أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-12-2015
4729
التاريخ: 13-2-2016
2273
التاريخ: 29-06-2015
2141
التاريخ: 30-9-2019
1725
|
وهو يمثل المدرسة الثالثة من المقلدين، تلك المدرسة التي قلد أربابها بلغاء القرن الرابع؛ كالصاحب بن عباد، وابن العميد، وقلدوا كذلك في حياتهم وأسلوبهم وتنميق رسائلهم القاضي الفاضل، وابن مطروح، واستطاعوا بما أوتوا
(1/144)
من تضلع في اللغة، وتمكن من الأدب، وذوق مرهف حساس ألَّا يكونوا صدًى لهؤلاء الكُتَّاب القدامى، بل أضفوا على ما كتبوا طابعهم وشخصيتهم، ومثَّلوا عصرهم بعض التمثيل، فتشعر حين تقرؤهم أنك تقرأ كتابًا في القرن التاسع عشر، وذلك لخوضهم في الموضوعات الحيوية للبلاد، ولتخلصهم في بعض الأحيان من قيود الماضي جملةً، فلا سجع ولا تنميق ولا تزويق ولا محسنات، وإنما يتبعون طريقة ابن خلدون في الترسل, مع متانة نسج, وحسن عرض, وإن كانوا في كثير من الأحيان, ولا سيما حين يحتفلون بكتاباتهم، أو يراسلون عظيمًا أو أديبًا، أو يتحدثون عن لسان السلطان أو الأمير، يعمدون إلى الأسلوب الشعريّ المنثور، بما فيه من خيالٍ وسجعٍ، وفقراتٍ تختلف طولًا أو قصرًا، ويزخرفون كتاباتهم ويرصعونها بشتَّى الحلى اللفظية والمعنوية، وهنا تتضاءل شخصية بعضهم, وتحافظ شخصية آخرين على وجودها في وسط هذه الزينات والتقاليد تبعًا لتمكن الكاتب من موضوعه، وحذقه للغة، ومتانة شخصيته, وتمييز خصائصها.
كان لديوان الإنشاء في الدولة العربية منزلةً ساميةً، يتوصل به الكاتب والشاعر إلى أرقى مناصب الدولة، منذ سهل بن هارون، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وابن العميد، والقاضي الفاضل، وابن مطروح، وقد مضى على مصر حين من الدهر استعجمت فيها لغة الدواوين، وسادت التركية، وصدرت بها قوانينها ورسائلها، ووصلت العربية الحضيض، ولم يبق فيها إلّا ذماء يسير، وحاول إسماعيل -كما ذكرنا- بعث اللغة العربية، وترجمة القوانين التي صدرت من عهد محمد علي حتى أيامه من التركية إلى العربية، كي يسهل عليه الانفصال عن الدولة العثمانية حينما تلوح الفرصة، وقد كان لعبد الله فكري يد كريمة في هذا العمل الجليل، فبعث اللغة الديوانية، لا ركيكة ولا سخيفة، بل ممتلئةً رونقًا وقوةً، فصار نموذجًا يحتذى، وأستاذًا يأخذ الناس عنه طريقة الكتابة الديوانية, وتدبيج الرسائل الأدبية.
(1/145)
ولد بالحجاز سنة 1250هـ-1834م, من أب مصريّ(1) وأم من بلاد المورة, وعاد به والده إلى مصر بعد عودة جيوش محمد علي من الحجاز، ولكنه توفي ولما يبلغ عبد الله الحادية عشرة من عمره، فكفله بعض أقاربه، ودخل الأزهر, وتلقى العلوم المتداولة على كبار مشايخه، وكان في نفس الوقت يدرس اللغة التركية، فلما حذقها عُيِّنَ في القلم التركيّ في الديوان الكتخدائي، وظل مع اشتغاله بالوظيفة يتردد على الأزهر، والتحق بعدة وظائف ديوانية، ثم عُيِّنَ بمعية سعيد، وتولَّى فيها تحرير الرسائل الديوانية بالتركية والعربية، وظلَّ في منصبه حتى تولى إسماعيل عرش مصر، فأبقاه وقربه وسافر معه مراتٍ إلى الآستانة، ثم عهد إليه بتثقيف أولاده وغيرهم من أمراء الأسرة، فكان يباشر تعليمهم أحيانًا، أو يشرف على المدرسين أخرى, ولما نُقِلَ إلى وزارة المالية, كان له الفضل في جمع الكتب الموجودة بها، وضمها إلى دار الكتب حين أنشأها علي مبارك. وبعد ذلك عهد إليه بترجمة اللوائح والقوانين، وتنقيحها, فأدى هذه المهمة الجليلة على أكمل وجه، ثم عُيِّنَ وكيلًا لديوان المكاتب الأهلية، فرفع مستواها وجعلها صالحةً لتغذية المدراس الأميرية، فوكيلًا لنظارة المعارف مع شغله منصب الكاتب الأول في مجلس النواب، وقد ارتفعت طريقة تعليم العربية على يده, وهجرت طريقة الأزهر، ثم عُيِّنَ وزيرًا للمعارف في وزارة محمود سامي البارودي، ولما استقالت الوزارة بسبب الثورة العرابية، اتهم بممالأته للثوار بعد انتهاء الثورة، وقبض عليه, ولكنه برئ، فأطلق سراحه, وعاقبوه بقطع راتبه، فراح يستعطف الخديوي توفيق، وقال في ذلك قصيدته المشهورة:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
(1/146)
فعفا عنه توفيق، وأعاد إليه راتبه، وقام بعد ذلك بعدة رحلات إلى الحجاز ولبنان، ولقي فيهما كل ترحاب وإجلال لمكانته الأدبية، ولما رأى فيه أهلها من سعة علم وعظيم فضل وحسن حديث.
وفي سنة 1888 مَثَّلَ مصر في مؤتمر المستشرقين باستكهلم عاصة السويد, وصحبه نجله أمين باشا فكري، وقام بسياحة عظيمة شهد فيها معظم عواصم أوربا, ولما عاد عكف على تدوين رحلته، ووصف ما شاهد من المناظر في أوربا، وما رأى من آثار الغرب، وكيف استطاع العقل البشريّ أن يسخر الطبيعة ومواردها لخدمة الإنسان، غير أن المنية لم تمهله, فقضى بعد عودته بزمنٍ وجيزٍ، وأتم نجله أمين كتابة الرحلة, وسجلها في كتاب أسماه: "إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا" في سنة 1892, هذا وقد توفي عبد الله فكري سنة 1307هـ -1889م.
ونرى من حياته التي سردنا تاريخها موجزًا، أنه ديوانيّ النشأة والمربى والعمل، فلا بدع إذا تجلّى أثر عبد الله فكري في الكتابة الديوانية، ولما كنا في صدد ذكر الشعراء الذين ظهروا في عصر إسماعيل, والمدارس التي ينتمون إليها، وقدَّمنا أن عبد الله فكري يمثل إحدى هذه المدارس التقليدية، وكان حريًّا بنا أن نذكر نماذج من شعره، على أنه يمثل بكتابته تلك المدرسة التي تظهر فيها شخصية الكاتب والأديب واضحةً أكثر مما يمثلها بشعره، بل إن شعره لينتمي إلى مدرسة علي أبي النصر أو الساعاتي، وذلك لأن عبد الله فكري تفوق في نثره تفوقًا باهرًا, وكان أكثر منه شاعرًا.
كان يمثل في شعره مدرسة الصنعة لا مدرسة الطبيعة، يؤرخ لكل مناسبة، ويشطر يقول الألغاز والأحاجي، ويقول كما يقول الندماء في وصف الآنية ومجالس الأنس والأزهار وغير ذلك، ويكثر من المحسنات ينتزعها انتزاعًا، ويحشرها حشرًا شأن المدارس التقليدية، وقلما انطلق على سجيته، وترك نفسه لطبيعتها.
(1/147)
اسمعه يؤرخ زواج الأمير حسين كامل بالأميرة عين الحياة:
بشر بأحسن فألٍ ... يقول والقول يصفو
أرّخ لنحو حسين ... عين الحياة تزف
ويقول في هذه المناسبة:
بشرى يطالع سعد ... بالبشر واليمن آتٍ
تزف للبدر شمس ... تسموا على النيرات
بخير فأل سعيد ... يومي لطول حياة
يقول والفأل حق ... عن سيد الكائنات
أرخ لنحو حسين ... تزف عين الحياة
94 128 487 130 450
المجموع 1289.
ويؤرخ لانتصار الأتراك على الروس، وأخذهم ميناء "سباستبول" بعد تخريب قلاعها سنة 1272هـ, وكل مصراع من المطلع يساوي هذا التاريخ.
لقد جاء نصر الله وانشرح القلب ... لأن بفتح القرم هان لنا الصعب
وقد ذلت الأعداء من كل جانب ... وضاق عليهم من نفيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط هولها ... يكاد يذوب الصخر والصارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت ... كئوس منون قصرت دونها السحب
تجرع آل الأصفر الموت أحمرًا ... وللبيض في مسود هاماتهم نهب
تراهم سكارى، للظبا في رءوسهم ... غناء، ومن صرف المنايا لهم شرب
وقد سقنا مع البيت الأول الذي فيه التأريخ بعض أبيات من هذه القصيدة لنرى مدى قوته في وصف الحرب، وقد مرَّ بنا شاعر معاصر له، أو قريب منه، أجاد في هذا الغرض، ألا وهو الساعاتي, إن أثر الصنعة، وضعف النسج، وضحالة الخيال، وتفاهة المعاني، واقتناص المحسنات، كلها محشودة في هذه الأبيات.
(1/148)
وهاك مثلًا آخر يقلد فيه القدماء في معانيهم وأخليتهم, بما لا يناسب قاهريته وحضارته، فتشبيهاتٌ قديمة، وخيالٌ سخيفٌ، وديباجة ضعيفة، وجري وراء المحسنات، وموضوع هذه القصيدة المديح، وقد ابتدأها بالنسيب كما كان يفعل القدماء قال:
أزاحت ظلام الليل عن مطلع الفجر ... وقامت تدير الشمس في كوكب دري
وهزت على دعص النقا غصن بانة ... ترنح في أوراق سندسه الخضر
ومالت بها خمر الصبا مثلما انثنت ... نسيم الصبا بالأملد النام النضر
من الترك لم تترك لصب محجة ... إلى الصبر أو نهجًا لعذل إلى العذر
وبيضاء سوداء اللحاظ غريرة ... من الغيد ريا الردف ظامئة الخصر
ممنعة لا تجتني ورد خدها ... يد اللحظ إلا بين شوك القنا السمر
من الروم مثل الريم جيدًا ولفتةً ... ولحظًا ومثل الغصن والشمس والبدر
فهي لم تترك نصب محجة إلّا أنها من الترك، وهي مثل الريم جيدًا, ولفتة لأنها من الروم، ومالت بها خمر الصبا مثلما انثنت نسيم الصبا بالأملد النضر، وهزت على دعس النقا غصن بانة.. وغير ذلك من هذه العبارات المحفوظة والقوالب المعدة، وذلك الوصف الماديّ الرخيص الذي لا يمثل المرأة إلّا سلعةً.
وقد قال في الأغراض التي نظم فيها كتاب الدولة الأيوبية ورؤساء دواوين الإنشاء، فكان يصف الآنية والأزهار، ويشبه بالنفائس على طريقة الظرفاء المقتدى بهم في عصر الأيوبيين وما بعده، خلال المنادمات والمطارحات، فمن ذلك قوله يصف نارًا موقدة في فحم حوله رماد:
كأنما الفحم ما بين الرماد وقد ... أذكت به الريح وهنا ساطع اللهب
أرض من المسك كافور جوانبها ... يموج من فوقها بحر من الذهب
وقال في الورد:
كأن وردًا في كمه ... يزهو بثوبي خضرة واحمرار
ياقوتة في سندس أخضر ... أو وجنة خط عليها العذار
(1/149)
وكان يقول الشعر في أغراض التظرف مثلما قالوا، وله في هذا بعض المقطوعات الصغيرة، فمن ذلك قوله مجيبًا مليحًا, قال له: كيف أصبحت؟
أصبحت من فرط وجدي فيك ذا شجن ... وكانت الروح كادت أن تفارقني
فمذ لقيتك كل الهم فارقني ... وألف الله بين الروح والبدن
وقال في مليحٍ رآه أول الشهر مستعملًا الجناس التام:
وبدر تبدّى شاهرًا سيف جفنه ... فروع أهل الحب من ذلك الشهر
وليلة أبصرنا هلال جبيته ... علمنا يقينًا أنها غرة الشهر
وقال يتغزل:
كتبت ولولا دمع عيني سائل ... تلظّى جوابي من تلهب أنفاسي
وعندي من الأشواق ما لم يبح به ... لسان يراع في مسامع قرطاس
ولي من تباريح الهوى وشجونه ... أحاديث تلهي الشرب عن لذة الكأس
ولو كنت من دهري أنال مآربي ... لسرت لكم سعيًا على العين والرأس
وكتب يعتذر للشيخ عبد الهادي نجا الإبياري عن دعوة وصلته منه متأخرة(2).
يا من بديع حلاه ... تزري البديع وتنسى
وفات عقيلة نظم ... تتلوا فصاحة قس
كالبدر لاح سناه ... من بعد مغرب شمس
فغادرتني صريعًا ... نشوان من غير كأس
فمن بالعفو إني ... منه على غير بأس
وإن عتبت فحق ... وما أبرئ نفسي
(1/150)
وكتب إلى أحمد فارس الشدياق ردًّا على قصيدةٍ له:
تفديك نفس شج عليل آسى ... عز الدواء له وحار الآسي
أضناه طول أساه حتى إنه ... يحكي لفرط ضناه ذاوي الآس
هزته سارية النسيم، وقد جرت ... بشذا فروق أريجة الأنفاس(3)
فكأن في طي الشمال، إذا انثنى ... من نشرها طربًا، شمول الكاس(4)
وكأنها حملت إليَّ رسالة ... غراء جاءت من أغر مواسي
كمليحة عذراء وافت صبها ... من بعد طول تعذر وشماسي
يفتر مبسمها بحسن حديثها ... عن سحر فاتن جفنها النعاس
تدنو فيطمع عاشقيها أنسها ... ويشير عز دلالها بإياس
أو روضة فيحاء حياها الحيا ... من صوب محلول العرى رجاس(5)
ولك هذا الذي رويناه له شعر مصنوع لا يفصح عن طبع وسليقة، أو شعور دفعه إلى القول بما يختلج في نفسه، ومن هذا النمط قوله في الحكمة والمواعظ:
إذا رمت المروءة والمعالي ... وأن تلقى إله العرش برًّا
فلا تقرب لدى الخلوات سرًّا ... من الأفعال ما تخشاه جهرًا
وقوله ينصح ولده أمين وهو صغير:
إذا نام غر في دجى الليل فاسهر ... وقم للمعالي والعوالي وشمر
وخل أحاديث الأماني فإنها ... علالة نفس العاجز المتحير
وسارع إلى ما رمت ما دمت قادرًا ... عليه، فإن لم تبصر النجح فاصبر
ولا تأت أمرًا لا ترجى تمامه ... ولا موردا ما لم تجد حسن مصدر
وعود مقال الصدق نفسك وارضه ... تصدق، ولا تركن إلى قول مفترى
ودع عنك إسراف العطاء ولا يكن ... لكفيك في الإنفاق إمساك مقتر
ولا تقف زلات العباد تعدها ... فلست على هذا الورى بمسيطر
(1/151)
وهذا من الشعر التعليميّ الذي لا ينبيء عن خيال عميق؛ لأن الحكمة نظم للحقائق المجردة، والحقيقة المجردة منتزعة من صميم الوجود، وقائل الحكمة السائرة عالم بطباع الناس, يضع العالم أمام ناظريه, ويشرف عليه من علٍ، وكأنه ينظر في كفه فيستقري الحوادث والطباع، ثم ينطق بالحكمة تصلح لكل زمان ومكان، من أمثال ما نظم المتنبي وغيره من فحول الشعراء، وأين منهم عبد الله فكري في مواعظه المدرسية هذه؟ على أنها تعد من خير شعره وأسلسه وأوضحه.
ومن شعره، وربما كان فيه من الشاعرية، لصراحته وتصويره نفسية امرأة فرنجية تتجر بعرضها, وتتهافت على المال، وما حدث له معها:
وهيفاء من آل الفرنج حجابها ... على طالبي معروفها في الهوى سهل
تعلقها، لا في هواها مراقب ... يخاف ولا فيها على عاشق بخل
إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة ... من الأصفر الإبريز زل بها النعل
فلما تعرضنا الحديث تعرضت ... لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل
فرحت بها في حيث لا عين عائن ... ترانا، ولا بعل هناك ولا أصل
وبت ولي سكران من خمر لحظها ... وراح ثناياها، ومن خدها نقل
وقمت ولم أعلم بما تحت ثوبها ... وإن كان شيطاني له بيننا دخل
ومن خير شعره قوله:
أنسيت ليلتنا وقد خلص الهوى ... منا، وحبل الوصل وهو متين
بتنا على فرش العفاف وبيننا ... نجوى ترق لها الصفا وتلين
ومن أحسن شعره قصيدته التي يعتذر فيها للخديو توفيق، ويتنصل من اشتراكه في الثورة، ويطلب إرجاع راتبه المقطوع، وإن كانت معانيها مما يخطر لكل شاعر وليس فيها جديد، وهي تنبيء عن تلك الروح الذليلة التي تمثلت في كبار رجال الدولة إبّان عصور الظلم:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
وقف خاضعًا واستوهب الإذن والتمس ... قبولًا وقبل سدة الباب لي عشرا
(1/152)
وفيها يقول:
مليكي ومولاي العزيز وسيدي ... ومن أرتجي آلاء معروفة العمرا
لئن كان أقوام عليَّ تقوَّلُوا ... بأمر فقد جاءوا بما زوروا نكرا
حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالباب والميزاب والكعبة الغرا
لما كان لي في الشر باعٌ ولايد ... ولا كنت من يبغي مدى عمره الشرا
ولكن محتوم المقادير قد جرى ... بما الله في أم الكتاب له أجرى
أتذكر يا مولاي حين تقول لي ... وإني لأرجو أن ستنفعني الذكرى
أراك تروم النفع للناس فطرة ... لديك، ولا ترجو لذي نسمة ضرا
فعفوًا أبا العباس لا زلت قادرًا ... على الأمر، إن العفو من قادر أحرى
أيجمل في دين المروءة أنني ... أكابد في أيامك البؤس والعسرا
ولعلنا بعد لك هذا الذي رويناه له, قد أخذنا فكرةً واضحةً عن منزلته بين الشعراء، وقد ذكرنا آنفًا أنه اشتهر بالكتابة، وأنه كاتب أديب أكثر منه شاعر، وشعره في الواقع قليل إذا قيس بما ترك من مقالات ورسائل، وكتب وشروح وغير ذلك.
نثره:
استطاع عبد الله فكري أن يرتقي بالكتابة الديوانية، وأسلوب الرسائل والمكاتبات إلى منزلة سامية، وأعاد إلى الأذهان عصر رؤساء ديوان الإنشاء في العصور القديمة, واتخذ له خاتمًا {إني عبد الله آتاني الكتاب} ، لأن هذه الآية وافقت سنة ميلاده 1250هـ, كما كان لهؤلاء الرؤساء خواتم.
وكان له أسلوبان في نثره: أحدهما: وهو الغالب, وبه كتب أكثر رسائله, هو ذلك الأسلوب الذي يحتفي بعبارته، وموسيقاه, ويختار ألفاظه، وبه خيال شعريّ، ومعانٍ دقيقة معارضًا فيه أسلوب القاضي الفاضل، أو بديع الزمان، أو الخوارزمي، أو ابن العبيد، وثانيهما: أسلوبٌ مرسلٌ سهلٌ يجري مجرى الكلام العاديّ, وهو أسلوب الصحافة في عهده, ولكنه قليل فيما ترك من آثار.
(1/153)
ومن الأسلوب الأول قوله من رسالةٍ لصديق، بَيَّنَ فيها أحوال أهل العلم في عصره, منتقدًا هذه الأحوال، متهكمًا بهم في لهجةٍ ساخرةٍ لاذعةٍ، قال: "كتبت والذهن فاتر من وهن الدفاتر، والتبييض والتسويد، والتقييد، والتسديد، والترجمة وكثرتها، والهمة وفترتها، والماهية وقلتها، النفس وذلتها، وراتبي لا يكفي أجرة البيت، ولا يفي ثمن الماء والزيت, وبالأمس وعد الوكيل بالزيادة، واعتذر اليوم بالأصيل على العادة، على أنه لو حصلت زيادة، فلزيد ولعمرو، إلى آخر الزمر، ولله الأمر، أحوال متبددة، ونفوس متبلدة، وأشغال متعددة، وإخوان خُوَّان, وخلان غيلان، ورفاق، وما أجمل الفراق.
وقلت:
إلام أعاني الصبر والدهر غادر ... وحتى متى أشكو وما لي عاذر
ولو أنني أشكو عظائم شدتي ... لميت لرقت لي العظام النواخر
وسألت عن فلان وفلان، وهيان بن بيان، ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتظاهر بشعار فضله، ولو كان العلم بلحيةٍ تعظم وتطول، وشوارب تحفّ وتستأصل، وعيون على ما بها من غمضٍ ورمضٍ تكحل، وعمامة تعظم حتى ترذل، وطيلسان يلف ويسدل، وكم يوسع ويسبل، وأحاديث خرافة تقص وتنقل، ومحفظة تفعم وتثقل، وسواك يظهر من العمامة نصفه، وكتاب يخرج من الجيب طرفه، ثم بتشدق في الكلام، وبتباله في المرام، وتعسف في الأفهام، وحرص على الحطام، ثم يقول الإنسان: حضرت درس فلان، وسمعت من لفظه باللسان، وقضيت في العلم كذا سنة من الزمان، فهم أعلم من أقلته الغبراء، وأفقه من أظلته الخضراء، وإن كان للعلم غير هذه الآلات، فما لهم سوى هذه الحالات, غاية الأمر أنهم قضوا أرذل العمر في كتب معدودة، وشروح موجودة، وهم يكررونها ولا يدرونها، ويقررونها ولا يحررونها، ويتداولونها ولا يعقلونها، ولو صرف حماري هذا العمر فيها، لأصبح فقيهًا، وأضحى نبيهًا، والذي يظهر مينهم وشينهم, وعلامة ما بيننا وبينهم, أن يؤمر أحدهم برقعةٍ تكتب لحاجة معهودة،
(1/154)
ويمتحن بكتاب غير هذه الكتب المعدودة، فيه بعض كلام العرب وأشعارها، وشيء من وقائعها وأخبارها، فإن كتب فصيحًا, وفهم مليحًا، عرفنا أنه شم عرف العلم وذاق طعم الفهم، وسلمنا إليهم ما يدعون، وتركنا لهم ما يأتون وما يدعون، وإن ارتبك للرقبة، ووقف حمار الشيخ في العقبة، عرفنا حاله وقلنا له:
أيها المدعي سليمى سفاهًا ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو
وقد مررت بالأمس على أحدهم في الدرس، يقرأ القطر لابن هشام، ويلحن لحن العوام، ومررت بالأمس بآخر يدرس الكافي في علمي العروض والقوافي يقرر له:
قف على دراهم وابكين ... بين أطلالها والدمن
فلا وربك ما أقام له وزنًا، ولا عرف له معنى، مع سهولة مبناه وظهور معناه ... إلخ.
ومن هذا النثر المسجوع قوله يصف حديقة:
ثم خرجت إلى حجة حالية، أعدت فيها فرش عالية، وأدوات غالية، وسطعت بها روائح الطيب والغالية، وقد أكملت وجوه تحسينها، وأتمت أسباب تزيينها، وهي على حديقة ذات أفنان، وأنواع من الزهور وألوان، وثمرات حسان، وقد فاح الطيب من محاجر أزهارها، وصاح خطيب العندليب على منابر أشجارها:
رياض كديباج الخدود نواضر ... وماء كسلسال الرضاب برود
فجلست أجيل فيها الظر، أتأمل محسان الروض غب المطرن وأطالع ما رقمه الطل في صحائف الغدارن، وأرى خواتم الزهر حين تسقط من أنامل الأغصان:
(1/155)
من قبل أن تشرف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
ومن ذلك الضرب من النثر الذي يذكرنا بكُتَّاب الإنشاء في الدولة الأيوبية وما قبلها, وفيه بعض القوة والعافية في سجعاتٍ قصيرة الفقرات نوعًا قوله من رسالة:
سلام يعبر عن الوداد طيب عبيره ، ويخبر عن إخلاص الفؤاد لطف تعبيره، وثناء على محاسن تلك الشمائل، أرق من نسمات الشمائل(6)، وتحية بهية تباهي الخمائل بنفحات أورادها، وأدعية مرضية جعلتها الألسنة خير أورادها، وسؤال عن المزاج الزاهر, وصحة الخاطر الباهر، لا زلتم محل نعمة يتصل على مدى الأيام بقاؤها، ويزيد على مر الشهور الأعوام بهاؤها، ولابرحت ثغور الإقبال إليكم بواسم، ورياح الآمال لديكم مواسم.
وبعد، فإني بي من الأشواق، ما تضعف عن حمله إلى حماكم الأوراق، ومن التأسف على ما حرمته من لقياكم، والتلهف إلى مطالعة محياكم, ما يقصر عن وصفه لسان اليراعة، ويقصر دون وصفه بيان البراعة، ويضيق عنه نطاق العبارة، ولا ينفسح له ميدان الإشارة.
ومن رسائله التي تذكرنا بأسلوب العصر العباسيّ الثاني, عصر الصاحب بن عباد, والخوارزمي، وابن العميد قوله معزيًا:
يعزُّ عليَّ أن أكاتب سيدي معزيًا، أو ألم به في ملمة مسليًا، ولكنه أمر الله الذي لا يقابل بغير التسليم، وقضاؤه الذي ليس له عدة سوى الصبر الكريم، وقد علم مولاي "أجمل الله صبره, ولا أراه من بعد إلّا ما سرَّه, وشرح صدره" أن الله -جل ثناؤه وتباركت آلاؤه- إذا امتحن عبده فصبر, آجره وعوضه بكرمه، كما أنه إذا أنعم عليه فشكر زاده، وضاعف له نعمه، وقد عرف من حال سيدي في الشكر على السراء، ما يستوجب المزيد منها، والظن بحزمه وعلمه أن يكون حاله في الصبر على الضراء ما يستجلب الأجر والتعويض عنها.
(1/156)
قد استعمل عبد الله باشا فكري الأسلوب المسجوع في كل بابٍ وغرضٍ، حتى في التقارير الفنية، والمنشورات العامة و"الفرمانات" فمن ذلك صورة "الفرمان" الآتي بتنصيب محافظ:
"صدر هذا الفرمان المطاع، الواجب له القبول والاتباع، خطابًا إلى الحكام والعلماء، والقضاة والأعيان، والوجوه والعمد ومشايخ البلدان، وعموم الأهالي المتوطنين محافظة كذا بجهات السودان، ليكون معلومًا لديكم بوصول هذا المنشور إليكم، أنه قد نصَّت إرادتنا تنصيب فلان محافظًا عليكم، لما توسمناه فيه من الدراية, والاستعداد والسلوك في طرق الرشاد، وبذل الهمة في أمور المصلحة ومزيد الاجتهاد ... إلخ".
ومن هذه النماذج المتقدمة نرى أن هذا الأسلوب على ما به من سجعٍ، فإنه سهلٌ متين العبارة، تقل فيه المحسنات المتعمدة، ويطرق أغراضًا متعددة؛ منها: الديواني البحت، ومنها: ما يستعمل فيه الشعر, وقد أفاد هذا الأسلوب الكُتَّاب من بعده، وصار لهم قدوةً ولكنه أخر تخلص النثر من طريقة هذه المدرسة الديوانية حتى أوائل عصرنا الحاضر؛ لأن أرباب هذا الأسلوب شغلوا المناصب الرفيعة, فظن الشادون في الأدب أنهم لو قلدوهم لوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فتمسكوا بأسلوبهم أمدًا غير يسير, والحق أن الغرض الأدبيّ المهم يحتاج إلى عبارةٍ خاصةٍ يحتفي بها الكاتب بعض الاحتفاء، ويضعها في قالب جميل تناسب الغرض الذي قيلت فيه، حتى لا تذهب بنفاسة الموضوع تفاهة العبارة، وتجويد العبارة محبوب مرغوب فيه على شريطة ألّا يضحي بالمعنى من أجل لفظة, أو سجعة, أو محسنٍ خاصّ.
ولقد استطاع عبد الله فكري أن يسترد بأسلوبه هذا للغة العربية مكانتها التي فقدتها عدة قرون، وأن يزيح التركية من أمامها، ويثبت قدميها في الدواوين, وفي لغة الرسائل، واضحة، أدبية، جذابة.
أجل! لم يكن عبد الله فكري من هؤلاء الذين طرقوا موضوعات جديدة في كتاباتهم، بل استخدموا مقدرتهم البلاغية في الأغراض القديمة من تعزية وتهنئة، ووصف ومدح, واعتذار وعتاب، ومنشورات على لسان الأمير، وتقارير عن مهمات وكلت إليهم، وغير ذلك من الأغراض المطروقة، ولم يكن للأفكار الجديدة، ولا
(1/157)
للأغراض القومية أي تأثير عليه، وقد زاد نفوذ الأجانب، وقامت الثورة العرابية، ونكبت مصر بالاحتلال، ولم يسمع له كلمة تعبر عن هذه الأحداث، ولم يتألم لألم وطنه وذلته, كما تألم الشدياق، وأديب إسحاق، وعبد الله النديم، وجمال الأفغاني, وغيرهم، وما ذلك إلّا لأنه كان مثال الموظف الديوانيّ المخلص، البعيد عن الاشتغال بالمسائل العامة، والأمور الهامة.
ومن الأسلوب المرسل الذي تأثر فيه رجال الصحافة لعهده، ولا سيما أسلوب الجوائب, قوله من رسالة بعث بها إلى المرحوم عبد الله أبي السعود صاحب جريدة "وادي النيل":
"قد كنت وعدت فيما حررته سابقًا أني أكاتب حضرتكم بعد بما تيسر على حسب الإمكان، ومساعدة الزمان، والآن أريد أن أخبركم بمحاورة جرت بيني وبين بعض المتورعين من الناس فيما يتعلق بصحيفة "وادي النيل" وكتاب الجغرافية المطبوع في وريقاتها, وذلك أني رأيته ينكر على حضرتكم بعض المباحث المندرجة في ذلك الكتاب؛ ككون الأرض كرة، والقبة السماوية متخيلة، وما قيل في كيفية الكسوف والخسوف, ونحو ذلك، بعد اعتراف منه بأن الكتاب المذكور كتابٌ مناسب في موضوع مهم تدعو إليه الحاجة لمعرفة مواقع البلاد ومحالها, وأقسام الأرض وأحوالها، فإن هذا لا تنكر مزيته وفائدته في السياحة والتجارة وأمور التمدن والحضارة، فقلت له: قد علمت أن منشئ "وادي النيل" ليس مؤلف الكتاب المذكور، وإنما هو مترجم له، والمترجم ناقل ليس عليه عهدة ما ينقله، وإنما يلزمه صحة النقل، وتوفية حق الأداء على صحته، ولا يلزمه ما يترتب على الأصل المنقول عنه من نقدٍ ومؤاخذةٍ بعد عزوه لأصله، ونسبته إلى قائله، فلو سلم أن جميع تلك المباحث مما ينكر, فما عليه شيء من ذلك، فقد قالوا: إن ناقل الكفر ليس بكافر ... إلخ(7) وهي رسالة طويلة تقع فيما يقرب من عشرين صفحة.
ومن نثره المرسل كذلك قوله في تقريرٍ عن رحلته إلى استوكهلم؛ حيث حضر مؤتمر المستشرقين:
(1/158)
"ثم أشير إلي فقمت، وأنشدت قصدةً كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس, فأتممتها في الطريق، وبيضتها في استوكهلم، فابتدأت أقول:
اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس نهارها أنوار
ومضيت فيها إلى آخرها، وصفق الناس لكل من خطب، وبالجملة لي لما أتممت الإنشاد، وخاطبني أناس منهم باستحسانها في اليوم، وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها, وساورني يطلب نسختها، فأخذها في الحفلة، وخطب بعد ذلك أناس منهم "المسيو شفر" وافد فرنسا، وكانت هذه الحفلة خاصة بعد ذلك ليس في تقديم موضوعات علمية ... إلخ".
على أن عبد الله فكري لم يكثر من هذا الأسلوب المرسل، وإنما كان من غواة النثر المسجوع، وهو بأسلوبه يمثل دورًا هامًّا مرَّ فيه النثر العربيّ من مرحلة الغثاثة والركاكة, إلى مرحلة القوة وتوخي الفصاحة وقواعد اللغة، بل والتأنق في الأسلوب، ولم يذهب تقليده لرؤساء ديوان الإنشاء في القديم بشخصيته وطابعه، بل لا يزال يعطينا صورةً عن عصره، ولم يأسره حب البديع ومحسناته, فيذهب بمعانيه بإغراقه فيه.
آثاره:
وتوفي سنة 1890، وله عدة مؤلفات منها: المقامة الفكرية في المملكة الباطنية، المطبوعة سنة 1289هـ، ومنها الفوائد الفكرية، وشرح بديعية محمود صفوت الساعاتي، ومنها جزء من شرح ديوان حسان بن ثابت، وكتاب "نظم اللآل في الحكم والأمثال" وكتاب "آثار الأفكار ومنثور الأزهار" طبع منه تسع ملازم بروض المدراس"، ومنها الفصول الفكرية للمكاتب المصرية، ورسالته التي كتبها في المقارنة بين الوراد في نصوص الشرع, والمقرر في علم الهيئة الفلكية، وغير ذلك من المراسلات والمقالات، وله أيضًا "إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا" وقد أتمه ولده أمين بعد وفاته, وقد جمعت معظم آثاره في كتاب الآثار الفكرية، وترجم له في أوله المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده.
(1/159)
هذا وقد كان لعبد الله فكري عناية برواية الحديث, وله طرق عديدة وأسانيد سديدة(8).
5 - السيد عبد الله الألوسي(9):
ولد في بغداد من أسرة مشهورة بالعلم سنة 1248هـ-1832م، وتلقى العلم على والده، فعرف شيئًا من النحو ورويّ الشعر، وقرأ القرآن، والتفسير, والحديث, وغير ذلك من العلوم التي كانت تدرس في المساجد، والتي لا تزال تدرس في الأزهر حتى اليوم في الكتب الموروثة(10).
ولم نترجم للسيد الألوسي، لأنه أديب نابغة، أو شاعر ملهم، وإنما لنعطي صورة عن الأدب في البلاد العربية إبَّان هذه الفترة التي نتحدث عنها، حتى نصدر حكمًا صائبًا عن الأدب العربيّ وتطوره، وأنه لم يكن في بلدٍ أحسن منه في أخرى، وأن النهضة أخذت تدب فيه شيئًا فشيئًا.
لم يعمر السيد عبد الله طويلًا، فقد مات سنة 1291هـ-1874م, عن ثلاثة وأربعين عامًا، وقد قضى هذه السنين القصيرة عليلًا سقيمًا، واشتغل بالتدريس حقبةً في بغداد، واشتهر بحسن إلقائه، وتوضيحه لعويص المشكلات العلمية، ولكن الحياة لم تكن ميسرةً له، فمن أسرة كبيرة العدد، وصحة سقيمة، وإلى فقر وعدم تقدير، فعزم على الرحلة، وباع كل ما يملك، ويمم صوب الآستانة، ولكنه لم يصل؛ لأن قطاع الطرق سلبوه كل عتاده، وتركوه عاريًا في الصحراء، ولولا أن الله مَنَّ عليه بمن التقطه وأرجعه إلى بغداد, لقضى جوعًا وعريًا، ورجع صفر الكف من زاد الدنيا، ولم يكن ممن يجيدون التزلف والملق, فساءت حاله, وطالما عرض عليه القضاء قبل هذا فكان يرفضه ورعًا وزهدًا، بيد أنه الضائقة أحرجته, فاضطر إلى قبوله, وتولَّى قضاء البصرة سنتين ثم مات.
(1/160)
وقد ترك عدة مؤلفاتٍ في علوم اللغة، وله شعرٌ لطيفٌ ومقالات أدبية جمعها ابنه السيد محمود شكري الألوسي، فوقعت في مائة صفحة، ومن نثره يصف مطرًا شديدًا متواليًا، وفيضان نهر دجلة، وهذا النثر يمثل مدرسة الصنعة والسجع والتكلف، أو انتزاع الاستعارات وحشدها ركامًا عجيبًا، وهو دون عبد الله فكري منزلةً ولا ريب من حيث الأسلوب، والفكرة، وتنوع الموضوعات, قال من رسالة بعث بها لأخويه يصف هذا المطر:
" ... إنه "المطر" عند غروب شمس الأربعاء، تنفس بفم الشوق الصعداء، ورمى بوجه الأرض حصى من كف السماء، فناداه الليل -وقد تحقق أن الدائرة على الأرض- وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وحاك الدوي بمكوك الريح من سدى البخار ولحمته شققًا سودًا، وصبغها الليل فكانت ظلماتٍ بعضها فوق بعض, وطنَّبها خيمة على أكتاف العراق في الطول والعرض، واشتد الريح والظلام, وشرع جنى الليل يخوف صبي النهار, كلما أحس منه بقيام، حتى سلَّ الفجر قرضًا به الأبيض من غمده الأسود، وأغمد الليل قامة الجوزاء، بعد أن كان بها على النهار يتهدد"(11).
6- حسين بيهم(12):
ولد مسين ببيروت سنة 1249هـ 1813م، وأخذ من العلم المعروف في عصره قسطًا غير قليل، ثم انقطع للتجارة، ولكن حنينه إلى العلم جذبه إليه ثانيةً فنال شهرةً, وتولى عدة مناصب كبيرة؛ كنظارة الخارجية, ورئاسة الأحكام العدلية، ومثَّلَ بلاده في مجلس النواب التركيّ مدةً، ولما عاد ترك الوظائف وتفرغ للأدب، ومن آثاره رواية أدبية وطنية مثلت مرارًا، وقرظها الأدباء, وشعره لا يتميز عن مدرسة أبي النصر والليثي، وقد وفيناه نعتًا عند الكلام عليهما, ومن ذلك قوله يؤرخ إنشاء "التلغراف" في بيروت:
(1/161)
لله در السلك قد أدهشت ... عقولنا لما على الجو ساق
فأعجب الكون بتأريخه ... شبيه برق أو شبيه البراق
"1277"
وقال مشطرًا:
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... وحباكها من فضله الرحمن
ناداك طائر يمنها وسعودها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... واملك بها الغبراء فهي سنان
واصعد بها العلياء فهي معارج ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وقال يعزي صديقًا بفقد ماله:
لقد غمنا والله والصحب كلهم ... مصابٌ دهاكم بالقضا حكم قادر
كأن شرارًا منه طار لأرضنا ... فأحرق أحشاء الورى بالتطاير
ولكننا قلنا مقالة عاقل ... يسلم للباري بكل المظاهر
إذا سلمت هام الرجال من الردى ... فما المال إلّا مثل قص الأظافر
فكن مثل ظن الناس فيك مقابلًا ... لذا الخطب بالصبر الجميل المصابر
ولا تأسفن إذا ضاع مال ومقتنى ... فربك يا ذا الحزم أعظم جابر
وإن حياة المرء رأس لماله ... سلامته تعلو جميع الخسائر
وهو شعر بادي الضعف، كثير العوار، لا يحتاج منا وقفة أو نقدًا.
(1/162)
__________
(1) أبوه محمد بليغ بن الشيخ عبد الله, وكان الشيخ عبد الله، من علماء المدرسين بالأزهر، أما محمد والد عبد الله فكري فكان مهندسًا بالجيش، ووصل فيه إلى رتبة صاغ، وحضر عدة مواقع حربية منها حرب المورة، وفيها تزوج أم عبد الله فكري، وولدته بالحجاز حين ذهبت مع زوجها في الحرب السعودية.
(2) وصلت رقعة الشيخ الإبياري بعد غروب الشمس وفيها يقول:
يا نور فكري وسري ... وروح روحي ونفسي
لدى شامة شام ... لطيف معنى وحس
يود كل أديب ... لقياه رغبة أنس
فإن تمن فشرف ... من قبل مغرب شمس
(3) فروق من أسماء استامبولي
(4) الشمول: الخمر
(5) محلول العرى: المطر الغزير الذي لا يحجبه شيء، والرجاس: الشديد الصوت
(6) الشمائل الأولى: الطباع، والشمائل الثانية: جمع شمال.
(7) راجع الآثار الفكرية 221-222.
(8) راجع الآثار الفكرية 9-11.
(9) هو ابن السيد محمود الألوسي "أبو الثناء " الذي ترجمنا له سابقًا.
(10) راجع أعلام العراق لبهجت الأثري, ص89.
(11) راجع أعلام العراق, تجد فيه الرسالة كاملة, ص48-50.
(12) أبوه: السيد عمر بيهم, وكان من أعيان بيروت وأدبائهم، ولا تزال أسرة بيهم حتى اليوم ذات مكانة في بيروت.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|