المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
مناخ المرتفعات Height Climate
2024-11-28
التربة المناسبة لزراعة البطاطس Solanum tuberosum
2024-11-28
مدى الرؤية Visibility
2024-11-28
Stratification
2024-11-28
استخدامات الطاقة الشمسية Uses of Solar Radiation
2024-11-28
Integration of phonology and morphology
2024-11-28



التوسل بالرفق واللين والتسامح والرحمة  
  
2943   01:12 صباحاً   التاريخ: 30-1-2022
المؤلف : رضا علوي سيد احمد
الكتاب أو المصدر : فن التعامل مع الناس
الجزء والصفحة : ص 137 ـ 149
القسم : الاسرة و المجتمع / المجتمع و قضاياه / آداب عامة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-6-2016 5148
التاريخ: 2024-02-01 976
التاريخ: 11/10/2022 1654
التاريخ: 28-6-2016 2942

قال الله ـ جل وعلا ـ مبيناً لرسوله الكريم محمد (صلى الله عليه وآله)، والإنسانية جمعاء، منهاج التعامل الناس: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وقال الإمام علي (عليه السلام): (الرفق مفتاح النجاح) (1).

وقال (عليه السلام) أيضاً: (من عامل بالرفق غنم) (2).

وقال (عليه السلام): (من رفق لصاحبه وافقه، ومن أعنف أحرجه وفارقه) (3).

وقال (عليه السلام): (لا يجتمع العنف والرفق) (4).

وقال الله ـ سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].

من القواعد الأساسية في معاملة الناس، والدخول إلى قلوبهم، وكسبهم، والتأثير فيهم: استعمال الرفق واللين والتسامح معهم. وذلك لأن الإنسان يعيش مع بشر ـ مكرمين من الله (سبحانه) لهم مشاعر، وعواطف فضلا عن عقول، وإرادات، لا مع حيوانات، وبهائم. بل حتى هذه الأخيرة، لا تفضل أن يتعامل معها الناس بالعنف، وإنما تفضل الرفق، واللين والرحمة.

 خذ على سبيل المثال: القطط، فهذه إن عاملتها بالعنف والقسوة، فلربما واجهتك بالخدش والتكشير عن أنيابها. ولكنك لو قمت ـ عوضاً عن ذلك ـ بتمرير راحة يدك على شعرها بعطف ورحمة وشفقة، لأحست بالأمن والأمان منك، وراحت تداعبك في هدوء وارتياح، فرحة مسرورة بك، وبتعاملك. بل حتى القطط المتوحشة، وغير الأليفة، حينما تعامل معاملة لينة رفيقة، وتتعود على ذلك، تتحول تدريجياً من قطط غير أليفة، إلى قطط اليفة! وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للحيوانات والبهائم، فكيف بالناس الذين هم مكرمون على كل الخلائق؟

يقول أحد المزارعين: ذات يوم أردت أخذ بقرة لي إلى زريبتها في آخر النهار، ولكنها كانت ترفض التحرك من مكانها، فقمت أجرها من رسنها بقوة، وولدي يدفعها من الخلف، ولكن من دون جدوى، إذ أبت أن تبرح مكانها. وفي الأثناء تنبهت زوجتي إلى الأمر، فقالت: دعوها، سأفعل ما يجعلها تذهب إلى زريبتها بسهولة ويسر. ثم أنها عمدت إلى تناول كمية قليلة من البرسيم، وجاءت وألقت بها أمامها، فجعلت البقرة تأكل من البرسيم، وزوجتي تقودها برفق ولين، وبسهولة ويسر حتى أدخلتها إلى الزريبة.

وإذ أن البهائم التي سخرها الله لخدمة الإنسان ومصلحته تفضل التعامل معها برفق ولين ورحمة. أليس خليقاً بالمرء أن يتعامل مع الناس، مستعملا معهم الرفق واللين والرحمة؟

إن الناس ـ بطبيعتهم ـ لا يميلون إلى العنف والعنيفين في التعامل، بل يميلون إلى الرفقاء اللينين الرحماء، ولا يميلون إلى الغليظين الغضبين، بل إلى الرؤفاء الحلماء الذين يجعلونهم يشعرون بالاستقرار والوئام والسعادة.

وفي هذا يقول العلامة محمد مهدي النراقي: (ثم التجربة شاهدة بأن إمضاء الأمور، وإنجاح المقاصد، موقوف على الرفق واللين مع الخلائق، فكل ملك كان رفيقاً بجنده ورعيته انتظم أمره ودام ملكه، وإن كان فظا غليظاً اختل أمره وانفض الناس من حوله، وزال ملكه وسلطانه في أسرع زمان. وقس عليه غيره من طبقات الناس من العلماء والأمراء وغيرهما، من ذوي المناصب الجليلة، وأرباب المعاملة والمكاسبة، وأصحاب الصنائع والحرف) (5).

ومن الأساطير التي تنقل في باب حسن اللين والرفق، وفائدتهما في التعامل، الأسطورة التالية: يقال إن الشمس والرياح اختلفتا. هذه تقول إنها أقوى وأفعل، وأشد بأساً، وتلك تزعم هذه الصفات لنفسها دون الأخرى. وأخيراً قالت الرياح للشمس: أترين ذلك العجوز المتدثر بمعطفه؟ أتحداك أن تجعليه يخلع معطفه بأسرع مما أستطيع!

فقبلت الشمس التحدي، وأهابت بالرياح أن تثبت قولها، واسرعت الشمس فاختبأت وراء غمامة ثقيلة، بينما زمجرت الرياح، وراحت تصول، وتجول. ولكنها كلما ازدادت عصفاً، كلما أحكم الرجل معطفه حول جسده، وتشبث به. فلما يئست الرياح بإخفاقها، القت سلاحها، وهنالك بزغت الشمس من وراء الغمامة، وابتسمت في دعة ورفق، فما لبث العجوز أن تخلص من معطفه!

وعندئذ قالت الشمس للرياح : ـ إن للرفق واللين قوة تفوق ما للغلظة والعنف!

إن الرفق مقدمة النجاح، ومفتاحه، وهو السبيل الحسن إلى كسب الناس والتأثير فيهم. ومن هنا فالرفقاء بالناس اللينون معهم، هم الذين يدخلون إلى قلوب الناس، فيحبهم الناس، ويأنسون بهم، ويكونون على استعداد من أجل خدمتهم ومساعدتهم، بخلاف العنيفين والغليظين معهم. وإذا شبه المرء الرفيق بالناس اللين معهم بنقطة العسل، فإن هذه النقطة قادرة على أن تجذب أفواجاً من النمل. وإذا شبه المرء الغليظ مع الناس العنيف معهم ببرميل من المر (*)، فإن هذا البرميل لن يقدر على جذب نملة واحدة، فهلا يجعل المرء من نفسه نقطة العسل؟

إن استعمال الرفق واللين ـ بدلا من الغلظة والعنف ـ هو الذي جعل أحد المستأجرين يكسب ود المؤجر، ويخفض الأخير قيمة الإيجار، فماذا كانت القصة؟ (حدث أن رجلا كان يستأجر شقة في بناية، وكان جيرانه يسعون لتخفيض الإيجار، ولكنهم جميعاً أخفقوا في ذلك، نظراً إلى أن صاحب البناية شديد البخل.

يقول الرجل: في البداية كتبت له رسالة، وأخبرته بأنني سأخلي المسكن بمجرد أن ينتهي عقد الإيجار، إذا لم يخفض سعره. ولكن هذه المحاولة بدت ميئوساً منها، لأن سكاناً آخرين جربوا مثل هذا التهديد من دون أن ينفع، فقلت في نفسي: لم لا أستعمل أسلوباً آخر؟ فقررت أن استخدم اللين بدل العنف، والرفق بدل الغلظة، والمديح بدل الذم.

وبينما كنت أفكر في الأمر، دخل علي صاحب الشقة، ومعه أمين سره والرسالة التي فيها التهديد. فرحبت به باحترام بدل أن أكيل له كلمات التجريح، ولم اتحدث عن ايجار السكن، بل بدأت اتحدث عن جمال شقته وامتيازاتها، ونقاط الجودة فيها، وأبديت له التقدير المخلص، ثم أردفت قائلا:

إن ما أحصل عليه من الراتب لا يكفيني لكي استمر في استئجار هذه الشقة. وفوجئ المالك بهذا الموقف الرقيق، لأنه ـ كما يبدو ـ كان يتوقع التجريح. وقد هيأ ردا على ذلك. ولكنه ماذا يفعل وقد واجهته برفق ولين؟ فاذا كانت النتيجة؟ إنه ومن دون أن أطلب منه خفض قيمة الإيجار بدأ يتحدث لي عن الأخلاق غير الحسنة لبقية المستأجرين، وقال: إنني تلقيت أربعة عشر خطاباً في شهر واحد، بعضها جارح ومهين، ولم أخضع لها إطلاقاً. ثم أردف قائلاً: فيا لها من سعادة هانئة، أن أجد مستأجراً مثالياً راضياً مثلك! وحينما أراد أن يخرج من باب الشقة، التفت إلي، وسألني في حنان: امن زخرفة أستطيع أن أزين بها مسكنك؟ ).

ويقال إنه حينما صنعوا عجلات للسيارة، كان جل تفكيرهم ينصب على أن السيارة التي تزن قرابة طن واحد، تحتاج إلى عجلات قوية جدأ لتحملها. ولكنهم نسوا أنه حينما تكون العجلات قوية وصلبة، فستقاومها الأرض، فكانت العجلات تتصدع وتتمزق. وفي نهاية المطاف توصلوا إلى حل يعتمد على الرفق بدل الشدة، فاستعملوا الهواء المضغوط في إطار الكاو تشوك (المطاط)، لكي تستطيع العجلات أن تتحمل ثقل السيارة وقوة الأرض معاً. وهكذا تخلصوا من خطر تمزق السيارة، کما تخلصوا من الإرتجاجات، والأصوات الصاخبة التي تنبعث من العجلات الحديدية القاسية.

إن الغلظة والعنف تولد في الطرف الآخر الحنق والبغضاء. فإذا كان قلب الشخص الآخر مفعماً بالحنق على المرء والبغضاء له، فإن هذا الأخير لن يسعه أن يكسب وده، ويقنعه بوجهات نظره وآرائه. ومن هنا فإن الآباء والأزواج، والمديرين، إذا أرادوا كسب أولادهم وأزواجهم ومرؤوسيهم، والوصول إلى الأغراض التي يريدونها منهم، فإن عليهم أن يتوسلوا بالرفق، واللين، واللطف.

والدين لا يطالبنا بالرفق واللين في معاملة الناس فحسب، بل حتى في العقاب. إن المرء في تعامله مع الناس، وفي الحالة العادية من الاقتدار، قد يرفق بهم، ولكنه حين يكون مقتدراً فقد يغلظ حين يعاقب، ومن هنا فالرفق محمود حتى في العقاب.

 يقول الإمام علي (عليه السلام): (إذا عاقبت فارفق) (6).

وبالإضافة الى التوسل بالرفق واللين في الحالة الطبيعية وحين العقاب، ينبغي للمرء في معاملته الناس أن يستعمل التسامح وتقديم التنازلات. إن المواقع والمواطن كلها لا تحتاج من المرء إلى أن يدافع عن نفسه، بتصلب في آرائه، بل إن هناك الكثير من المواطن يفضل فيها للمرء أن يتسامح ويتنازل. ولا يظن أنه بتسامحه وتنازله سيكون مقصراً أو خاسراً، بل سيكون ناجحاً ومختاراً للأسلوب الصحيح. وبالإضافة إلى التسامح والتنازل، يخلق بالمرء أن يكون ـ في تعامله مع إخوانه والناس ـ رؤوفاً رحيماً. انه بحاجة إلى أن يتأدب بآداب خالقه الرؤوف الرحيم، وإلى أن يتأسى بالرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) الذي كان رؤوفاً رحيماً بالناس عطوفاً عليهم، وهكذا كان المؤمنون معه. ففي الوقت الذي كانوا فيه شديدين على من أعلنوا الحرب على الإسلام، كانوا فيما بينهم رحماء، رؤفاء، أذلاء، متواضعين.

إن المرء في تعامله مع الناس عليه أن يحيي ضميره ووجدانه بالرفق بهم واللين والتسامح والرحمة معهم. وإنها لكارثة كبرى حينما يميت الإنسان ضميره ووجدانه، ويميت فيه أخلاق الرفق، واللين، والتسامح مع الناس، إذ حينما لا يفكر إلا في المصالح والمنافع المادية والسعي للحصول عليها، ولو باستخدام العنف وعدم الرحمة وظلم الآخرين. إنه ـ والحال هذه ـ يتحول إلى سبع ضار، لا يهمه أن يقتل في سبيل تلك المصالح والمنافع والمطامع، ومحصلة ذلك أن تصبح عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة، كما حدث للرجل الذي قتل ولدي مسلم بن عقيل ـ دون أدنى لين ورفق ورحمة ـ طمعاً في المال والفرس، فما الذي جرى؟

يقول المؤرخ والراوي أبو مخنف: (لما قتل الحسين ـ عليه السلام ـ أسر من عسكره غلامان صغيران، فأتي بهما الى عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، فدعا بسجان له، وقال له: خذ هذين الغلامين، واسجنهما، ومن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن بارد الماء فلا تسقهما، وضيق عليهما سجنهما.

(قال: فأخذهما السجان، ووضعهما في السجن الى ان صار لهما سنة كاملة، ضاقت صدورهما، فقال الصغير للكبير: يا اخي! يوشك أن تفنى أعمارنا، وتبلى أبداننا في هذا السجن، أفلم تخبر السجان بخبرنا، ونتقرب اليه بمحمد المصطفى (صلى الله عليه واله)، فقال: هكذا يكون:

(فلما جنّهما الليل، أتى السجان اليهما بقرصين من شعير، وكوز من ماء، فقام إليه الصغير، فقال له: يا شيخ! أتعرف محمّداً المصطفى؟ قال: وكيف لا اعرفه، وهو نبيي، وشفيعي يوم القيامة. قال له: يا شيخ! أتعرف علي بن ابي طالب؟ قال: وكيف لا أعرفه، وهو امامي، وابن عم نبيي. قال له يا شيخ! أتعرف مسلم بن عقيل؟ قال. بلى، أعرفه، وهو ابن عم رسول الله، فقال له يا شيخ! نحن من عترة مسلم بن عقيل، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الماء فلا تسقينا، وقد ضيقت علينا سجننا، فما لك وما لنا لصغر سننا؟ أما ترعانا لأجل سيدنا رسول الله؟

(فلما سمع السجان كلامها، بكى بكاءً شديداً، وانكب على أقدامهما يقبلهما، ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، وروحي لروحكما الوقا، يا عترة محمد المصطفى! والله لا يكون محمد خصمي في القيامة: هذا باب السجن مفتوح، فخذوا أي طريق شئتما يا حبيبي! سيروا بالليل واكمنا بالنهار.

(قال: فلما خرجا، لم يدريا الى اي جهة يمضيان. فلما جهجه الصبح عليهما، دخلا بستاناً، وصعدا على شجرة، واكتنا بها. فلما طلعت الشمس، وإذا بجارية قد رأتهما، فأقبلت اليهما، وسألتهما عن حالهما، وطيب قلوبهما، وقالت لهما: (سيرا معي الى مولاتي فإنها محبة لكما، فسارا معها، فسبقتهم الجارية، فأعلمت مولاتها.

(فلما سمعت بهما، قامت حافية اليهما، واستقبلتهما بالبشرى، وقالت لهما: ادخلا على رحب وسعة. فلما دخلا أنزلتهما في مكان لم يدخل إليه أحد من الناس، وخدمتهما خدمة تليق بهما.

(ثم ان ابن زياد نادى في شوارع الكوفة، أن من جاءني بأولاد مسلم بن عقيل فله الجائزة العظمى. فلما جن الليل، اقبل اللعين الى داره، وهو تعبان من كثرة الطلب.

فقالت له زوجته الصالحة: أين كنت، فإني أرى في وجهك آثار التعب؟! قال: إن ابن زياد قد نادى بأزقة الكوفة، أن من جاءني بأولاد مسلم بن عقيل، كان له عندي الجائزة العظيمة، وقد خرجت في الطلب فلم أجد لهما أثراً ولا خبراً.

(فقالت له زوجته: يا ويلك! أما تخاف من الله؟! ما لك وأولاد رسول الله تسعى الى الظالم بقتلهم!، فلا تغرنك الدنيا. فقال: أطلب الجائزة من الأمير. قالت: تكون أقل الناس، وأحقرهم عنده، إن سعيت بهذا الأمر.

فبينما هو بين النائم واليقظان، اذ سمع الهمهمة من داخل البيت. فقال لزوجته: ما هذه الهمهمة؟ فلا ترد عليه الجواب، كأنها لا تسمع. فقعد وطلب مصباحاً، فتناوم اهل البيت كأنهم لم يسمعوا، فقام وأشعل المصباح، وأراد فتح الباب، فقالت له زوجته: ما تريد من فتح الباب؟! ومانعته، فقاتلها، ومانعها وفتح الباب، وإذا بأحد الولدين قد انتبه، فقال لأخيه: يا أخي، إجلس فإن هلاكنا قد قرب. فقال له أخوه: وما رأيت يا أخي؟!. قال: بينما أنا نائم ، واذا بأبي واقف عندي، واذا بالنبي (صلى الله عليه وآله) وعلي، والحسن، والحسين (عليهم السلام) وقوف، وهم يقولون لأبي : ما لك تركت اولادك بين الكلاب والملاعين ؟ فقال لهم أبي: وها هما بأثري قادمين.

(فلما سمع الملعون كلامهما، جاء إليهما، وقال لهما: من أنتما ؟! قالوا: من آل الرسول. ومن أبوكم: قالوا: مسلم بن عقيل. فقال الملعون: إني أتعبت اليوم فرسي ونفسي في طلبكما وأنتما عندي.

(ثم إنه لطم الأكبر منهما لطمة أكبه على الارض، حتى تهشم وجهه وأسنانه من شدة الضربة، وسال الدم من وجهه وأسنانه! ثم انه كتفهماً كتافاً وثيقاً! فلما نظرا الى ما فعل بهما اللعين، قالا: ما لك يا هذا! أتفعل بنا هذا الفعل، وامرأتك قد أضافتنا، واكرمتنا؟! أما تخاف الله فينا ؟! أما تراعي يتمنا وقربنا من رسول الله ؟!

(ولم يعبأ اللعين بكلامهما، ولا رحمهما، ولا رق لهما، ثم دفعهما الى خارج البيت، وبقيا مكتفين الى الفجر، وهما يتوادعان، ويبكيان لما جرى عليهما.

(وأما الملعون، فلما أصبح الصبح أخرجهما من داره، وقصد بهما جانب الفرات ليقتلهما، وزوجته وولده وعبده خلفه، وهم يخوفونه بالله تعالى، ويلومونه على فعله. فلم يرتدع اللعين، ولم يلتفت إليهم حتى وصل الى جانب الفرات.

(وأشهر اللعين سيفه ليقتلهما، فوقعت زوجته على يديه ورجليه تقبلهما، وتقول له: يا رجل! إعف عن هذين الولدين اليتيمين، واطلب من الله ما تطلبه من أميرك عبيد الله بن زياد، فإن الله يرزقك عوض ما تطلبه منه أضعافاً مضاعفة! فزعق الملعون عليها زعقة الغضب حتى طار عقلها، وذهل لبها.

(ثم قال للعبد: يا أسود! خذ هذا السيف، واقتل هذين الغلامين، وائتني برأسيهما حتى أنطلق بهما الى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزتي منه، ألفي درهماً، وفرساً.

(فلما هم بقتلهما قال أحد الغلامين: يا أسود! ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا أسود! ما لك ومالنا تقتلنا؟! إمض عنا حتى لا نطالبك بدمنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال لهما العبد: يا حبيبي من أنتما؟ فإن مولاي أمرني بقتلكما. فقالوا: يا أسود! نحن من عترة نبيك محمد (صلى الله عليه واله)، ونحن من أولاد مسلم بن عقيل، أضافتنا عجوزكم هذه الليلة، ومولاك يريد قتلنا!

(قال: فانكب العبد على أقدامهما يقبلهما، ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، وروحي لروحكما الوقا، يا عترة محمد المصطفى! والله لا يكون محمد خصمي يوم القيامة ثم رمى سيفه من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات، وعبر الى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: عصيتني؟! فقال: أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فلما عصيت الله، عصيتك، أحب الي من اعصي الله واطيعك.

(فقال اللعين: والله! ما يتولى قتلكما أحد غيري. فاخذ السيف، واتى اليهما، وسل السيف من جفنه. فلما هم بقتلهما، جاء اليه ولده، وقال له: يا أباه، قدم حلمك، وأخر غضبك، وتفكر فيما يصيبك في القيامة.

(قال: فضربه بالسيف فقتله. فلما رأت الحرمة ولدها مقتولا، اخذت بالصياح والعويل، فتقدم الملعون الى الولدين، فلما رأياه، تباكيا، ووقع كل منهما على الآخر يودعه، ويعتنقه، والتفتا اليه، وقالا له: يا شيخ! لا تدعنا نطالبك بدمائنا عند جدنا يوم القيامة. خذنا حيين الى ابن زياد يصنع بنا ما يريد. فقال: ليس الى ذلك سبيل. فقالا له: يا شيخ! بعنا في السوق وانتفع بأثماننا، ولا تقتلنا، فقال، لا بد من قتلكما. قالا له: يا شيخ! ألا ترحم يتمنا، وصغر سننا ؟! فقال لهما: (ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً!). فقالا: يا شيخ ! دعنا نصلي كل منا ركعتين. قال: صليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة.

(قال: فصليا أربع ركعات. فلما فرغا رفعا طرفيهما الى السماء وبكيا وقالا: يا عدل ! يا حكيم ! أحكم بيننا وبينه بالحق. ثم قالا له: يا هذا ! ما أشد بغضك لأهل البيت ! فعندها عمد الملعون، وضرب عنق الأكبر، فسقط الى الارض يخور في دمه. فصاح أخوه، وجعل يتمرغ بدم أخيه، وهو ينادي: وا أخاه! وا قلة ناصراه ! وا غربتاه ! هكذا ألقى الله وأنا متمرغ بدم أخي ! فقال له الملعون: لا عليك، سوف الحقك بأخيك في هذه الساعة، ثم ضرب عنقه، ووضع رأسيهما في المخلاة (**)، ورمى بأبدانهما في الفرات.

(وسار بالرأسين الى عبيد الله بن زياد. فلما مثل بين يديه وضع المخلاة، فقال له: ما في المخلاة يا هذا؟ قال: رؤوس أعدائك، أولاد مسلم بن عقيل. فكشف عن وجهيهما، فإذا هما كالأقمار المشرقة، فقال: لم قتلتهما؟ قال: بطمع الفرس والسلاح. فقام ابن زياد ثم قعد ثلاثاً وقال: ويلك! وأين ظفرت بهما؟ قال: في داري، وقد أضافتهم عجوز لنا. فقال ابن زياد: أفلا عرفت لهما حق الضيافة، وأتيت بهما حيين الي ؟! فقال: خشيت أن يأخذهما أحد مني، ولا أقدر على الوصول اليك.

(وأمر ابن زياد ان يغسلوهما من الدم، فلما غسلوهما وأتي بها اليه، ونظرهما، فتعجب من حسنهما، وقال له: يا ويلك ! حين أردت قتلهما، ما قالا لك ؟ قال: قالا لي: يا شيخ ! ألا تحفظ قرابتنا من رسول الله ؟! . قال: فما قلت لهما؟ قال: قلت لهما: ما لكما من رسول الله قرابة. قال: فماذا قالا لك ايضاً؟ قال : قالا لي : ألا ترحم صغر سننا ؟! فقلت لهما: (ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً). قال: فما قالا لك ايضاً ؟ قال: قالا لي: إمض الى السوق فبعنا، وانتفع بأثماننا، فقلت لهما لا بد من قتلكما. قال: فماذا قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : ألا تمضي بنا الى ابن زياد يحكم فينا بأمره ؟ . فقلت لهما: ليس الى ذلك سبيل. قال: فماذا قالا لك ايضاً ؟ قال: قالا لي: دعنا نصلي كل واحد منا ركعتين ، فقلت لهما : صليا إن نفعتكما الصلاة ، فصليا أربع ركعات ، فلما فرغا من الصلاة ، رفعا طرفيهما الى السماء ، ودعيا ، وقالا : يا حي ! يا حكيم ! أحكم بيننا وبينه بالحق.

(ثم نظر ابن زياد الى ندمائه، وكان فيهم محب لأهل البيت، وقال له: خذ هذا الملعون، وسر به الى موضع قتل فيه الغلامين، واضرب عنقه، ولا تـدع دمه يختلط بدمهما، وخذ هذين الرأسين، وارمهما في موضع رمى به أبدانهما.

(قال: فأخذه، وسار به، وهو يقول: والله، لو أعطاني ابن زياد جميع سلطته، ما قبلت هذه العطية! وكان كلما مر بقبيلة أراهم الرأسين، وحكى لهم القصة، وما يريد أن يفعل بذلك اللعين.

(ثم سار به الى موضع قتل فيه الغلامان، فقتله بعد أن عذبه بقلع عينيه، وقطع أذنيه، ويديه، ورجليه، ورمي بالرأسين في الفرات.

(قال: فخرجت الأبدان، وركبت الرؤوس عليها بقدرة الله (تعالى)، ثم تحاضنا، وغاصا في الفرات. ثم إن ذلك الرجل المحب أتى برأس ذلك اللعين، فنصبه على قناة (***)، وجعل الصبيان يرجمونه بالحجارة) (7).

إن من أهم الاخلاق التي تضمن للمرء استعمال الرفق واللين والتسامح والرحمة مع الناس، الحلم. وخلافه الغضب، هذه الآفة التي تجعل المرء طائشاً، وتفسد عقله، وتبعده عن الحقيقة، وقد تجعله غليظاً عنيفاً، لا ليناً رفيقاً.

 يقول الامام علي (عليه السلام)، في ذم الغضب ومدح الحلم: (الغضب مركب الطيش) (8).

(الغضب يفسد الألباب، ويبعد عن الصواب) (9).

(العاقل: من يملك نفسه إذا غضب، وإذا رغب، وإذا رهب) (10).

(ضادوا الغضب بالحلم) (11).

(بلين الجانب تأنس النفوس) (12).

(كن لينا من غير ضعف، شديداً من غير عنف) (13).

(من لانت عريكته، وجبت محبته) (14).

وهكذا فلكي يزين المرء تعامله مع الناس، ويكسبهم الى جانبه، عليه أن يتوسل بالرفق واللين والتسامح والرحمة معهم، ويدع الغلظة والعنف والتصلب والشدة، وليعلم أن الرفق وسيلته الى النجاح في معاملة الناس، هذا النجاح الذي يشكل جانباً هاماً من جوانب السعادة في حياته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغرر والدرر.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

(5) محمد مهدي النراقي: جامع السعادات، ج1، ص340، الطبعة الرابعة. الشيخ الجليل النراقي من أعلام المجتهدين، ولد في (نراق)، وهي قرية من قرى کاشان بایران عام 1128هـ، وتوفي عام 1209هـ في النجف الاشرف بالعراق.

(*) المر: الحنظل، العلقم.

(6) نهج البلاغة.

(**) المخلاة: ما يجعل فيه العلف، ويعلق في عنق الدابة.

(***) قناة: رمح، أو عصا.

(7) فخر الدين الطريحي النجفي: المنتخب.

(8) الغرر والدرر.

(9) المصدر السابق.

(10) المصدر السابق.

(11) المصدر السابق.

(12) المصدر السابق.

(13) المصدر السابق.

(14) المصدر السابق. 




احدى اهم الغرائز التي جعلها الله في الانسان بل الكائنات كلها هي غريزة الابوة في الرجل والامومة في المرأة ، وتتجلى في حبهم ورعايتهم وادارة شؤونهم المختلفة ، وهذه الغريزة واحدة في الجميع ، لكنها تختلف قوة وضعفاً من شخص لآخر تبعاً لعوامل عدة اهمها وعي الاباء والامهات وثقافتهم التربوية ودرجة حبهم وحنانهم الذي يكتسبونه من اشياء كثيرة إضافة للغريزة نفسها، فالابوة والامومة هدية مفاضة من الله عز وجل يشعر بها كل اب وام ، ولولا هذه الغريزة لما رأينا الانسجام والحب والرعاية من قبل الوالدين ، وتعتبر نقطة انطلاق مهمة لتربية الاولاد والاهتمام بهم.




يمر الانسان بثلاث مراحل اولها الطفولة وتعتبر من اعقد المراحل في التربية حيث الطفل لا يتمتع بالإدراك العالي الذي يؤهله لاستلام التوجيهات والنصائح، فهو كالنبتة الصغيرة يراقبها الراعي لها منذ اول يوم ظهورها حتى بلوغها القوة، اذ ان تربية الطفل ضرورة يقرها العقل والشرع.
(أن الإمام زين العابدين عليه السلام يصرّح بمسؤولية الأبوين في تربية الطفل ، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى ، وأن التقصير في ذلك يعرّض الآباء إلى العقاب ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : « وتجب للولد على والده ثلاث خصال : اختياره لوالدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في تأديبه » من هذا يفهم أن تأديب الولد حق واجب في عاتق أبيه، وموقف رائع يبيّن فيه الإمام زين العابدين عليه السلام أهمية تأديب الأولاد ، استمداده من الله عز وجلّ في قيامه بذلك : « وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم »)
فالمسؤولية على الاباء تكون اكبر في هذه المرحلة الهامة، لذلك عليهم ان يجدوا طرقاً تربوية يتعلموها لتربية ابنائهم فكل يوم يمر من عمر الطفل على الاب ان يملؤه بالشيء المناسب، ويصرف معه وقتاً ليدربه ويعلمه الاشياء النافعة.





مفهوم واسع وكبير يعطي دلالات عدة ، وشهرته بين البشر واهل العلم تغني عن وضع معنى دقيق له، الا ان التربية عُرفت بتعريفات عدة ، تعود كلها لمعنى الاهتمام والتنشئة برعاية الاعلى خبرة او سناً فيقال لله رب العالمين فهو المربي للمخلوقات وهاديهم الى الطريق القويم ، وقد اهتمت المدارس البشرية بالتربية اهتماماً بليغاً، منذ العهود القديمة في ايام الفلسفة اليونانية التي تتكئ على التربية والاخلاق والآداب ، حتى العصر الاسلامي فانه اعطى للتربية والخلق مكانة مرموقة جداً، ويسمى هذا المفهوم في الاسلام بالأخلاق والآداب ، وتختلف القيم التربوية من مدرسة الى اخرى ، فمنهم من يرى ان التربية عامل اساسي لرفد المجتمع الانساني بالفضيلة والخلق الحسن، ومنهم من يرى التربية عاملاً مؤثراً في الفرد وسلوكه، وهذه جنبة مادية، بينما دعا الاسلام لتربية الفرد تربية اسلامية صحيحة.