المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17980 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



تفسير الآية (86-93) من سورة النمل  
  
3188   12:30 صباحاً   التاريخ: 20-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف النون / سورة النمل /

قال تعالى : {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُو الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [النمل : 86 - 93]

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

بين سبحانه قدرته على الإعادة والبعث بما احتج به على الكفار فقال {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} عن التعب والحركات {والنهار مبصرا} أي يبصر فيه ويمكن التصرف فيه لضيائه ويدرك بنوره جميع الأشخاص كما يدرك بنور البصر {إن في ذلك لآيات} أي دلالات {لقوم يؤمنون} لأن جعل الشيء لما يصلح له من الانتفاع إنما يكون بالاختيار ولا يكون بالطباع {ويوم ينفخ في الصور} منصوب بتقدير واذكر يوم ينفخ إسرافيل بأمر الله تعالى في الصور وذلك اليوم الذي يقع عليهم القول بما ظلموا ويجوز أن يكون على حذف في الكلام والتقدير ويوم ينفخ في الصور وتكون النشأة الثانية .

واختلف في معنى الصور فقيل هو صور الخلق جمع صورة عن الحسن وقتادة ويكون معناه يوم ينفخ الروح في الصور فيبعثون وقيل هو قرن ينفخ فيه شبه البوق عن مجاهد وقد ورد ذلك في الحديث {ففزع من في السموات ومن في الأرض} أي ماتوا لشدة الخوف والفزع يدل عليه قوله في موضع آخر {فصعق من في السموات} الآية وقيل هي ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين {إلا من شاء الله} من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وقيل يعني الشهداء فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم وروي ذلك في خبر مرفوع {وكل} من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا {أتوه} أي يأتونه في المحشر {داخرين} أي أذلاء صاغرين عن ابن عباس وقتادة {وترى الجبال تحسبها جامدة} أي واقفة مكانها لا تسير ولا تتحرك في مرأى العين {وهي تمر مر السحاب} أي تسير سيرا حثيثا مثل سير السحاب عن ابن عباس وفي مثل هذا المعنى قول النابغة الجعدي يصف جيشا :

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف لحاج والركاب تهملج (2)

 أي : تحسب أنهم وقوف من أجل كثرتهم والتفافهم فكذلك المعنى في الجبال إنك لا ترى سيرها لبعد أطرافها كما لا ترى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه وذلك إذا أزيلت الجبال عن أماكنها للتلاشي كما في قوله وتكون الجبال كالعهن المنفوش {صنع الله} أي صنع الله ذلك صنعا وانتصب بما دل عليه ما تقدمه من قوله {وهي تمر مر السحاب} وذكر اسم الله لأنه لم يأت ذكره فيما قبل وإنما دل عليه {الذي أتقن كل شيء} أي خلق كل شيء على وجه الإتقان والإحكام والاتساق قال قتادة أي أحسن كل شيء خلقه وقيل الإتقان حسن في إيثاق {أنه خبير بما تفعلون} أي عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية وبما يفعل أولياؤه من الطاعة .

ثم بين سبحانه كيفية الجزاء على أفعال الفريقين فقال {من جاء بالحسنة} أي بكلمة التوحيد والإخلاص عن قتادة وقيل بالإيمان عن النخعي وكان يحلف ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله والمعنى من وافى يوم القيامة بالإيمان {فله خير منها} قال ابن عباس أي فمنها يصل الخير إليه والمعنى قوله فله من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمان من العقاب فخير هاهنا اسم وليس بالذي هو بمعنى الأفضل وهو المروي عن الحسن وعكرمة وابن جريج قال عكرمة فأما أن تكون خيرا من الإيمان فلا فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله وقيل معناه فله أفضل منها في معظم النفع لأنه يعطي بالحسنة عشرا عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب وابن زيد وقيل لأن الثواب فعل الله تعالى والطاعة فعل العبد وقيل هو رضوان الله ورضوان من الله أكبر .

{وهم من فزع يومئذ آمنون} قال الكلبي إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع {ومن جاء بالسيئة} أي بالمعصية الكثيرة التي هي الكفر والشرك عن ابن عباس وأكثر المفسرين {فكبت وجوههم في النار} أي ألقوا في النار منكوسين {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} يعني أن هذا الجزاء فعلكم وليس بظلم .

حدثنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني قال حدثنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد قال أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد قال حدثنا عبد العزيز بن يحيى بن أحمد قال حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الفضل قال حدثني جعفر بن الحسين قال حدثني محمد بن زيد بن علي (ع) عن أبيه قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول دخل أبوعبد الله الجدلي على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له يا أبا عبد الله أ لا أخبرك بقول الله تعالى {من جاء بالحسنة} إلى قوله {تعلمون} قال بلى جعلت فداك قال الحسنة حبنا أهل البيت والسيئة بغضنا وحدثنا السيد أبو الحمد قال حدثنا الحاكم أبو القاسم قال أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد الحميري قال حدثنا جدي أحمد بن إسحاق الحميري قال حدثنا جعفر بن سهل قال حدثنا أبو زرعة عثمان بن عبد الله القرشي قال حدثنا ابن لهيعة عن ابن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا علي لو أن أمتي صاموا حتى صاروا كالأوتاد وصلوا حتى صاروا كالحنايا ثم أبغضوك لأكبهم الله على مناخرهم في النار .

ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قل لهم {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} يعني مكة عن ابن عباس وقال أبو العالية هي مني {الذي حرمها} أي جعلها حرما آمنا يحرم فيها ما يحل في غيرها لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا يقتص فيها {وله كل شيء} أي وهو مالك كل شيء مما أحله وحرمه فيحرم ما شاء ويحل ما شاء {وأمرت أن أكون من المسلمين} أي من المخلصين لله بالتوحيد {وأن أتلو القرآن} عليكم يا أهل مكة وأدعوكم إلى ما فيه {فمن اهتدى} إلى الحق والعمل بما فيه {فإنما يهتدي لنفسه} لأن ثواب ذلك وجزاءه يصل إليه دون غيره .

{ومن ضل} عنه وحاد ولم يعمل بما فيه ولم يهتد إلى الحق {فقل} له يا محمد {إنما أنا من المنذرين} الذين يخوفون بعقاب الله من معاصيه ويدعون إلى طاعته ولا أقدر على إكراههم على الإيمان والدين {وقل الحمد لله} اعترافا بنعمته إذا اختاروني لرسالته {سيريكم آياته} يوم القيامة {فتعرفونها} وتعرفون أنها على ما أخبرتم بها في الدنيا عن الحسن وقيل معنى آياته هي العذاب في الدنيا والقتل ببدر فتعرفونها أي تشاهدونها ورأوا ذلك ثم عجلهم الله إلى النار عن مقاتل {وما ربك بغافل عما تعملون} بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليها وإنما يؤخر عقابكم إلى وقت تقتضيه الحكمة .

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص408-411 .

2- الجيش الارعن : هو المضطرب لكثرته . والطود : الجبل . والحاج : جمع الحاجة . والهملاج : حسن سير الدابة في سرعة .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . تقدم مع التفسير في الآية 67 من سورة يونس ج 4 ص 177 {ويَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} . ينفخ في الصور إيذانا بقيام الساعة ، فتنخلع قلوب الخلائق من هذا النفخ خوفا وهلعا الا قلوب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين استثناهم سبحانه بقوله : {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} وأشارت إليهم الآية 69 من سورة النساء : {ومَنْ يُطِعِ اللَّهً والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} .

وفي بعض التفاسير ان النفخات في الصور ثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة موت الجميع ، ونفخة البعث ، ويدل على النفخة الأولى الآية التي نفسرها ، أما الثانية والثالثة فيدل عليهما قوله تعالى : {ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر - 68] . {وكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} أي ان الخائفين يحشرون إلى ربهم صاغرين .الجبال وحركة الأرض :

{وتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ} . موضوع هذه الآية والتي قبلها واحد ، وهو الحديث عن يوم القيامة وأهواله ، وعليه يكون المعنى ان اللَّه سبحانه يقتلع الجبال من أماكنها ويسيّرها في الفضاء تماما كما تسير السحاب ، ولكن يخيل للرائي انها ثابتة ، ذلك ان الجرم الكبير إذا سار في سمت واحد وخط مستقيم فلا تدرك الأبصار حركاته لضخامته وبعد أطرافه ، وبالخصوص إذا كان الرائي بعيدا عنه .

وبهذا يتبين معنا خطأ من استدل بهذه الآية على أن القرآن قد أشار إلى حركة الأرض ، وهناك آيات كثيرة تؤكد ان المراد بمرور الجبال في هذه الآية هو تسييرها في الفضاء يوم القيامة ، من تلك الآيات قوله تعالى : {ويَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وتَرَى الأَرْضَ بارِزَةً وحَشَرْناهُمْ} [الكهف - 47] . وقوله : {وسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} [النبأ - 20] . وقوله : {يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ - أي تضطرب - مَوْراً وتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً} - 9 الطور . وكلام القرآن واحد يشهد بعضه على بعض ، وينطق بعضه ببعض .

أجل ، ان أهل بيت النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الذين عندهم علم الكتاب والسنة قد صرحوا بحركة الأرض قبل (كوبرنيكوس) بحوالي الف عام ، قال الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة : وبسط الأرض على الهواء . . . وأرساها على قرار . . . ورفعها بغير دعائم . . . وعدّل حركتها بالراسيات . وقال حفيده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) :

{ان تدل الأشياء على حدوثها من دوران الفلك بما فيه هي سبعة أفلاك : تحرك الأرض الخ} .

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} من أكبر كبير إلى أصغر صغير ، وهذا الإتقان والترتيب والنظام من أقوى الشواهد على وجود اللَّه ووحدانيته وعظيم قدرته {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ} . والذي خلق الإنسان ، وأتقن صنعه يعلم ما يفعل من خير أو شر ، وما توسوس به نفسه : {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق - 16] .

{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وأوضح تفسير لقول اللَّه هذا هو قوله : {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام - 160] ج 3 ص 290 .

{إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . المراد بالبلدة مكة المكرمة ، وخصها بالذكر مع أنه رب العالمين لينبه قريشا إلى نعمته عليهم بسببها ، فلقد كانوا يستمدون سيادتهم على العرب من تعظيمها وجعلها حرما آمنا يحرم فيه القتل والقتال ، والصيد وقطع الأشجار ، وما إلى ذلك مما يدل على شرفها ومكانتها ، ومع هذا عبدت قريش الأصنام ، ودنست بها الكعبة ، فأشركت برب هذه البلدة المكرمة المعظمة الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . . وقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) : {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ} . . {وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هو تعريض بقريش وعبادتها الأصنام ، وان الواجب عليها أن تترك عبادة الأصنام التي لا تملك شيئا ، وتعبد رب هذه البلدة الذي له الخلق والملك والأمر ، وهو على كل شيء قدير ، وقد تفضل على قريش بالكثير من عطائه وآلائه .

{وأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} . المراد بتلاوة القرآن هنا الدعوة إلى الايمان به ، والسير على منهجه {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .

دعا الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) إلى الهدى ، فمن سمع وأطاع فقد أحسن لنفسه ، وسلك بها سبيل الخير والنجاة ، ومن أعرض وتولى فقد أساء إليها وأوردها موارد الشر والهلاك . . والنبي (صلى الله عليه واله وسلم) غير مسؤول عما يحل بأهل الغي والضلال بعد أن نصح لهم وأبلغهم رسالات ربه {وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ما وفقني إليه من تبليغ رسالاته إلى عباده كما أحب وأراد {سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها} . لقد أراهم سبحانه آياته ودلائله في أنفسهم وفي الآفاق فأنكروها . . فقال لهم : تنكرونها الآن ، وتعترفون بها غدا حيث لا ينفعكم الاعتراف والإذعان {وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

هذا تهديد ووعيد على إعراضهم وانكارهم آيات اللَّه وبيناته .

______________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص ٤٢-45 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {أ لم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} لما وصف في الآيات السابقة أن كثيرا من الناس في صمم وعمي من استماع كلمة الحق والنظر في آيات الله والاعتبار بهما ، ثم ذكر دابة الأرض وأنه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلمهم ، ثم ذكر أنه سيحشر فوجا من كل أمة من المكذبين فيعاتبهم فتتم عليهم الحجة بقولهم بغير علم بالآيات لإعراضهم عنها وبخهم في هذه الآية ولامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنهم كانوا يرون الليل الذي يسكنون فيه بالطبع وأن هناك نهارا مبصرا يظهر لهم بها آيات السماء والأرض فلم لم يتبصروا؟ .

وقوله : {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} أي في جعل الليل سكنا يسكنون فيه والنهار مبصرا يبصرون فيه آيات السماء والأرض آيات لقوم فيهم خاصة الإذعان والتصديق للحق اللائح لهم .

والمراد بالآيات العلامات والجهات الدالة فيهما على التوحيد وما يتبعه من حقائق المعارف ، ومن جملة ذلك دلالتهما على أن الإنسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه ، وهو الليل الذي يضرب بحجاب ظلمته على الأبصار ، ويتحرك فيما من شأنه أن يتحرك فيه وهو النهار المبصر الذي يظهر به الأشياء التي تتضمن منافع الحياة للأبصار .

فعلى الإنسان أن يسكت عما حجبته عنه ظلمة الجهل ولا يقول بغير علم ولا يكذب بما لا يحيط به علما وأن يقول ويؤمن بما تجليه له بينات الآيات التي هي كالنهر المبصرة .

قوله تعالى : {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين} النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور والارتحال وغير ذلك ، والفزع كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهومن جنس الجزع ، والدخور الذلة والصغار .

قيل : المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور التي بها تنفخ الحياة في الأجساد فيبعثون لفصل القضاء ، ويؤيده قوله في ذيل الآية : وكل أتوه داخرين والمراد به حضورهم عند الله سبحانه ، ويؤيده أيضا استثناؤه من شاء الله من حكم الفزع ثم قوله فيمن جاء بالحسنة : وهم من فزع يومئذ آمنون حيث يدل على أن الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية .

وقيل : المراد به النفخة الأولى التي يموت بها الأحياء بدليل قوله : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر : 68] ، فإن الصعقة من الفزع وقد رتب على النفخة الأولى وعلى هذا يكون المراد بقوله : {وكل أتوه داخرين} رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت .

ولا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعم مما يميت أو يحيي فإن النفخ كيفما كان من مختصات الساعة ، ويكون ما ذكر من فزع بعضهم وأمن بعضهم من الفزع وسير الجبال من خواص النفخة الأولى وما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية ويندفع بذلك ما يورد على كل واحد من الوجهين السابقين .

وقد استثنى سبحانه جمعا من عباده من حكم الفزع العام الشامل لمن في السماوات والأرض ، وسيجيء كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي : وهم من فزع يومئذ آمنون .

والظاهر أن المراد بقوله : وكل أتوه داخرين رجوع جميع من في السماوات والأرض حتى المستثنين من حكم الفزع وحضورهم عنده تعالى ، وأما قوله : { فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات : 127 ، 128] ، فالظاهر أن المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب والسؤال لا نفي بعثهم ورجوعهم إلى الله وحضورهم عنده فآيات القيامة ناصة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذ منهم شاذ .

ونسبة الدخور والذلة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزة عند الله فإن عزة العبد عند الله ذلته عنده وغناه بالله فقره إليه نعم ذلة أعدائه بما يرون لأنفسهم من العزة الكاذبة ذلة هوان .

قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي

أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون الآية بما أنها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات وهو سير الجبال وقد قال تعالى في هذا المعنى أيضا : {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا } [النبأ : 20] ، إلى غير ذلك .

فقوله : وترى الجبال الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد به تمثيل الواقعة ، كما في قوله : {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج : 2] ، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها لوكنت مشاهدا ، وقوله : تحسبها جامدة أي تظنها الآن ولم تقم القيامة بعد جامدة غير متحركة ، والجملة معترضة أو حالية .

وقوله : وهي تمر مر السحاب حال من الجبال وعاملها ترى أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء .

وقوله : {صنع الله الذي أتقن كل شيء} مفعول مطلق لمقدر أي صنعه صنعا وفي الجملة تلويح إلى أن هذا الصنع والفعل منه تعالى تخريب للدنيا وهدم للعالم ، لكنه في الحقيقة تكميل لها وإتقان لنظامها لما يترتب عليه من إنهاء كل شيء إلى غايته وإيصاله إلى وجهته التي هو موليها من سعادة أو شقاوة لأن ذلك صنع الله الذي أتقن كل شيء فهو سبحانه لا يسلب الإتقان عما أتقنه ولا يسلط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة .

وقوله : {إنه خبير بما تفعلون} قيل : إنه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى فإن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب آثارها من الثواب والعقاب عليها بعد البعث والحشر وتسيير الجبال .

وأنت ترى ما فيه من التكلف وأن السياق بعد ذلك كله لا يقبله .

وقيل : إن قوله : {إنه خبير بما تفعلون} استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل : فما ذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل بقوله : من جاء بالحسنة فله خير منها إلى آخر الآيتين .

وهاهنا وجه آخر مستفاد من الإمعان في سياق الآيات السابقة فإن الله سبحانه أمر فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوكل عليه ويرجع أمر المشركين وبني إسرائيل إليه فإنه إنما

يستطيع هداية المؤمنين بآياته المستسلمين للحق وأما المشركون في جحودهم وبنو إسرائيل في اختلافهم فإنهم موتى لا يسمعون وصم عمي لا يسمعون ولا يهتدون إلى الحق بالنظر في آيات السماء والأرض والاعتبار بها باختيار منهم .

ثم ذكر ما سيواجههم به - وحالهم هذه الحال لا يؤثر فيهم الآيات - وأنه سيخرج لهم دابة من الأرض تكلمهم وهي آية خارقة تضطرهم إلى قبول الحق وأنه يحشر من كل أمة فوجا من المكذبين فيتم عليهم الحجة ، وبالآخرة هو خبير بأفعالهم سيجزي من جاء بحسنة أو سيئة بعمله يوم ينفخ في الصور ففزعوا وأتوه داخرين .

وبالتأمل في هذا السياق يظهر أن الأنسب كون يوم ينفخ ظرفا لقوله : إنه خبير بما يفعلون وقراءة يفعلون بياء الغيبة أرجح من القراءة المتداولة على الخطاب .

والمعنى : وإنه تعالى خبير بما يفعله أهل السماوات والأرض يوم ينفخ في الصور ويأتونه داخرين يجزي من جاء بالحسنة بخير منها ومن جاء بالسيئة بكب وجوههم في النار كل مجزي بعمله ، وعلى هذا تكون الآية في معنى قوله تعالى : {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات : 9 - 11] ، وقوله : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر : 16] ، ويكون قوله : من جاء بالحسنة إلخ ، تفصيلا لقوله : إنه خبير بما يفعلون من حيث لازم الخبرة وهو الجزاء بما فعل وعمل كما أشار إليه ذيلا بقوله : هل تجزون إلا ما كنتم تعملون والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله : {هل تجزون} إلخ ، لتشديد التقريع والتأنيب .

وفي الآية أعني قوله : {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} إلخ ، قولان آخران : أحدهما : حملها على الحركة الجوهرية وأن الأشياء كالجبال تتحرك بجوهرها إلى غاية وجودها وهي حشرها ورجوعها إلى الله سبحانه .

وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما في قوله : تحسبها جامدة من التلويح إلى أنها اليوم متحركة ولما تقم القيامة ، وأما جعل يوم القيامة ظرفا لحسبان الجمود وللمرور كالسحاب جميعا فمما لا يلتفت إليه .

وثانيهما : حملها على حركة الأرض الانتقالية وهو بالنظر إلى الآية في نفسها معنى جيد إلا أنه أولا : يوجب انقطاع الآية عما قبلها وما بعدها من آيات القيامة وثانيا : ينقطع بذلك اتصال قوله : إنه خبير بما يفعلون بما قبله .

قوله تعالى : {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون} هذه الآية وما بعدها - كما تقدمت الإشارة إليه - تفصيل لقوله : {إنه خبير بما يفعلون} من حيث أثره الذي هو الجزاء والمراد بقوله : {من جاء بالحسنة فله خير منها} أن له جزاء هو خير مما جاء به من الحسنة وذلك لأن العمل أيا ما كان مقدمة للجزاء مقصود لأجله والغرض والغاية على أي حال أفضل من المقدمة .

وقوله : {وهم من فزع يومئذ آمنون} ظاهر السياق أن هذا الفزع هو الفزع بعد نفخ الصور الثاني دون الأول فيكون في معنى قوله : {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء : 103] .

قوله تعالى : {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} يقال : كبه على وجهه فانكب أي ألقاه على وجهه فوقع عليه فنسبة الكب إلى وجوههم من المجاز العقلي والأصل فكبوا على وجوههم .

وقوله : {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} الاستفهام للإنكار ، والمعنى ليس جزاؤكم هذا إلا نفس العمل الذي عملتموه ظهر لكم فلزمكم فلا ظلم في الجزاء ولا جور في الحكم .

والآيتان في مقام بيان ما في طبع الحسنة والسيئة من الجزاء ففيهما حكم من جاء بالحسنة فقط ومن أحاطت به الخطيئة واستغرقته السيئة وأما من حمل حسنة وسيئة فيعلم بذلك حكمه إجمالا وأما التفصيل ففي غير هذا الموضع .

قوله تعالى : {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} الآيات الثلاث - من هنا إلى آخر السورة - ختام السورة يبين فيها أن هذه الدعوة الحقة تبشير وإنذار فيه إتمام للحجة من غير أن يرجع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمرهم شيء وإنما الأمر إلى الله وسيريهم آياته فيعرفونها ليس بغافل عن أعمالهم .

وفي قوله : {إنما أمرت} إلخ ، تكلم عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو في معنى : قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ، والمشار إليها بهذه الإشارة مكة المشرفة ، وفي الكلام تشريفها من وجهين : إضافة الرب إليها ، وتوصيفها بالحرمة حيث قال : {رب هذه البلدة الذي حرمها} .

وفيه تعريض لهم حيث كفروا بهذه النعمة نعمة حرمة بلدتهم ولم يشكروا الله بعبادته بل عدلوا إلى عبادة الأصنام .

وقوله : {وله كل شيء} إشارة إلى سعة ملكه تعالى دفعا لما يمكن أن يتوهم أنه إنما يملك مكة التي هو ربها فيكون حاله حال سائر الأصنام يملك الواحد منها على عقيدتهم جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا ، فيكون تعالى معبودا كأحد الآلهة واقعا في صفهم وفي عرضهم .

وقوله : {وأمرت أن أكون من المسلمين} أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدي إليه الخلقة ويهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم .

قوله تعالى : {وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين} معطوف على قوله : {أن أعبد} أي أمرت أن أقرأ القرآن والمراد تلاوته عليهم بدليل تفريع قوله : {فمن اهتدى} إلخ ، عليه .

وقوله : {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} أي فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه ولا يعود نفعه إلي .

وقوله : {ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين} أي ومن لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه وهو الضلال فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي لأني لست إلا منذرا مأمورا بذلك ولست عليه وكيلا والله هو الوكيل عليه .

فالعدول عن مثل قولنا : {ومن ضل فإنما أنا من المنذرين} وهو الذي كان يقتضيه الظاهر إلى قوله : فقل إنما أنا من المنذرين لتذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تقدم من العهد إليه أنه ليس إلا منذرا وليس إليه من أمرهم شيء فعليه أن يتوكل على ربه ويرجع أمرهم إليه كما قال : {فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى} إلخ ، فكأنه قيل : ومن ضل فقل له قد سمعت أن ربي لم يجعل علي إلا الإنذار فلست بمسئول عن ضلال من ضل .

قوله تعالى : {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون} معطوف على قوله : {فقل إنما أنا من المنذرين} وفيه انعطاف إلى ما ذكره بعد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتوكل عليه في أمرهم من أنه سيجعل للمشركين عاقبة سوء ويقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه ويريهم من آياته ما يضطرون إلى تصديقه ثم يجزيهم بأعمالهم .

ومحصل المعنى : وقل الثناء الجميل لله تعالى فيما يجريه في ملكه حيث دعا الناس إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وهدى الذين آمنوا بآياته وأسلموا له وأما المكذبون فأمات قلوبهم وأصم آذانهم وأعمى أبصارهم فضلوا وكذبوا بآياته .

وقوله : {سيريكم آياته فتعرفونها} إشارة إلى ما تقدم من قوله : {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض} وما بعده ، وظهور قوله : {آياته} في العموم دليل على شموله لجميع الآيات التي تضطرهم إلى قبول الحق مما يظهر لهم قبل قيام الساعة وبعده .

وقوله : {وما ربك بغافل عما تعملون} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن أعمالكم معاشر العباد بعين ربك فلا يفوته شيء مما تقتضيه الحكمة قبال أعمالكم من الدعوة والهداية والإضلال وإراءة الآيات ثم جزاء المحسنين منكم والمسيئين يوم القيامة .

وقرىء عما يعملون بياء الغيبة ولعلها أرجح ومفادها تهديد المكذبين وفي قوله : {ربك} بإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية لجانبه .

________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص320-325 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة :

 

مرّة أُخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد ، وآثار عظمة الله ، ودلائل قدرته في عالم الوجود ، وحوادث القيامة ، فتقول : {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً} وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للايمان {إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} .

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة ، ونظامي النور والظلمة ، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً . . وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية ، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية . . . ونحن نعرف أن أصول التعليم والتربية تقتضي أحياناً أن يتكرر الموضوع في «فواصل» مختلفة ، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال .

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل ، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها ، فسُدل الليل ليست أسباباً إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب ، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات ، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق ، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون! .

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضاً ـ ولا مجال للتردد فيها . فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب ، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط ! .

فهذه الآية توضح جانباً من التوحيد الرّبوبي ، ولما كان المعبود الواقعي هوربّ «عالم الوجود» ومدبّره ، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان ! . . . وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم .

وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النظام ، فيستريح في الليل ويسعى في النهار ، ليبقى نشطاً صحيحاً دائماً . . . لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظاً ساهراً وينام النهار حتى الظهر ! .

والطريف أن كلمة «مبصر» نسبت إلى النهار ووصف بها ، مع أنّها وصف للإنسان في النهار ، وهذا نوع من التأكيد الجميل للإهتمام بالنشاط في النهار ، كما يوصف الليل أحياناً بأنه «ليل نائم» (2) .

وهذا التفاوت في التعبير في الآية ، هو لبيان فائدة الليل والنهار ، إذ جاء في شأن الليل {لتسكنوا فيه} وعبر عن النهار بـ (مبصر) فلعل هذا الإختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء ، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب ، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والإستمتاع بها «فلاحظوا بدقة» .

وعلى كل حال ، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرةً عن التوحيد وتدبير عالم الوجود ، إلاّ أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد ، لأنّ النوم بمثابة الموت ، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت! .

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها ، فتقول : (و) اذكر {يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله وكلّ أتوه داخرين} أي خاضعين .

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات .

فالمرّة الأُولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة ! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله !

والثّانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة ، ولعل هاتين النفختين واحدة .

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة . . إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه النفخة ، وتبدأ الحياة الجديدة معها .

وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأُولى أم الثّانية أم الثّالثة ؟! . . القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين ، وقيل : بل هي تشمل الجميع .

إلاّ أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأُولى التي تقع في نهاية الدنيا ، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الإستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب ، يعدّ من آثار هذه النفخة . . . ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة ! .

وبتعبير آخر : إن ظاهر «فاء» التفريع في «ففزغ» أن الفزع ناشىء من النفخة في الصور ، وهذا خاص بالنفخة الأولى ، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب ، بل هي مدعاة للحياة والحركة ، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه ! .

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور ، ؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (68) من سورة «الزمر» بإذن الله ! .

وأمّا جملة {إلاّ من شاء الله} المذكورة للإستثناء من الفزع العام ، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواءً كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض ، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأُولى ولا الأُخرى . . إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى : {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون} .

وأمّا جملة {وكل أتوه داخرين} فظاهرها عامٌ وليس فيه أي استثناء ، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته ، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (127) من سورة الصافات : {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 127 ، 128] ، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث ، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر ، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال ! .

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع ، فتقول : {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي اتقن كل شيء} (3) .

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق ، لا ريب في علمه و{إنّه خبير بما تفعلون} .

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة ، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض ، وقد اشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كراراً .

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير .

إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر ، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا ، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها .

وتوضيح ذلك :

1 ـ إنّ الآية تقول : تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب . . وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة . . لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج : 2] .

2 ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة ، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع ! .

3 ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة ، إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً .

4 ـ والتعبير بـ «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم ، يتناسب زمان استقرار نظام العالم ، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه .

5 ـ جملة (إنّه خبير بما تفعلون} مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع ، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا ، لأنّها تقول : إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل . ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم ، لكان ينبغي أن يقال : إنّه خبير بما فعلتم . «فتأملوا بدقّة» .

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق ، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر : {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} .

وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد ، وقسم منها في المعاد ! .

وما نستنتجه من هذا التّفسير ، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها . . . ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها ، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب ! .

ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (30) كيلومتر في كل دقيقة ، وسرعة سيرها في حركتها الإنتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار . . .

لكن علام عُني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها ، وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه ، فحيث أن هذه الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل ، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع ا لأرض» فقدرته على كل شيء «بينة ، وثابتة» !

وعلى كل حال ، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية . . . لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو» الإيطالي و«كبرنيك» اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكماً صارماً ، وتعرضاً لمضايقات كثيرة . .

إلاّ أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريباً وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد !

ويرى بعض فلاسفة الإسلام ، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني ، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم ، أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية» في الأشياء ، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها (4)

 

وقوله تعالى : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [النمل : 89 - 93] .

 

آخر ما أُمر به النّبي !

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها . . أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون} .

وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من «الحسنة» في هذه الآية : ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد «لا إله إلاّ الله» والإيمان بالله .

وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت ، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه دخل أبوعبدالله الجدلي على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : يا أبا عبدالله ألا أخبرك بقول الله عزّوجلّ : (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار هل يجزون إلاّ ما كنتم تعملون} قال : بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك ، فقال : «الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت ، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأ (عليه السلام) الآية» (5) .

وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مراراً ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً . . . فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة ، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة ، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أُخرى تشملها الآية .

أمّا ما أورده بعضهم بأنّه : على فرض العموم في «الحسنة» فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه : من جاء بالحسنة فله خير منها ؟

فالجواب على هذا الإشكال واضح . . . لأنّ رضا الله خير من الإيمان . وبتعبير آخر : جميع هذه الأُمور مقدمة له . . . وذو المقدمة خير من المقدمة ! .

وهناك سؤال آخر يثار هنا ، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية 2 من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة ، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه ؟ .

فالآية (103) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول : {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء : 103] .

و«الفزع الأكبر» ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة ، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور «فلاحظوا بدقّة» .

ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأُخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول : {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار} .

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها {هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون} .

و«كُبّت» مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض ، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هومن باب التوكيد ! .

وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب . إضافة إلى ذلك ، فإنّ أُولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يُلوون وجوههم ورؤوسهم ، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين . . . فالآن لابدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب .

وجملة {هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون} لعلها جواب على سؤال يلقى هنا ، وهوما لو قيل : إنّ هذا الجزاء «العقاب» شديد ، فيجاب : بأنّ هذا الجزاء إن هو إلاّ عملك في الدنيا ، فهل تجزون إلاّ ما كنتم تعلمون «فلاحظوا بدقة» .

ثمّ يوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة ، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أُولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته . . . سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا ؟!

فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات : {إنّما أُمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة} .

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها . . . البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات . . إلاّ أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها !

البلدة المقدسة التي هي حرم أمن اللّه ، وأشرف بقعة على وجه الأرض ، وأقدم معبد للتوحيد !

أجل . . . أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة {الذي حرمها} وجعل لها خصائص وأحكاماً وحرمةً ، وأموراً أُخر لا تتمتع بها أية بلدة أُخرى في الأرض ! .

لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله ، بل له كل شيء في عالم الوجود {وله كل شيء} .

والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له {وأُمرت أن أكون من المسلمين} .

وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد ، والتسليم المطلق لأمره) .

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول : {وأن أتلوا القرآن} .

أتلوه فأستضيء بنوره ، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه . أجل . . فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين ، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها ، ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه : لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي ، كما أن الله غني عنكم ، بل {فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه} .

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية ، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح {ومن ضلّ فقل إنّما أنا من المنذرين} .

وعواقبه الوخيمة لا تصيبُني . . . فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق ، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق ، إلاّ أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال ، فإنّما يشقى وحده ، فيكون من الخاسرين .

الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية : {ومن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه} ولكنّه لا يقول في شأن الضلال : ومن ضل فضرره عليه ، بل يقول : {فقل إنّما أنا من المنذرين} .

وهذا الإختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبي (عليه السلام) يقول : إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبداً ، ولا أتركهم على حالهم ، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار ولا أعيا عن ذلك ، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة ، وفيها التعبير «لنفسه وعليها» للموضوعين . . . كقوله تعالى : {من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها} لكننا نعلم أنّ هذا الإختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات ، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة) !

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن ، وإنتهت بالأمر بتلاوته ، فبدايتها ونهايتها عن القرآن .

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ مُوجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى ، ولا سيما نعمة الهداية فيقول : {وقل الحمد لله}

هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن ، كما يعود للهداية أيضاً ، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية {سيريكم آياته فتعرفونها} .

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة ، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود ، ويرفع ستار جديد عنها . . وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد يوم . . وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائماً ولا تنقطع مدى عمر البشر .

إلاّ أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والإنحراف ، فلن يترككم الله سدى {وما ربّ بغافل عما يعمل الظالمون} .

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه ، فهو غير مطلع على أعمالكم ، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ .

وجملة {وما ربّك بغافل عمّا تعملون} الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة ، وهي تهديد ذو معنى عميق ، وإنذار لجميع الناس .

_____________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص508-517 .

2 ـ هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ «المجاز العقلي» ، ويراد منه إسناد الفعل أوما في معناه «كاسم الفاعل واسم المفعول» لغير ما وضع له لعلاقة ، منها العلاقة الزمانية ، فيقال مثلا : نهار الزاهد صائم وليله قائم . (المصحح)

3 ـ «صنع الله» منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله .

4 ـ المراد من «الحركة الجوهرية» هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها «وجوهرها» أي أنّها وجود سيال ومتحرك ، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها . . وبتعبير آخر : إن لدينا وجودين مختلفين ذاتاً . . الوجود الثابت «الوجود ما وراء المادي» ، ووجود سيال ومتحرك «الوجود المادي» وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية ، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا .

5 ـ اصول الكافي ، وفقاً لماجاء في تفسير نور الثقلين ، ج4 ، ص 104 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .