تحدثنا في غير هذا المكان عن موقع السرابيوم، وما حوله من المباني الدينية، وأهمية هذه المباني، والواقع أنه كُشف في سرابيوم «منف» هذا عن ملف من الأوراق البردية الإغريقية والديموطيقية يحتوي على أكثر من ستين بردية، منها ما هو مسودات، ومنها ما هو نسخ عن موضوع التوأمين وموضوع «بطليموس» والرهبان الذين كانوا يسكنون في هذه المنطقة المقدسة. وقد كُشف عن هذا الملف منذ عام 1830م، وأوراق هذا الملف مبعثرة في متاحف أوروبا، وقد قام بفحص هذه الأوراق وبخاصة الإغريقية منها عدد كبير من العلماء، وقد قام أخيرًا العالم «فلكن» يجمع شتاتها ونشرها في الجزء الأول من كتابه المشهور المسمى: وثائق عصر البطالمة (1). هذا، وقد تناول الأستاذ «ريفييو» (2) في بعض مقالات له عن الأوراق الديموطيقية التي يحتويها ملف السرابيوم. وأوراق السرابيوم أو ملف السرابيوم كما يسميه بعض المؤرخين هو عبارة عن أوراق خلفها لنا متعبد أو راهب كان يعيش في معبد السرابيوم يُدعى «بطليموس» وكان أبوه يُدعى «جلوسياس»، وكان الأخير على ما يظهر من الجنود المرتزقين الذين كانوا يملكون قطع أرض لزراعتها مقابل خدماتهم العسكرية، وكانت أرض «جلوسياس» هذا في قرية «بسيشيس» Pisichis من أعمال مقاطعة أهناسيا، وفي حوالي أكتوبر عام 172ق.م أصبح «بطليموس» هذا ضمن الذين انقطعوا للعبادة في السرابيوم. وقد وصفه بعض المؤرخين بأنه كان موحًى إليه، أو به مس من الجن، وهو ما يُعبَّر عنه في أيامنا هذه بالرجل المسكون (أو كما تقول العامة «عليه عفريت» أو «يركبه عفريت» أو «عليه أخته»)، وكان على كل من كان في حالة «بطليموس» هذا لا يغادر حرم المعبد، ومن الغريب أن بعض المؤرخين قد فسر عدم مغادرة «بطليموس» هذا حرم المعبد بأنه كان مدينًا، ولم يكن في قدرته أن يدفع ما عليه من دين، من أجل ذلك لجأ إلى المعبد ليكون في حماه، كما فسر بعضهم حبسه في المعبد بأنه عقاب وقعه عليه رئيسه في الجيش.
والواقع أن «بطليموس» قد لجأ إلى معبد السرابيوم ليعبد الله، ويخلص نفسه مما كان يدور حوله من شرور وثورات كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها في تلك الفترة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق، ولم يكن «بطليموس» هذا هو الوحيد الذي كان قد ترهبن؛ بل كان هناك غيره من المصريين والإغريق في سرابيوم «منف»، وتدل الوثائق التي في متناولنا على أن «بطليموس» هذا قد بدأ رهبنته منذ عام 164ق.م هذا ونجد في آخر الوثائق التي وصلت إلينا من ملفه وقد أُرخت بعام 152ق.م بأنه كان لا يزال في رهبنته سجين نفسه، وليس هناك من شك في أن «بطليموس» على الرغم مما أنتجه خيال المفكرين من تفاسير متناقضة كان رجلًا تقيًّا ورعًا متعلقًا بعبادة الإله «سرابيس» الذي أملى إرادته عليه بوساطة أحلام أو وحي بأن يبقى في ساحة الإله يتعبد إليه، وقد كان دائمًا يذكر «بطليموس» هذا في شكاياته بالسنين العدة التي قضاها في عزلته، وهي تتراوح ما بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة. وتدل الظواهر على أن عزلة «بطليموس بن جلاسياس» في السرابيوم كانت غاية في الشدة، فلم يكن في مقدوره أن يغادر صومعته وحسب، بل إنه أكثر من ذلك عندما كان الملك نفسه أو بعض كبار من عظماء الدولة يطلع لزيارة معبد السرابيوم فإنه كان لا يحادث أحدًا منهم إلا من خروم خليته، وقد حصل — لأجل القيام بمصالحه — أن عمل على أن يقيد أخاه في إحدى فرق الجيش المعسكرة في «منف» وعلى أن يتسلم مرتبه دون أن يكون ملزمًا بالقيام بأي عمل عسكري، وذلك لأجل أن يكون دائمًا تحت تصرفه، وليحميه عند الضرورة، وهذه كانت العادة المتبعة مع أمثال «بطليموس»(3)، وذلك لأنه على ما يظهر على الرغم من صبغته الدينية، وما هو عليه من ورع وتقًى كان عرضة لكراهية الكهنة المصريين وحقدهم عليه بوصفه إغريقيًّا، ويعتبر دخيلًا عليهم، وقد شكى فعلًا من ذلك للملك (4).
والواقع أن جزءًا عظيمًا من أوراق السرابيوم هو عبارة عن مسودات تحتوي على شكاوى لأولي الأمر وتظلمات ومكاتبات خاصة بأمور تتعلق بمصالح «بطليموس»، وكان معه دائمًا أخوه «أبولونيوس» الذي كان كذلك مقيدًا بالمعبد بأمر من الإله لمدة قصيرة، وكان يعمل أمينًا لأخيه في صيف عام 158ق.م وقد كان «أبولونيوس» هذا عالمًا فقير الحال ولا يزال في شرخ الشباب. هذا، وتشير أوراق «بطليموس» إلى مسائل عدة مختلفة؛ ففي عام 164ق.م أرسل شكوى للملكين خاصة بفتاة تدعى «هيراكليس» كانت قد احتمت بمعبد السرابيوم، وكان قد تبناها هو، وقد أُخذت منه عنوة، وأصبحت رقيقة في «منف»، وفي عام 163ق.م نجده في رسالة يشكو أولًا لحاكم المقاطعة الحربي، ثم إلى الملك «بطليموس السادس فيلومتور» من أنه كان قد حُبس في خلية خاصة في المعبد على يد أصحاب السلطة هناك، ومن بعض رجال الشرطة من نقطة شرطة معبد الأنوبيوم (أي معبد أنوبيس)، من أنهم انقضوا على خليته، واستولوا على أمتعته بحجة أنهم كانوا يبحثون عن أسلحة قد تكون مُخَبَّأَة في خليته، وفي تلك الأثناء كانت الثورات قائمة على قدم وساق في مصر. والواقع أنه في تلك الأيام كانت العداوة بين الإغريق وبين المصريين قد اشتدت لدرجة عظيمة بسبب الثورة التي كان يقوم بها البطل المصري «بتوزيريس» ليحرر البلاد من النير البطلمي، ولا غرابة في أن نرى أن «بطليموس» قد عومل معاملة سيئة في المعبد الذي كان في يد المصريين؛ لأنه كان إغريقي المنبت، وكذلك تدلنا الوثائق على أنه في عام 163ق.م هوجم في خليته وامْتُهِنَ؛ لأنه إغريقي، وعلى ذلك أرسل شكوى أخرى إلى حاكم المقاطعة العسكري. وكذلك نجده في عام 158ق.م قد هوجم ثانية، وضربه بعض المصريين ضربًا مبرحًا بوساطة زمرة من سائقي الحمير، وذلك لأنه كان قد تدخل غاضبًا بسبب شجار قام بخصوص شراء بعض البوص لعمل السلات من بائع لهذه السلعة في ساحات المعبد، وعلى ذلك رفع شكوى أخرى إلى حاكم المقاطعة العسكري. وهكذا كانت شكاياته تترى، ولكن دل الفحص بين أوراق «بطليموس» على أن أكبر مجموعة من أوراقه كانت خاصة بفتاتين توأمتين من أصل مصري؛ إحداهما تُسمى «تاويس» Thaures والأخرى تُدعى «تاؤس»، وموضوع هاتين الفتاتين معروف لدى علماء الآثار المختصين بالأوراق البردية في عهد البطالمة، وهاتان الفتاتان التي يحتمل أن والدهما كان مصريًّا، وقد كان مع ذلك صديق «بطليموس» المقدوني الأصل، وقد حدث أن والدتهما فرت مع جندي إغريقي، ومن ثم فرَّ والدهما إلى «إهناسيا المدينة» خوفًا من أن يقتله هذا الجندي الإغريقي الذي فرت معه زوجه، ومات في هذه البلدة.
وقد لجأت الفتاتان إلى «بطليموس» بحكم صداقة والدهما له ليحميهما في معبد السرابيوم، وفعلًا أوجد «بطليموس» للتوأمين عملًا في المعبد بوصفهما كاهنتين في درجة ثانوية، وقد أقام «بطليموس» نفسه مشرفًا على شئونهما ومعيشتهما، وكان قد عين لهما قدرًا محددًا من الزيت والخبز من الخزانة الملكية بوصفهما كاهنتين للملك، وعلى حسب النظام الموضوع كان الزيت يورَّد مباشرة للكهنة والكاهنات من المخازن الملكية، أما الخبز فكان يُورد لأصحاب السلطة في المعبد ليوزعوه مباشرة، غير أنه حدثت ملابسات دعت إلى عدم صرف مرتب التوأمين مما دعا إلى إرسال شكاوى عدة وتظلمات كثيرة أرسلها «بطليموس» باسم التوأمين أو كتبها هو باسمه دفاعًا عن حقوقهما. ولما كانت هذه التظلمات والشكاوى تكشف لنا عن سير الأحوال في مثل هذه الموضوعات فقد أصبح لزامًا علينا أن نشرح تظلمات هاتين الفتاتين بعض الشيء لدى القارئ؛ ليرى كيف كانت الأمور تسير في طريق ملتوية لا يصل السائر عليها إلى الحق إلا بعد جهد ولَأْيٍ لو استمر في مطالبته بحقوقه المشروعة بإرسال الشكاوى والتظلمات دون انقطاع. (ما ضاع حق وراءه مطالب).
والواقع أن معظم الشكاوى وقتئذ مهما كان القصد منها كانت تُرسَل إلى حاكم المقاطعة الحربي، وكانت هناك شكاوى تصل إلى السكرتير المالي أو حتى للملك نفسه، والواقع أن «بطليموس المقدوني» المنعزل في معبد السرابيوم قد أمطر الإدارة الحكومية بوابل من الشكاوى موجهًا اللوم فيها أحيانًا لأمين المؤسسة، وأحيانًا يعود باللائمة على مراقبها أو على المشرف عليها، وكان يوجه شكاياته أحيانا لحاكم «منف» العسكري، وأحيانًا إلى السكرتير المالي بالإسكندرية حيث كان مقر الحكم.
وعندما كان يضيق ذرعًا نجده يوجه ظلامته مباشرة ﻟ «بطليموس السادس» و«كليوباترا الثانية»، وكان يوجه هذه الشكاوى إلى عدة سلطات في آن واحد، وبذلك كان يعدد مساعيه بإرسال تقارير وتسلم أخرى من كل صنف على حسب الأحوال، كل ذلك كان لأجل أن يجبر رجال إدارة السرابيوم على أن يصرفوا للتوأمين المتعبدتين ما يستحقانه من أجر، وكذلك لأجل أن يضطروا زوج والدهما على أن تعيد لهما إرثهما من أبيهما، ومن أجل ذلك نجد أن الإدارة الحكومية كانت في حركة مستمرة بسبب قضية هاتين الفتاتين، فكانت المكاتبات تنتقل من مرحلة إلى أخرى في المراحل الإدارية المتعددة المتشعبة، وكان «بطليموس» يطلب حقوق التوأمين من السلطات العليا، ويتسلم الجواب عن طريق صغار الموظفين، وعلى أية حال فإن شكوى التوأمين لم تبلغ إلى مرتبة اعتبارها قضية بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى توضع أمام المحكمة؛ بل كانت في واقع الأمر مجرد شكوى تُحل على يد السلطة الإدارية، يُضاف إلى ذلك أن جهل الشاكيتين بالرسميات كان له دخل دون شك، مما جعلهما تطرقان كل باب على غير هدى للحصول على حقوقهما المضيعة.
وهذه المسألة كانت قد بدأت في عام 164-163ق.م بإرسال شكوى موجهة للسكرتير المالي في «منف» من التوأمين «تاويس» و«تاوس» وقد طلبتا إلى وكيل وزير المالية أن يأمر بصرف الزيت المستحق لهما عن هذا العام كما هو المتبع مع التوائم الأخريات في هذه المنطقة، كما أشارتا بأنهما لم تتسلما أجرًا عن خدماتهما الدينية منذ العام الثامن عشر (= 3 أكتوبر عام 164ق.م). ولما رأت التوأمان أن طلبهما لم يسفر عن نتيجة كتبتا — إلى الملك «بطليموس فيلومتور» وإلى الملكة «كليوباترا» — شكوى ملؤها الحزن والأسى معددة فيها ما لقيتا من سوء معاملة من زوج أبيهما التي تدعى «نفوريس» Nephoris والتي استولت عنوة على ميراثهما من أبيهما لدرجة أنها لم تترك لهاتين الفتاتين البائستين أي مأوى تلتجئان إليه إلا المعبد حيث مد لهما «بطليموس» يد المساعدة؛ وذلك لما كان بينه وبين والدهما من ود وصداقة. ومما زاد الطين بلة أن ابن زوج أبيهما ويدعى «بانخارتيس» Panchartes قد نهب كل متاعهما، وحمل لوالدته البطاقة التي كان يتسلم بها التوأمان مكيال الزيت المقرر لهما. على أن اللوم في ذلك يرجع إلى سوء تصرفهما؛ لأنهما كانتا قد اتخذتا من ابن زوج أبيهما خادمًا لهما، وهذا المكيال من الزيت كان جراية عام لهما. هذا، وقد طلب التوأمان أن تُعاد الشكوى إلى حاكم المقاطعة الحربي المسمى «ديونيسيوس»، وقد كتب الأخير في ذلك بدوره للوكيل المسمى «منيدس» Mennides أمين المؤسسة، وإلى المراقب المسمى «دوريون» Dorion، وكانت الشكوى ممهورة بخاتم حامل الخاتم الملكي، ثم سُلمت باليد في 11 مسرى عام 19 (= 8 سبتمبر عام 163ق.م) إلى «سرابيون» Sarapion الذي كان قد حضر ليتعبد في معبد السرابيوم (5).وقد كلف «سرابيون» هذا «منيدس» بتتبع الشكوى، ولكن «منيدس» بناء على تقرير موظفيه كان لا بد له من الرجوع من جديد إلى «سرابيون»، وسبب ذلك: أن رئيس الإدارات وجد أن الطلب كان قد ألغاه «بأنحارتيس»، ومن أجل ذلك لا يمكن أن يعمل به في صالح التوأمين. ومن المحتمل أنه كان قد وجد اعتراضًا آخر نجهله. غير أن «بطليموس» الراهب لم يُرِدْ أن يعرف شيئًا عن ذلك، ولهذا نجده يرجو «سرابيون» أن يوحي إلى «منيدس» بالأمر بالتنفيذ، وقد كان عليه أن ينتظر الرد، غير أن إدارة الختم الملكي كانت في شغل شاغل عن الرد بما لديها من أعمال كثيرة، وفي هذه الأثناء كان الملك «بطليموس السادس» قد أعيد لملكه، ومن ثم جاء بنفسه ليقدم فروض الشكر، ويقدم الأعمال الخيرية في معبد السربيوم (6). وقد أفاد «بطليموس» الراهب حامي التوأمين من هذه الزيارة؛ إذ وضع في يد الملك نفسه شكوى جديدة ذكر فيها طلبه الذي حرره في طلبه الأول.
وفي هذه المرة نجد أن الملك قد أمر وزير المالية المسمى «أسكليبيادس» Asclipiades أن يهتم بالموضوع، وعلى أثر ذلك أرسل «أسكليبيادس» الشكوى بالبريد إلى «سرابيون» الذي قام بطلب تقرير من المراقب «دوريون»، وعلى ذلك بُدِئ التحقيق في الأمر من جديد. والواقع أن «دوريون» قدم تقريرًا إلى «أسكليبيادس» مؤرخ 3 توت عام 19 (= 5 أكتوبر عام 163ق.م)، وقد أبان فيه أن التوأمين لهما الحق في متأخر العامين السابقين، ومع ذلك نجد أن الإدارات التي كان في أيديها تصريف الأمور قد ماطلت ثانية. غير أن صاحبتي الحق اللتين كانتا تريدان دون شك الإسراع في عمل الرسميات رأتا أن رجال الإدارة في المؤسسة كانوا يصرفونهما بالوعود والكلمات المعسولة، ويذكرون لهما أنهم يقدرون موقفهما، ولكن دون عمل أي شيء إيجابي غير المواعيد العرقوبية، ومن أجل ذلك شَكَتَا مر الشكوى في التماس ثالث للإلهين المحبين لأمهما؛ أي «بطليموس السادس» و«كليوباترا» الثانية، واستحلفتهما بأن يضعا شكايتهما في يد حاكم المقاطعة الحربي المسمى «ديونيسوس»، لأجل أن يكتب هذا الأخير إلى الوكيل «أبوللونيوس» الذي كان زميل «منيدس» ويقوم الآن بأعماله، وتكليفه بأن يعمل أمر الصرف بالمواد المستحقة لهما، ويحدد التواريخ والأشخاص الذين سيقومون بذلك، ويجبرهم على توريد ما هو مستحق للتوأمين.
أما «بطليموس الراهب» فإنه من جهته سلم لأخيه الصغير مذكرة جديدة سلمها الأخير بدوره إلى «سرابيون» مؤرخة بأول بابه (= 2 نوفمبر عام 162ق.م)، وقد كتب فيها من جديد يرجوه أن يتتبع تقرير «دوريون» وقد أعيدت الرسالة ثانية للأمين «منيدس» في 2 هاتور، وإلى الكاتب المختص في 3 منه (4 ديسمبر سنة 163ق.م) بالأمر بالتوريد بعد الفحص (7). وأخيرًا نجد في هذه المرة أن الأمر قد صدر فعلًا بالتوريد؛ وذلك أن «منيدس» عندما رأى تقريرًا مختصرًا حُرر في إدارته بتاريخ 13 هاتور (= 14 ديسمبر) أمر الصراف «تيون» Theon في 17 هاتور بأن يحرر أذونات الصرف كما ينبغي من أجل أنواع الزيت الذي سيورَّد على حساب السنتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، وأرسل «تيون» أذونات الصرف للخازن «ديمتريوس»، وهو جندي قديم (كان جنديًّا كريتيًّا يعمل في فصيلة الفرسان بقيادة «يومنيس»)، فقام بتوريد الكميات والأنواع المبينة إلى «كراتيروس» Grateros وهو موظف من موظفي «دوريون» مدير البنك في 25 هاتور، وذلك بحضور «أريوس» Areus المنتدب من قبل التوأمين، وقد أعطى «بطليموس» بدون إيصال نيابة عن التوأمين اللتين كانتا في حمايته بالتسلم.
وبذلك أصبح موضوع الزيت وقد صفى حسابه نهائيًّا دون وقوع حادث آخر يطيل في أجل مناقشته. غير أن «بطليموس» لم يَكُنْ راضيًا عن ذلك، فقد كان يريد أن يبدل مكيالي زيت Kiki اللذين تسلمهما التوأمان بمكيالين من زيت السمسم، ولكن عمال «دوريون» رفضوا هذا الطلب، ومن أجل ذلك قدم «بطليموس» شكوى شديدة اللهجة إلى «منيدس» في حق هؤلاء الكتاب الجامحين الذين تجاسروا على عدم طاعة الأمين والملك والملكة نفسهما. وإذا فرضنا أنه قد أفلح فيما ذهب إليه، فإن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ لأن المتأخر للتوأمين لم يكن قاصرًا على الزيت وحده؛ إذ كان يجب أن تتسلما كذلك من السرابيوم المصري وكذلك من الأسكليبيون الإغريقي أربعة أقراص من خبز الذرة البيضاء يوميًّا لكل منهما، وهذا يعني ثمانية أرادب من الحبوب شهريًّا، وقد كان هذا الحساب مستحقًّا لهما ولم يُصرَف بعد، وقد أمهل «بطليموس» نفسه ليحصل على معلومات في هذا الصدد (8).
وقد وجدناه فيما بعد قد استعرض بصورة ثابتة أنه لأجل الفترة التي تبتدئ من أول شهر توت حتى 7 أمشير من عام 27 (أي 3 أكتوبر عام 164 حتى 8 مارس عام 163ق.م) كانت التوأمان تتسلمان جرايتهما من الخبز، ولكنهما لم تتسلما شيئًا منذ 8 مارس حتى نهاية السنة، ومن ثم كان متأخرًا لهما ما يعادل 56 إردبًّا، وفي عام 19 تسلمتا فترة كاملة من أول شهر توت حتى الثلاثين من مسرى (من 3 أكتوبر سنة 163 حتى 13 مارس سنة 162ق.م)، وكذلك الفترة التي أتت بعد ذلك من أول برمهات حتى 30 بشنس (أول أبريل حتى 29 يونيو) تسلمتا نصف الجراية فقط، وفي الشهر التالي تسلمتا نصف الجراية، وفي أيام النسيء الخمسة لم تتسلما شيئًا أبدًا، وفي العام العشرين سارت الحال على نفس المنوال مما أدى إلى جوع التوأمين المسكينتين؛ فمن أول شهر توت حتى العاشر من كيهك (3 أكتوبر عام 162 حتى 10 يناير عام 161ق.م) تسلمتا سويًّا ستة أرغفة بدلًا من ثمانية أرغفة يوميًّا، ومنذ الحادي عشر من كيهك حتى هذا التاريخ لم تتسلما شيئًا(9).
وهكذا بدأت المضايقات التي تنطوي على عدم الأمانة والإزعاجات المؤلمة بصورة أشنع مع التوأمين؛ فنرى أن الإدارة قد قطعت عنهما جراياتهما؛ فلم يُورَّد لهما لا خبز ولا زيت، وعلى ذلك نجد أن «بطليموس» قد بدأ من جديد يتخذ إجراءاته، وقد احتاط في شكاويه فلم يخلط بين ما تستحقه التوأمان من جراية الزيت وجراية الخبز؛ فقد كانت الجراية الأولى من الزيت مستحقة من أول عام 18 في حين أن جراية الخبز كانت مستحقة من أول العام العشرين من حكم «بطليموس السادس»، وعلى ذلك فإنه بعد مرور أقل من شهرين على المحاسبة فيما يتعلق بالزيت كتب إلى «سرابيون» الذي كان يأمل أن يزوره ليخبره بأن التوأمين لم تتسلما شيئًا أبدًا من الزيت المستحق لهما، ورجاه أن يكتب بنفسه للأمين «منيدس»، ولكن الطلب أعيد في 26 كيهك عام 20 (26 يناير سنة 161ق.م) إلى «دوريون» الذي بدوره ضم إليه — بتاريخ 29 كيهك — تقريرًا ظهر منه أنه لم يُصْرَف شيء للتوأمين عن عام 20، ومن ثَمَّ كان لهما متأخر جراية أربعة أشهر.
وقد اتفق أن تقرير «دوريون» وقع في السادس من شهر طوبة (5 فبراير) تحت نظر كاتب متشكك لأجل أن يحدد الجراية المطلوبة ومقدارها «خوس» من الزيت شهريًّا؛ أي ما مقداره «متريت» عن كل سنة، وقد اقتضت الضرورة معرفة مقدار ما تسلمتاه التوأمان في العام الماضي، ومن أجل ذلك اقتضى الأمر فحص الموضوع. وقد اتضح من الفحص أن التوأمين لم تتسلما شيئًا عام 19، ولكن في هاتور عام 20 قد تسلمتا ما تستحقانه عن السنتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة؛ أي إنهما تسلمتا مكيالين من (10) الزيت، وبمقتضى ذلك أرسل «منيدس» تقريرًا إلى «سرابيون» فأعاده بتأشيرة غير مفهومة أو على الأقل لم تفهمها التوأمان، وكل ما فهمتاه هو أن «منيدس» قد طلب إليه أن يحقق التقرير الذي وضعه كتابة، أو بعبارة أخرى تأجيل الموضوع، وعلى أثر ذلك أرسلت التوأمان إلى وكيل وزارة المالية تظلمًا به اعتذار على إلحاحهما، وطلبتا فيه ما تستحقانه، ولكن هذا التظلم لم يأتِ بنتيجة سريعة؛ يدل على ذلك أن التوأمين أرسلتا في نهاية السنة أو في بداية السنة التالية استعجالًا باكيًا إلى عناية الإلهين العظيمين جدًّا المحبين لأمهما (= «بطليموس السادس» والملكة «كليوباترا» الثانية) يقولان فيه: إنهما تسلمتا المكيالين من الزيت عن عام 19، غير أنهما لم تتسلما لا زيت كتان ولا زيت سمسم عن عام 20، وعلى ذلك فإنهما تطلبان تحويل شكواهما إلى حاكم المقاطعة الحربي «ديونيسوس» الذي سيأمر الأمين «أبوللونيوس» أن يصرف ما تستحقانه، وكذلك ليأمر باتخاذ الاحتياطات لأجل المستقبل.
والآن يتساءل الإنسان هل انتهى الأمر بأن العناية الملكية قد نفد صبرها بتحويل الموضوع إلى الإدارات المختصة؟ وتدل شواهد الأحوال على أن الاتصال الذي حدث بين «بطليموس» بعد ذلك والجهات المختصة من أجل تسهيل شئونه الخاصة وكذلك شئون أخيه على أنه كان مرتاحًا من الإجراءات التي اتخذها كما كان معتزًّا بما له من شأن، ومما يدل كذلك على عظمته أنه إذا أخفق مرة في أمر فإن ذلك لم يفل من عزيمته أو يضعف من شجاعته عن القيام بحملة جديدة ليصل إلى هدفه كما فعل ذلك عندما قام بالمطالبة بصرف جرايات الخبز التي كانت قد أُوقفت دون مبرر لمدة ثلاث سنوات.
أما زيت الكتان فكان المتأخر منه هائلًا لدرجة أن «بطليموس» على ما يظهر قد تردد في إثارة موضوعه خوفًا من أن يتعارض ذلك مع صالح مالية البلاد، وعلى ذلك نجده قد قرر في نهاية الأمر أن يطالب به عندما وجد الطريقة التي جعل بها خزينة الدولة غير مسئولة.
هذا، ونجد أن «سرابيون» بناء على مطالبة أولى أرسلتها التوأمان، واستعجلتاها بأخرى، قد وافق على طلبهما، وكلف «منيدس» بتنفيذ أمره على يد «بسنتائس» Psenthaes غير أن الأخير كان ماهرًا في فن المماطلة والتأجيل، ومن أجل ذلك أصم أذنيه، وقد كان ذلك داعيًا لتدخل «بطليموس» بنفسه في الأمر، فنراه بعد أن أثبت حساب الصرف الذي حُذف عن عامي 19 و20 يكتب إلى «سرابيون» رسالة لم تكن قاصرة على المطالبة بحق التوأمين فحسب؛ بل كانت فضلًا عن ذلك تُعتبَر اتهامًا رسميًّا؛ وذلك أنه لم يَكْتَفِ بالقول — كما هو المتبع — إن التوأمين قد أصبحتا ضحية رجال إدارة المعبد، بل أكد أنهم يسرقون مال الملك؛ لأنهم يبيعون بذر الكتان الذي ينهبونه بسعر الإردب ثلاثمائة درخمة، كما أعلن أن «بسنتائس» هو الرجل الذي يجب أن يُجبَر على إعادة مائة وستين إردبًّا من الغلة، وهي التي تستحقها التوأمان.
وعلى أية حال فإنه مما يُؤسَف له أن المصادر التي بين أيدينا والخاصة بهذه المسألة قد انقطعت، ومن ثم لا نعرف من جهة كيف انتهى موضوع التوأمين الذي كما يظهر للقارئ العادي لا يستحق كل ما ذُكر عنه من تفاصيل، غير أنه من جهة أخرى بالنسبة للمؤرخ يُعتبر موضوعًا غاية في الأهمية نظرًا للمعلومات التي بين أيدينا عن سير الأحوال في مثل هذه العهود القديمة التي تعوزنا فيها التفصيلات التي تكشف الغطاء عن حالة البلاد من الوجهة الإدارية والاجتماعية في تلك الفترة من تاريخ مصر في عهد البطالمة، ولا نزاع في أن هذه المسألة هي مثال محزن عن عدم أمانة الموظفين الذين كانت تساعدهم التعقيدات الإدارية الرسمية، والصعوبة التي كانت تعترض الأشخاص الذين أصابهم الضر إلى درجة تجعلهم يلجئون إلى الفصل في حقوقهم إلى رجال المصالح الحكومية. ومع ذلك يجب ألا يغيب عن ذهننا أنه في فحص هذه المسألة لم نسمع إلا صوت الذين يتهمون وحسب، ولا نزاع في أن هؤلاء بطبيعة الحال كانوا أناسًا قد أثارت سخطهم وحنقهم هذه الرسميات، وكانت كذلك في الوقت نفسه تثير سخط رجال الإدارة، وذلك برجوع أصحاب الحاجات والمظالم إلى السلطات العليا، فنجد أنه منذ بداية هذا الموضوع أن حذف أمر صرف عادي كان هو السبب في تعقيد سير الأمور، وفضلًا عن ذلك نجد أن جراية التوأمين كان من الممكن نسبتها جزئيًّا إلى السربيوم المصري وإلى معبد «أسكلبيون» الإغريقي، وقد أفضى ذلك دون أي شك إلى ارتباك في المكاتبات والإهانات التي لحقت بالمتظلمين بالنسبة لتوجيه المسئوليات لهم. يضاف إلى ذلك أن التوأمين — على ما يظهر — كانتا قد دخلتا في المعبد في اللحظة التي تُقام فيه مراسيم الحزن على العجل «أبيس» المتوفى عام 165ق.م، وأنهما لم تقوما بخدمتهما بصورة صحيحة، وأن جرايتهما بعد التحكيم قد خُصِّصَت لحارس الثور المتوفى؛ لأنه هو الذي سهر على خدمته، وقام بتقديم القربان له بدلًا من التوأمين. ولكن لما كان حارس الثور قد غاب بدوره فإن التوأمين أجابتا على ذلك بإرسال طلب لإعادة حقوقهما في هذا الصدد، وقالتا: إن كُتَّاب الإسكلبيون سيضعون هذا الطلب أمام الملك إذا حدثت مناقشة تعارض ذلك.
هذا، ويُلحظ أن البردية التي تحتوي على ذلك قد ذُيلت بأرقام خاصة بجرايات العامين الثامن عشر والتاسع عشر من عهد «بطليموس السادس». وتوجد على ظهر الورقة بداية نسخة خاصة بشكاية موجهة من التوأمين لوكيل المالية «سرابيون» تشكيان فيها عدم تنفيذ الأوامر فيما يخص حب «أولين» Olyne، ومع هذا ملحوظة بيد كاتب آخر خاصة بطلب الجرايات عن السنتين المذكورتين أعلاه.
وليس ببعيد أن هذا النزاع الذي ينطوي على سوء النية يمكن أن يكون قد قام في اللحظة الأخيرة بين رجال الإدارة وبين التوأمين، وأنه من الممكن أن نفرض أن حارس العجل «أبيس» كان هو الآلة التي استُعْمِلَتْ بمثابة سلاح في أيدي الإدارات الحكومية لمحاربة التوأمين، غير أن كسب حارس الثور المقدس القضية من التوأمين قد أظهر أن هناك أمورًا كانت تدور في الخفاء مما جعل الشاكيتان تسكتان عن طلباتهما، وفضلًا عن ذلك يُحتمل أن حماية «بطليموس بن جلوسياس» للتوأمين قد لعبت دورًا في الارتباكات التي وقعتا فيها، وذلك عندما كان يساعدهما على الخروج مما حل بهما من ظلم.
وعلى الرغم مما تحلى به «بطليموس بن جلوسياس» هذا من فضائل دينية فإنه لم يكن بالرجل الذي يُشتم منه رائحة القداسة عند رجال الدين الذين كانوا يسيطرون على معبد السرابيوم، وهذا ما نفهمه من شكاياته الخاصة بأحواله الشخصية، وقد ذكرنا منها فيما سبق بعض الوقائع.
ولا نزاع في أن ما تركه لنا «بطليموس بن جلوسياس» من وثائق ديموطيقية يدل صراحة على أنه كان رجلًا صاحب أخلاق فاضلة، وذلك على الرغم مما قيل عنه بما ينافي ذلك على لسان رجال السرابيوم، فقد ترك لنا نصائح تدل على صلاحه وورعه، وما أوتي من حكمة بالغة تدل على طول باعه في معرفة الناس والحياة وما تنطوي عليه من مصاعب ينبغي ملافاتها، وقد ترجم لنا بعضها الأثري «ريفييو» نقتبس منها ما يأتي (11).
أَصْغِ إلى كل كلام توبيخ؛ لأنك تعرف ما يُقال حسنًا.
إن السعادة لا تسعى أبدًا لمن في صدره أفكار إجرامية.
لا تجعل ابنك يتزوج من امرأة إلا على حسب قلبه هو.
لا تَبْنِ بيتك بما جنيته من مظالمك.
لا تَقْتُلْ حتى لا تُقْتَل.
لأجل أن تكون بيتًا سعيدًا أبسط ما في يدك (كن كريمًا).
إن الرجل الذي يسيطر على المارق هو الرجل صاحب البأس.
لا تصاحب الأحمق، ولا تقف لتنصت إليه.
ولا تَسُب من لا تعرفه.
لا تُقِمْ بيتك بجوار قبرك.
إن الذي يقول ليس في استطاعتي تقبل ملحوظة فليترك وحده.
.................................................
1- راجع: Wilcken Urkunden der Ptolemaerzeit.
2- راجع: Rev. Egypt. Tom. I, p. 160; Tom. II, p. 166.
3- راجع: Rev. Egypt T. I. p. 161, note 3.
4- راجع: Ibid., p. 161.
5- راجع: Pap. Brit. Mus., 1, n. 21, p. 18. L. 1–7.
6- راجع: Pap. Par. N. 29; cf. n. 26, 1, 18.
7- راجع: Pap. Brit, Mus. I, n. 20 p. 9; cf. n. 21, L. 13–18.
8- راجع: Pap, Brit. Mus. Nn 17 a–c (pp. 10-11), 31 (pp. 15-16).
9- راجع: Pap. Brit, Mus., n. 18, pp. 22–24.
10- راجع: Pap. Brit. Mus., n. 34, p. 18, L. 14–28.
11- راجع: Rev. Egyptol. I, p. 162 f.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة