أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-8-2019
497
التاريخ: 19-8-2019
1097
التاريخ: 17-8-2019
455
التاريخ: 20-8-2019
569
|
إعلم - أيدك الله تعالى - أن أصحابنا دون المتكلمين يقولون بالبداء، ولهم في نصرة القول به كلام، ومعهم فيه آثار. وقد استشنع ذلك منهم مخالفوهم، وشنع عليهم به مناظروهم، وإنما استشنعوه لظنهم أنه يؤدي إلى القول بأن الله تعالى علم في البداء ما لم يكن يعلم، فإذا قدر الناصر للبداء على الاحتراز من هذا الموضع فقد أحسن، ولم يبق عليه أكثر من إطلاق اللفظ، وقد قلنا إن ذلك قد ورد به السمع، وقد اتفق لي فيه كلام مع أحد المعتزلة بمصر، أنا أحكيه، لتقف عليه.
كنت سألت معتزليا، حضرت معه مجلسا، فيه قوم من أهل العلم، فقلت له: لم أنكرت القول بالبداء؟ وزعمت أنه لا يجوز على الله تعالى. فقال: لأنه يقتضي ظهور أمر لله سبحانه كان عنه مستورا، وفي هذا أنه قد تجدد له العلم بما لم يكن به عالما. فقلت له: أبن لنا من أين علمت أنه يوجب ذلك، وتقتضيه، ليسع الكلام معك فيه؟ فقال: هذا هو معنى البداء، والتعارف يقضي بيننا، ولسنا نشك أن البداء هو الظهور، ولا يبدو للآمر إلا لظهور شيء تجدد من علم أو ظن لم يكن معه من قبل.
وبيان ذلك: أن طبيبا لو وصف لعليل أن يشرب في وقته شراب الورد، حتى إذا أخذ العليل القدح بيده ليشرب ما أمره به، قال له الطبيب في الحال: صبه ولا تشربه، وعليك بشرب النيلوفر (1) بدله، فلسنا نشك في أن الطبيب قد استدرك الأمر وظهر له من حال العليل ما لم يكن عالما به من قبل، فغير عليه الأمر لما تجدد له من العلم، ولولا ذلك لم يكن معنى لهذا الاختلاف. فقلت له: هذا مما في الشاهد وهو من البداء، فيجوز عندك أن يكون في البداء قسم غير هذا؟ فقال: لا أعلم في الشاهد غير هذا القسم، ولا أرى أنه يجوز في البداء قسم غيره ولا يعلم. فقلت له: ما تقول في رجل له عبد، أراد أن يختبر حاله وطاعته من معصيته، ونشاطه من كسله، فقال له في يوم شديد البرد: سر لوقتك هذا إلى مدينة كذا، لتقبض مالا لي بها، فأحسن العبد لسيده الطاعة، وقدم المبادرة، ولم يحتج بحجة، فلما رأى سيده مسارعته، وعرف شهامته ونهضته، شكره على ذلك، وقال له: أقم على حالك، فقد عرفت أنك موضع للصنيعة، وأهل للتعويل عليك في الأمور العظيمة، أيجوز عندك هذا؟ وإن جاز فهل هذا داخل في البداء أم لا؟ فقال: هذا مستعمل ورأينا في الشاهد، وقد بدا فيه للسيد، وليس هو قسما ثانيا، بل هو بعينه الأول، هو الذي لا يجوز على الله عز وجل.
فقلت له: لم جعلت الجمع بينهما من حيث ذكرت أولى من التفرقة بينهما، من حيث كان أحدهما مريدا لإتمام قبل أن يبدو له فيه فينهى عنه، وهو الطبيب، والآخر غير مريد لإتمامه على كل وجه، وهو سيد العبد، بل كيف لم تفرق بينهما من حيث أن الطبيب لم يجز قط أن يقع منه اختلاف الأمر إلا لتجدد علم له لم يكن، وسيد العبد يجوز أن يقع منه النهي بعد الأمر من غير أن يتجدد له علم، ويكون عالما بنهضته في الحالين، ومسارعته إلى ما أحب، وإنما أمره بذلك ليعلم الحاضرون حسن طاعته، ومبادرته إلى أمره، وأنه ممن يجب اصطفاؤه، والإحسان إليه، والتعويل في الأمور عليه.
قال: فإذا سلمت لك الفرق بينهما، فما تنكر أن يكون دالا على أن مثالك الذي أتيت به غير داخل في البداء؟ قلت: أنكرت ذلك من قبل أن البداء عندنا جميعا نهي الآمر عما أمر به قبل وقوعه في وقته، وإذا كان هذا هو الحد المُراعى فهو موجود في مثالنا، وقد أجمع العقلاء أيضا على أن السيد فيه قد بدا له فيما أمر به عبده. قال: فإذا دخل القسمان في البداء، فما الذي تجيز على الله تعالى منهما؟ فقلت أقربهما إلى قصة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وأشبههما لما أمر الله تعالى في المنام بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، فلما سارع إلى المأمور راضيا بالمقدور، وأسلما جميعا صابرين، وتله للجبين، نهاه الله عن الذبح بعد متقدم الأمر، وأحسن الثناء عليهما، وضاعف لهما الأجر. وهذا نظير ما مثلت من أمر السيد وعبده، وهو النهي عن المأمور به قبل وقوع فعله.
قال: فمن سلم لك أن إبراهيم (عليه السلام) مأمور بذلك من قبل الله سبحانه؟ قلت: سلمه لي من يقر بأن منامات الأنبياء (عليهم السلام) صادقة، ويعترف بأنها وحي الله في الحقيقة، وسلمه لي من يؤمن بالقرآن، ويصدق ما فيه من الأخبار. وقد تضمن الخبر عن إسماعيل أنه قال لأبيه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ، وقول الله تعالى لإبراهيم: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } [الصافات: 105] وثناؤه عليه، حيث قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [الصافات: 80].
وليس بمحسن من امتثل غير أمر الله تعالى في ذبح ولده، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه.
قال: فإني لا أسمي هذا بداء. فقلت له: ما المانع لك من ذلك، أتوجه الحجة عليك به، أم مخالفته للمثال المتقدم ذكره؟ فقال: يمنعني من أن أسميه البداء، أن البداء لا يكشف إلا عن متجدد علم لمن بدا له، وظهوره له بعد ستره، وليس في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ما يكشف عن تجدد علم الله سبحانه، ولا يجوز ذلك عليه، فلهذا قلت إنه ليس ببداء.
فقلت له: هذا خلاف ما سلمته لنا من قبل، وأقررت به، من أن سيد العبد يجوز أن يأمره بما ذكرناه، ثم يمنعه مما أمره به وينهاه، مع علمه بأنه يطيعه في الحالين لغرضه في كشف أمره للحاضرين.
ثم يقال لك: ما تنكر من إطلاق اللفظ بالابتداء في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، لأنها كشفت لهما عن علم متجدد، ظهر لهما، كان ظنهما سواه، وهو إزالة هذا التكليف بعد تعلقه، والنهي عن الذبح بعد الأمر به.
قال: أفتقول إن الله تعالى أراد الذبح لما أمر به أم لم يرده؟ واعلم أنك إن قلت: إنه لم يرده دخلت في مذاهب المجبرة، لقولك إن الله تعالى أمر بما لا يريده. وكذلك إن قلت: إنه أراده دخلت في مذهبهم أيضا، من حيث أنه نهى عما أراده، فما خلاصك من هذا؟ فقلت له: هذه شبهة يقرب أمرها، والجواب عنها لازم لنا جميعا، لتصديقنا بالقصة، وإقرارنا بها. وجوابي فيها أن الذبح في الحقيقة هو تفرقة الأجزاء، ثم قد تسمى الأفعال التي في مقدمات الذبح، مثل القصد، والإضجاع، وأخذ الشفرة، ووضعها على الحلق، ونحو ذلك، ذبحا مجازا واتساعا. ونظير ذلك أن الحاج في الحقيقة هو زائر بيت الله تعالى، على منهاج ما قررته الشريعة، من الإحرام، والطواف، والسعي، وقد يقال لمن شرع في حوائجه لسفره في حجة من قبل أن يتوجه إليه، أنه حاج اتساعا ومجازا. فأقول: إن مراد الله تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم (عليه السلام) من ذبح ولده، إنما كان مقدمات الذبح، من الاعتقاد أولا والقصد، ثم الاضطجاع للذبح، ترك الشفرة على الحلق، وهذه الأفعال الشاقة التي ليس بعدها غير الإتمام بتفرقة أجزاء الحلق.
وعبر عن ذلك بلفظ الذبح، ليصح من إبراهيم (عليه السلام) الاعتقاد له، والصبر على المضض فيه، الذي يستحق جزيل الثواب عليه، ولو فسر له في الأمر المراد على التعيين لما صح منه الاعتقاد للذبح، ولا كان ما أمر به شاقا، يستحق عليه الثناء، والمدح، وعظيم الأجر، والذي نهى الله تعالى عنه هو الذبح في الحقيقة، وهو الذي لم يبق غيره، ولم تتعلق الإرادة قط به، فقد صح بهذا أن الله تعالى لم يأمر بما لا يريد، ولا نهى عما أراد، والحمد لله. قال الخصم: فقد انتهى قولك إلى أن الذي أمر به غير الذي نهى عنه، وليس هذا هو البداء. فقلت له: أما في ابتداء الأمر فما ظن إبراهيم (عليه السلام) إلا أن المراد هو الحقيقة، وكذلك كان ظن ولده إسماعيل (عليه السلام)، فلما انكشفت بالنهي لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه، كان ظاهره بداء، لمشابهته لحال من يأمر بالشئ، وينهى عنه بعينه في وقته، وليستسلمه على ظاهر الأمر دون باطنه. فلم يرد على ما ذكرت شيئا، وهذا الذي اتفق لي من الكلام في البداء (2).
______________________
(1) النيلوفر: نبات مائي من فصيلة النيلوفريات، ورقه كبير مستدير يعوم على صفحة الماء، وأزهاره جميلة كثيرة القعالات، تعوم أيضا، منه أنواع تعيش في مستنقعات وبحيرات القارة القديمة، ومنه نوع جعل منه المصريون الأقدمون موضوعا. المنجد: ص 850.
(2) كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 227 - 232.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|