزمن، فلا بد من البحث عن معيار آخر. وبالطبع ، ينبغي ألآ نعتمد في آرائنا على حركة السيارات الخاصة بصورة أساسية، فجدول مواعيد حركة الحافلات (الباصات) وخريطة الطرقات يمكن أن تزودنا بجميع المطوات.

ويمكن أيضاً استخدام خريطة منطقة المدينة ب، ورسم خطوط الأزمنة المتساوية (Isochrones)، وذلك بوضع ورقة استشفاف فوق الشكل (٢٧)، وتزويد كل قرية بالزمن اللازم للوصول إليها من مدينة ب، وعندما نصل بين النقاط ذات القيم المتساوية، فإننا نحصل على حلقات متحدة المركز في ب.

وفي الواقع، إنه منذ بداية الخمسينيات، نشط الجغرافيون في إنتاج كثيرمن الخرائط الجغرافية القائمة على أساس الزمن والتكلفة، وهذا النمط من المسافات النسبية سوف يساعد على تحليل النشاط البشري - سلوك الإنسان. وإذا كانت أمثلتنا في هذه الدراسة قاصرة على الزمن والتكلفة فقط، فإن هذا لا يمنع من وجود عدد آخر من أنواع المسافات القائمة على أساس المعايير الاجتماعية والنفسية وغيرها. وقد تكون العلاقات المكانية الجديدة غير مألوفة، ولكنها طبيعية وواقعية، على الرغم من خروجها على الأساليب الفنية التقليدية في التعبير عن العلاقات المكانية, وبعد الحديث عن وحدات القياس الجغرافية، نستعرض في الصفحات التالية (المرحلة الثانية)، الطرائق المختلفة التي تعرض الحقائق الجغرافية، في صورة جداول أو رسوم بيانية أو كارتوغرافية.