أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-5-2016
2557
التاريخ: 2024-06-22
524
التاريخ: 26-10-2014
1934
التاريخ: 10-11-2020
22813
|
لا شك في أن نزول القرآن وتنزيله ، هو من المباحث التي كثرت فيها المقالات والإجتهادات ، إذ إنه ما من تفسير للقرآن منذ عصر الرسالة وحتى يومنا هذا إلاّ وتجد فيه اهتماماً خاصاً في تفسير وتأويل الآيات القرآنية ، بين قائل بأن للقرآن تنزيلان ، وقائل بأن له تنزيلات ثلاثة ، وقبل أن نعرض لما يراه الطباطبائي في تفسيره لآيات النزول والتنزيل ، لا بد من التعريف والتفريق بين هذين المصطلحين لمعرفة ما ينطويان عليه من دلالات ، يقول الراغب الأصفهاني : «نزل : النزول في الأصل هو انحِطاطُ من عُلوٍ ، يقال نزل عن دابته ، ونزل في مكان كذا حط رحلهُ فيه ، وأنزلهُ غيرُهُ ، قال الله تعالى : ﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾ [المؤمنين : 29] ، . . وإنزال الله تعالى نعمهُ ونقمهُ على الخلق وإعطاؤهم إياها ، وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن ، وإما بإنزال أسبابه والهداية فيه كإنزال الحديد واللباس . . . والفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة ، أن التنزيل يختصّ بالموضع الذي يشير إليه إنزالُهُ مفرقاً ومرة بعد أخرى ، والإنزال عام ، فمما ذكر فيه التنزيل قوله تعالى : ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء : 193] ، ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ [الاسراء : 106] ، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر : 9) ، وقوله تعالى : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر : 1] ، وقوله تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة : 185] ، وإنما خصّ لفظ الإنزال دون التنزيل لما روي أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماءِ الدنيا ، ثم نزَلَ نَجماً فَنَجماً . . .» (1) .
هذه هي خلاصة ما يمكن أن يفرق فيه بين الإنزال والتنزيل ، أن الإنزال هو الورود على المكان من علوٍ ، وقد يكون هذا الورود عادياً ، وقد يكون معنوياً ، شأنياً ، فيقال مثلاً عن رجل أنه عالي المكان ، أو الشأن ، بمعنى أنه ذو مكانة رفيعة في أعين الناس ، فقوله تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ ، إشارة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلقى القرآن من جهة عليا ، هي الله تعالى ، وقد جاء التعبير عن وحيه بالنزول . فالآية ، كما يرى الطباطبائي ، تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال الله تعالى : ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ [الاسراء : 106] .
وهذا ظاهر في نزوله تدريجياً في مجموع مدة الدعوة . وهذا ما يستفاد منه في بيان الفرق بين الإنزال والتنزيل أن الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي . . (2) . وهنا تجدر الإشارة إلى ما اختلف فيه أهل التفسير ، وإلى ما استندوا إليه من روايات وتحليلات لا دليل عليها من القرآن الكريم ، من قبيل ما ذهبوا إليه بأن القرآن نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ، ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوماً وعلى مكث في مدة ثلاث وعشرين سنة ، وقد أجيب على هذا بأن تعقيب «أنزل فيه القرآن» ، بقوله : ﴿ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ ، لا يساعد على ذلك ، إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين ، هذا ، وقد عرض الطباطبائي لآراء القوم مفنداً لها ، إلاّ أنه لم يأت في كلامه على الرأي القائل بأن للقرآن تنزلات ثلاثة ، الأول إلى اللوح المحفوظ ، والثاني إلى بيت العزّة في السماء الدنيا ، والثالث تفريقه منجماً بحسب الحوادث . . . (3) ، لكن دفعه لمثل هذه التأويلات للآيات فيما رآه المفسرون في معنى الدفعي والتدريجي ، ولجهة قولهم أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان ، أن أول ما نزل منه نزل فيه ، يجعل الطباطبائي لاحظاً لكل هذه الأقوال مبيناً تهافت الرأي فيها ، لكونه من المستبعد جداً أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، لأن الآيات القرآنية ، كما في قوله تعالى : ﴿ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ ، غير صريحة الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ، ولا قرينة تدل عليه في الكلام ، فحمله عليه تفسير من غير دليل . يقول الطباطبائي : «إن ظاهر الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله ، أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل عليه» (4) . وهكذا ، نلاحظ كيف أن الطباطبائي في منهجه قد استدل بظاهر الآيات القرآنية على أن القرآن قد أنزل دفعة إجمالية على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم تدرج نزوله طيلة حياته بعد البعثة ، وهذا ما يمكن تعليله بأن الهدف من هذا النزول الدفعي للمرة الأولى ، هو تنوير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعارف الإلهية الكبرى ، وأسرار الكون العظيمة ، ليمتلىء قلبه بالحقائق القرآنية ، كما قال الله تعالى : ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ [الشعراء : 193-194] .
إن الطباطبائي في منهجه يركز على التدبر بالآيات على قاعدة أن هذه الآيات المباركة لا يمكن أن تتناقض فيما بينها ، لأن التناقض ، كما بينا سابقاً ، لا يتوافق مع ميزة الإعجاز التي يتمتع بها القرآن . ولهذا ، فإن مقتضى التدبر أن يلحظ النزول الدفعي على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ذهب إليه الطباطبائي بالقول أن الرسول كان على علم مسبق بمحكم القرآن ، لنزوله عليه دفعة واحدة ، وهذا المعنى يلوح من قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [طه : 114] ، فإنها وأمثالها من الآيات ظاهرة في أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له علم بما ينزل عليه ، فنُهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي (5) .
كما يرى المفسّر أيضاً أن الرواية إذا خالفت القرآن تسقط عن درجة الاعتبار حتى ولو كانت مسندة ، وقد عرضنا لرأي أحد الباحثين في علوم القرآن : «صبحي الصالح» ، في هامش هذه الدراسة ، ورأينا كيف أنه يرفض تنزلات القرآن رغم صحة أسانيد هذا الرأي المخالفة لما نطق به القرآن (6) ، وهذا ما يركز عليه الطباطبائي في تدبره للقرآن ، وفي ظواهر القرآن تحديداً ، لكون القرآن الكريم قد أعطى للسامعين حجيّة واعتبار ظواهر الألفاظ ، وإذا كان ثمة باطن للقرآن ، فإنه لا يُلغي ولا يبطل ظاهره ، وإنما هو له بمثابة الروح التي تمنح الجسم الحياة (7) . وعليه ، فإنه لا معنى ، برأي الطباطبائي ، للإنصراف عن ظاهر القرآن والأخذ بروايات مخالفة له ، أو متناقضة معه ، من قبيل ما يذهب إليه بعض المفسرين من تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان ، كتلك التي تفسّر القرآن من غير دليل ، أو تصرف الكلام عن ظاهره من دون قرينة . إن الذي يعطيه التدبر في الآيات ، هو الذي ينبغي أن يكون مهيمناً على كل ما يحيط بالنص ، وخاصة في مجال العلوم القرآنية . فالطباطبائي يرى أن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل ، كقوله تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ . . . ﴾ واعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب ، أو البعض النازل منه كقوله تعالى : ﴿ كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ، فإن المطر إنما ينزل تدريجياً ، ولكن النظر هنا معطوف إلى أخذه مجموعاً واحداً ، وكذلك عبر عنه بالإنزال دون التنزيل ، وكقوله تعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ ﴾ [ص : 29] . وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي ، الذي يقضي فيه بالتفرق والتفصيل والإنبساط ، والتدرج هو المصحح لكونه واحداً غير تدريجي ونازلاً بالإنزال دون التنزيل ، وهذا الإحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى : ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود : 1] . فالإحكام هنا ، كما يرى الطباطبائي ، مقابل التفصيل ، ولكن السؤال يبقى هنا أين أحكمت آياته ؟ فالمفسّر يرى أنها أحكمت في اللوح المحفوظ ، أو في قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الزخرف : 4] ، لكن لا على نحو المكان ، أو الوعاء ، كما فهم بعض المعترضين على كلام الطباطبائي ، وهذا ما سبق لنا أن عرضنا له في مبحث القرآن والمطهرون ، وإنما على نحو المثل من الممثل ، واللباس من المتلبس ، والمثال من الحقيقة . إنه بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام ، وهذا هو المصحح لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب ، كما في قوله تعالى : ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ ، إلى غير ذلك ، وهذا الذي ذكرنا هو الموجب ، لأن يحمل قوله تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ ، وقوله : ﴿ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ ، على إنزال حقيقة الكتاب ، والكتاب المبين إلى قلب رسول الله دفعةً ، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدة الدعوة النبوية (8) .
لقد أخطأ مَن توجه بالنقد اللاذع للمفسر فيما نسبه له من قول أن كلامه منبعث من ذوق عرفاني ليس فيه جدل واستدلال ، وأنه ليس سوى استحسان عقلاني مجرّد (9) ، اعتقاداً منه أن الطباطبائي يجهل معنى أن يكون للقرآن شأناً عظيماً عند الله في سابق علمه الأزلي !!؟
ثم إن المعترض على تفسير الطباطبائي ومنهجه في التفسير لم يبين لنا ما يفيده ظاهر الآيات المباركة ، التي تفيد معنى الإحكام قبل التفصيل ، والإنزال قبل التنزيل ، فهو على غربة من هذا الأمر ، ويريد أن يحمّل كلام المفسر ما لا يحمله . فالمفسر ـ الطباطبائي ، يقول : إن الآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل ، وهذا الإحكام إنما فصّل في قوله تعالى : ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ وفي قوله تعالى : ﴿ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ . فالظاهر من هذه الآيات أن هناك كتاباً مبيناً عرض عليه ، وألبس لباس القراءة العربية ليعقله الناس ، وإلاّ فإنه ، وهو في أم الكتاب ، عند الله ، عليّ لا تصعد إليه العقول . . . وفي الآية ، كما يرى الطباطبائي ، تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين (10) . . ولهذا ، نجد المفسر يميز بين القرآن المبين والكتاب المبين الذي هو في مرتبة التنزيل . ذلك هو ما يذهب إليه المفسّر في تفسيره ، ولم نعثر على ذوقه العرفاني واستحسانه المجرّد ، كما رأى بعض المفسرين ، إلاّ أن يكون أصل اعتراضهم على كون الطباطبائي قد ذهب في تفسيره بالظاهر من الكتاب مذهب أهل التأويل ، الذي زعمه بعضهم له فيما نسبه للطباطبائي من القول بوجود القرآن المذخور في مقابل القرآن المبذول متسائلاً ، فما الذي دعا الطباطبائي إلى تسمية ذلك القرآن المذخور ـ فرضاً ، تأويلاً ووجوداً عينياً لهذا القرآن الحاضر ؟؟ (11) .
لا شك في أن هذا التساؤل ليس مبنياً على فهم دقيق لرؤية الطباطبائي فيما رآه من تحقق للقرآن ، سواء في أُمّ الكتاب ، أم في مجال التنزيل على قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والذي يسميه الطباطبائي ، بحقيقة الكتاب ، ولعلهم لم يطّلعوا على تفسير الطباطبائي لقوله تعالى : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ (الاعراف : 53) ، وقوله تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (يونس : 37) . فالمفسر يشير إلى دلالات ظاهرة في معنى التأويل والتصديق والتفصيل ، هذا فضلاً عما تنطوي عليه الآيات من قول للذين نسوه من قبل ﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ ، وأين التأويل المذخور للكتاب المزعوم بقولهم أنه مدّخر لأيام الجدب؟ والقرآن ظاهر في الدلالة على أن الناس ينظرون تأويله يوم يأتي تأويله ، فإن المنتظر تأويله هو ما يراه المفسّر تأويلاً ، فإذا لم يكن الأمر كذلك ، فما هو المنتظر تأويله عند مَن يزعم أن التعبير بأُمّ الكتاب ، والكتاب المكنون ، واللوح المحفوظ ، كل ذلك إنما هو تعبير عن علمه تعالى المكنون ، الذي لا يطلع عليه أحد اطلاقاً ، وهنا نسأل هل هذا تأويل للقرآن ، وللآيات الماثلة أمامنا؟ أم أن المنتظر تأويله هو في علم الله تعالى لا يطلع عليه أحد؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فما يكون معنى قول الذين نسوه قد جاءت رسل ربنا بالحق؟؟؟
لقد بيّن الطباطبائي ، أن الآيات الشريفة ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طارئٍ على الكتاب ، إذ إن نفس الكتاب شيء ، والتفصيل الذي يعرض له شيء آخر ، وهم إنما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب ، لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه (12) ، وسيظهر لهم يوم القيامة فلا ينفعهم وفي هذا إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب ، وهنا تكمن عظمة وعبقرية المفسر الطباطبائي ، الذي يجعلك تقف أمام حقيقة باهرة ، سواء في معنى الإنزال ، أم في معنى التنزيل . وإذا لم يتسن لأحد أن يفهم حقيقة إتكاء هذا الكتاب المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجياً على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار عقول العامة ، . . . وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنزالاً فعلّمهُ الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه (13) ، فليس له حمل الكلام على غير معناه ، أو أن يتهم أحداً في رؤاه . كما أنه إذا لم يكن هناك متسع من الوقت والذهن لأصحاب العقول الحسية ، أن يدركوا هذا المعنى ، فإن ذلك مما تحتمه الطبيعة المادية التي استكانوا إليها في غربة ذواتهم عن الظاهر والباطن معاً (14) .
غاية القول : إن ما ذهب إليه الطباطبائي في معنى الإنزال والتنزيل ، يكشف لمن يتأمل ويتدبّر في تفسيره أنه دخل إلى هذا العلم من باب ظاهر القرآن ، ولم تكن رؤيته نتيجة ذوق عرفاني أو استحساني ، كما زعم بعض المنتقدين لرؤيته ، وقوله : «إن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب» ، هو في الحقيقة ، ما تنبىء به ظواهر الآيات القرآنية فيما جاءت به من استعمالات ، سواء في دائرة الإنزال ، أم في دائرة التنزيل . فالطباطبائي اختار لمنهجه أن يكون قرآنياً بامتياز ، فهو لم يعارض الروايات الواردة في هذا الشأن ، كما أنه لم يقبل بالروايات التي تخالف القرآن فيما زعمته من تنزلات مخالفة له . أما القول بأن الكتاب لم يصرح إلاّ بتفريق الوحي وتنجيمه ، فهو ينطوي على ملابسات تناقض ظواهر الآيات القرآنية ، إذ لم يشرح القائل بذلك ما هو الفرق بين التفريق والتنجيم ، فهل المقصود بذلك الإنزال والتنزيل ؟ أم أنه تأكيد لمقولة ابتداء النزول في ليلة مباركة ، دونما اعتبار لقوله تعالى : ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ (الشعراء : 193-194) ؟
كما أن من ذهب إلى اعتبار التفريق والتنجيم لم يبين معنى ودلالة قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ (طه : 114) ، فهل في هذه الآية ما يُفيد النزول الدفعي إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدة الدعوة النبوية؟ وهذا هو ما يراه أكثر المفسرين ، أم أن ظاهر هذه الآية يُفيد حقيقة التنجيم والتفريق بحسب الوقائع والأحداث ؟
ثم إنه ما معنى أن يقول «صبحي الصالح» إن أسانيد مَن يذهب إلى القول بتنزيلات ثلاثة للقرآن ، بأنها أسانيد صحيحة ثم لا يأخذ بها قناعة منه أنّها تخالف القرآن ، طالباً إليهم أن يشيروا إلى أسرار تنزله الثالث الأخير منجماً بحسب الوقائع ؟ فهل له أن يُبين كيفية ابتداء إنزاله في ليلة مباركة ، مع قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ ؟ أليس في هذه الآية ما يشير إلى علم مسبق للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمحكم القرآن لنزوله عليه جملة ودفعة واحدة؟
إن القول بتفريق الوحي وتنجيمه لعله يكون هو المخالف للقرآن فليتدبر الباحث والمفسر في ذلك ، طالما أن صاحب هذا الرأي ينسب لنفسه مخالفة ما اشتهر عليه بين المفسرين ، فهو يقول : «ويظهر أن الجمهور كان يجنح إلى هذا الرأي ، أي نزول القرآن الدفعي إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعدها منجماً ، فالزركشي ، كما يقول صبحي الصالح ، يقول في هذا الرأي أنه أشهر وأصح ، وإليه ذهب الأكثرون (15) وابن حجر في «فتح الباري» ، يصفه بالرأي «الصحيح المعتمد» (16) . ونحن ـ أي صبحي الصالح ـ مع ذلك لم نأخذ به لمخالفته صريح القرآن . .!؟ ، وهنا يكمن العجب في تفريقه وتنجيمه!
لقد بيّن الطباطبائي أنه لا دليل على ما يذهب إليه البعض في أن نزول القرآن في شهر رمضان إنما كان أول ما نزل منه نزل فيه ، ويرد عليه : أن المشهور عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث بالقرآن وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر من ثلاثين يوماً ، وكيف تخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن؟ على أن أول سورة ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ تشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة . . . وكيف كان فمن المستبعد جداً أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، على أن قوله تعالى : ﴿ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ، ولا قرينة تدل عليه في الكلام ، فحمله عليه هو تفسير من غير دليل (17) .
هذا ما أفاده الطباطبائي في أجوبته على ما زعمه القوم نزولاً وتنزيلاً ، وهو فيما عرض له من تفسير للآيات توقف ملياً عند الظاهر ولم يحمل عليها من غير دليل ، وقد استوفى الكلام رحمه الله فيما بيّنه من تفسير لمجمل الآيات القرآنية مفسراً لها في سياق رؤيته ومنهجه في تفسير القرآن بالقرآن وهكذا ، فقد تظهّر لنا كيف أن علوم القرآن تؤثر في منهج الطباطبائي على النحو الذي يثبت أن القرآن يُفسر بعضه بعضاً لا على نحو الاستقلال ، وإنما على نحو الاستنطاق للقرآن من خلال التدبر فيه ، وملاحظة سائر الأقوال والآراء في مسألة النزول والتنزيل ، حتى بلغ الأمر به إلى القول في آراء الكثيرين منهم : «ولست أدري أي جملة من جمل كلامه ـ على فساده بتمام أجزائه ـ تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق والحقيقة بوجه ؟ فقد اتسع الخرق على الراتق (18) !؟
أما القول ، بأن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ، ثم نزول الآيات نجوماً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أخبار مجعولة لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها ، فهذا كله رد عليه الطباطبائي ، كاشفاً عن أنه خطأ وفرية ، لأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يوافق هذه الأخبار على ما عرفت ، هذا أولاً .
وثانياً : أن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة (19) ، هكذا ، فإن الطباطبائي لم يترك لهؤلاء ما يفترون به على حقيقة القرآن ونزوله وتنزيله إلاّ ورد عليه بما يتناسب معه ، من خلال القرآن (20) ، وليس بما يتناسب مع مزاجٍ شخصي ، أو رأيٍ ، أو عصبية ، أو ذوق عرفاني واستحساني ، كما زعم العلاّمة معرفة فيما عرض له من نقدٍ لموقف الطباطبائي ، حيث رأى في تأويله تحمّلاً لا طائل منه ، ولا دليل عليه ، وقد يكون هذا أيضاً من التجنّي على الطباطبائي ، لكونه اتخذ من الظواهر القرآنية والحجج العقلية سبيلاً لفهم معارف القرآن ، ولعلَّ العلاّمة معرفة فيما اختطّه لنفسه من موقف تجاه الفلسفة والعرفان منعه من الموضوعية في كثير من آرائه ومواقفه (21) وطالما أنّ الروايات بشأن نزول القرآن وتنزيله قد اختلفت وتباينت إلى حدّ الاضطراب ، وحيث إن هذه المسألة ليست من مجالات التعبّد في شيء ، سواء أقلنا بنزول القرآن جملة واحدة في ليلة واحدة إلى البيت المعمور في السماء الرابعة ، كما في روايات خاصة ، أو بنزوله إلى بيت العزّة في السماء الدنيا ، كما في روايات عامّة ، أو نزل على قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بحيث أعطي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العلم جملةً واحدة ، كما في روايات الصدوق ، فإنّ هذا كلّه مما يمكن التعقّل فيه ، وهذا ما فعله الطباطبائي في منهجه ، فاختار التعقّل في فهم الروايات ، واحتكم إلى ظاهر قوله تعالى : ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُه ﴾ . وكان موقف الطباطبائي من إنزال القرآن وتنزيله في ليلة القدر ، أن حقيقة الكتاب المتوحّدة أُنزلت إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعةً ، كما أُنزل القرآن المفصّل في فواصل وظروف على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً تدريجاً في مدة الدعوة» (22) . وكما نعلم أن هذا الموقف لم ينفرد به الطباطبائي وإنما ذهب إليه الفيض الكاشاني كما جاء في مقدمة تفسير الصافي ، فرأى أنه أُريد بذلك نزول معناه على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم نزل طوال عشرين سنة نجوماً من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه كلما أتاه جبرائيل (عليه السلام) بالوحي وقرأه عليه بألفاظه (23) .
وهنا نسأل ، هل هذا من التحمّل والتأويل بالباطن والعرفان كما يرى معرفة؟ والجواب نعم ، هذا هو موقف «معرفة» لكونه يتبنّى الرأي القائل بأنّ القرآن قد تضمّن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه ، وذلك لا يكون على الحقيقة إلاّ لوقت حدوثه عند السبب ، كما في قوله تعالى : ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ﴾ (المجادلة : 1) ، أو كما في قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ﴾ ، إلى غير ذلك من الآيات التي جاءت بلفظة : «قالوا» ، و «قال» ، و «جاؤوا» و «جاء» بلفظ الماضي ، كما أن فيه ناسخاً ومنسوخاً ، وكلّ ذلك لا يتناسب ونزول القرآن جملةً واحدةً في وقتٍ لم يحدث شيء من ذلك (24) .
إن ما ذهب إليه «معرفة» وغيره من المفسّرين فيما تعقّلوه من معاني الإنزال والتنزيل لم يتعبّدوا فيه ، كما هو صريح قول معرفة في تلخيص التمهيد ، إذ إنه يمكن القول في هذا الكلام أيضاً أنه من التأويل بالرأي ، لأنه لا يُستفاد هذا المعنى من ظاهر الآيات القرآنية التي تتحدّث في النزول على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتثبيت فؤاده ، ولعلّ ما ذهب إليه الفيض الكاشاني والطباطبائي ، هو أقرب للتعقّل مما ذكره «معرفة» وغيره من حصر الإنزال والتنزيل بالوقائع والأحداث ، وكأنه هناك من يترقّب الحدث ليكون له موقف منه فيما زعموه من انتظار القرآن لحدوث الأسباب ، وكأنّ مسبّب الأسباب هو الإنسان . إنّ الله تعالى هو مسبّب الأسباب ، وليس منافياً للعقل أبداً ، ولا هو من التأويل ، أن يُقال بأنّ إنزال القرآن إنما أُنزل على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدعوة النبوية . وإذا صحّ هذا القول ، فإنّه لا يبقى معنى لما سأله «معرفة» بأنه ما هي الفائدة الملحوظة من وراء نزول القرآن جملة واحدة في إحدى السماوات العُلى ، ثم ينزل تدريجاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (25) ؟
______________________________
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|