أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-5-2021
3254
التاريخ: 13-12-2019
1726
التاريخ: 22-1-2020
3158
التاريخ: 27-2-2020
1507
|
أول المؤمنين
حين تلقى الرسول (صلى الله عليه وآله) بيان التكليف الإلهي، بحمل الرسالة، عاد إلى بيته فأطلع علياً(1) (عليه السلام)، بأمره فاستقبله (عليه السلام) بالتصديق واليقين، كذلك فعلت خديجة الكبرى، فانبثق من أجل ذلك أول نواة لمجتمع المتبقى في الأرض.
على أن يجدر بنا، أن نعي أن علياً (عليه السلام) لم يدعه الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الإسلام كما دعا غيره فيما بعد، أبداً، لأن علياً (عليه السلام) كان مسلماً على فطرة الله تعالى، لم تصبه الجاهلية بأوضاعها، ولم يتفاعل مع شيء من سفاسفها، وكل الذي كان: أن علياً (عليه السلام) قد أطلعه الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) على أمر دعوته ومنهج رسالته، فأعلن تصديقه وأيقن بالرسالة الخاتمة، وبادر لتلقي توجيهاته المباركة تلقي تنفيذ وتجسيد.
ولهذا يقال (كرم الله وجهه)
فإن علياً (عليه السلام) كان مؤهلاً -كما بينا في مطلع الحديث- لاتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دعوته، لأنه (صلى الله عليه وآله) كان قد أنشأ شخصيته، وأرسى لبناتها الأساسية.
ولا أظنني أضيف جديداً إذا قلت أن الإمام (عليه السلام) لم يفاجأ بأمر الدعوة المباركة، طالما عاش في كنف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتفيأ ظلاله، فالمصطفى (صلى الله عليه وآله) -كما نعلم- كان يعبد ربه تعالى وينأى عن الجاهلية في مفاهيمه وسلوكه وعلاقاته، قبل أن ينزل عليه وحي السماء، بأول سورة من القرآن الكريم(2).
وعلي (عليه السلام) كان مطلعاً على عبادة أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وممارساته وتحولاته الروحية والفكرية، فكان يتعبد معه، وينهج نهجه، ويسلك سبيله، في ذلك السن المبكر من عمره..
أما حين فاتحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الدعوة الإلهية، فقد لبى النداء بروحه ووعيه وكل جوارحه، دون أن يباغت في الأمر، وإن كان هناك جدة في المسألة فإنما هي في الكيفية التطبيقية للرسالة ودرجة المسؤولية الواجب تحملها أو تفاصيل الأحكام.. وحين بُلِّغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر التكليف الإلهي لحمل الدعوة المباركة، بلغ كذلك، أن تنصب دعوته أولاً على الخاصة من أهل بيته (عليهم السلام)، وقد أشار ابن هشام في سيرته لذلك بقوله: «فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يذكر ما أنعم الله عليه، وعلى العباد به، من النبوة سرّاً إلى من يطمئن إليه من أهله..»(3). ومن أجل ذلك فاتح علياً وخديجة بالدعوة -كما ذكرنا- وبعدهما زيد بن حارثة، وبقي أمرها طي الكتمان لا يعلمه غير هؤلاء، وبعض الخاصة من أهل البيت (عليهم السلام).
وقد أشار الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث له حول إسلام جده علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: «... ولقد آمن بالله تبارك وتعالى وبرسوله (صلى الله عليه وآله) وسبق الناس كلهم إلى الإيمان بالله وبرسوله والى الصلاة ثلاث سنين»(4).
ولأسبقيته في حمل الدعوة أشار الإمام (عليه السلام) في حديث جاء فيه «.. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة..».
وبعد أن تخطت الدعوة مرحلة دعوة الخاصة من أهل البيت (عليهم السلام) جاءت مرحلة دعوة من يتوسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيهم القبول لدعوته، فانخرط عدد من الناس في سلك الدعوة، كان أغلبهم من الشباب، وكانت لقاءاتهم من أجل قراءة القرآن الكريم، والتعرف على أحكام دين الله تعالى تتم بصورة سرية..
أول الدعاة:
ثم أذن الله عز وجل لرسوله (صلى الله عليه وآله) بدعوة عشيرته الأقربين من بني هاشم، ليوسع من مدار الدعوة بذلك، فقال تعالى:
(.. وَأَنذِرْ عَشيرَتَكَ الأقْرَبينَ. وَأَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِن المُؤْمِنينَ. فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعمَلُونَ) (الشعراء/ 214-216).
فلما تلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر ربه الأعلى بإنذار عشيرته الأقربين، أمر علياً (عليه السلام) أن يدعوهم إلى طعام عنده، فحضروا إلى دار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا أربعين رجلاً.
وبعد أن تناولوا طعامهم، بادرهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله «.. بإبني عبد المطلب، أن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال: «وأنذر عشيرتك الأقربين» وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني عليه، وعلى القيام به يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي..»(5).
وبين تنديد أبي لهب، وتحذيره للرسول (صلى الله عليه وآله) من الاستمرار بالدعوة من جهة، وتأييد أبي طالب له ومخاطبته الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: «فامض لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك»(6).
أقول من خلال التأييد، الذي أعلنه أبو طالب، والتنديد البليد الذي أعلنه أبو لهب، وقف علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان أصغر الحاضرين سناً فقال: «أنا يا رسول الله أوازرك على هذا الأمر» فأمره الرسول (صلى الله عليه وآله) بالجلوس، ولما لم يجبه أحد نهض علي ثانية والرسول (صلى الله عليه وآله) يجلسه..
وأعاد الرسول (صلى الله عليه وآله) دعوته إلى قومه، فلم يجبه أحد، وكان صوت علي (عليه السلام) وحده يلبي الدعوة، ويهدر بالمؤازرة والنصرة، فمزق صمتهم بصلابة إيمانه، وقوة يقينه، وحيث لم يجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد للمرة الثالثة.. التفت إلى مجيبه الوحيد، قائلاً: «اجلس فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي»(7).
فنهض القوم من مجلسهم، وهم يخاطبون أبا طالب: «ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك».
مواجهة الجاهليين:
ودخلت الدعوة إلى الله مرحلة المواجهة -بعد إنذار العشيرة- وأول من قاد ردّ الفعل أبو لهب وزوجته، وكانا يعترضان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويزرعان المشاق في طريقه، لإثنائه عن دعوته المباركة ولكن دعوة الله سبحانه مضت، تشق طريقها في المجتمع الجاهلي
المتحجر ذاك، فقد انتقلت بعد إبلاغ العشيرة إلى الدعوة العامة، حيث وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند البيت الحرام، وخاطب الجموع بأنه رسول الله إليها(8)..
وبعد الدعوة تزايد عدد المؤمنين وأغلبهم من الشباب ومن شتى قطاعات المجتمع المكي..
وكان لتزايد عدد المؤمنين برسالة الله تعالى أثر بالغ على موقف الجاهليين، فقد سلكوا أسلوب الإرهاب للرعيل الأول من المؤمنين، فكانت كل قبيلة وكل بيت يتصدى لمن فيه من المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد(9)، والمؤمنون يزدادون صموداً وإيماناً بصوت الحق والهدى، الذي دوى به صوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرددته النفوس الظمأى إلى الخير والانعتاق..
وبسبب التعذيب الجسدي الوحشي، الذي صب على المؤمنين، كانت هجرة الحبشة التي قادها جعفر بن أبي طالب والذي يكبر علياً (عليه السلام) بعشر سنين، وكان لجعفر وحكمته الأثر الفعال في إفشال مخطط قريش في إثارة ملك الحبشة على المهاجرين، لطردهم من بلاده.
أبو طالب يتصدى لأعداء الرسالة:
وإذا كانت قريش قد تصدت للسابقين من المؤمنين بالعنف والاضطهاد، فإنها ليست قادرة على التصدي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، قائد الدعوة ورسولها، بنفس المستوى، لعلمها أن أبا طالب شيخ الأبطح،
يحول دون تحقيق أي لون من ألوان التصدي والإرهاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
فأبو طالب، رجل مرهوب الجانب، ذو سطوة ونفوذ، ليس في بني هاشم وحدهم، وإنما في قبائل مكة كلها.
وقد كان الرجل سند الدعوة وجدارها الشامخ، الذي تستند إليه منذ تباشير فجرها الزاهر.. وقريش، كانت تدرك ذلك تماماً.
ومن أجل ذلك، سلكت أسلوب المفاوضة، والمساومة والإغراء: تفاوض الدعوة والرسالة في شخص الرسول (صلى الله عليه وآله) مرة، وفي شخص أبي طالب مرة أخرى.. فحين كانت تعرض المال والسلطان على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مقابل تركه الدعوة، والتنازل عن الرسالة، فإنها كانت تفاوض أبا طالب، وتحاوره بشأن دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، طالبة أن يستعمل نفوذه، بالضغط عليه، لترك رسالته، وتهدده باحتدام الصراع بينه وبين قريش كلها، إذا لم يخل بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويكف عن إسناده له.
بيد أن أبا طالب، كان يعلن إصراره على التزام جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذود عنه، مهما غلا الثمن، وعظمت التضحيات.
أبو طالب في الحصار مع رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ولما استبد اليأس بقريش، من أن أبا طالب لن يفرّط بمحمد (صلى الله عليه وآله) ودعوته، عقد زعماؤها اجتماعاً طارئاً في دار الندوة -وهي دار قصي بن كلاب التي اعتادت قريش أن تجتمع فيها للتشاور في القضايا المصيرية من حياتها. وتوصل المجتمعون إلى قرار، يقضي بحصار بني هاشم، ومن يلوذ بهم، حصاراً اقتصادياً واجتماعياً، ينصب على عدم مبايعة بني هاشم أو الشراء منهم، أو تزويجهم، أو التزوج منهم، وقد ذيل قرار المقاطعة ذلك بأربعين توقيعاً لزعماء قريش...
ودخل بنو هاشم شعب أبي طالب، بناء على أوامر من عميدهم أبي طالب ذاته، حماية لأنفسهم من سطوة قريش، وأصبح من المتعذر عليهم الخروج إلى مكة، إلا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة من كل عام. وبالنظر لتفاقم الموقف بين بني هاشم وقريش، شدد أبو طالب الحراسة على الشعب، بعد تحصينه، خشية هجوم قريشي مباغت.
واستمر الحال ببني هاشم -بما فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) هكذا ثلاث سنين - وقيل أربعاً - وقد عانوا من شظف العيش، والحرمان والفاقة، وما يدمي القلب، ويحز في النفس.
ولك أن تقدر حجم ما عانى المحاصرون من ضيق، إذا علمنا أن قريشاً قد شددت عليهم الحصار بشكل كامل، فقطعت عنهم التموين، وكانت غالباً ما تضاعف أثمان البضائع، ليعجز بنو هاشم عن شرائها، بشكل أدى بهم إلى المجاعة الحقيقية، حتى أن صراخ أطفالهم وتضورهم جوعاً كان يسمع من بعيد.
وبعد أن تصرمت السنون الثلاث، بعسرها وآلامها وفاقها، أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمه أبا طالب أن صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش قد أتت دودة الأرضة على ما فيها من ظلم وقطيعة فأكلتها، إلاّ عبارة «باسمك اللهم» فأسرع أبو طالب إلى قريش، قائلاً:
«.. إن ابن أخي أخبرني أن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فأكلتها، غير اسم الله، فإن كان صادقاً نزعتم عنه سوء رأيكم، وإن كان كاذباً دفعته إليكم..»(10).
قالوا: قد أنصفتنا.. ثم فتحوها، فإذا هي كما قال.. ووقع نزاع حاسم بين قريش، نتج عنه تمزيق الصحيفة، وانتهاء المقاطعة، ورفع الحصار عن بني هاشم، وقد كان لإفشال مشروع الحصار بذلك الشكل الإعجازي الجلي أثره في كسب الدعوة للمؤيدين، والأنصار في مكة..
أرأيت كم من التضحيات في سبيل رسالة الله، بذل بيت علي (عليه السلام)؟
فإذا كان علي أول من لبى صوت الحق، وظل مجاهداً في الصف الأمامي من الجبهة الإسلامية طوال حياته، فإن أباه قد ضحى حتى بمكانته الاجتماعية التي كان يحظى بها من لدن قريش، وذاق المحن من أجل رسالة الله تعالى، حتى كان بحق الدرع الواقي للرسول (صلى الله عليه وآله)، والدعوة في حين كانت المكانة الاجتماعية: حلم الرجال، ومبتغاهم في ذلك المجتمع القبلي..
وهكذا كان جعفر بن أبي طالب، أخو علي (عليه السلام) الذي دشن حياته الإسلامية بقيادة موكب الهجرة الأولى إلى الحبشة وتوجهاً بالشهادة في غزوة مؤتة.. ففاز بلقب الطيار مع الملائكة في الجنة كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك(11)..
ولعظيم حب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجعفر، إنه حين قدم المدينة المنورة من الحبشة، وذلك يوم فتح خيبر، استقبله الرسول (صلى الله عليه وآله) وقبل ما بين عينيه، وهو يقول (صلى الله عليه وآله): «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً: بقدوم جعفر؟ أم بفتح خيبر»(12).
إلى دار الإسلام:
.. وفي خضم الصراع العنيف، الناشب بين الدعوة الإلهية المباركة، والجاهلية الرعناء، فجع الإسلام بفقد مؤمن قريش: أبي طالب (رض) فاهتز رسول الله (صلى الله عليه وآله) للحادث الأليم، وعلم أن قريشاً ستعمل على تصعيد حملتها على الدعوة، وعلى شخصه الكريم بالذات..
وإذا كانت قريش تخش أبا طالب، ومركزه الاجتماعي، فيما مضى، فقد صفا لها الجو بعد موته، وها هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفقد سنده الشامخ، ويصاب بعده بفاجعة أخرى، لا تقل في تأثيرها عليه عن الأولى، فقد توفيت زوجته الوفية خديجة، حتى دعا العام الذي فقدهما فيه «عام الحزن».
وللأهمية البالغة، التي يحتلها أبو طالب، في سير الحركة التاريخية لدعوة الله تعالى، صرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله:
«ما زالت قريش كاعةًً عني حتى مات أبو طالب»(13).
وصعدت قريش حملتها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسابقين من المؤمنين، فاتحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) للبحث عن أرض غير مكة، تستقر عليها دعوة الله، فتنمو عليها شجرة الهدى، وراح يتصل بالقبائل، ويعرض أمره على الناس في أطراف مكة... ثم زار الطائف، واتصل بزعماء قبائلها، فلم يستجب له أحد ذو أثر اجتماعي، بيد أن اليأس لم يتسرب إلى نفسه، واستمر في عرض نفسه على الناس من خارج مكة، حتى التقى في موسم الحج بنفر من أهل يثرب، وفاتحهم بأمر الدعوة، فاستجابوا له، ولبوا دعوة الله، وعادوا يحملون كلمة الله إلى قومهم.
وفي اليوم التالي قدم منهم اثنا عشر رجلاً، فبايعوه على الإيمان وحمل الرسالة، فأرسل لتعليمهم أحكام دين الله تعالى: مصعب ابن عمير، فمكث فيهم سنة كاملة، ويدعوهم إلى الله، ويؤدبهم بتعاليم رسالته، ويقرئهم القرآن الكريم فدخل الكثير من الناس في الإسلام، واستجابوا لنداء الدعوة المباركة..
وفي موسم الحج حضر منهم إلى مكة وفد كبير يقوده مصعب بن عمير، فالتقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبايعوه على النصرة أن هاجر هو إلى بلدهم..
وتنزل أمر الله تعالى يدعو المسلمين إلى الهجرة، فزحفت مواكب المهاجرين صوب الدار الجديدة مخلفين وراءهم المال والوطن وعلائق الدم والقربى.
ولئن كانت الدعوة قد أوشكت على الدخول في مرحلة جديدة من مراحل مسيرتها العتيدة، فإن قريشاً، قد اجتمعت في دار الندوة للتشاور بشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالذات، فتوصل قادتها إلى قرار يقضي باغتيال جماعي لرسول لله (صلى الله عليه وآله) يتولاه من كل قبيلة رجل منها وأن ينفذ الاغتيال ليلاً.
وكشف جبريل (صلى الله عليه وآله) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أوراق الجريمة التي أجمعت قريش على اقترافها.
(وَإذّ يمْكُرُ بِكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُْبتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرينَ) (الأنفال/ 30).
في فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله):
وأبلغ جبريل (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى بالهجرة إلى المدينة المنورة.. وحين انتشر الظلام، أسرع المتآمرون لتطويق بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) للحيلولة دون خروجه.. وعندها جاء دور علي (عليه السلام) حيث أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينام على فراشه، ويلتحف ببردته، وخرج صلى الله عليه وآله من بينهم وهو يتلو قوله تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (يس/ 9).
فلم يشاهده أحد من المشركين:
وعند طلوع الفجر اقتحم المتآمرون دار رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتنفيذ جريمتهم واتجهوا لغرفته، فوثب علي (عليه السلام) في وجوههم قائلاً: ما شأنكم؟
قالوا: أين محمد؟
قال «أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم..»(14).
فانقلبوا خاسرين وباؤوا بالفشل الذريع... ثم بدا لهم أن يبحثوا عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ويجدوا في طلبه في الجبال والوديان، واصطحبوا لذلك أبا كرز، وهو رجل شهير بعلم معرفة الأثر، وبالفعل استطاع أبو كرز أن يتابع أثر الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى أوصل القوم غار جبل «ثور» مؤكداً لهم أن محمداً (صلى الله عليه وآله) قد وصل في نهاية شوطه إلى ذلك الغار، وإذن فلا بد أن يكون قد عرج إلى السماء أو اختفى تحت الأرض، وحيث أن الله سبحانه قد بعث عنكبوتاً فنسجت بيتاً لها على باب الغار، فإن المتآمرين لم يخطر ببالهم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) في داخل الغار الذي يقفون على بابه، وهكذا صرف الله عقولهم فولوا الأدبار..
وعند حلول الليلة الثانية أسرع علي (عليه السلام) وهند بن أبي هالة إلى الغار للاتصال بالرسول (صلى الله عليه وآله) تحت جنح الظلام(15) وتحاور رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع علي (عليه السلام) حول مستلزمات الهجرة.. فأوصاه بأداء الأمانات إلى أهلها، وباللحوق به (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك وأوصاه أن يحمل معه فاطمة الزهراء (صلى الله عليه وآله) ومن معها من نساء أهل البيت..
الانتظار في قبا:
وبعد أيام من مسيرة الركب وصل الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى «قبا» حيث نزل عند كلثوم بن الهدم أحد زعماء بني عمرو بن عوف(16) وهناك أقام الرسول (صلى الله عليه وآله) مسجد قبا، ومكث ينتظر قدوم علي بن أبي طالب (عليه السلام)(17).
إذ كتب إليه كتاباً يأمره بالمسير إليه، وقد حمل الكتاب أبو وافد الليثي، وحيث أن علياً (عليه السلام) قد أدى ما أوصاه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل هجرته وأعاد الأمانات التي كانت لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى أهلها، فقد عجل باللحوق بأخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبادر إلى إعداد ركائب لحمل النساء فاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب.
ثم أمر ضعاف المؤمنين أن يتسللوا ليلاً إلى ذي طوى وخرج هو والفواطم وأيمن وأبو وافد الليثي نهاراً(18).
ولم تمض غير أيام قليلة حتى وصل ركب علي والفواطم إلى قبا، فاستقبلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعانق علياً (صلى الله عليه وآله) وبكى رحمة به - وذلك لما ألم به من إرهاق وأذى.
وبعد مقدم علي (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيومين ارتحل الرسول (صلى الله عليه وآله) وبصحبته علي (عليه السلام) ومن معه من المهاجرين إلى المدينة المنورة..
وكان الركب النبوي يستقبل استقبالاً مهيباً عند كل حي يمر به.. حتى إذا وصل الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المكان الذي أقيم مسجده فيه توقفت راحلته عن المسير فنزل عنها، وأقام ضيفاً عند أيوب الأنصاري (ره).. ثم بادر إلى بناء المسجد والدور الخاصة به وبأهل بيته، وفي طليعتهم علي (عليه السلام) إذ أقيمت حجرته بجنب حجرة عائشة.
_________________
1 - إضافة إلى كتب التاريخ التي تصرح بأن علياً أول الناس إسلاماً فهناك عدة أحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تجسد هذه الحقيقة. راجع المستدرك ج3 ص136 والخطيب البغدادي في تاريخه ج2 ص81 ومناقب الخوارزمي وحلية الأولياء ج1 ص66 والسيرة الحلبية ج1 ص 285 وسيرة زيني دحلان في هامش الحلبية ج1 ص188: نقلاً عن الغدير ج3 ص22 - 242 ط3/ 1967 بيروت.
2 - يراجع كتابنا/ سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله) ط بيروت.
3 - ج1 ص259 مصطفى الحلبي وأولاده بمصر 1936 تحقيق مصطفى السقا وجماعة.
4 - الروضة من كتاب الكافي ج8 حديث إسلام علي (عليه السلام) وهناك أحاديث بهذا الصدد يرويها كل من النسائي وابن ماجة والحاكم والطبري في تاريخه والرياض النضرة ج2 ص158 وكتاب صفين لنصر بن مزاحم ص100 وغيرها راجع 221 - 240 ج3 من الغدير، على أن تلك الروايات تشير إلى أن إيمان علي وعبادته قد سبق فيها الناس بسبع أو تسع سنين، وهي لا تخالف القول بثلاث سنين أبداً فإن المراد بأنه سبق بالتصديق بالإسلام بعد الدعوة بثلاث سنين وسبق سواه بالإيمان والتعبد مع الرسول (صلى الله عليه وآله) في مرحلة الأعداد التي أشار إليها في خطبة القاصعة بسنوات أخرى..
5 - أخرج الحديث كل من: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردوية، وأبي نعيم، والبيهقي في سننه وفي دلائله، والثعلبي، والطبري في تفسيرهما لسورة الشعراء من تفسيريهما الكبيرين، وأخرجه الطبري في تاريخ السيرة الحلبية ج1 ص381، والطحاوي، والضياء المقدسي في مختاره، وأحمد بن حنبل ج1 ص111 وص159، والنسائي في خصائصه ص6، وكنز العمال ج6 الحديث رقم 6008، والمفيد في إرشاده في مناقب علي (عليه السلام) وغير هؤلاء كثير وكلهم أوردوه بألفاظ متقاربة نقلاً عن المراجعات للسيد شرف الدين ص124 وما بعدها.
6 - صور من حياة محمد/ أمين دويدار ص140، وفقه السيرة/ للغزالي ص102 - 103، يراجع الهامش أعلاه.
7 - صور من حياة محمد/ أمين دويدار ص140، وفقه السيرة/ للغزالي ص102 - 103، يراجع هامش رقم (1) ص22 من هذا الكتاب.
8 - يراجع القسم الأول من كتاب سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله) ط بيروت للمؤلف.
9 - المصدر السابق - يراجع القسم الأول أيضاً.
10 - بحار الأنوار ج19 باب دخول الشعب، طبقات ابن سعد ج1 ص173، 192، سيرة ابن هشام ج1 ص399 - 404 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص151، تاريخ ابن كثير ج3 ص84، 96، 97، السيرة الحلبية ج1 ص357 - 367 الكامل لابن الأثير/2 ص36.. نقلاً عن الغدير ج7 ص363 - 366.
11 - بحار الأنوار ج21 باب غزوة مؤتة، ابن سعد في طبقاته ج4 ص23، وأسد الغابة ج1 ص287، ابن أبي الحديد ج3 ص407، البداية والنهاية ج4 ص256، الاستيعاب ج1 ص81، نقلاً عن مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني باب ذكر مقتل جعفر بن أبي طالب ص10 وما بعدها ط2/ 1970.
12 - نفس المصدر السابق.
13 - تأريخ الطبري ج2 ص222: تأريخ ابن عساكر ج1 ص284، مستدرك الحاكم ج2 ص622، تأريخ ابن كثير ج3 ص122: «نقلاً عن الغدير ج7 ص376»، كشف الغمة في معرفة الأئمة ج1 ص16... وغيرها.
14 - تفسير سورة الأنفال آية 30 يراجع الميزان ج9 بحث روائي ص80.
15 - أعيان الشيعة ج3 ط3 ص155.
16 - بحار الأنوار ج9 والروضة من الكافي ج8 ص339، للكليني ط/ طهران.
17 - الفصول المهمة في معرفة الأئمة/ ابن الصباغ المالكي «فصل في شيء من شجاعته ص28».
18 - أعيان الشيعة ج3 ط3 ص155 «هجرته إلى المدينة».
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|