أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-9-2020
11937
التاريخ: 18-9-2020
3164
التاريخ: 18-9-2020
6372
التاريخ: 16-9-2020
7053
|
قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الحج: 30 - 35]
{ذلك} قيل: ههنا وقف، ومعناه الأمر ذلك أي: هكذا أمر الحج والمناسك { وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: فالتعظيم خير له عند ربه أي:
في الآخرة. والحرمة: ما لا يحل انتهاكه، وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه، وهي في هذه الآية ما نهي عنها، ومنع من الوقوع فيها، وتعظيمها ترك ملامستها. واختار أكثر المفسرين في معنى الحرمات هنا أنها المناسك لدلالة ما يتصل بها من الآيات على ذلك. وقيل: معناها ههنا البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، عن ابن زيد قال: ويدل عليه قوله: {والحرمات قصاص}.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} أي: الإبل والبقر والغنم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني في سورة المائدة من الميتة والمنخنقة والموقوذة ونحوها {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} من هنا للتبيين والتقدير: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وروى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج والنرد، وسائر أنواع القمار من ذلك. وقيل: إنهم كانوا يلطخون الأوثان بدماء قرابينهم، فسمي ذلك رجسا {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يعني الكذب.
وقيل: هو تلبية المشركين: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء، وسائر الأقوال الملهية. وروى أيمن بن خريم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام خطيبا فقال: أيها الناس! عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يريد أنه قد جمع في النهي بين عبادة الوثن، وشهادة الزور.
قال سبحانه: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} أي: مستقيمي الطريقة على أمر الله، مائلين عن سائر الأديان، وهي نصب على الحال. {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي: حجاجا مخلصين وهم مسلمون موحدون، لا يشركون في تلبية الحج به أحدا. ثم ضرب سبحانه مثلا لمن أشرك فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أي.
سقط من السماء {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي: تأخذه بسرعة. قال أبن عباس: يريد تخطف لحمه {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تسقطه {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد مفرط في البعد. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن بعد من أشرك به من الحق كبعد من خر من السماء، فذهب به الطير، أو هوت به الريح في مكان بعيد. وقال غيره:
شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة، فهو هالك لا محالة.
{ذلك} أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي: معالم دين الله، والأعلام التي نصبها لطاعته. ثم أختلف في ذلك فقيل: هي مناسك الحج كلها، عن أبن زيد. وقيل: هي البدن. وتعظيمها: استسمانها واستحسانها، عن مجاهد، وعن ابن عباس في رواية مقسم. والشعائر: جمع شعيرة وهي البدن إذا أشعرت أي: أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب الأيمن، ليعلم أنها هدي.
فالذي يهدي مندوب إلى طلب الأسمن والأعظم. وقيل شعائر الله: دين الله كله.
وتعظيمها: التزامها، عن الحسن {فإنها} أي: فإن تعظيمها لدلالة تعظيم عليه. ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فقال: فإنها {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أضاف التقوى إلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب. وقيل: أراد صدق النية.
{لكم فيها} أي: في الشعائر {منافع} فمن تأول أن الشعائر الهدي قال: إن منافعها ركوب ظهورها، وشرب ألبانها، إذا احتيج إليها. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وهو قول عطاء بن أبي رباح، ومذهب الشافعي. وعلى هذا فقوله {إلى أجل مسمى} معناه: إلى أن ينحر. وقيل: إن المنافع من رسلها ونسلها وركوب ظهورها وأصوافها وأوبارها {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: إلى أن يسمى هديا، وبعد ذلك تنقطع المنافع، عن مجاهد وقتادة والضحاك. والقول الأول أصح، لأن قبل أن تسمى هديا، لا تسمى شعائر. ومن قال: إن الشعائر مناسك الحج قال: المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى إلى أن يعود من مكة. ومن قال: إن الشعائر دين الله قال: لكم فيها منافع أي: الأجر والثواب. والأجل المسمى: القيامة.
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ومن قال: إن شعائر الله هي البدن قال: معناه إن محل الهدي والبدن الكعبة. وقيل: محله الحرم كله. وقال أصحابنا: إن كان الهدي للحج فمحله منى، وإن كان للعمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالجزورة، ومحلها حيث يحل نحرها. ومن قال: إن الشعائر مناسك الحج قال:
معناه: ثم محل الحج والعمرة والطواف بالبيت العتيق، وإن منتهاها إلى البيت العتيق، لأن التحلل يقع بالطواف، والطواف يختص بالبيت. ومن قال: إن الشعائر هي الدين كله، فيحتمل أن يكون معناه: إن محل ما أختص منها بالإحرام هو البيت العتيق، وذلك الحج والعمرة في القصد له، والصلاة في التوجه إليه. ويحتمل أن يكون معناه: إن أجرها على رب البيت العتيق.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أي: لكل جماعة مؤمنة من الذين سلفوا، جعلنا عبادة في الذبح، عن مجاهد. وقيل: قربانا أحل لهم ذبحه. وقيل: متعبدا وموضع نسك يقصده الناس. وقيل: منهاجا وشريعة، عن الحسن {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} أي: تعبدناهم بذلك ليذكروا اسم الله على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام، وبهيمة غير الأنعام لا يحل ذبحها، ولا التقرب بها. وفي هذا دلالة على أن الذبائح غير مختصة بهذه الأمة، وأن التسمية على الذبح كانت مشروعة قبلنا {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: معبودكم الذي توجهون إليه العبادة واحد، لا شريك له.
والمعنى: فلا تذكروا على ذبائحكم إلا الله وحده {فله أسلموا} أي. انقادوا وأطيعوا.
{ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} أي: المتواضعين المطمئنين إلى الله، عن مجاهد.
وقيل: الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لا ينتصرون، كأنهم اطمأنوا إلى يوم الجزاء.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: إذا خوفوا بالله خافوا {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من البلايا والمصائب في طاعة الله {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} في أوقاتها يؤدونها كما أمرهم الله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: يتصدقون من الواجب وغيره، عن ابن عباس.
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص147-151.
{ ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ }. للتعظيم مظاهر شتى ، تتفاوت على قدر المعظَّم ، وما يليق به من التعظيم والاحترام ، ولا شيء لدى المخلوق يليق بتعظيم خالقه إلا الطاعة والانقياد له في كل شيء ، فمن أطاع اللَّه وامتثل أوامره ونواهيه فقد عظمه وعظَّم حرماته وشعائره ، وهذا التعظيم أو هذه الطاعة ترفع من شأن المطيع عند خالقه ، لا من شأن الخالق المطاع لأن اللَّه غني عن العالمين ، ولذا قال تعالى : { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي تعظيم أحكام اللَّه بإطاعتها خير للمطيع عند خالقه وبارئه .
{ وأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ } . حرم اللَّه على الحاج الصيد أيام إحرامه ، وربما توهم هذا الحاج المحرم انه إذا حرم عليه الصيد فقد حرم عليه أيضا الأكل من لحوم الانعام ، فبين سبحانه عدم التلازم بين التحريمين ، وان المحرم من الأنعام ما نص عليه القرآن كالميتة وما ذبح على النصب . انظر تفسير الآية 3 من سورة المائدة ج 3 ص 10 { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ } .
ابتعدوا عنها وعن عبادتها كما تبتعدون عن الأوساخ والأقذار ، والأوثان كلها رجس ، ولذا قال علماء العربية : ان من هنا للتبيين لا للتبعيض ، مثلها مثل { من } في قولك : خاتم من حديد { واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } . وقول الزور يشمل كل محرم كذبا كان أو غيبة أو شتما أو فحشا ، وأشد أنواع الزور الشهادة الكاذبة لأن فيها هدرا لحقوق اللَّه والناس ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : عدلت شهادة الزور بالشرك باللَّه . ثم تلا هذه الآية .
{ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } . الحنفاء هم المستقيمون على دين الحق المائلون عن الأديان الباطلة ، وغير مشركين تأكيد للحنفاء . وتكلمنا عن الحنفاء عند تفسير الآية 107 من سورة الإسراء { ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ } . هذا كناية عن أن إثم الشرك لا يعادله إثم ، وان عذاب المشرك ليس وراءه عذاب . . ومن تتبع الآيات القرآنية والسنة النبوية يلاحظ ان المشرك أكبر إثما من الملحد عند اللَّه ، وقد يكون السر في ذلك ان الملحد لا يثبت النقص « للخالق » لأنه لا يعترف بوجوده من الأساس ، وهذا إثم عظيم ما في ذلك ريب . . ولكن إثم المشرك أعظم لأن الاشراك انكار للخالق الواحد من جهة ، واثبات النقص للموجود من جهة ثانية .
{ ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }. شعائر اللَّه وحرماته بمعنى واحد ، وتكلمنا عنها في تفسير الآية السابقة ، وليس من شك انه لا يطيع احكام اللَّه الا المتقون المخلصون ، ومن تعظيم شعائر اللَّه وإطاعة أحكامه ان تذبح السمين السليم من الانعام أيام الحج ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : لا تضح بالعرجاء ولا العجفاء ، ولا الخرقاء ، ولا الجذاء ، ولا العضباء . والعجفاء الهزيلة ، والخرقاء هي التي لا إذن لها . أو مخرومة الإذن ، والجذاء مقطوعتها ، والعضباء مكسورة القرن .
{ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى }. ضمير فيها يعود إلى ذبائح الحج ، والى أجل مسمى أي وقت نحرها أو ذبحها ، والمعنى ان للحاج ان ينتفع بلبن أضحيته وظهرها إلى حين النحر والذبح . وفي تفسير الرازي ان رسول اللَّه مر برجل يسوق بدنة ، وهو في جهد ، فقال له : اركبها . قال الرجل : انها هدي يا رسول اللَّه ، فقال له : اركبها ويلك ، ثم قال الرازي : وأبو حنيفة لا يجيز ذلك ، واحتج بأنه لا يجوز أن يؤجرها ، فإذن ، لا يجوز أن يركبها ، ورد الرازي على أبي حنيفة بأن هذا ضعيف لأن أم الولد من الإماء لا تباع ، ومع ذلك يجوز الانتفاع بها .{ ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي ان مكان ذبح الانعام هو بيت اللَّه الحرام ، والمراد به الحرم كله ، ومنه منى ، وفي الحديث منى كلها منحر .
{ ولِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً } . المراد بالمنسك هنا النسك بذبح الأنعام بدليل قوله تعالى بلا فاصل : { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ }.
والمعنى لا بدع في الأضحية فلقد كانت مشروعة في الأديان السابقة { فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ } فلا تذكروا اسم غيره على ذبائحكم { فَلَهُ أَسْلِمُوا } انقادوا لأمره وأخلصوا له في القول والفعل .
{ وبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ والْمُقِيمِي الصَّلاةِ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ } . بشّر يا محمد بالجنة من تواضع للَّه ،
وخاف منه ، وثبت على دينه في السراء والضراء ، وتعبّد له من غير نفاق ورياء ، وأنفق ماله في طاعة اللَّه ومرضاته . وليس من شك ان هذه الصفات إذا اجتمعت في إنسان سمت به إلى أعلى الدرجات عند اللَّه والناس .
_____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 326-328.
قوله تعالى:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} إلى آخر الآية الحرمة، ما لا يجوز انتهاكه ووجب رعايته، والأوثان جمع وثن وهو الصنم، والزور الميل عن الحق ولذا يسمى الكذب وقول الباطل زورا.
وقوله:{ذلك} أي الأمر ذلك أي الذي شرعناه لإبراهيم (عليه السلام) ومن بعده من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه وأشرنا إليه من الإحرام والطواف والصلاة والتضحية بالإخلاص لله والتجنب عن الشرك.
وقوله:{ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ندب إلى تعظيم حرمات الله وهي الأمور التي نهى عنها وضرب دونها حدودا منع عن تعديها واقتراف ما وراءها وتعظيمها الكف عن التجاوز إليها.
والذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة وتمهيد لما بعدها من قوله{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الأنعام - على كونها مما رزقهم الله وقد أحلها لهم - فيها حرمة إلهية وهي التي يدل عليها الاستثناء - إلا ما يتلى عليكم -.
والمراد بقوله {ما يتلى عليكم} استمرار التلاوة، فإن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام وهي مكية وفي سورة النحل وهي نازلة في آخر عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة وأول عهده بالمدينة، وفي سورة البقرة وقد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها - على ما روي - ولا موجب لجعل{يتلى} للاستقبال وأخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه.
والآيات المتضمنة لمحرمات الأكل وإن تضمنت منها عدة أمور كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها وما بعدها بخصوص ما أهل به لغير الله فإن المشركين كانوا يتقربون في حجهم - وهو السنة الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم - بالأصنام المنصوبة على الكعبة وعلى الصفا وعلى المروة وبمنى ويهلون بضحاياهم لها فالتجنب منها ومن الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنى به من الآية وإن كان أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أيضا من جملة حرمات الله.
ويؤيد ذلك أيضا تعقيب الكلام بقوله:{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} فإن اجتناب الأوثان واجتناب قول الزور وإن كانا من تعظيم حرمات الله ولذلك تفرع{فاجتنبوا الرجس} على ما تقدمه من قوله:{ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذ وإصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك وإهلال الضحايا باسمها.
وبذلك يظهر أن قوله:{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} نهي عام عن التقرب إلى الأصنام وقول الباطل أورد لغرض التقرب إلى الأصنام في عمل الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، وعن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من الضحايا، وعلى ذلك يبتني التفريع بالفاء.
وفي تعليق حكم الاجتناب أولا بالرجس ثم بيانه بقوله:{من الأوثان} إشعار بالعلية كأنه قيل: اجتنبوا الأوثان لأنها رجس وفي تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها أوالتقرب أو التوجه إليها أو مسها ونحو ذلك - مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالأعمال دون الأعيان - مبالغة ظاهرة.
وقد تبين بما مر أن{من} في قوله:{من الأوثان} بيانية، وذكر بعضهم أنها ابتدائية، والمعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان وهو عبادتها، وذكر آخرون أنها تبعيضية، والمعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الأوثان وهو عبادتها، وفي الوجهين من التكلف و إخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى.
قوله تعالى:{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} إلخ، الحنفاء جمع حنيف وهو المائل من الأطراف إلى حاق الوسط.
وكونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار وهي الآلهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير مشركين به معنى.
وهما أعني قوله:{حنفاء لله} وقوله:{غير مشركين به} حالان عن فاعل{فاجتنبوا} أي اجتنبوا التقرب من الأوثان والإهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبون في الحج بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هولك تملكه وما ملك.
وقوله:{ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي تأخذه بسرعة، شبه المشرك في شركه وسقوطه به من أعلى درجات الإنسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير.
وقوله:{ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي بعيد في الغاية وهو معطوف على{تخطفه الطير} تشبيه آخر من جهة البعد.
قوله تعالى:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}{ذلك} خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي قلنا، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال:{إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقال:{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية.
والمراد بها البدن التي تساق هديا وتشعر أي يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ويؤيده ظاهر قوله تلوا:{لكم فيها منافع} إلخ، وقوله بعد:{والبدن جعلناها} الآية، وقيل: المراد بها جميع الأعلام المنصوبة للطاعة، والسياق لا يلائمه.
وقوله:{فإنها من تقوى القلوب} أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأرجع إليه الضمير.
وإضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى وهي التحرز والتجنب عن سخطه تعالى والتورع عن محارمه أمر معنوي يرجع إلى القلوب وهي النفوس وليست هي جسد الأعمال التي هي حركات وسكنات فإنها مشتركة بين الطاعة والمعصية كالمس في النكاح والزنا، وإزهاق الروح في القتل قصاصا أو ظلما والصلاة المأتي بها قربة أو رياء وغير ذلك، ولا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان والطاعة ونحوها.
قوله تعالى:{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} المحل بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل، وضمير فيها للشعائر، والمعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر - وهي البدن - منافع من ركوب ظهرها وشرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، والجملة في معنى قوله:{هديا بالغ الكعبة} هذا على تفسير أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
وأما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك ومنتهاها إلى البيت العتيق لأن آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت.
قوله تعالى:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} إلى آخر الآية.
المنسك مصدر ميمي واسم زمان ومكان، وظاهر قوله:{ليذكروا اسم الله} إلخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة وهي العبادة التي فيها ذبح وتقريب قربان.
والمعنى: ولكل أمة - من الأمم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أمة شرعت لهم التضحية وتقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.
وقوله:{ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع لكم وللأمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم وإله من قبلكم إله واحد فأسلموا واستسلموا له بإخلاص عملكم له ولا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في{فإلهكم} لتفريع السبب على المسبب وفي قوله:{فله أسلموا} لتفريع المسبب على السبب.
وقوله:{ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين، وقد فسره بقوله:{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وانطباق الصفات المعدودة في الآية وهي الوجل والصبر وإقامة الصلاة والإنفاق، على من حج البيت مسلما لربه معلوم.
_______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص302-306.
وأشارت الآية إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ بكلمة «ذلك» التي لها جملة محذوفة تقديرها «كذلك أمر الحجّ والمناسك» ثمّ تضيف تأكيداً لأهميّة الواجبات التي شرحت {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
والمقصود هنا بـ «الحرمات» ـ طبعاً ـ أعمال ومناسك الحجّ، ويمكن أن يضاف إليها إحترام الكعبة خاصة والحرم المكّي عامّة. وعلى هذا فإنّ تفسير هذه الآية بإختصاصها بالمحرّمات ـ أي كلّ ما نهى الله عنه ـ أو جميع الواجبات، مخالف لظاهر الآية. كما يجب الإنتباه إلى أنّ «حرمات» جمع «حرمة» وهي في الأصل الشيء الذي يجب أن تحفظ حرمته، وألاّ تنتهك هذه الحرمة أبداً.
ثمّ تشير هذه الآية وتناسباً مع أحكام الإحرام إلى حلّية المواشي، حيث تقول: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.
عبارة {إلاّ ما يتلى عليكم} يمكن أن تكون إشارة إلى تحريم الصيد على المحرم الذي شرع في سورة المائدة الآية (95) حيث تقول: {ياأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}.
كما قد تكون إشارة إلى عبارة جاءت في نهاية الآية ـ موضع البحث ـ تخصّ تحريم الاُضحية التي تذبح للأصنام التي كانت متداولة زمن الجاهلية. لأنّ تذكية الحيوان يشترط فيها ذكر اسم الله عليه عند الذبح، ولا يجوز ذكر اسم الصنم أو أي اسم آخر عليه.
وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصّان مراسم الحجّ ومكافحة العادات الجاهلية:
الأوّل يقول: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} و «الأوثان» جمع «وثن» على وكن «كفن» وتعني الأحجار التي كانت تُعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة الأوثان أيضاحاً لكلمة «رجس» التي ذكرت في الآية، حيث تقول: {اجتنبوا الرجس}. ثمّ تليها عبارة {من الأوثان} أي الرجس هو ذاته الأوثان.
كما تجب ملاحظة أنّ عبدة الأوثان زمن الجاهلية كانوا يلطّخونها بدماء الأضاحي، فيحصل مشهد تقشّعر الأبدان من بشاعته، وقد يكون التعبير السابق إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.
والأمر الثّاني هو { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي الكلام الباطل الذي لا أساس له من الصحّة.
تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:
عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكدّها آخِر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أي صنم وعبادة الأوثان. حيث تقول {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}(2) أي أقيموا مراسم الحجّ والتلبية في حالة تخلصون فيها النيّة لله وحده لا يخالطها أي شرك أبداً.
«حنفاء» جمع «حنيف» أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والإنحراف، أو بتعبير آخر: هو الذي سار على الصراط المستقيم، لأنّ «حنف» على وزن «صدف» تعني الرغبة، ومَن رغب عن كلّ إنحراف فقد سار على الصراط المستقيم.
وعلى هذا فإنّ الآية السابقة إعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكاً أساسيّاً في الحجّ والعبادات الاُخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أجاب فيه مبيّناً معنى كلمة حنيف: «هي الفطرة التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم الله على المعرفة»(3).
إنّ التّفسير الذي تضمنّه هذا الحديث، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص، أي: الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدراً لقصد القربة إلى الله، وتحريكاً ذاتياً من الله.
ثمّ ترسم الآية ـ موضع البحث ـ صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}(4).
«السّماء» هنا كناية عن التوحيد، و «الشرك» هو السبب في السقوط من السّماء هذه.
ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوماً زاهرة وشمساً ساطعة وقمراً منيراً فطوبى لمن يكون شمساً أو قمراً أو في الأقل نجماً متلألئاً، ولكن الإنسان عندما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين: فإمّا يصبح طعماً للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وبعبارة أُخرى: يبتلى بفقدانه هذا المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانباً من وجوده.
وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعاً صغيرة في أنحاء المعمورة، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!
وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما. وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أُخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.
حقّاً أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الإتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كلّ ما لديه. ولا نجد تشبيهاً للشرك يُضاهي في هذا التشبيه الرائع.
كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة إنعدام الوزن في السقوط الحرّ. ولهذا تجرى إختبارات على الفضائيين للإستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأنّ مسألة إنعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى إضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.
والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة إنعدام الوزن، ويسيطر عليه إضطراب خارق للعادة.
وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول {ذلك}أي إنّ الموضوع كما قلناه، وتضيف {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
«الشعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.
ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصّة مسألة الاُضحية التي إعتبرتها الآية (36) من نفس السورة ـ وبصراحة ـ من شعائر الله، إلاّ أنّ من الواضح مع كلّ هذا إحتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية، ولا دليل على إختصاصها ـ فقط ـ بالأضاحي، أو جميع مناسك الحجّ. خاصّةً أنّ القرآن يستعمل «من» التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ، وهذا دليل على أنّ الاُضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (158) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله {إنّ الصفا والمروة من شعائر الله}.
ويمكن القول: إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.
كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة {يعظّم} ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الاُضحية وأمثالها، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم وإحترام.
كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضاً، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة، يحدث كثيراً أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلاّ أنّ ذلك لا قيمة له، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر إجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه، ومنه ينفذ إلى الجسد. لهذا نقول: إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(5).
وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال وهو يشير إلى صدره المبارك: «التقوى هاهنا»(6).
ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الاُضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الإستفادة منها بأي شكل كان، ولكن القرآن نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال (عليه السلام): «اركبها» فقال: يارسول الله إنّها هدي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) «اركبها ويلك»(7).
كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) هذا الموضوع ومنها حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عزّوجلّ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها، وإن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها»(8).
والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.
فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبداً حيث يذبحها قبل الوصول إلى «منى» ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة {لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد}.
ومن جهة أُخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الإستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للاُضحية، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.
والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر، هو أنّ الآيات السابقة، لم تتطرّق إلى الأضاحي، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟
ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق «شعائر الله» التي اُشير إليها في الآية السابقة، وسيأتي ذكرها أيضاً بعد هذا، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الإستفسار(9).
وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الاُضحية: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وعلى هذا يمكن الإستفادة من الانعام المخصّصة للاُضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم. وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الاُضحية تخصّ الحجّ. أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة. وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضاً.
بشّر المخبتين:
يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاُضحية، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى الله؟ وهل الله سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعاً في الأديان الاُخرى، أو يخصّ المشركين وحدهم؟
تقول أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بكم، بل إنّ كلّ اُمّة لها قرابين: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}.
يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: «النُسك» يعني العبادة، والناسك هو العابد، ومناسك الحجّ تعني المواقف التي تؤدّى فيها هذه العبادة، أو إنّها عبارة عن الأعمال نفسها.
إلاّ أنّ العلاّمة الطبرسي يقول في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في «روح الجنان»: «المنسك» (على وزن منصب) يمكن أن يعني ـ على وجه التخصيص ـ الاُضحية، بين عبادات الحجّ الاُخرى(10).
ولهذا خصّ المنسك ـ رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم الحجّ ـ هنا بتقديم الاُضحية بدلالة {ليذكروا اسم الله}.
وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الاُضحية كانت دوماً مثار سؤال، لإمتزاج التعبّد بها بخرافات المشركين الذين يتقرّبون بها إلى أوثانهم على نهج خاصّ بهم.
ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبيّن إستعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل الله، والإستفادة من لحم الاُضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.
ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وبما أنّه إله واحد {فله أسلموا} وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربّانية و {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}(11).
ثمّ يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع: إثنتان منها ذات طابع معنوي، وإثنتان ذات طابع جسماني.
يقول في الأوّل: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم، وإحتمال تقصيرهم في أدائها، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين يديه بكلّ خشوع(12).
والثّاني: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها، ويحافظون على إتّزانهم ولا يفرّون من ساحة الإمتحان، ولا يصابون باليأس والخيبة، ولا يكفرون بأنعم الله أبداً. وبإيجاز نقول: يستقيمون وينتصرون.
والثّالث والرابع: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارىء الخلق وإزدادوا تقرباً إليه، ومن جهة أُخرى إشتدّ إرتباطهم بالخلق بالإنفاق.
وبهذا يتّضح جليّاً أنّ الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.
_______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص400-409.
2ـ «حنفاء» و «غير مشركين»، كلاهما حال لضمير «فاجتنبوا»، و «اجتنبوا» في الآية السابقة.
3ـ توحيد الصدوق، حسبما نقله تفسير الصافي.
4ـ «تخطفه» مشتقّة من «الخطف» على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشيء أثناء تحرّكه بسرعة و «سحيق» تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».
5ـ بما أنّ هناك إرتباطاً بين الشرط والجزاء، وكلاهما يخصّان موضوعاً واحداً، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفاً تقديره {ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب}. ويمكن أن يكون الجزاء محذوفاً فتكون عبارة «فإنّها من تقوى القلوب» علّة نابت عن معلول تقديره: «ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب».
6ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، الصفحة 448.
7ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرين، الصفحة 33.
8ـ نور الثقلين، المجلّد الرّابع، الصفحة 497.
9ـ ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث، وهنا نذكر تفسيرين آخرين:
الأوّل: إنّ ضمير «فيها» يعود إلى المناسك الحجّ جميعاً، وهنا يكون تفسيرها «لكم منافع في جميع مناسك الحجّ حتّى الزمن المحدّد بإنتهاء الحجّ أو نهاية العالم، ومن ثمّ تقع آخر مراسم الحجّ حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاوراً للكعبة ليؤدّي طوافي الحجّ والنساء» وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسّرناها سابقاً {ليشهدوا منافع لهم}.
والتّفسير الثّاني: أن يعود ضمير «فيها» إلى الشعائر الإلهيّة كلّها، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة، وعندها يكون معنى الآية «لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهيّة حتّى نهاية العالم، ومن ثمّ يجزيكم خالق البيت العتيق». إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية وأكثر إنسجاماً معها.
10ـ ولهذا السبب يقال: نسكت الشاة، أي ذبحتها.
11ـ «المخبتين» مشتقّة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة. كما جاءت بمعنى الإطمئنان والخضوع، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الإطمئنان، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.
12ـ بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|