أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-05-2015
2206
التاريخ: 5-05-2015
2236
التاريخ: 17-10-2014
2457
التاريخ: 2024-02-25
991
|
لا يخفى الدور الذي تقوم به الإحالة ضميريّة كانت أو إشاريّة في ربط
أجزاء خطاب معيّن ، وقد اهتمّ المفسّرون بهذا الدور. فقد تتّبعوا حركة الضمائر في
الخطاب القرآني ودلالاتها وإحالة الضمير ، وتعدّد المحال إليه ، ومن ذلك عند
الزمخشري في تفسيره للآية {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا
عَلَى الْخاشِعِينَ} [البقرة -45] . فيشير إلى أنّ الضمير (للصلاة) أو (للاستعانة) ، ويجوز
أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله (اذكروا نعمتي)
إلى (واستعينوا) «1». نحن هنا إذن أمام ثلاثة إمكانات ، وعود
الضمير إلى الصلاة أقرب من الاستعانة وفي هاتين الحالتين هناك تطابق بين الضمير
(ها) وبين المحال إليه إفرادا وتأنيثا ، مع كون الإحالة داخل الآية نفسها ، أمّا
في الإمكان الثالث فإنّ الضمير (ها) يحيل إلى خطاب سابق يستغرق خمس آيات تتضمّن
الأمور التالية : ذكر النعمة ، والوفاء بالعهد ، ورهبة اللّه ، والإيمان برسالة محمد
، وألا يشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا ، وتقوى اللّه ، وألّا يلبسوا الحقّ بالباطل
، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وسلوك سبيل البرّ. وهي كما نرى تتراوح بين
الأوامر والنواهي وقد جاء بعضها متداخلا مع بعض ، ويتحصّل من تحليل الزمخشري أنّ
إحالة الضمير نوعان : إحالة إلى عنصر متقدّم ، وإحالة إلى خطاب سابق.
وتخريجا للمحال إليه بالضمير المستتر في
الفعل (ليحكم) في قوله تعالى { كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ...} [البقرة - 213] .
قال الرازي : " فاعلم أنّ قوله (ليحكم) فعل لا
بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره ، وقد تقدّم ذكر أمور ثلاثة فأقربها إلى هذا
اللفظ (الكتاب) ، ثمّ (النبيّون) ، ثمّ (اللّه) فلا جرم إن كان إضمار كلّ واحد
منها صحيحا فيكون المعنى : ليحكم اللّه أوالنبيّ المنزل ، أو الكتاب ثم إنّ كل
واحد من هذه الاحتمالات يختصّ بوجه ترجيح ، أمّا الكتاب فلأنّه أقرب المذكوران ، وأمّا
اللّه فلأنّه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب ، وأمّا النبيّ فهو المظهر ، فلا
يبعد أن يقال : حمله على الكتاب أولى ، وأقصى ما في الباب أن يقال : الحاكم هو
اللّه ، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلّا أن تقول هذا المجاز يحسن تحمّله لوجهين
: أحدهما أنّه مجاز مشهور ، يقال حكم الكتاب بكذا ، وقضى كتاب اللّه بكذا ، ..
وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء جاز أن يكون حاكما. قال تعالى : { إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [سورة الاسراء -9] . والثاني أنّه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم
حاله «2».
نلاحظ أنّ تعدّد الإحالة مبرّر لدى الرازي
بعدّة قرائن : أولاها نحويّة وهي عود الضمير على الأقرب ، والثانية بلاغية تعتمد
على مسألة الحقيقة والمجاز ، فإذا عاد الضمير المستتر على اللّه كانت الإحالة
حقيقيّة لأنّ بعث النبيّين وإنزال الكتب أفعال صادرة منه ، وإذا تمّت الإحالة إلى
الكتاب كان الإسناد مجازيّا بحكم الاستعمال المتعارف عليه. والقرينة الثالثة
مقاميّة مأخوذة من حقيقة الواقع (أن اللّه هو الحاكم في الحقيقة) ، والعرف اللغوي
" مأخوذ من قوله" مشهور" ومأخوذ من الغرض وهو جزء من سياق الحال
وذلك في قوله" يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله". والذي جعل إحالة
الضمير المستتر متعدّدة هو ورود الفعل حرّا غير مقيّد بأيّة قرينة على عكس الأفعال
الأخرى. فالفعل (بعث) أسند إلى فاعل صريح هو (اللّه) كما أنّ الفعل (أنزل) لا
يحتمل العدد المحال إليه ، لأنّه عقّب بجار ومجرور يتضمّن ضميرا محيلا إلى
النبيّين ممّا يجعل الإحالة بضميرين إلى العنصر نفسه (اللّه عز وجل) مستحيلة.
ومن أمثلته كذلك عند الزمخشري في تفسيره
للآية (25) { هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ
وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً}. قال : " ويجوز أن يرجع
الضمير في (أتوا به) إلى الرزق ، كما أنّ هذا إشارة إليه ويكون المعنى أنّ ما
يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا في نفسه ، كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم
بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول
الملك : كل؛ فاللون واحد ، والطعم مختلف فإن قلت : كيف موقع قوله (وَ أُتُوا بِهِ
مُتَشابِهاً) من نظم الكلام . قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل ، ورأى
من الرأي كذا وكان صوابا «3». فالإحالة إلى الرزق جاءت بتعضيد من حديث
شريف يصف حال أهل الجنة فهو معتمد على سياق الحال آنئذ وإن كان ذلك في المستقبل.
ومنه كذلك في تفسير الزمخشري للآية (27) من سورة البقرة { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ
اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ، ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ ، ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} . قال : " والضمير ، في
ميثاقه للعهد ، وهو ما وثقوا به عهد اللّه من قبوله وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن
يكون بمعنى توثيقه كما أنّ الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، ويجوز أن يرجع
الضمير إلى اللّه تعالى أي من بعد توثقته عليهم ، ومن بعد ما وثق به عهده من آياته
وكتبه وإنذار رسله" «4». فالإحالة هنا تتعدّد احتمالاتها ، وترجيح
الإحالة يتمّ بالاستعانة بعناصر من داخل النصّ (القرينة النحويّة ، وقرينة
المعنى) وبعناصر من خارج النصّ وهي المقام وذلك بالاستئناس بأحوالهم من حيث قبول
العهد وإلزام أنفسهم به.
وللتدليل على أنّ الاهتمام بتعدّد المحال
إليه مشترك بين المفسّرين نورد تحليل ابن عاشور للآية (146) قال تعالى { الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وهُمْ
يَعْلَمُونَ} يرى ابن عاشور أنّ هناك ثلاثة احتمالات لما يعود إليه الضمير المنصوب
في (يعرفونه) ، " إمّا أنّه عائد إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر المعاد مناسب
لضمير الغيبة لكنّه قد علم من الكلام السابق وتكرّر فيه من قوله : { وما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ...} [البقرة -143] . وقوله { قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها} [البقرة -144]. وقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [البقرة - 144]. فالإتيان بالضمير بطريقة الغيبة من الالتفات ، وهو
على تقدير مضاف أي يعرفون صدقه ، وإمّا أن يعود إلى الحقّ في قوله السابق"
ليكتمون الحقّ" فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به ، وإمّا إلى العلم «5» في قوله { مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ} [البقرة 145]. واضح من هذه الاحتمالات أن الضمير يحيل إلى سابق مذكور
صراحة فإذا جعل الضمير محيلا إلى الرسول فقد جاء ظاهرا مرة واحدة في الآية (143)
ومستمرّا في الآيات اللاحقة ، بضمير الخطاب المتّصل ، والضمير في هذه الحالة محيل
إلى عنصر فقط ، وإذا كان محيلا إلى الحقّ يصبح عنصرا محيلا إلى خطاب ، وهكذا تكون
الضمائر حسب المفسّرين محيلة إحالة مزدوجة مرّة إلى عنصر واحد في خطاب سابق ، ومرّة
أخرى إلى خطاب بأكمله.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الاحتمالات هي
نفسها التي يذكرها الرازي في تفسيره وسننقل فقط بعض العبارات البينيّة أو
التعقيبيّة التي كان يستخدمها والتي تدلّ على أنّه شديد الاهتمام بعلاقة الضمائر
المباشرة وتأويل الإحالات باتّساق الخطاب وتناسب النصّ مع سياقيه : اللّغوي
والمقامي. وانظر إلى عبارته" وجاز الإضمار وإن لم يسبقه ذكر ، لأنّ الكلام
يدلّ عليه ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنّه لشهرته
معلوم بغير إعلام" «6». وعبارة الرازي هذه فيها اهتمام بالسياق
اللغوي" لأنّ الكلام يدلّ عليه" أي دلالة السياق العام للجملة ، واهتمام
بالسامع وهو من عناصر سياق الحال أو المقام ، وفيها اهتمام بالتأثير أو هدف الخطاب
وهو من عناصر المقام أيضا.
وليس هذا هو الموضع الوحيد الذي يصل فيه الرازي
بين إحالة الضمائر وهدف الخطاب ، ففي تفسيره للآية {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة : 16] أحال الضمير في " فيها" إلى اللّعنة ، وقيل
في النار" إلّا أنّها أضمرت تفخيما لشأنها ، وتهويلا كما في قوله تعالى { إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} ويرجّح الرازي الاحتمال الأوّل لوجوه منها أنّ الضمير إذا وجد له
مذكور متقدّم فردّه إليه كان أولى من ردّه إلى ما لم يذكر ، والثاني أنّ حمل هذا
الضمير على اللّعنة أكثر فائدة من حمله على النار ، لأنّ اللعن هو الإبعاد من
الثواب بفعل العقاب في الآخرة ، وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار
وزيادة ، فكان حمل اللفظ عليه أولى ، والثالث أنّ قوله {خالِدِينَ فِيها} إخبار عن الحال ، وفي حمل
الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلا في الحال ، وفي حمله على النار لا يكون حاصلا في
الحال بل لا بدّ من التأويل ، فكان ذلك أولى"«7». وفي هذا التناول اهتمّ الرازي بالمكانة
التي احتلّها المحال إليه وهو (النار) هنا حين يتحدّث عن شأنها وتفخيمه ، وهي
(عرف) وتناول لقيمة في النفوس ، ولذلك اتكأ على قيمة تداولية وهي"
الفائدة" كما استفاد من عنصر (الزمان) في ترجيح رأي على آخر والزمان عنصر من
عناصر سياق الحال.
ومن الأمثلة الواضحة على ربط الإحالة
بالسياق ما نجده عد ابن كثير في تفسيره للآية (126) من سورة البقرة قال : "
وقرأ بعضهم { قالَ ومَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} جعله من تمام دعاء إبراهيم ، وهي قراءة شاذّة مخالفة للقرّاء السبعة
، وتركيب السياق يأبى معناها ، فإنّ الضمير في (قال) راجع إلى اللّه تعالى في
قراءة الجمهور ، والسياق يقتضيه ، وعلى هذه القراءة الشاذّة يكون الضمير في"
قال" عائدا على إبراهيم ، وهذا خلاف نظم الكلام واللّه سبحانه هو
العلّام" «8». والنصّ واضح الدلالة على معناه ، ولاحظ
المصطلحات التي يستخدمها وتهمنا كثيرا فيما نحن بصدد معالجته وهي " تركيب
السياق" و" السياق يقتضيه" ثم " نظم الكلام" وكلّها
وظّفت بدلالتها المعاصرة ، وتضيء مفهوم الاتّساق بين النص والسياق.
بناء عليه فإنّ الضمير كما يبرز ذلك من خلال
تخريجات المفسّرين يساهم بشكل فعّال في اتّساق الخطاب القرآني ، وإذا كان العطف -
كما رأينا- يغوّي الصلة بين الآيات أو بين الجمل داخل الآية نفسها ، فإن الضمائر
وخاصّة منها ضمائر الغيبة تقوم بوظيفتين : استحضار عنصر متقدّم في خطاب سابق ، أو
استحضار مجموع خطاب سابق في خطاب لاحق. غير أنّ تعامل المفسّرين مع إحالة الضمائر
لا يحكمه دوما تعدّد المحال إليه ، بل نجد اهتماما بآحادية الإحالة أيضا وكمثال
على ذلك الآية (84) { وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ، ولا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ} يقول ابن عاشور : " الضميران في (أقررتم) و(أنتم تشهدون) راجعان لما رجع له ضمير{ ميثاقكم } وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم" «9». أو قوله في تفسير الآية (61) { قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وهُدىً وبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ} الضمير المقصود ب (نزّله) عائد للقرآن لأنّه تقدّم في قوله {وإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ} وإمّا لأنّ الفعل لا يصلح إلّا له " «10». ومعنى هذا أنّ الضمير ليس دائما متعدّد
الإحالة ، أي أنه يصرف إلى عنصر معيّن بسبب يفرضه نظم الكلام ، أو لكون الضمير لا
يصلح إلّا لذلك العنصر لا لغيره. و(نظم الكلام) عند المفسّرين مصطلح مرن ، قد يعني
تناسب الخطاب والزمن السياقي ، وتناسب الخطاب مع المخاطبين وتنوّعهم ، وتنوّع
مقاماتهم ، وقد يعني تناسب الخطاب والموضوع ، وقد يعني تناسب الخطاب مع الهدف ، وغير
ذلك من العناصر.
ويشير الزمخشري إلى مسألة تواؤم ضمائر
الخطاب مع المخاطبين في تفسيره للآية { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة : 97]. و{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ
لِلْكَافِرِينَ} [البقرة : 98]. قال : " (نزّله) للقرآن ونحو هذا للإضمار أعني
إضمار ما لم يسبق ذكره ، فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على
نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته " «11». وحين يقف عند ضمير المخاطب في قوله تعالى
{عَلَى
قَلْبِكَ}
يقول" فإن قلت : كان حقّ الكلام أن يقال : على قلبي قلت : جاءت على حكاية
كلام اللّه تعالى كما تكلّم به كأنّه قيل : قل ما تكلّمت به من قولي : من كان
عدوّا لجبريل فإنّه نزّله على قلبك" «12».
والطبري كذلك يقف عند ضروب الإحالات التي
أشار إليها المفسّرون الآخرون ، ومن الإحالة الآحادية التي ذكرها ما جاء في تفسير
الآية {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 25]. ذكر أنّ الضمير في" لهم" يعود على الذين
آمنوا وعملوا الصالحات ، وأن الضمير في" فيها" يعود على الجنّات ، وتأويل
ذلك هو { وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أنّ لهم جنات فيها أزواج مطهّرة } والضمير في (هم) عائد على الذين آمنوا وعملوا الصالحات" «13» ، وهذه الإحالة من ضمائر متعدّدة على شيء
واحد يساهم في تشاكل السياق وائتلاف نظم الكلام.
ويؤكد الرازي أهميّة اتّساق الضمائر في
الخطاب وأثرها في اتّساق نظم الكلام حين يقف عند الآية" وأتوا به
متشابها" ويسأل" إلام يرجع الضمير في قوله" " وأتوا به"
ويفاضل بين ما يمكن أن يعود إليه الضمير قائلا : " إن قلنا المشبّه به هو رزق
الجنّة فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة ، يعني أتوا بذلك النوع متشابها
يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلا منه في الدنيا ، وإن قلنا المشبه به هو
رزق الجنّة أيضا فإلى الشيء المرزوق في الجنة ، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة
بحيث يشبه بعضه بعضا" «14». وبعد ذلك يتساءل" كيف موقع
قوله" وأتوا به متشابها من نظم الكلام؟ " ويجيب : " إن اللّه تعالى
لمّا حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله { قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ
قَبْلُ}
فاللّه تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله {
وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً} «15».
ونورد هنا مثالا على أنّ صرف الضمير إلى
عنصر معيّن دون غيره قد يساهم في تفكيك النظم ، ففي تفسير الرازي للآية (45) {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ ، وإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا
عَلَى الْخاشِعِينَ} قال : " واختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى : { واسْتَعِينُوا} فقال قوم : " هم المؤمنون بالرسول قال : لأنّ من ينكر الصلاة
أصلا ، والصبر على دين محمد- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- لا يكاد يقال له استعن
بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدّق بمحمد- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- ،
ولا يمتنع أن يكون الخطاب لبني إسرائيل ثم يقع بعد ذلك خطابا للمؤمنين بمحمد- صلى
اللّه عليه وآله وسلّم- ، والأقرب أنّ المخاطبين هم بنوإسرائيل لأنّ صرف الخطاب
إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم" «16» ، وجليّ أن الرازي في إرجاعه الضمير إلى
بني إسرائيل اعتمد على موقع الآية من الآيات السابقة ، باعتبار أنّ الخطاب فيها
موجّه إلى بني إسرائيل دون غيرهم أما الذي أرجعه إلى المؤمنين فقد اعتمد على
معرفته للعالم ، ذلك أنّ الأحقّ بهذا الخطاب هم المؤمنون بدين محمد ، أمّا اليهود
فلا يعقل أن يخاطبوا بالصبر والصلاة وهم كافرون ، والرازي لا ينكر الصلاة عند
اليهود ، ولكنّ صلاتهم مختلفة كيفا عن صلاة المسلمين ، إلّا أن الأهمّ في نظره
الاحتفاظ بقوّة نظم الآية بدل تفكّكه (تماسك الخطاب).
ومن أمثلة تواؤم الضمائر مع سيرورة الخطاب
ما طرحه الزمخشري في توقّعه عند دلالة الضمير على المفرد في الآية { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ
قِبْلَتَهُمْ} [البقرة : 145]." فإن قلت : كيف قال : وما أنت بتابع قبلتهم
ولهم قبلتان : لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت" كلتا القبلتين باطلة مخالفة
لقبلة الحقّ ، فكانتا بحكم الاتّحاد في البطلان قبلة واحدة" «17». وفضلا عن اهتمامه بالاتّساق الداخلي في
النص ، فقد اتّكأ على حقيقة موضوعيّة خارجيّة لتفسير هذا الاتّساق وهي بطلان
الدعوى التي طرحوها. ومن أمثلة الحرص على توضيح ما يظنّ أنّه يعارض هذا التواؤم ما
أورده الماوردي في تفسيره حول الآية {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة : 54]. قال : " فإن قيل : فلم قال : " فتاب
عليه" ولم يقل فتاب عليهما ، والتوبة قد توجّهت إليهما؟ قيل : عنه جوابان :
أحدهما لمّا ذكر آدم وحده بقوله : " فتلقّى آدم من ربّه كلمات" ذكر
بعدها قبول توبته ولم يذكر توبة حوّاء ، وإن كانت مقبولة التوبة لأنه لم يتقدّم
ذكرها. والثاني أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحدا جاز أن يذكر أحدهما ويكون
المعنى لهما" «18». وفي الحالتين نجد أنّ الهدف في التوضيح
إظهار سيرورة الخطاب في تناغم واضح.
كما يهتمّ المفسرون بتوجيه الضمير توجيها
يضمن ديمومة اتّساق الخطاب (الاتساق الداخلي) ويضمن في الوقت نفسه مناسبة الكلام
لمقتضى الحال ، وهو سياق الحال ، ويأتي توجيه الرازي للضمير في الآية الكريمة {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا
لَكُمْ} مثلا على هذا القول فهو يرى أنّ في هذه الآية وجهين : الأوّل : أنه خطاب مع النّبي - صلى اللّه عليه وآله وسلّم- خاصّة لأنه هو
الداعي وهو المقصود بالاستجابة واللفظ ، وإن كان للعموم لكنّا حملناه على الخصوص
لهذه القرينة ، وروى أنّه عليه السلام حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب اللّه
وكذّبوه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية . والثاني : وهو قول الحسن أنّه خطاب مع الرسول والمؤمنين وينقل قول القاضي :
" وهذا أليق بالظاهر لأنّه عليه السلام ، وإن كان الأصل في الدعاء ، فقد كان
في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ، ويظهر لهم الدلائل ، وينبّههم عليها ، فصحّ أن
يقول تعالى : {أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} ويريد به الرسول ومن هذا حاله
من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحا فلا وجه لترك الظاهر" «19». وهذا مثال واضح على علاقة الإضمار بالمقام
، وعلى وجه التخصيص عنصر (المخاطب) وما يليق بحقّه وما لا يليق (العرف الاجتماعي).
كما يتبدّى الحرص على أن يتّفق الضمير مع الحقيقة الموضوعيّة الخارجيّة وهي هنا
حال المؤمنين في علاقتهم مع المشركين واليهود ، والمفسّر يسمح لنفسه في سبيل الحرص
على التواؤم بين السياقين اللّغوي والمقامي أن يؤوّل العلاقات التي تحكم الضمائر؛
فالضمير في" تطمعون" دالّ على الجمع فحين يوجّه ليعود على النّبي تكون
هناك مشكلة فيفترض أنّه عموم يراد به الخصوص من أجل أن يبقى النصّ متّسقا.
ويعالج الرازي مسألة الإضمار معالجة ذكيّة
في آية تحويل القبلة {وللّه المشرق والمغرب فحيثما تولّوا..} فيذهب إلى أنّ قوله تعالى { فَأَيْنَما تُوَلُّوا} ينصرف إلى الجهات المأمور بها ، (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ويعقّب على ذلك قائلا : "
إلّا أنّ هذا الإضمار لا بدّ منه على كلّ حال لأنّه من المحال أن يقول تعالى : { فَأَيْنَما تُوَلُّوا} بحسب ميل أنفسكم (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) بل لا بدّ من الإضمار الذي
ذكرناه ، وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره ، إذا أقبل أحدنا على ولده
وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له : كيف تصرّفت فقد اتبعت رضائي ، فإنّه يحمل
ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أوتخيير ، ولا يحمل ذلك على التخيير
المطلق فكذا هاهنا" «20». ففي هذا النصّ تضييق لإمكانيّة إحالة
الضمير إلى أكثر من جهة لعدم سماح السياق بذلك بنوعيه : السياق اللّغوي والمقامي.
ونلاحظ أيضا استشهاد الرازي بالوقائع والسياقات المشابهة في تعليل مجيء النصّ على
هذه الصيغة دون سواها.
وهو ملحظ يتكرّر عند المفسّرين من حيث
استنطاق خطابات البشر في مواقفهم اليوميّة من أجل تقريب فهم الخطاب القرآني
باعتباره يخاطب البشر فيما هو مألوف لديهم من أساليب الخطاب.
وفيما لحظنا تضييقا في احتمالات الإحالة في
المثال السابق فإنّ الرازي يوسّع هذه الاحتمالات في إحالة الضمير في قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة : 26]. فيرى أنّ قوله" أنه الحق" يعود إلى مذكور
سابق ، وقد تقدّم ذكر الرسول ، فجاز أن يكون المراد أنّ القوم يعلمون أنّ الرسول
مع شرعه ونبوّته حقّ ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا
التكليف الخاصّ بالقبلة وأنّهم يعلمون أنّه الحق ، وهذا الاحتمال الأخير أقرب
لأنّه أليق بالكلام" «21». إنّ تعدّد الاحتمالات لإحالة الضمير أمر
مرتبط بما يسمح به السياق أوالمقام ، وترجيح أحد الاحتمالات إنّما يكون أيضا
بالاستناد إلى ذلك السياق ، وانظر إلى عبارته" لأنّه أليق بالكلام" وما
تدلّ عليه من ضرورة الانسجام التامّ ، وما تدلّ عليه من الاستئناس بالعرف اللّغوي
والمقامي وهو يكررها كثيرا في تفسيره.
واهتمّ المفسّرون كذلك بأسماء الإشارة
بأنواعها ، وتنوّع تناولهم لها ، وتراوح بين تعدّد المشار إليه وبين الإشارة إلى
الخطاب ، وعدم التطابق بين اسم الإشارة والمشار إليه وغيرها. فمن أمثلة تتبّعهم
لمسألة تعدّد المشار إليه ، تفسير الزمخشري للإشارة الواردة في الآية (74) من سورة
البقرة { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} يقول : " ذلك" إشارة إلى إحياء القتيل أوإلى جميع ما تقدّم
من الآيات المعدودة" «22». نحن هنا أمام المظهر السابق نفسه في
الإحالة الضميرية أي تعدد- أو على الأقل ازدواج- المشار إليه. ونلاحظ أنّ
الاحتمالين مختلفان ، إذ في الإشارة إلى (القتيل) نكون أمام إحالة عنصر إلى عنصر ،
وفي الإشارة إلى الآيات المعدودة وهي سبع آيات تتناول ذبح البقرة من الآية (67)
إلى الآية (73) نحن أمام الإحالة إلى خطاب مكوّن من عدة آيات ، ورغم أنّ المفسّرين
لم يفرّقوا بين النوعين فإنّ هذا لا يمسّ المبدأ العام الثاوي خلف الإشارة ، وهو
جعل الخطاب متماسكا من خلال استحضار عنصر متقدّم أو خطاب بأكمله. ولعلّ فكرة
الاستحضار لم تكن غائبة عن المفسّرين خاصّة منهم الزمخشري الذي نصّ على ذلك ، وإن
في سياق آخر بقوله : " وقوله {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ والْأَرْضِ} استحضار لقوله لهم { إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} إلا أنه جاء على وجه أبسط من ذلك وأشرح" «23».
وعند الرازي توضيح لمسألة الإشارة ودورها في
اتّساق الخطاب ، ففي تفسيره للآية (176) من سورة البقرة { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ
بَعِيدٍ}. قال : " اختلفوا في أنّ قوله (ذلك) إشارة إلى ما ذا؟ فذكروا
وجهين (الأوّل) أنّ ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الوعيد ، لأنّه تعالى لمّا حكم على
الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد ، بيّن أنّ ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنّما
كان لأنّ اللّه نزّل الكتاب بالحقّ في صفة محمّد- صلى اللّه عليه وآله وسلّم .....
و(الثاني) أنّ (ذلك) إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على اللّه في مخالفتهم أمر
اللّه وكتمانهم ما أنزل اللّه ، فبيّن تعالى أنّ ذلك إنما هو من أجل أنّ اللّه
نزّل الكتاب بالحق ..." «24». إنّ في الآيتين المتقدّمتين على هذه
الآيات (174- 175) ما يعزّز هذين الاحتمالين؛ لذا نلاحظ أنّ الرازي لا يرجّح
احتمالا على آخر مكتفيا بإيرادهما منسوبين إلى الغائب (اختلفوا ، ذكروا) وربّما
كان ما صنعه من ترجيح أحدهما هو ورودهما معا. ولقد تمّت الإحالة فيهما معا إلى
خطابين ، وليس إلى عنصر وخطاب.
على أنّنا نجد رأيا آخر في الإشارة الواردة
في هذه الآية فصاحب (التحرير والتنوير) يقول : " جيء باسم الإشارة لربط
الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله ، إذا طال الفصل بين الشيء وما
ارتبط به من حكم أوعلّة ، أو نحوهما ، ....
والكلام السابق الأظهر أنّه قوله { فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} والمعنى أنّهم استحقّوا العذاب على كتمانهم ، بسبب أنّ اللّه أنزل
الكتاب بالحقّ فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق ، وذلك فساد ، وتغيير لمراد
اللّه"«25». ويفهم من كلامه أنّ الإشارة
تمت إلى أقرب شيء إليها وهو التعجّب الذي ختمت به الآية (175) ، لكنّ الأهمّ في
اعتقادنا هو إشارته الصريحة إلى وظيفة الإشارة من حيث تماسك الخطاب ، حتّى إنّ
القارئ يفهم من ملاحظته هذه أنّ هذا النوع الذي يفتتح به آية ما مفصولة عن آيات
سابقة ترتبط بها ، تنحصر مهمّته في ربط كلام بكلام لا غير ، ومن ثمّ لا يهتمّ
بتعدّد ما يشير إليه (ذلك).
ونجد كذلك عند ابن عاشور في (التحرير
والتنوير) نوعا آخر من الإشارة هوالمسمّى لدى (هاليداي ورقية حسن) بالإحالة
المقاميّة ، أي أنّ العنصر المحال إليه يكون حاضرا في الخطاب بالقوّة وليس بالفعل
، قال تعالى : { الم ، ذلِكَ الْكِتابُ} ، وقد فسّر ابن عاشور هذه الإشارة بقوله : " وعلى
الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ ، واسم الإشارة مبتدأ والكتاب
بدل وخبره ما بعده ..."«26».
إنّ استخلاص ابن عاشور لما يشير إليه (ذلك) معتمد على قرينتين : نحويّة ، وهي
اعتبار الكتاب بدلا من اسم الإشارة ، و(الكتاب اسم من أسماء القرآن). وتداوليّة
تجسّدها إشارته إلى انّ المشار إليه" معروف لديهم يومئذ" إذ المشار إليه
حاضر في أذهان المخاطبين أي معرفتهم للعالم رغم غيابه في الخطاب تصريحا.
ومن بين الأمور التي تعرّض لها الزمخشري
فيما يخصّ الإشارة ، مسالة عدم التطابق بين المشير والمشار إليه ، قال : "
فإن قلت : لم قيل" تلك أمانيّهم" وقولهم : " لن يدخل الجنّة
....." أمنية واحدة؟ قلت : أشير هنا إلى الأماني المذكورة ، وهو أمنيتهم ألّا
ينزل على المؤمنين خيرا من ربّهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفارا ، وأمنيتهم أن لا
يدخل الجنّة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم" «27». إنّ الذي جعل طرح السؤال مشروعا هوالتباعد
بين الآيات التي وردت فيها الأماني التي ذكرها الزمخشري ، فالأمنية الأولى وردت في
الآية (105) ، ووردت الثانية في الآية (109) ، بينما وردت الأمنية الأخيرة في
الآية (111) ، بينما ورد اسم الإشارة في آية مستقلة بذاتها { وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى
، تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ...} بحيث إذا حصر البحث عن المشار إليه في هذه الآية وحدها حصل عدم
التطابق بين الإشارة التي جاءت بصيغة الجمع المؤنّث ، وبين المشار إليه المفرد ، لذا
لجأ الزمخشري إلى تعداد بقيّة الأمنيات السابقة ، على أنّ الذي وجّه الزمخشري إلى
هذا التخريج هو الاسم البدل (أمانيّهم) الذي حدّد اسم الإشارة وجعله جمعا.
ويقف المفسّرون عند استخدام اسم الإشارة
المخصّص للبعيد موضع اسم الإشارة المخصّص للقريب ، وهو صورة لما أسماه البلاغيّون
الخروج على مقتضى الظاهر لضرورة المقام ، ونجد ذلك في تفسير الزمخشري للآية
الثانية من سورة البقرة { ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ} ويتساءل " فإن قلت : لم
صحّت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ، قلت : وقعت الإشارة إلى (الم) بعد ما سبق
التكلّم به وتقضّى ، والمتقضّي في حكم المتباعد ، وهذا في كلّ كلام ، يحدّث الرجل
بحديث ثمّ يقول : وذلك ما لا شكّ فيه. وقال اللّه تعالى {لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} وقال : { ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }. ولأنّه لمّا وصل من المرسل إلى المرسل إليه ، وقع في حدّ البعد ، كما
تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا : احتفظ بذلك وقيل : معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به
، فإن قلت : لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنّث وهو السورة؟ قلت : لا أخلو من
أن أجعل الكتاب خبره أو صفته ، فإن جعلته خبره ، كان ذلك في معناه ومسمّاه ، فجاز
إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم : من كانت أمك ؟
وإن جعلته صفته فإنّما أشير به إلى الكتاب صريحا ، لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى
الجنس الواقع صفة له ، تقول : هند ذلك الإنسان ، أوذلك الشخص فعل كذا ..." «28».
ويصرّح الزمخشري بدور الإشارة في انسجام
الخطاب ، " فإن قلت : أخبرني عن تأليف" ذلك الكتاب" مع (الم) قلت :
إن جعلت (الم) اسما للسورة ، ففي التأليف وجوه : أن يكون (الم) مبتدأ ، وذلك مبتدأ
ثانيا ، والكتاب خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول ، ومعناه أنّ ذلك الكتاب
هوالكتاب الكامل ، كأنّ ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنّه الذي يستأهل أن
يسمّى كتابا. وأن يكون الكتاب صفة ، ومعناه : هو ذلك الكتاب الموعود. وأن يكون
(الم) خبرا لمبتدأ محذوف ، أي هذه (الم) ويكون ذلك خبرا ثانيا أو بدلا ، على أنّ
(الكتاب) صفة ، وأن يكون (هذه الم) جملة ، وذلك الكتاب جملة أخرى ، وإن جعلت (الم)
بمنزلة الصوت ، كان (ذلك) مبتدأ ، خبره (الكتاب) ، أي (ذلك الكتاب) المنزّل هو
(الكتاب) الكامل ، أو (الكتاب) صفة ، والخبر ما بعده ، أو قدّر مبتدأ محذوفا أي
هو- يعني المؤلّف من هذه الحروف- {ذلِكَ الْكِتابُ} ، وقرأ عبد اللّه : " الم
تنزيل الكتاب لا ريب فيه ، وتأليف هذا ظاهر" «29». ففي هذا الطرح خيارات عديدة ويجمعها رابط
واحد هو هدف تحقيق انسجام الخطاب ، وتوافقه مع الحقيقة الخارجيّة. ويهتمّ الزمخشري
دائما بتوضيح المشار إليه وتحديده ، من مثل {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة : 52] (قال : " من
بعد ذلك " أي من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل" «30»
_________________
(1) الكشاف ، 1/ 278.
(2) تفسير الرازي ، 6/ 15.
(3) الكشاف ، 1/ 109.
(4) نفسه ، 1/ 119.
(5) ابن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير ، 2/
39.
(6) تفسير الرازي ، 4/ 128.
(7) تفسير الرازي ، 4/ 166.
(8) تفسير ابن كثير ، 1/ 153.
(9) ابن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير ، 1/
586.
(10) ابن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير ، 1/
681.
(11) الكشّاف ، 1/ 169.
(12) نفسه ، 1/ 170.
(13) تفسير الطبري ، 1/ 147.
(14) نفسه ، 3/ 130.
(15) نفسه ، 3/ 13.
(16) تفسير الرازي ، 3/ 51.
(17) الزمخشري ، الكشاف ، 1/ 204.
(18) الماوردي : أبو الحسن علي بن محمد بن
حبيب الماوردي البصري ، ت (450 هـ) ، النكت والعيون (تفسير الماوردي) ط 1 ، مؤسسة
الكتب الثقافية ، بيروت/ لبنان ، 1992 ، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم
، 1/ 110.
(19) تفسير الرازي ، 3/ 133.
(20) تفسير الرازي ، 4/ 20.
(21) تفسير الرازي ، 1/ 123.
(22) الكشّاف ، 1/ 290.
(23) نفسه ، 1/ 290.
(24) تفسير الرازي ، 5/ 25.
(25) ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 2/
126.
(26) ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 1/
219.
(27) الكشاف ، 1/ 304.
(28) الكشّاف ، 1/ 31.
(29) الكشاف ، 1/ 33.
(30) الكشاف ، 1/ 139.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
انطلاق الجلسة البحثية الرابعة لمؤتمر العميد العلمي العالمي السابع
|
|
|